بـــاب
توحيد الخلق والتكوين
هو الاعتقاد الجازم بأن الله وحده هو القادر على الخلق والتكوين والايجاد من عدم حقيقةً، وليس لغير الله شيء من ذلك على وجه الإستقلال والقدرة الذاتية، وإنما يكون، إن وجد، فيما أودعه الله فيه من قدرة محدودة مخلوقة، وبإذنه سبحانه وتعالى وتقديره وتمكينه.
وكل ذلك، كذلك، ثابت بالضرورة، وبالبراهين العقلية والفطرية، قبل ورود الشرع، ثم جاء الشرع مؤيداً، ومذكرا بها، ومفصلا لمعانيها فيما لا يعد ولا يحصى من النصوص، منها:
v ما قاله، تعالى: }الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون {، (سورة الانعام؛ 6:1).
v وقال: } بديع السماوات والأرض، أنَّى يكون له ولد، ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء، وهو بكل شــىء عليم{، (الانعام؛ 6:11).
v وقال: }ما اتخذ الله من ولدٍٍٍٍٍٍٍٍ ،وما كان معه من إله، اذاً لذهب كل إله بما خلق، ولعلا بعضهم على بعض، سبحان الله عما يصفون{، (المؤمنون؛ 23:91).
v وقال، تقدست أسماؤه، نافياً أن يكون غيره قد خلق شيئاً، فيكون بذلك له شريكاً: }أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم؟! قل: الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار{، (الرعد؛ 13:16).
وقد جرت عادة المسلمين في الامتناع عن استخدام لفظة «الخلق»، ومشتقاتها، إلا في حق الله، تبارك وتعالى. فتجدهم ينفرون أشد النفور من استخدام اللفظة في حق غير الله، في مثل جملة: (عقلية خلاقة)، فيقولون مثلاً: (عقلية مبدعة)، هذا أدب جيد، وعادة حميدة، لا بد من الاستمرار عليها، ورعايتها، وإن كان خلاف ذلك ليس حراماً، لأن نسبة الخلق لغير الله جائزة، كما قال جل جلاله عن السيد المسيح بن مريم، صلوات الله وتسليماته وتبريكاته عليه وعلى والدته: }إذ «تخلق» من الطين كهيئة الطير بإذني{، ومحال على الله أن يستخدم عبارة باطلة، مع علمنا ضرورة أن خلق المسيح من الطين كهيئة الطير، أي تشكيله هكذا، ليس كخلق الله للحياة في الطير بعد نفخ المسيح في الطير، فهذا خلق، وهذا خلق، وشتان بين هذا وهذا!!
وكون الله، تقدست ذاته، وتباركت أسماؤه، وسما مقامه، خالقاً، هو بعض معنى كونه: «إلاهاً»، ولا علاقة مباشرة له من الناحية المفاهيمية بكونه «رباً»، وهذا يبطل صحة تعريف الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية لما أسماه بـ«توحيد الربوبية»، لأنه أدخل فيه «الخلق» في أول القائمة، وهذا باطل، كما أسلفنا عند مناقشة لفظة: «رب».
ولما كان مفهوم «الخلق» لا يدخل في مفهوم «الربوبية»، إلا بإقحام وتكلف مصطنع، فقد وقعت من ثم قسمته للتوحيد باطلة عرجاء من هذا الاعتبار، فلا حول ولا قوة إلا بالله!
ويتناقض مع هذا القسم من التوحيد أنواع من الشرك الإعتقادي منها:
(أ) القول بخلق الشر من قبل إله الشر، بقدرته الذاتية، أو على وجه الاستقلال، أو بالمعاندة لله، أي رغما عن الله وبخلاف مراده، كما يقوله عامة الثنوية المجوس، سواء قال بعضهم بقدم إله الشر فجمعوا بين شرك الذات السابق بيانه وشرك الخلق والتكوين، أو قالوا أن إله الشر حادث، ليس أزلياً ولا قديماً، فيكون هذا شركًا في الخلق والتكوين فحسب. وكلا القولين محكي عن طائفة منهم.
(ب) القول باشتراك أكثر من إله في خلق أجزاء مختلفة من العالم، كل مستقل في خلقه، غني عمن سواه، كقول أكثر المشركين البدائيين، ومنهم مشركوا اليونان: فهذا إله البحر، وذلك إله الشمس، .. إلخ.
(ج) القول بالطبيعة الخالقة التى أوجدت الأشياء بخاصيتها الذاتية على وجه الضرورة التى يستحيل خرقها أو تجاوزها، وهو قول طائفة من الفلاسفة، والطبائعيين، والقائلون بذلك ينكرون، بالضرورة، معجزات الانبياء، وأكثرهم أيضاً ملحد ينكر وجود الله.
غيرأنه ينبغي أن يُعْلمَْ عِلماً يقينيًا لايتطرق إليه الشك أن العبرة هى بحقيقة المعتقد وجوهر محتوى التصور بغض النظر عن الأسماء والألفاظ .فمن نَسَبَ إلى غير الله الخلق والإيجاد من عدم، على وجه الاستقلال ــ كما يفعل الثنوية المجوس بالنسبة لمايسمونه إله الشر «أهريمن» ـــ فقد جعله متصفا ببعض صفات استحقاق العبادة، أي الألوهية، أي جعله مع الله إلهاً آخر، وذلك بغض النظر عن تسميته، سواء سماه إلهاً، أو سماه شيطاناً، أو سماه ملكاً، أو عقلاً فلكياً، أو غير ذلك، وكذلك بغض النظر عن فعل العبد المترتب على ذلك: هل هو تقديس، ومحبة، وتقرب، وطاعة؛ أو هو كراهية، ومعاداة، وتباعد، وعصيان. إذ العبرة، في هذا المقام، بمحتوى وحقيقة المعتقد، وليس بالتسميات، ولا بأفعال العباد المترتبة على تلك المعتقدات، فتلك لها اعتبار آخر، في مقام آخر، كما سيأتي في باقي هذه الرسالة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق