توحيد التقديس والعبادة

بـــــــــــــاب
توحيد التقديس والعبادة

العبادة مصدر من عبد يعبد عِبادة، وهى من باب كتب يكتب كِتابة، وتعني في أصلها اللغوي: التذلل والخضوع والانقياد والطاعة، ومنه قولنا: طريق معبد، أي مذلل ممهد، وكذلك قولنا: فلان عبد لفلان أي مملوك له ملك يمين فهو خاضع لتصرفه وأمره وتدبيره.
فالأصل اللغوي، إذاً هو: .(التذلل والخضوع والانقياد والطاعة).
أما عرفًا وإصطلاحاً عند العرب الفصحاء وقت نزول القرآن في مثل قولهم: (فلان يعبد اللات)، وقولهم: (النصارى يعبدون المسيح)، و(محمد وصحبه يسبون آلهتنا، ولا يعبدونها)، فهى مجموعة من الأقوال والأعمال القلبية، وأقوال اللسان وألفاظه، وأعمال الجوارح الدالة على التذلل والخضوع وتقديم التعظيم والتوقير، أو المحبة وطلب القربى، أو طلب جلب منفعة أو دفع مضرة وإظهار الفقر والحاجة، ونحو ذلك، لمن يعتقد فيه الألوهية، وهذا هو موضوع بحثنا ها هنا.
وأزيد فأقول موضحاً: بحثنا ها هنا في هذا الباب في مفهوم «العبادة» بالمعنى المحدود الضيق الذي يؤدي صرفه لغير الله إلى الكفر والشرك الأكبر، المناقض للإسلام كل المناقضة، المخرج من الملة. فنحن لا نبحث في مثل:
(1) قول الشعراء والأدباء وأهل الغناء والطرب: (فلان يحب فلانة لدرجة العبادة)، على قبح هذا التعبير.
(2) وليس بحثنا في حب المال الذي يجعل الإنسان «عبداً» له، ومن ثم مستحقاً للذم، وليس بالضرورة مستحقاً لمسمى الشرك والكفر، كما هو في البلاغة النبوية الرائعة: «تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، ...إلخ»، وزاد حال هذا المغبون بياناً، فقال، عليه وعلى آله الصلاة والسلام: «إن أعطي رضي، وإن منع سخط»، ثم ختم، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، داعياً عليه بقلة التوفيق: «تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش»، هذا دعاء لا يشبه من قريب أو بعيد ما يستحقه أهل الشرك والكفر، وليس حاله كما وصف من أحوال أهل الشرك والكفر.
(3) وحتى ليس بحثنا في المعنى الشرعي لـ«عبادة الله» كما جاءت بها هذه الشريعة الخاتمة فهذه لها باب مستقل، وإن كانت تشمل المعنى الاصطلاحي العرفي المحدود الضيق الذي ألمحنا إليه أعلاه، إلا أنها أوسع وأعمق بكثير، كما يبينه هذا الكتاب بمجمله، من أوله لآخره.
فالبحث هو حصراً في المعنى العرفي الاصطلاحي للفظة «العبادة»، وهو عينه المعنى الشرعي لها إذ أن الشريعة لم تأت لها بتعريف جديد، خلافاً للفظة «الصلاة» مثلاً.
لقد كان العربي المشرك ــ كسائر البشر ــ يخاف الوحوش الكاسرة، ويرهب قطاع الطرق، ويخشى الحية، ولكنه لا يسمي ذلك عبادة، ولكنه على العكس من ذلك يسمي خوفه من الله أو من غيره من الطواغيت (مثل اللات والعزى ومناة) عبادة، وليس هذا فقط عرف العرب الاقحاح عند نزول القرآن، بل هو كذلك عرف جميع الأمم والشعوب حتى وقتنا الحاضر.
وهذا العربي الفصيح يفرق بين القيام تعظيمًا لرئيس القبيلة، وبين القيام تعظيماً لبعض آلهته، فيسمي الثاني عبادة، ولا يسمي الأول كذلك.
والحق أن العلاقة بين مفهوم العبادة، في هذا الإصطلاح، ومفهوم الألوهية لا يخرج حصراً عن واحد من الإحتمالات الثلاثة الآتية:
(1) ــ أن يقال أن الإله هو من يعتقد اتصافه بصفات معينة، تجعله، عند من اعتقد ذلك فيه، مستحقاً لـ(التذلل والخضوع وتقديم التعظيم والتوقير، أو المحبة وطلب القربى، أو طلب جلب منفعة أو دفع مضرة وإظهار الفقر والحاجة، ونحو ذلك) . فتعريف الألوهية ومفهومها سابق، بذلك، على تعريف العبادة. فالإله يتم تعريفه أولاً ثم يترتب على ذلك، ضرورة، أن «العبادة» هي أي فعل من الأفعال أو قول من الأقوال التي توجه إلى ذلك «الإله» للتعظيم، أو لإظهار الخضوع والتذلل، أو للتعبير عن الفقر والحاجة وطلب جلب منفعة أو دفع مضرة، أو للتعبير عن الود والمحبة وطلب القربى، أو لكل ذلك.
فإذا كان ذلك حقاً ترتب عليه، ضرورة، أنه لا يوجد قول، أو اعتقاد، أو فعل ظاهر أو باطن، من سجود وركوع، وقيام أو قعود، أو ذبح، أو تقديم قرابين، أو إيقاد شموع، أو حب وبغض، وتعظيم أو إرادة، يمكن إعتباره عبادة إلا إذا كان موجهاً إلى من يعتقد فيه إستحقاقها، لأمور ذاتية فيه يعتقد ثبوتها فيه، أي لصفات معينة فيه، هي صفات الألوهية، أو بلفظ آخر هي صفات ذاتية استحق بها تلك الأفعال بذاته، أي أن مفهوم «العبادة» مسبوق بمفهوم «الألوهيه» ومنبني عليه. وهذا هو القول الحق، الذي قامت عليه البراهين والأدلة القطعية، كما سيأتي.
(2) ــ أن تصنف أعمال معينة، من حيث هي بوصفها أعمالاً مجرد ة، على أنها عبادة لذاتها، وبغض النظر عن مضمون التصور ومحتوى الإعتقاد عند فاعلها حول من تصرف له. وعلى هذا المسلك ينبني قول من قال مثلاً أن التحية العسكرية، وتحية العلم، شرك كفري، يخرج من الملة الإسلامية، لأنها تتضمن: (الوقوف بسكون تام، وخشوع كامل، على هيئة مخصوصة)، حتى ولو كان فاعلها يعتقد يقيناً أن أصحاب الرتبة العسكرية أو أن العلَم عبد مخلوق مربوب لا يملك من أمره شيئاً ولا يفعل ولا يتصرف إلا بإذن الله وتقديره ومشيئته، بل ويعتقد أن العلم مجرد خرقة من القماش ربطت على عود ليس فيها حياة ولا سمع ولا بصر. وكذلك من قال أن الاستغاثة بالنبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، «شرك أكبر» بمجرد التلفظ به، بغض النظر عن معتقد المستغيث، أو أن الطواف بقبر أحمد البدوي شرك كفري يخرج من الملة، بمجرد فعله، أي بمجرد الطواف من حيث هو فعل مجرد يشبه في ظاهره الطواف حول الكعبة مثلاً، بغض النظر عن معتقد الفاعل.
(3) ــ أن يقال أن الإله هو المعبود فيكون مفهوم الألوهية سابقاً على مفهوم العبادة، أي أن مفهوم الألوهية يجب أن يكون موجوداً أولاً ثم يتم تعريف العبادة وتحديد مفهومها بعد ذلك بناءً عليه، ويقال في نفس الوقت: أن الإله هو كل من تصرف له العبادة، أي أن هناك قائمة من الأفعال تسمَّى من حيث هي عبادة فإذا صرفت لشيء كان ذلك الشيء إله معبوداً بالضرورة، فيكون مفهوم العبادة إذاً سابقاً على مفهوم الألوهية. وهذا دور قبلي، وهو مستحيل باطل، يدل على بطلان هذا المسلك في التعريف، وقد وقع فيه كثير من الناس، بل ومن العلماء، من غير أن يشعروا، وهو الذي تجده يطل برأسه بين الحين والآخر في كتب ورسائل أئمة الدعوة الوهابية، ثم يتراجع، ثم يعود إلى الظهور، وهكذا في دوامة لا تنتهي من التناقضات والإشكالات.
وأما القول الثاني، وإن كان سالماً من الدور والتناقض الداخلي، إلا أنه باطل، وغير مسلم لأصحابه لقيام البرهان القاطع من النصوص الشرعية اليقينية، أي من نصوص الكتاب والسنة لأنها هي وحدها النصوص الشرعية، بل وقبل ذلك من الحس والعقل، على ما يثبت يقيناً خلاف ذلك كما سنشرع في عرضه بعد قليل.
وقبل الشروع في البرهان نذكر ببعض ما أسلفنا من القواعد اليقينية المطلقة:
(1) ما ثم إله مستحق لهذا الإسم، وأهل أن يعبد، في الوجود كله، أزلاً وأبداً، إلا الله. هذه حقيقة وجودية قاطعة، وهي حقيقة قرآنية قاطعة، وهي من المحكمات، بل هي رأس المحكمات، وأساس العقيدة الإسلامية، التي تحكم على كل مقولة أخرى، والتي يرد إليها كل متشابه.
(2) أن الله، جل وعلا، وإن كان هو صاحب السيادة، فهو السيد الكامل المطلق السادة، والرب الكامل المطلق الربوبية، يحرم ما يشاء، ويحل ما يشاء، فقد أحل قديماً نكاح بعض المحارم كالأخوات، ثم حرمه أخيراً، وأمر إبراهيم، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، بذبح ولده ثم نسخ الحكم قبل التنفيذ، وهكذا. إلا أنه هو جل شأنه، هو أيضاً «الحق المبين»، فلا يأمر بما هو متناقض في ذاته، أو بما يتناقض مع كماله وجماله و«قداسته» :
(أ) فمن المحال الممتنع أن يقول: }شهد الله أنه لا إله إلا هو{، ثم يقول: اتخذوا معي (أي: مع الله) إلهاً، أو بلفظ آخر: كذبوني في شهادتي بأني أنا، وفقط أنا، الإله الواحد، وما ثم إله غيري في الوجود مطلقاً، حاشاه، تبارك وتقدس، من مثل هذا التناقض الباطل، وهو الله الحق المبين. فمن المحال أن يأمر الله بالشرك والكفر، وقد قال، تعالى ذكره، ذلك نصاً في القرآن: }ولا يرضى لعباده الكفر{، }ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون{، والله جل وعلا لا يشرع إلا ما يحب ويرضى، فلا يريد إرادة شرعية دينية إلا ما يحبه ويرضاه، وإن كان يقع في الكون كثير وكثير مما يغضبه ولا يرضية بإرادته وإذنه التكويني القدري لحكمة كونية قدرية بالغة.
(ب) ومن المحال الممتنع أن يأمر بـ«الفاحشة» أصلاً، أي أن يجعلها فريضة واجبة واجبة، لا في شريعة سابقة، ولا في هذه الشريعة المباركة الخاتمة، من باب أولى. قال، تباركت أسماؤه، وتعالى ذكره: }وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ: إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ، أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ{، (لأعراف؛ 8:28)، فهذا خبر يقيني صادق، أزلاً وأبداً، لا يتصور في العقل ما يناقضه، ولا يمكن نسخه لأن الأخبار لا تنسخ: (أنه، جل جلاله، لا يأمر بالفحشاء)، ولم يأمر بها قط في سابق الأزمنة. وقال، جل وعز: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ{، (النور؛ 24::21)، ومن المحال الممتنع أن يأمر الله بما يأمر به إبليس، عدو الله!
(ج) ومن المحال الممتنع أن يجعل العقل والإرادة الحرة مناط التكليف، ثم يقول خذوا البريء بجناية المجرم، أي أن يأمر بالظلم، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
كل ذلك ونحوه لا يقع من الله بموجب «القداسة»، و«القداسة» هي: السلامة من كل عيب ونقص، والتعالي فوق كل خسة ودناءة، وذلك هو مقتضى قوله، جل جلاله،
فإذ تحرر هذا، فالآن نشرع في إبطال المقولة الزاعمة مثلاً بـ(أن السجود عبادة من حيث هو سجود مجرد، أي فعل مجرد، وذلك بغض النظر عن معتقد الساجد في المسجود له)
فنقول، بعون الله وتوفيقه: قد قام الدليل القاطع، من القرآن والسنة المتواترة، الذي يكفر منكره، ويخرج من الإسلام بجحده: أن الله أمر الملائكة بالسجود لآدم، فعلى قولكم، المتهافت الساقط، بـ(أن السجود من حيث هو سجود وفعل مجرد عبادة، بغض النظر عن محتوى الاعتقاد في الكائن المسجود له) يكون الله، تعالى وتقدس، قد أمر الملائكة، بأن يعبدوا آدم، أي أن يتخذو آدم مع الله إلها آخر، أي أمر بالشرك والكفر،! فانظروا إلي أين منتهى قولكم!
وثبت بالأدلة اليقينية القاطعة، من القرآن والسنة المتواترة، التي يكفر منكرها، ويخرج من الإسلام بجحدها: أن آل يعقوب خروا ليوسف سجداً، وعقَّب يوسف، عليه وعلى آبائه الصلاة والسلام، على ذلك بشكر الله الذي جعل رؤياه حقاً. أي بشكر الله على كفر وردة أهل بيته ومقارفتهم الشرك الأكبر، على مذهبكم المتناقض الساقط (الذي هو في حقيقته مذهب مهلك، ومقولة خبيثة، شنيعة النتائج والمآلات، كما سيظهر قريباً، إن شاء الله)، ويعقوب، عليه الصلاة والسلام، كان قطعاً، أحد الساجدين فهو المرموز له بالشمس في الرؤيا، فأصبح بذلك كافراً مرتداً، مضيعاً لما خصه الله به من علم: }وإنه لذو علم لما علمناه{، فتعساً لعلم محصوله الشرك والكفر. فمن كان هذا قوله في الله، وفي أنبياء الله، فقد والله كفانا مجرد الحديث معه.
نعم، سوف تقولون سريعاً: سجود الملائكة لآدم ليس سجود عبادة، وكذلك آل يعقوب ليوسف، وإنما هو سجود تكريم. فنقول: قد بطل إذاً قولكم: (أن السجود من حيث هو سجود وفعل مجرد عبادة) فهناك سجود واحد على الأقل، ليس عبادة، فوجب تحرير: متى يكون السجود عبادة، ومتى لا يكون. فقولكم على كل حال قد بطل، وسقط سقوطاً مدوياً، فانتهى أمره، وفرغ منه.
وربما قلتم: بل السجود كان لله، وإنما كان آدم مجرد «قبلة» للسجود، تماماً كاكعبة. فنقول: هنيئاً لك تكذيب الله ووصفه بالعي، والعجز عن التعبير: فهو يقول عن ملائكته المسبحين بحمده: }وله يسجدون{، أي: لله يسجدون، بلفظ السجود متعدياً بحرف اللام «لـ»، تماما، ويستخدم عين اللفظ في أمره للملائكة: اسجدوا لآدم، متعدياً بحرف اللام «لـ»، ويقول آمراً: }فاسجدوا لله، واعبدوا{، وغير ذلك مما لا يحصى. فكأنه، جل وعلا، عجز أن يقول اسجدوا لي مستقبلين آدم، أو اتخذوا آدم قبلة في سجدة واحدة، أو كذب صراحة، تعالى وتقدس عن ذلك، أو تعمد تضليلنا والتلبيس علينا، سبحانك هذا بهتان عظيم. فإن كان ذلك قولكم فحسبكم اللحاق بالمجانين، أو بالكفار المشركين، ومن كان هذا قوله في ربه فقد كفانا مؤنة الرد عليه، والحمد لله رب العالمين!
وقد حاول بعضكم الإفلات من الإشكالية بزعم أن سجود الملائكة لآدم، وسجود آل يعقوب ليوسف، لم يكن بوضع جبهة على الأرض، وإنما كان انحناءً، ليس إلا.
قلت: وهذا، إذا أحسنا الظن، طرفة تضحك الثكلى، بل هو أعجوبة الدهر. نعم: ليس للملائكة، والله أعلم، جباه يسجد عليها، لأنهم ليسوا من لحم ودم وعظم، ولكن ما الذي جعل لهم ظهوراً وفقاراً تنحني؟!
ثم إن الذي أحاط بهم، وبكيفية خلقهم، وباللغة العربية، وأحاط بكل شىء علماً، جل ذكره، عبر عنه في كتابه الحكيم، بلسان عربي مبين، بلفظة «السجود» فكيف جعلتموه «انحناءً»؟! هذا تكذيب صريح لكلام الله، أو نسبة العي وسوء التعبير إلى مقام الله، وكفى بذلك بهتاناً وكفراً!
هذه الشبهة السخيفة المضحكة قد تكون عذركم في هذا الهراء الباطل بالنسبة للملائكة، وهي ليست مقولة باطلة فحسب، بل هي مقولة من مقولات الكفر، فما هو العذر يا ترى بالنسبة لآل يعقوب، وهم بشر من لحم ودم وعظم، لهم رؤوس وجباه وظهور وفقار؟!
ثم ما الذي جعل السجود والركوع عبادة، أما الإنحناء فليس عبادة، وما هو حد الإنحناء المسموح به بزعمكم (لأنه ليس عبادة): 10 درجة زاوية، 20 درجة زاوية؟! ولماذا لا توقفون عند كل إنسان مسلم ينحني من يقيس زاويته (بفرجار أو اسطرلاب؟!) فيقوم بتنبيهه إلى اقترابه من الزاوية «الحرجة»، حتى لا يخرج من الإسلام إلى الكفر؟!
ثم لو تواقحتم وذكرتم زاوية معينة على أنها حد لذلك، طلبنا منكم البرهان العقلي والشرعي على ذلك، ولا سبيل لكم إلى شيء من ذلك أبد الدهر، فإن تحكمتم وذكرتم حداً من عند أنفسكم زدناكم عليه شيئاً يسيراً جداً (واحد على ألف من الدرجة مثلاً) شيئاً فشيئاً حتى يصبح الإنحناء ركوعاً فننركوا قولكم في الركوع، أو حتى تتركوا هذا القول الخبيث جملة، أو حتى تلحقوا بالمجانين!
وكذلك سجد معاذ بن جبل ــ وهو من أكابر علماء الصحابة ــ للنبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بعد رجوعه من الشام سجود إجلال وتكريم، فأنكر عليه النبي ذلك، وإليك نص الحديث:
v كما جاء في «سنن البيهقي الكبرى» بإسناد صحيح عن عبد الله بن أبي أوفى: [أن معاذ بن جبل، رضي الله تعالى عنه، قدم الشام فوجدهم يسجدون لبطارقتهم وأساقفتهم فروَّى في نفسه أن يفعل ذلك للنبي، صلى الله عليه وسلم، فلما قدم سجد للنبي، صلى الله عليه وسلم، فأنكر ذلك، قال: (يا رسول الله! إني دخلت الشام فوجدتهم يسجدون لبطارقتهم وأساقفتهم فروبت في نفسي أن أفعل ذلك لك!)، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها: فوالذي نفسي بيده، لا تؤدي المرأة حق ربها، عز وجل، حتى تؤدي حق زوجها كله، حتى إن لو سألها نفسها وهي على قتب أعطته (أو قال: لم تمنعه)»].
وفي الملحق عدة أحاديث في هذا الباب (باب السجود لغير الله)، قد أشبعناها درساً بأسانيدها دراسة متشددة، منها حديثان صحيحان، لا شك في صحتهما: حديث معاذ، وأبي هريرة.
وحديث ثالث في النفس من صحتة شيء: حديث قيس بن سعد بن عبادة، وقد صححه الحاكم، ووافقه الذهبي، والألباني، أما الحاكم والألباني فهما متساهلان مضطربان لا يتبعان طريقة منضبطة، على وتيرة واحدة، وأما الذهبي فقد كتب تعليقاته على «المستدرك» في أوائل طلبه للعلم، كما هو معروف، ولم تكن شخصيته العلمية، وفحولته قد كملت، رحمهم الله جميعاً، ومع ذلك فنحن نستخير الله ونقول بصحة هذا الحديث أيضاً، إن شاء الله.
وهناك نقول ليس أسانيدها بتلك الدرجة عن سبعة من الصحابة، رضوان الله وسلامه عليهم، هم: عائشة، وأنس بن مالك، وسراقة بن مالك، وزيد بن أرقم، وجابر بن عبد الله، وبريدة، وغيلان بن سلمة، رضوان الله وسلامه عليهم: هذا نقل تواتر، يجب القطع به، ولا تحل مخالفته أو إهماله.
وقد حاول البعض، ومنهم الشيخ عبد القادر شيبة الحمد، رد الأحاديث المذكورة أعلاه «دراية»، بالرغم من ثبوتها «رواية»، بدعوى أن السجود لغير الله شرك. قلت: هذه مصادرة على المطلوب، فضلاً عن كونها في ذاتها زعم باطل، إذ لا مخلص لهؤلاء من إشكالية سجود الملائكة لآدم، وسجود ال يعقوب ليوسف، وقد سلفت مناقشتها، وبينا بالدليل القاطع أنه تفيد أن السجود من حيث هو فعل مجرد، ليس عبادة ومن المحال الممتنع عقلاً وشرعاً أن يكون عبادة. ولا سبيل لرد ذلك «دراية» إلا بتكذيب القرآن، فهنيئاً لكم!
فمعاذ بن جبل، وهو من العلماء الراسخين، رضي الله عنه، من أعلم الناس بالتوحيد والشرك، وبما هو عبادة وما ليس كذلك، فأقره النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على ذلك الفهم، أي فهم معنى «العبادة» الضيق، مع إنكاره للفعل، وبين أن الشرع الإسلامي حكم بقصر السجود لله سبحانه وتعالى، وحرم السجود لغيره، حتى لو كان تكريمًا أو إجلالاً أو تحية، ولم يكن «عبادة»، ذلك لأن وجوب إفراد الله ــ سبحانه وتعالى ــ بالعبادة أمر معلوم لمن هو أقل من معاذ بن جبل علماً وفضلاً، وقد استقر في علم الصحابة استقرارًا تاماً في عهدهم المكي فلا توجد حاجة ها هنا للتنبيه عليه في العهد المدني إلا قليلاِ، لا سيما بالنسبة لفقهاء الصحابة وعلمائهم، من أمثال معاذ.
ولو كان فعل معاذ شركاً، أو كفراً، لبين النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ذلك، وسماه باسمه، وأنكره، كما حدث في قصة ذات الأنواط، التي اشتد فيها إنكار النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، على طائفة من أصحابه، كانوا حديثي عهد بالكفر والجاهلية، وأغلظ فيها لهم القول: «قلتم كما قيل لموسى: (إجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة)»، أو كما قال بأبي هو وأمي. وهذا الإنكار كان متعيناً ساعة وقوع الجريمة، لأنه وقت الحاجة إلى البيان، ولا يجوز لله ورسوله تأخير البيان عن وقت حاجته، حاشا لله أن يخلف وعده: }ثم إن علينا بيانه{!
وعلى تتبعنا لقصة معاذ بن جبل، رضي الله عنه، هذه، والقصص المماثلة: قصة قيس بن سعد بن عبادة، وسجود البعير للنبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقصة الأعرابي، ونحوها، بشتى طرقها، كما سنذكر طرفاً منها في الملحق، لم نجد في شيء من ذلك، صحيحاً كان أو ضعيفاً، أو حتى موضوعاً، أن النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، سمّى فعل معاذ شركاً، أو كفراً، أو قال له: جعلتني رباًً، أو إلهاً، أو قال: عبدتني من دون الله، أو جعلتني لله نداً، أو نحواً من ذلك، أو قريباً منه، أو لفظاً مشابهاً في الحكم، مع أنه قال نحو ذلك في مناسبات كثيرة:
ــ كقوله: «أجعلتني لله نداً؟! بل ما شاء الله وحده»!، منتهراً ذلك الرجل الذي فقط قال: (ما شاء الله وشئت)، مع كون هذا مجرد شرك لفظي، كما سيأتي محرراً هو وما شابهه في بابه، وهو في الصحيح الأرجح مكروه، وليس حتى بحرام.
ــ ولا قال غاضباً: «هذا كما قال قوم موسى: }اجعل لنا إلها كما لهم آلهة{»، كما أخرجه الإمام الترمذي، حيث قال: [حدثنا سعيد بن عبد الرحمن المخزومي حدثنا سفيان عن الزهري عن سنان بن أبي سنان عن أبي واقد الليثي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى حنين مر بشجرة للمشركين يقال لها ذات أنواط يعلقون عليها أسلحتهم فقالوا: (يا رسول الله: اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «سبحان الله: هذا كما قال قوم موسى: }اجعل لنا إلها كما لهم آلهة{! والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم»، وقال أبو عيسى معقباً: (هذا حديث حسن صحيح)، وأبو واقد الليثي اسمه الحارث بن عوف وفي الباب عن أبي سعيد وأبي هريرة)]، قلت هذا إسناد في غاية الصحة، وقد أخرجه أحمد من عدة طرق صحاح أيضاً.
ــ ولا أمره بالتلفظ بالشهادتين، ولا بغير ذلك من الكفارات، كما أمر من سبقه لسانه فحلف باللات والعزى، كعادتهم في الجاهلية، أمره بأن يستغفر الله، وأن يقول: (لا إله إلا الله).
بل هو، بأبي هو وأمي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قد قال نصاً: «لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها»، نعم: هذا تقدير امتناع لامتناع، ولكن هل يتصور أن يكون الشرك والكفر مأموراً به، وقد بينا أن الله محال عليه أن يرضى بالشرك والكفر، أو أن يأمر بهما؟! أعجز نبي الله الخاتم أن يقول مثلاً: (لولا أن السجود لغير الله شرك (أو كفر) لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها)؟!
لذلك لا بد من الحكم القاطع بالبطلان على قولكم وقول أمثالكم، مثل علي الحلبي، تلميذ الألباني، تعقيباً على قصة معاذ آنفة الذكر: «... فلم يكفره الرسول صلى الله عليه وسلم، وبين له أن هذا كفر، وأنه لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد ...»، قاله في مقابلة مع مجلة «الهدْيُ النبوي» في الصفحة الرابعة والعشرين من عددها التاسع (رمضان 1417هـ)!
نعم، والله، أنكر، صلوات الله وسلامه وتبريكاته عليه وعلى آله، فعل معاذ، وبيَّن النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «أنه لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد»!
إي، وربي، لم يكفره الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بل ولم يفسقه، أو يؤثمه، أو يأمره بكفارة، أو باستغفار!
فهل عجز النبي، المعصوم، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، عن وصف ذلك الفعل بالكفر، أو الشرك؟! أو أن يقول له: جعلتني رباً، أو إلهاً، أو يقول: عبدتني من دون الله، أو جعلتني لله نداً، أو نحواً من ذلك، أو قريباً منه، أو لفظاً مشابهاً في الحكم؟! فلعله تركها لـ«العبقري» الحلبي يستدركها عليه في دبر الزمن وأواخره؟! لا ها الله!! حاشاه، ثم حاشاه!!
ولكنه الفكر التافه السقيم، والفهم السطحي البليد لكلام الله ورسوله، وهذا هو المتوقع من أمثال الحلبي وغيره من تلاميذ الألباني المعروفين بتفاهة الرأي، وسطحية الفكر، بل باتباع الهوى وعدم التورع عن الكذب وتحريف الألفاظ والنصوص، أو هو، عياذاً بالله، الكفر، والتقديم بين يدي الله ورسوله!!
وها هو الإمام ابن كثير ينص أثناء الكلام على قوله، تعالى ذكره: }وخروا لهُ سجداً{، على أن السجود لغير الله: [كان هذا سائغاً في شرائعهم إذا سلموا على الكبير يسجدون له، لم يزل هذا جائزاً من لدن آدم عليه السلام إلى شريعة عيسى عليه السلام، فحرم هذا في هذه المله، (اي مله محمد صلى الله عليه وسلم)، وجعل السجود مختصاً بجناب الرب سبحانه وتعالى]، كما هو في (صفحة 645 من المجلد الثاني من «تفسير ابن كثير»). فقد صرح الإمام أنه كان مباحاً، ولكنه ما قال قط أنه انقلب شركاً وكفراً كما تزعمون؟! نعم: هو حرام في شريعتنا، كالسرقة والزنا، وهذه ليست شركاً وكفراً إلا في حق من جحد حكمها أو استحلها، بموجب الجحد والاستحلال، ولكن ليس بوصفها عملاً مجرداً.
هذا بالنسبة للسجود والركوع والانحناء، أما بالنسبة للقيام فمن المعلوم أن أنواع القيام للمخلوقين ثلاثة: (قيام إليه)، و(قيام له)، و(قيام عليه)، أما الأول فمباح وهو القيام الذي يكون بقصد السلام والتحية والمعانقة وتلقي القادم ونحو ذلك، وقد دلت النصوص المتواترة المفيدة بمجملها للقطع واليقين على أن النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كان يفعله لبعض أصحابه، وأقاربه، ويفعله بعض الصحابة رضى الله عنهم لبعض
ــ كما في الحديث الذي رواه الشيخان عن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار في بني قريظة لما جاء سعد بن معاذ: «قوموا إلى سيدكم».
ــ وما روياه أيضاً من حديث كعب بن مالك الطويل ــ في قصة الثلاثة الذين خلفوا ــ من قيام طلحة بن عبيد الله إليه يهنئه ويسلم عليه، بعد أن تاب الله عليه، وكان ذلك في مجلس النبي وبحضرته من غير إنكار، وما زال كعب يذكر ذلك لطلحة رضى الله عنهما!
ــ وما رواه الترمذي عن عائشة رضى الله عنها في قيام النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لمعانقة زيد بن حارثة،
ــ ومارواه النسائى والترمذي وأبو داود عنها أيضاً في قيام النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لفاطمة إذا أتته، وقيامها له إذا أتاها،
ــ وما رواه البيهقي في قيام النبي صلى الله عليه وسلم لعكرمة بن أبي جهل لما هاجر إليه، وغير ذلك من المتواتر معنوياً بما يفيد القطع واليقين.
أما النوعان الباقيان فحرام، وهو القيام للتعظيم وليس بقصد التحية والسلام ونحوه وهو على صورتين: القيام على الرجل وهو قاعد كما يفعله أعوان الملوك تعظيماً من غير سبب آخر موجب لذلك (أماالحراس، والشرط، ونحوهم، الذين تتطلب وظيفتهم، أو حراستهم، ممارستها قائمين، فلا بأس، لأنه وقوف لأداء الوظيفة، التي لا يتم أداؤها إلا حالة الوقوف، أي أنه من متطلبات أداء العمل على وجهه الصحيح). والقيام للداخل أو المار إعظاماً له، من غير مصافحة، أو معانقة، أو تلقي، فالأول (قيام عليه)، والثاني (قيام له)، وهذان النوعان حرام جاءت النصوص بالنهى عنها والتشديد فيها والإخبار بأنها تشبه بالأعاجم في تعظيمهم غير الله سبحانه وتعالى:
v كما روى الترمذي، وصححه، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: «لم يكن شخص أحب إلى الصحابة من النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له لما يعلمون من كراهته لذلك»،
v وكالذي رواه أبو داود والترمذي عن معاوية أن النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: «من أحب أن يمتثل الناس له قياماً فليتبوأ مقعده من النار»،
v وكما في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن جابر رضى الله عنه: (....، فأشار إليهم فقعدوا، فلما سلم قال: «إن كدتم آنفاً لتفعلوا فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا»). وليس في هذا اللفظ كلام عن الشرك أو الكفر، وإنما هو كراهية للتشبه بفارس والروم، فقط لا غير.
v وكما في الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه عن أبي أمامة الباهلي، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «لا تقوموا كما يقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضاً»،. وهذا كسابقه ليس فيه كلام عن الشرك أو الكفر، وإنما هو كراهية للتشبه بالأعاجم، فقط لا غير.
وغيرها من النصوص، ويستفاد من ذلك أن القيام للمخلوق فيه الوعيد الشديد على من أحب أن يفعل له ذلك، ذلك لأنه أحب فعلاً شنيعاً قبيحاً، وهو التعظيم المحرم للمخلوق، فلا يصلح إلا لله سبحانه وتعالى في هذه الشريعة الخاتمة.
كما أنه من التشبه بالكفار، والتشبُّه بالكفار، بما هو من خصوصياتهم المتعلقة بكفرهم، أو المميزة لهم بوصفهم كفاراً، جاء فيه ما جاء من التغليظ، والوعيد الشديد، فقد روى أحمد وأبو داود عن ابن عمر رضى الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من تشبه بقوم فهو منهم» وروى الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس منا من تشبه بغيرنا، ولاتشبهوا باليهود ولابالنصارى»، إلي غير ذلك من عشرات النصوص الصحيحة، الصريحة، أو الضمنية.
وهذان النوعان المحرمان من القيام لم يسمهما النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، عبادة، ولا فعلهما شركاً، ولا قال: جعلتوني رباً، أو إلهاً، أو قال: عبدتوني من دون الله، أو جعلتوني لله نداً، أو نحواً من ذلك، أو قريباً منه، أو لفظاً مشابهاً في الحكم، مع كونه نهي عنهما، نهياً شديداً، كما فصلناه!
على أننا نعلم، ضرورة، أن الصلاة، على الضد من ذلك «عبادة»، أو بلفظ أدق: شعيرة تعبدية، وأن القيام فيها عبادة، ويبقى عبادة، أو بلفظ أدق: شعيرة تعبدية، على كل حال حتى ولو لم يكن بخشوع تام، وقنوت كامل، كما ينبغي لها، ولكنها عبادة، أو بلفظ أدق: شعيرة تعبدية، على كل حال، وكذلك ما فيها من ركوع وسجود.
وقد حاول بعض أنصار الدعوة الوهابية الإفلات مما قلناه آنفاً بقولهم: (مع كل رساله وشريعه سماويه تكون هناك أوامر ونواهي، ويكون هناك كفر بهذه الشريعه وإيمان، وعلى حسب الكفر والإيمان الموضح في الشريعه المنزله من لدن الله سبحانه تتشكل المفاهيم، بل وحتى المصطلحات. فمفهوم الكفر في الشريعة التي جاء بها المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم غير مفهوم الكفر الذي جاء به عيسى عليه السلام، مع أن أساس جميع الرسالات واحد وهو لا إله إلا الله)، أو كلاماً نحو هذا. ثم ضربوا بعض الأمثلة، مثل: (شرب الخمر من الكبائر في شريعه محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أحل الحلال في شريعة غيره من الأنبياء)،
وجوابنا هو: كلامكم هذا مجمل، فيه تداخل مفاهيمي خطير، لذلك جاء فيه حق وباطل، كما يظهر من التفصيل التالي:
(1) نعم: نسخ الدين الخاتم جميع الشرائع السابقة: فلم يعد حرامها حراماً، ولا حلالها حلالاً. وما كان في شريعتنا موافقاً أو حتى مطابقاً لما جاء في شريعة سابقة إنما هو شرع جديد مستأنف، جاء مطابقاً للشريعة السابقة، وليس هو إقرار لها. على كل حال هذا تقتضيه ضرورة الشرع والعقل، وأحسب أني أشبعته بحثاً في كتابنا هذا: (كتاب التوحيد). إلا أن النسخ إنما يتطرق إلى الأحكام الشرعية التكليفية: الواجب (وهو الفرض)، والمستحب، والحلال المحض وهو المباح، والمكروه، والحرام، وكذلك الأحكام الوضعية: الصحة، والبطلان، والفساد، والسبب، والشرط، وغيرها. فالمصطلحات والمفاهيم من هذا النوع تختلف باختلاف الشرائع: هذا حق.
ولكن هناك مصطلحات ومفاهيم موضوعية تتعلق بواقع معين وصفاً له أو حكم عليه: هذه من جنس الأخبار. والأخبار من المحال العقلي والشرعي أن تنسخ أو يتطرق إليها النسخ. فالخبر إما صادق أو كاذب، فقط لا غير. نعم قد توجد مقولات غير محررة، لا يمكن وصفها بالصدق أو الكذب هكذا لأنها مركبة من أجزاء بعضها حق وبعضها باطل (مثل مقولتكم هذه بعينهاالتي نحللها ونناقش جزئياتها الآن). ولكن إذا حررت وفككت إلى أجزائها أمكن الحكم عليها من حيث المبدأ (نعم: قد يتعسر هذا علي أو عليكم، ولكنه ممكن من حيث المبدأ، وإن شئتم فقولوا: كما هو في علم الله).
نعم: هناك جمل لغوية تبدوا كأنها مقولات يمكن الحكم عليها بالصدق أو الكذب، وهي في الحقيقة فارغة المحتوى، مثل القول: (روح الإنسان خضراء اللون)، لأن الروح ليست من الماديات التي تسري عليه مفاهيم الألوان أصلاً، والصواب في هذه الحالة أن يقال: هذا كلام فارغ: فالروح لا تسري عليها مفاهيم الألوان مطلقاً، لأنك لو قلت: روح الإنسان ليست خضراء اللون، فلربما وهم واهم أنها حمراء مثلاً.
لا نطيل بهذا لأن ينبغي أن يكون واضحاً بديهياً. وهذا معلوم بالحس والعقل قبل مجيء الشرع، لأنه مغروس في بنية العقل من حيث هو عقل، وأعطي للإنسان قبل أن يخاطب بخطاب التكليف أصلاً، لأن خطاب التكليف محال إن لم يكن العقل موجوداً. قال تباركت أسماؤه، وسمى مقامه: }وعلَّم آدم الأسماء كلها، ثم عرضهم على الملائكة{.
أما الأمثلة التي ذكرتم فهي حجة عليكم لا لكم: فأنت تقولون: (شرب الخمر من الكبائر في شريعه محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أحل الحلال في شريعة غيره من الأنبياء)، فأقول: صدقتم وبررتم وأحسنتم، ولكن الخمر هي الخمر: وهي كل مسكر: هذا واقع موضوعي يدرك بالحس، والتجربة والعقل. ولكن الحكم الشرعي مختلف باختلاف الشرائع، فمفهوم الخمر عندنا، وفي الشرائع السابقة، واحد، من حيث هي شيء مادي يشرب أو يؤكل أو يستشق أو يدخن فيؤدي إلى «السكر»، وهو تغيّر معلوم في حالة العقل والنفس، ولكن حكم شربها مختلف باختلاف الشرائع.
وعندما قال، عليه وعلى آله الصلاة والسلام: «ما أسكر كثيره، فقليله (وفي رواية: ملؤ الكف منه) حرام»، أحال إلى واقع محسوس لأشياء تسمَّى أو توصف بأنها «مسكرة»، وهي لفظة معلومة في لغة العرب، يعرفها العرب قبل مجيء الوحي، ويدركون واقعها بضرورة الحس والعقل، ثم حكم عليها بحكم شرعي: ألا وهو الحرمة.
ومفهوم (العبادة) كذلك له واقع موضوعي، لا محالة مدرك بضرورة الحس والعقل، قبل ورود الشرائع، وإلا كان قول الأنبياء لأقوامهم: (لا تعبدوا إلا الله) عديم المعنى، لأن الأقوام سوف يقولون: ما هذه اللفظة: (تعبدوا)، هذه لا نعرفها أصلا. ولكن الواقع الحسي، والتواتر التاريخي، ونصوص القرآن القاطعة تبين أنهم عرفوا المطلوب على الفور، وسارع أكثرهم بالاستنكار والاحتجاج: }ما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك{، }أجعل الآلهة إلاهاً واحداً؟! إن هذا لشئ عجاب!{، وما شابه. فالقوم فهموا فوراً، وعلى البديهة مراد الأنبياء، عليهم السلام، وعرفوا أنها الطامة الكبرى، والنقيض التام، والهدم الكامل لموروثاتهم، لأنها تقتضي بطلان آلهتهم، وأنها خرافات لا وجود لها في الواقع!
فما هو مفهوم (العبادة) أو مفهوم (الإله) الذي دار حوله الجدل بين الأنبياء، وأقوامهم؟! وما هي علاقة المفهومين ببعضهم البعض؟! لا بد إذاً من تحرير مفهوم (العبادة)، ومفهوم (الإله) وتبيان أيهما الأصل، وأيهما التابع، هذا هو الذي حررناه آنفاً، وسوف يزداد ذلك التحرير والبيان قوة بإبطال اعتراضاتكم، أو بيان أنها ليست في الموضوع محل البحث، كما سيأتي شيئاً فشيئاً، إن شاء الله.
هذا إذاً هو هو المطلوب تحريره أولاً وقبل كل شئ، تماما كما أن المطلوب معرفة: هل هذه العشبة التي يدخنون، أو تلك الحبوب التي يبتلعون، من «المسكرات» أم لا؟! وليس المطلوب الآن معرفة ما حكم تدخين العشبة، أو ابتلاع تلك الحبة: هذا موضوع آخر يأتي في حينه، بعد ذلك.
فالقضية هنا وفي غير هذا من الأفعال قضية نوع الفعل وصنفه، أي قضية ما يصاحبه من اعتقاد وتصور، وليست قضية درجته أو شدته، أو وصفه وهيئته. فالغريق الملهوف الذي يستغيث بالواقفين على الشاطيء لم يعبد الواقفين على الشاطىء من دون الله، وذلك بغض النظر عن حرارة استغاثته، وشدة لهفته. وكذلك الحال في أولئك الذين جبنوا عن القتال، بعد أن فرض عليهم، خشية من الناس، وخوفاً من الموت والجراحات والألم والمشقة، بل أن خشيتهم للناس بلغت درجة خشيتهم لله أو أشد، بنص القرآن القاطع، ومع ذلك لم يقل أحد من العقلاء أنهم أصبحوا بهذا الموقف، وهو موقف ذميم مقبوح بلا شك، عابدين للناس من دون الله، مشركين شركاً يخرج عن الملة.
ولو شئنا لسودنا مئات الصفحات ها هنا في البرهنة على أنه ما ثمة من فعل من أفعال المخلوقين في العالم، لا فرق بين أفعال الجوارح والبدن كالسجود والركوع، وأفعال القلب كالمحبة، والخوف، والخشية، يصلح أن يكون من حيث هو فعل مجرد «عبادة»، بل لا بد لتصنيفه عبادة أن يصحبه اعتقاد أو تصور معين عن «المفعول به»، أي عمن (تم توجيه الفعل إليه)، في ذهن «الفاعل».
بذلك يتبين بطلان تسمية، أو اعتبار بعض الأعمال عبادة، أو بلفظ أدق: شعائر تعبدية، من حيث هي أعمال محضة مجردة عن الاعتقاد، بغض النظر عن مضمون الإعتقاد في من وجهت إليه.
نعم: في مضى كفاية، إن شاء الله، لهدم المقولة الباطلة، والتي هي في نفس الوقت مقولة مبتدعة ضالة مهلكة بـ(أن ثمة أفعال هي «عبادة» من حيث هي فعل مجرد، بغض النظر عما يصاحبها من اعتقاد الفاعل عن الكائن المفعول به، أو الذي تم توجيه تلك الأفعال إليه)، ومع ذلك فسوف نعود إليها في بعض المناسبات بزيادة تقرير وضرب أمثلة، لا سيما في الأبواب المتعلقة بأصناف من الشرك العملي، إن شاء الله تعالى.
أما عن نوعية «المعتقد» أو «التصور» في «المفعول به» الذي يصلح أن تصبح الأفعال الموجهة إليه «عبادة» فهو، بالضرورة الشرعية والعقلية، «الألوهية»، ومنها «الربوبية من دون الله»، كما عرفنا جزئياتها في الأبواب والمباحث السابقة من هذا الكتاب، لا يجوز غير ذلك، ومن المحال أن يكون الأمر إلا كذلك.
لذلك نقرر القاعدة: لا يمكن أن يسمى عمل من أعمال القلب، أو لفظ من الفاظ اللسان، أو فعل من أفعال الجوارح «عبادة» (بالمعني العرفي الاصطلاحي عند العرب الفصحاء الأقحاح وقت نزول القرآن) إلا إذا كان مسبوقاً باعتقاد«الألوهية»، أو «الربوبية من دون الله»، ولو في جزئية واحدة أو معنى واحد من معانيها، فيمن يوجه إليه ذلك الفعل، أي فيمن يراد التقرب إليه بذلك الفعل؛
فمفهوم «الألوهية»، ومنه: «الربوبية من دون الله»، إذا، ضرورة، سابق لمفهوم العبادة، والعبادة لا تكون إلا لإله.
فمن اعتقد، مثلاً، أن الجن مخلوقون مربوبون إلا أنهم يستطيعون الاختباء من الله، أو أنهم يعجزونه هرباً، فهو بهذا المعتقد مشرك كافر، مرتد عن الإسلام إن كان صح عقد الإسلام له من قبل، ويترتب على ذلك أن خوفه من الجن «عبادة»، حتى ولو كان خوفاً هزيلاً، وربما اعتقد أنه يستطيع مغالبتهم، أو مناورتهم أو التلاعب بهم بالسحر، وذلك على النقيض التام من خوف المسلم الفار من الأسد حال هجوم الأسد عليه، مع أن الخوف قد يكون طاغياً على هذا مستحوذاً عليه بحيث لم يعد في قلبه وعقله إلا الرعب والخوف، وربما أطلق ساقيه للريح، وتردى في هاوية وهو لا يبصر، ومع ذلك فليس خوفه الهالع هذا «عبادة»، ومعاذ الله أن يكون خوفه «عبادة»، ومعاذ الله أن يموت مشركاً كافراً لو تردى قتيلاً في حفرة، ومن زعم هذا أو نحوه فقد فارق العقل، وفارق الإسلام فهنيئاً له!
وهذا المثال السابق يبين أن خصوم الدعوة الوهابية من «الصوفية» و«البريلوية»، و«الشيعة الإثني عشرية»، وغيرهم، ممن شابههم في الحرب الشعواء على الدعوة الوهابية، ليسوا بأحسن حالاً أو أعمق فكراً عند إجابتهم على ذلك عندم يذكرون «النية» أو «إرادة الفاعل»، على أنها بيت القصيد، ومناط الحكم في القضية.
وبطلان كون اختلاف النية هو المناط في المسألة يظهر من تأمل أن الخوف، مثلاً، ينشأ، في أغلب الأحيان، في النفس قسراً، فلا مدخل لـ«الإرادة» و«القصد»، و«النية» في كونه يستحق أن يصنف: «خوف عبادة»، أو أن يصنف: «خوفاً طبيعياً».
و«النية»، وإن كان لها دخل في استحقاق الذم والعقوبة، أو الثناء والمثوبة، لأنه: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امريء ما نوى»، ولكن لا دخل لها قطعاً في تصنيف الفعل ونوعه: فالقاتل خطأً «قاتل»، وإن كانت رفعت عنه المؤاخذة، وليس مستحقاً لعقوبة القاتل العمد، ولكن واقعه أنه «قاتل»، ولن ينقلب فجأة إلى: «ضاحك» أو «تاجر»، بسبب تغير النية!
فالقوم كلهم متخبطون متناقضون، لا فرق بين رجالات الدعوة الوهابية وخصومهم في هذا الباب، وأكثرهم يرفض الفكر العميق، والنظر المدقق المستنير، ويفضل الانغماس في السب واللعن والتكفير، أو رفع الأئمة السابقين إلى مراتب المعصومين القديسين، والمعاندة في الإصرار على زلاتهم، بدلاً من تصحيح أغلاطهم، ودعاء الله لهم بالمغفرة والثواب على اجتهادهم، مها كانت درجة خطئهم.
فلا بد إذاً من إيقاف مسلسل هدم الإسلام، الذي تخوفه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، عندما قال: (إنما يهدم الإسلام: زلة العالم، وجدل المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين)، وما كانت هذه المقولة الرائعة من بنات أفكاره، رضوان الله وسلامه عليه، بل هو ما استفاده من خاتمة أنبياء الله، عليه وعلى آله صلوات وتسليمات وتبريكات من الله!
هذا التعريف لمفهوم «العبادة»، بمعناها الاصطلاحي الضيق، هو وحده الفهم الصحيح، المطابق للواقع، والذي توجبه نصوص القرآن المتضافرة. وهو الذي فهمه سلف الأمة كما أخرج البخاري بإسناد صحيح في «الأدب المفرد» عن معقل بن يسار قال: انطلقت مع أبي بكر، رضي الله عنه، إلى النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال: «يا أبا بكر! للشرك فيكم أخفى من دبيب النمل». فقال أبو بكر: (وهل الشرك إلا من جعل مع الله إلهاً آخر؟!)، فقال النبي، صلى الله عليه وعلى اله وسلم: «والذي نفسي بيده، للشرك أخفى من دبيب النمل، ألا أدلك على شيء إذا فعلته ذهب قليله وكثيره؟!»، قال: «قل: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم». فقول أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، وهو عربي قرشي فصيح، أوَّل الأمر: (وهل الشرك إلا من جعل مع الله إلهاً آخر؟!)، هكذا حصراً، هو عين قولنا الذي فصلناه أعلاه، إذ لم يتشكل في ذهنه للشرك معنى إطلاقاً إلا في اتخاذ إله آخر مع الله، أي في اعتقاد الألوهية في غير الله. أما قوله صلى الله عليه وعلى اله وسلم: «والذي نفسي بيده، للشرك أخفى من دبيب النمل، ... إلخ»، فهو تشريع جديد، وتوسيع لمفهوم الشرك، على نحو لم يكن معروفاً للعرب حتى تلك اللحظة، فأعطى أفعالاً وإرادات مسمَّى الشرك، وصنفها «شركاً عملياً»، وجعلها إثما وحراماً غير مخرج من الملة في العادة، مع كونها ليست في صدر ولا ورد من شرك الكفر، المناقض للإسلام كل المناقضة، المخرج من الملة، المردي بمن مات عليه، بعد بلوغ الرسالة وقيام الحجة، من غير توبة، حتماً في النار الأبدية، واللعنة السرمدية، وليس هذا هو بحثنا ها هنا في هذا الباب، بل له أبواب أخرى ستأتي، بل نحن نيحث فقط في المعنى الاصطلاحي العرفي الضيق، لا غير.
فالقول بأن أفعالاً، من حيث هي أفعال مجردة بغض النظر عما يصاحبها من تصور واعتقاد في «المفعول به»، القول بأنها «عبادة»، خطأ جسيم قاتل، وليس هو كذلك فحسب، بل هو أيضاً بدعة نكراء، وضلال كبير، ترتَّبت عليه طوام وفواقر منها:
(1) نسبة الشرك والكفر إلى كثير من المسلمين، والحكم بخروجهم من الملة، ومفارقتهم الإسلام، ومن ثم معاداتهم، وسل السيف عليهم، وقتالهم، واستباحة أموالهم ودمائهم. هذا منكر عظيم، وخلل جسيم يجعل صاحبه من المارقين «الخوارج»، الذين يقتلون أهل الإسلام، ويذرون أهل الأوثان، أو في أقل تقدير: معاداة أهل الإسلام، ومهادنة أو موالاة أهل الأوثان.
(2) مسخ مفهوم العبادة حتى أصبح مجموعة من «الشعائر» و«الطقوس» الفارغة تقريباً من كل محتوى، ومباحث مضحكة «مهووسة» تدور حول القبور، والأضرحة، والأولياء: فلا عجب أن يسمي الألباني، مثلاً، دولة آل سعود «دولة التوحيد»، في نفس شريط «الكاسيت» الذي يوسعها نقداً لاستقدام القوات الأمريكية لقتال العراق إبان أزمة الكويت، فهي «دولة التوحيد»، في نظره، حال توليها الكفار وقتالها تحت رايتهم ضد المسلمين قتالاً مدمراً فعالاً، وهو فعل من أفعال الكفر، يصبح به الفاعل كافراً مرتداً إذا انتفت في حقه موانع التكفير، مقروناً بتبديلها للشرائع، وإظهارها الكفر البواح في مثل نظام التابعية السعودية، ذلك النظام الخبيث، بل العنصري الملعون، والترخيص للبنوك الربوية، وعضوية المنظمات الكفرية كالأمم المتحدة.
ثم وجدنا تسميته لها بذلك مكتوباً في في رسالته: (تحذير الساجد، من اتخاذ القبور مساجد)، كما هي أمامي الآن في طبعتها الرابعة، من اصدار «المكتب الإسلامي» بتاريخ. 1403 هـ، الموافق 1983م، في الصفحة 68، حيث يقول: (فعجبت حينئذ كيف ظلت هذه الظاهرة الوثنية قائمة حتى عهد دولة التوحيد).
لماذا سمَّاها «دولة التوحيد»، وكيف استحقت هذا الشرف العظيم؟! لأن الديار السعودية تخلوا من القبور المبنية، والأضرحة المشيدة: هكذا بكل سخف وبلاهة وتفاهة، وسطحية فكر. سبحانك اللهم: هذا بهتان عظيم!
(3) وهو أشنعها عقدياً، وإن كان لا يظهر بتلك السهولة عملياً، وهو القول بأن الله، جل جلاله، لم يكن إلها في الأزل، وإنما أصبح إلها بعد أن أصبح معبوداً، أي بعد أن وجد من يعبده، وكفى بذلك قبحاً.
نعم: سوف يسارع القوم بالقول: معاذ الله، بل هو إله أزلاً وأبداً، بمعنى أنه المستحق بذاته لعبادة كل عابد، لا فرق في وجود عابد من عدمه، أو امتناع مكلف عن العبادة من عدمه.
فنقول: أحسنتم، وهو كذلك، فعرفوا لنا العبادة إذاً؟! أليست هي، ضرورة وعلى البديهة، كل فعل يراد به التقرب إلى الله، بوصفه المستحق لها ذاتياً، أي بناء علي اعتقاد ذلك الفاعل لاستحقاق الله لها ذاتياً؟! فكيف جعلتموها قائمة محصورة من الأفعال: سجود، وركوع، وإيقاد شموع، وتقديم قرابين، وذبح ذبائح، والتزام بنذور، و... إلخ، من حيث هي أفعال مجردة.
وربما سارع القوم بالمشاغبة قائلين: بل لأن الله أمر بها لنفسه، ونهى عنها لغيره، لذلك سميناها عبادة، وصنفنا صارفها لغيره مشركاً كافراً.
فنقول: هذا من جهلكم، أو كذبتم صراحة، لأننا أثبتنا في حالة السجود، مثلاً، أن الله لم يصنفها عبادة إذا صرفت لغيره، ولا كَّفر من صرفها لغيره، بل أمر بها ملائكته المسبحة بقدسه أمر وجوب لا هوادة فيه، ولعن إبليس وطرده لما أبى واستكبر فأصبح بذلك الإباء من الكافرين، وإنما حرمها فقط في هذه الشريعة الخاتمة، ولم تكن محرمة قبل ذلك. وهي في هذه الشريعة الخاتمة حرام فقط، وليست شركاً أو كفراً إلا إذا صحبها اعتقاد مكفر. فأنتم تشرعون بأهوائكم، وتسمون الأشياء بأسماء اخترعتموها، ما أنرل الله بها من سلطان. فضلاً عن تناقض قولكم، ووقوعكم في الدور الجلي حيناً، وفي الدور الخفي أحياناً.
فلا عجب إذاً أن تتركز حملات عملاء آل سعود على «طالبان»، عندما أمرتهم «سيدتهم» أمريكا بذلك، على قضية «الأضرحة» و«القبور»، فيكون دفاع المدافع مقصوراً على إيراد الأدلة على أنهم بسبيل هدمها، قدر الاستطاعة (؟!). أما الأعراف القبلية الكفرية التي سكتت عنها طالبان، وأما التقليد الأعمى والجمود الفقهي على أقوال فقهاء عصور الانحطاط، البالغ درجة «الظلامية»، وأما الغلو والممارسات الخاطئة التي تورطت فيها طالبان، والتي شوهت صورة الإسلام الناصعة، وأما القمع ومصادرة حقوق الناس المشروعة، أما هذا كله فليس موضوع البحث والنقاش، أو توجيه النقد والإنكار والنصيحة إلى طالبان لتصحيحه. ولم لا؟! أليس «شرك القبور» هو الطامة الكبرى، والمصيبة العظمى التي ينبغي التركيز عليها، وعلاجها قبل غيرها كما هو في الخيال الشاطح المريض عند هؤلاء المساكين المفتونين من أدعياء «السلفية»، أهل (العقيدة الصحيحة) بزعمهم؟!
ولا عجب أن نسمع أحد أئمة الدعوة الوهابية في هذا العصر، ألا وهو الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، رحمه الله، يقول: (وتحكيم شرع الله وحده دون كل ما سواه شقيق عبادة الله وحده دون ما سواه إذ مضمون الشهادتين أن الله هو المعبود وحده لا شريك له وأن يكون رسوله هو المتبع المحكم ما جاء به فقط. ولا جُردت سيوف الجهاد إلا من أجل ذلك والقيام به فعلاً وتركاً وتحكيماً عند النزاع) (عن فتاوى الشيخ :12/251).
نعم: لا عجب أن يصدر من الشيخ، رحمه الله، هذا الكلام المرسل، الذي تنقصه الدقة، مع ما فيه من جوانب جيدة لا تنكر، لأنه ينطلق من مفهوم «العبادة» البدائي المتخلف: أنها مجموعة من الشعائر والأفعال الظاهرة والباطنة: من قيام وقعود، وركوع وسجود، وصيام وحج، وإطلاق مجامر، وإيقاد شموع، وتقديم ذبائح وقرابين، وما شابه ذلك.
والحق أن تحكيم شرع الله هو «عين» عبادة الله، أو «بعض» عبادة الله، وليس هو شيء غيرها حتى يصح أن يقال أنه شقيقها، لأن الشعائر التعبدية ليست بذاتها «عبادة»، وإن أخطأ الفقهاء وسموها «عبادات» بدلاً من التعبير الصحيح «شعائر تعبدية»، بل العبادة هي «الطاعة للأمر» بها، وليس هو «ذاتها».
وهذا هو عين نص نبي الله الخاتم، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، عندما قال:«فتلك عبادتهم»، ولم يقل: (تلك مثل، أو شقيقة، أو صنو عبادتهم)، تعليماً لعدي بن حاتم عندما استشكل قوله تعالى: }اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله{، فقال: (إنا ليس نعبدهم)، فسأله نبي الله، عليه وعلى آله صلوات وتسليمات وتبريكات من الله: «أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟ ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟»، فأسقط في يد عدي بن حاتم وقال: (بلى)!
وسبب الوقوع في هذا الخطأ الجسيم القاتل، الذي نتجت منه كل تلك المصائب والبلايا هو عدم الدقة في التمييز بين المصطلحات المتباينة. فهناك فرق جوهري بين مفهوم العبادة بمعناها العرفي الإصطلاحي الضيق الذي كان يستعمله العرب عند نزول القرآن في حق آلهتهم ومعبوداتهم، وما زال كافة البشر يستخدمونه، وهو استخدام القرآن المعتاد، عند مخاطبته للمشركين ودعوتهم للإسلام والتوحيد، وبين المفهوم الشرعي الواسع الذي جاء به الإسلام لـ «عبادة الله» خاصة، الذي خوطب به المؤمنون، بعد دخولهم في التوحيد والإيمان. وهناك فرق بين ذلك كله من جانب، والأصل اللغوي لألفاظ: عبَد، عبْد و جمعها عبيد، عبادة، ونحوها، من جانب آخر.
أما المعنى الاصطلاحي العرفي لـ«العبادة»، وهو أيضاً المعنى الشرعي إذ لم تأت الشريعة بغيره، فهو حصراً: (توجيه أقوال وأفعال وشعائر معينة إلى من تعتقد فيه الألوهية للتقرب إليه وطلب رضاه ومحبته والزلفى إليه، أو اتفاء شره، أو استدرار عطفه وبره وإنعامه، أو الاستعانة به في دفع ضر أو جلب منفعة، ونحو ذلك)
أما المعنى اللغوي الأصلي، الذي يتضمن معاني الخضوع والإستسلام ونحوها، فهو المقصود وحده في مثل قولنا: فلان عبد مملوك لفلان، فلا علاقة لذلك بالشرك والتوحيد بمعناها الشرعي، وإن كان الشرع كره استخدام لفظة عبْد وأمة في حق اللماليك، ملك يمين، وأرشد إلى استبدالها بلفظ: فتى وفتاة، كما سيأتي في محله.
والمعنى اللغوي المحض كذلك هو المقصود في مثل قوله عليه الصلاة والسلام: «تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة .......» وهذا من البلاغة النبوية الرائعة إذ شبَّه من غلبه حب المال والمتاع بالعبد المملوك الذليل الذي لا يملك من أمره شيئاً ولا يستطيع الخروج من سلطان سيده، ولا علاقة لهذا بالشرك والتوحيد بمعناها الشرعي الإصطلاحي، وإن كان من هذا حاله مستحقاً للذم والعقوبة من الله، ولكن من المقطوع به أنا هذا ليس من باب: عبد اللات أو عبد العزى أو عبد مناة.
أما المعنى الواسع الذي جاء به الإسلام فعمّق ووسّع المعنى الإصطلاحي الضيق عند العرب، في كل حالة بحسبها، وبما يقتضيه السياق، في مثل قوله تعالى: }ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين{ فهذا نداء للبشرية جمعاء يوم القيامة بعد أن ينكشف الحجاب ويدرك الجميع بيقين أنهم بكفرهم، وفسوقهم، ومعصيتهم، إنما كانوا مطيعين للشيطان في ترك الحق، فعبادتهم للشيطان هاهنا هي بمعنى الإتباع والطاعة وليس بالضرورة بالمعنى الإصطلاحي الضيق عند العرب، وهو الركوع والسجود، والذبح والنذر، وتقديم القرابين والصدقات، وإيقاد الشموع والمباخر، ونحوه، لأن أكثر البشر لم يفعلوا ذلك، إلا القليل من المجوس والثنوية وعبدة الشيطان.
لا يقال أن بعضهم ينكر وجود الشيطان أصلاً، وأكثرهم لم يرد طاعته واتباعه، لا يقال ذلك لأنهم كانوا مطيعين متبعين له في الحقيقة، ونداء الرب جل وعلا لهم يوم القيامة هو بعد إنكشاف الحجاب، وظهور حقائق الأشياء على ما هي عليه، فهو نداء إهانة وتوبيخ وتقريع.
ومن هذا الباب قوله تعالى: }أفرأيت من اتخذ إلهه هواه{ لأن هذا جعل رأيه وهواه مشرعاً وحاكماً، فالواجب عنده ما رأه هو واجباً، وليس ما نص الشرع على أنه واجب، وكذلك المستحب، والحلال، والمكروه، والحرام، كلها وفق عقله ورأيه، أو شهوته وهواه. فهو يعتبر نفسه أو عقله صاحب السيادة والحاكمية، فهو المشرع لنفسه، وهو الذي يعرّف الحسن والقبيح، والطيب والخبيث. هذا هو معنى اتخاذه إلهه هواه، وهو بذلك مشرك كافر، لم يدخل الإسلام قط، أو ارتد عنه بعد دخوله فيه. وإلا فلم نسمع عن إنسان، حسب ما بلغنا، ينصب لنفسه المحاريب، ويقدم لها الذبائح والقرابين، ويوقد لها الشموع، ويستقبل المرآة ثم ينحني لذاته بالركوع والسجود!!
وقد أسلفنا أن السيادة والحاكمية لله وحده لاشريك له، وأن من نسب أي شيء من ذلك لغير الله فقد جعله رباً وإلهاً مع الله وذلك بغض النظر عن التسمية: سواء سمى ذلك صراحة: ألوهية، أو ربوبية؛ أو سماه ممارسة للسيادة والحرية، أو «تحقيقاً للذات وتأكيداً للوجود، وتعميقاً له» كما يشغب ويسفسط «الوجوديون»، أخزاهم الله ولعنهم وأبادهم، أو تقريراً للمصير، أو سيادة الشعب، أو الدولة، أو أرجعه إلى الحق الإلهي للملوك، أو سمى ذلك تصرفاً عقلانية، أو فكراً سياسياً مصلحياً.
وهذا المعنى نفسه هو المقصود من قوله تعالى: }وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم، وإن اطعتموهم إنكم لمشركون{ أي إن أطعتموهم واتبعتموهم في تحليل الميتة، أصبحتم كفاراً مشركين بالله، مفارقين للإسلام، مقرين لغير الله بحق السيادة والحاكمية والتشريع، هذا هو الشرك المعني هنا، وهو شرك الكفر، المناقض للإسلام كل المناقضة، المخرج من الملة لمن كان فيها قبل ذلك، لا علاقة له بقيام أو قعود أو ركوع أو سجود، أو سعي وطواف.
ومن هذا الباب كذلك قوله تعالى: }اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله{، فقد جاء في تفسير هذه الآية عن عدي بن حاتم ــ رضى الله عنه ــ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقرأها، قال عدي: قلت له: (إنا لسنا نعبدهم)، قال: «أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟» فقلت: بلى، قال: «فتلك عبادتهم»، رواه أحمد والترمذي في سننه. وقد فهم عدي رضي الله عنه العبادة هنا بمعناها الضيق (أي الشعائر التعبدية المظهرة للتذلل والخضوع)، كما هو مفهوم العرب، بل وأكثر شعوب الأرض، لها، فعلمه النبى، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أن الإقرارللأحبار والرهبان بحق التشريع وجعلهم بذلك أرباباً لهم السيادة عبادة لهم بالمعنى الواسع (التذلل والخضوع، مع الطاعة والاتباع، مع المحبة والولاء)، الذي يعود كله في التحليل النهائي إلى «طاعة الأمر» المبني على اعتقاد أهلية الله ذاتياً لذلك.
وقد بالغ الإمام أبو محمد علي بن حزم الأندلسي، في «الإحكام في أصول الأحكام»، في ذلك فقال: (... فليس قول القائل: أنا أعبد الملائكة، ولا قول النصارى: نحن نعبد المسيح، موجب لصدقهم، لأن العبادة مأخوذة من العبودية، وإنما يعبد الإنسان من ينقاد له، ومن يتبع أمره، وأما من يعصي ويخالف فليس عبداً له، وهو كاذب في ادعائه أنه يعبده) وإنما قصد، رحمه الله، نفي الصدق عنهم، أي وفق حقيقة الأمر، ومطابقة الحقائق كما هي، على النحو الذي يظهر يوم القيامة عند انكشاف الحجاب.
والخلط في ترتيب مفاهيم «العبادة» و«الألوهية» وربط بعضها ببعض، وأيها الأول السابق، وأيها التابع الاحق، وكذلك الوقوع في «الدور» والتناقض، الذي ذكرناه أعلاه، هو أهم سبب لبقاء النزاع والخلاف بين الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، ومدرسته مع نقادهم وخصومهم حتى اليوم.
فمثلاً نجد الشيخ عبد الله بن محمد القرني، وهو من أتباع الدعوة الوهابية، في رسالته القيمة: (ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة)، وهو من أحسن ما كتب في الموضوع، يقول عما سماه «شرك النسك والتقرب»: (كل ما ثبت أنه عبادة مشروعة وجوباً أو استحباباً فصرفها لغير الله شرك في العبودية، ومن تحقق منه ذلك كان مشركاً، سواء اعتقد مع ذلك استحقاق المعبود للعبادة من دون الله، أو اعتقد أنه لا يستحق العبادة لذاته، وإنما هو وسيط وشفيع إلى الله. وذلك أن شرك العبادة لا يتضمن الشرك في الربوبية، لأن شرك العبادة متعلق بالإرادة ولازمها من العمل، وأما شرك الربوبية فمتعلق بالاعتقاد وإثبات الكمال لله في ذاته وصفاته وأفعاله)، (ص 129، طبعة مؤسسة الرسالة).
هنا نلحظ مرة ثانية المقولة الباطلة أن هناك أفعال تستحق أن تسمَّى لذاتها «عبادة». وقد بينا بيقين أن ذلك غير صحيح، فلا توجد قائمة من الأفعال يصح أن تسمَّى عبادة لذاتها، لأن العبادة هي شعائر وأفعال لإظهار التعظيم، والخضوع والمحبة لمن يعتقد فيه «الألوهية». لذلك فإن قول الشيخ؛ (فصرفها لغير الله شرك في العبودية، ومن تحقق منه ذلك كان مشركاً) لا معنى له، ولا محصول من ورائه، لأنها ليست «عبادة» أصلاً إلا إذا صرفت لمن لا يعتقد فيه الألوهيه، أي يجب أن تكون مسبوقة باعتقاد الألوهيه، ولا بد من ثم أن يكون مفهوم «الألوهية» موجوداً سبق تعريفه من قبل، ثم يترتب عليه بعد ذلك تعريف «العبادة»، كما نلاحظ فداحة نتائج التقسيم الخاطيء إلى «شرك ربوبية» و«شرك ألوهية»، على طريقة شيخ الإسلام ابن تيمية.
ولا يجدي الشيخ شيئاً أنه حصر هذه القائمة في: (كل ما ثبت أنه عبادة مشروعة وجوباً أو استحباباً)، فظن بذلك أنه تحصل على قائمة «يقينية» لما يستحق أن يسمى عبادة بذاته، بغض النظر عن أي اعتقاد أو تصور أو نية، وذلك لما فصلناه أعلاه عن السجود الذي كان تحية مشروعة في شريعة يوسف ويعقوب، صلوات الله عليهما، وهو قبل ذلك وبعده عبادة لله مشروعة مستحبة، أو واجبة في مواضع، إذا كان السجود لله. مع تناقض ذلك مع كون محبة الله عبادة، بل هي من أفضل العبادات، ومحبة المؤمنين وتوليهم ليست شركاً، بل هي من الواجبات، وطاعة أولي الأمر الشرعيين في المعروف واجبة...إلخ، مما يدل على أن المحبة بذاتها، والسجود بذاته، والطاعة من حيث هي بذاتها، من حيث هي أفعال مجردة، محال أن تكون عبادة، وإنما تصبح عبادات إذا سبقها اعتقاد وتصور معين، وإلا فهي أفعال انسانية مجردة، وليست عبادة أو غير عبادة، أو بلفظ أدق: ليست شعائر تعبدية.
بل ونحن نعكس عليه القضية فنسأل: وماذا عن «الرقص»، رقص المشركين لبعض آلهتهم التي يعتقدون فيه الألوهية؟! من المقطوع به أن «الرقص» لم يثبت أنه شعيرة تعبدية في هذا الدين الخاتم، لا وجوباً ولا استحباباً، فهل يعني ذلك أن الرقص لـ«شيفا»، إله الموت والدمار عند الهنود الوثنيين، ليس عبادة؟! ولماذا نجده، ومن تبع مذهبه، يستنكرون الرقص والتمايل عند قبر أحمد البدوي مثلاً، أشد الإنكار؟!
وماذا عن «المكاء والتصدية» الذي كان بعض عبادة قريش لله، فأنكر الله عليهم ذلك وعابهم عليه لأنه عبادة مخترعة لم يأذن بها الله، فهل لو صفقوا وصفروا لآلهتم لم يكونا إذاً عابدين لها؟!
ثم كيف طابت نفس الشيخ القرني، وغيره من رجالات الدعوة الوهابية، أن يقيسوا عبادة الآلهة الباطلة، على عبادة الله، رب العالمين، الإله الحق: هذا أخبث قياس في العالم وأنتنه!
أما قول الشيخ: (سواء اعتقد مع ذلك استحقاق المعبود للعبادة من دون الله) إما أن يكون دوراً متناقضاً على طريقة: الإله هو المعبود، والعبادة لا تصرف إلا لإله، وقد أظهرنا بطلان ذلك وتناقضه من قبل، وإما أن يكون نقضاً لمقولته السابقة في عدم اشتراط الاعتقاد المسبق للألوهية فيمن تصرف له أعمالاً تستحق حينئذ أن تسمَّى «عبادة».
ولكنه عاد فتناقض مرة أخرى عندما قال: (أو اعتقد أنه لا يستحق العبادة لذاته، وإنما هو وسيط وشفيع إلى الله) فكيف يتشكل في ذهن، أو يخطر على خيال أن يقدم أحد شعائر التعظيم والخضوع والتقديس والمحبة لشيئ وهو لا يعتقد أنه يستحق ذلك؟!
أما الاحتياط بلفظة: (لذاته، وإنما هو وسيط وشفيع إلى الله) فلا يسمن ولا يغني من جوع لأن الوسيط والشفيع إلى الله لا بد له من صفات ومسوغات «ذاتية» معينة تجعله كذلك، وما يقدم له من شعائر المحبة والخضوع والتعظيم مبني على اعتقاد أهليته لذلك، أي لكونه يصلح شفيعاً أو وسيطاً إلى الله.
ونحن نحسن الظن بالشيخ ونحسب أنه سقط من كلامه (شفاعة أو وساطة يجب على الله قبولها فلا ترد، أو تقدم بغير استئذان)، أو نحو من ذلك، لأن مجرد الشفاعة عند الله بإذنه ممكنة تكريماً من الله لبعض خلقه، كما ثبت بالنصوص اليقينية، فليست نسبتها إلى أحد على ذلك النحو الذي بينته النصوص مخرجة له من مرتبة العبودية إلى درجة الندية مع الله، ولو في ذلك الأمر المحدود، ومن ثم جعله مع الله «إلاهاً» آخر.
أما قول الشيخ بعد ذلك: (وذلك أن شرك العبادة لا يتضمن الشرك في الربوبية، لأن شرك العبادة متعلق بالإرادة ولازمها من العمل، وأما شرك الربوبية فمتعلق بالاعتقاد وإثبات الكمال لله في ذاته وصفاته وأفعاله) فباطل لما أوردناه من أن مفهوم «العبادة» مسبوق حتما بمفهوم «الألوهية»، لذلك كان شرك العبادة ضرورة يتضمن اعتقاد «ألوهية» غير الله، أو «الربوبية» من دون الله، ولو في جزئية محدودة من معاني الألوهية، ثم تترتب على ذلك أفعال تقديس وتعظيم وخضوع ومحبة وإظهار فقر وذلة وطلب قضاء حاجة تستحق، بعد ذلك، أن تسمَّى «عبادة». فما سمَّاه الشيخ «شرك العبادة» متعلق بالاعتقاد، مشروط به، كـذلك الذي أسماه: «شرك الربوبية»، سواء بسواء، ولا فرق.
وأنت ترى في هذا النص القصير حجم التناقض المرعب، والاضطراب المخيف، الذي نشأ من ذلك الدور الخفي في مفهوم «العبادة» و«الألوهية». يضاف إليه الاضطراب والخلل والقصور في قسمة التوحيد إلى توحيد «ربوبية»، وتوحيد «ألوهية»، وتوحيد «أسماء وصفات». إنها بحق قسمة «ضيزى» مشؤومة، يجي طرحها جملةً، والتخلص منها نهائياً، والامتناع عن استخدامها بعد اليوم مطلقاً.
ولا يجدي في ذلك استشهاد الشيخ، وغيره من المدافعين عن الدعوة الوهابية، بقوله سبحانه وتعالى: }والذين اتخذوا من دونه أولياء، ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى{، لا يجديه ذلك شيئاً كما سنبين بعد بضعة أسطر، ولكن لا بد من تحرير بعض القواعد المهمة قبل ذلك أولاً:
فنقول وبالله التوفيق: عند الاستشهاد بآية أو حديث ثابت لا بد من ملاحظة أمور في غاية الأهمية، منها:
(أ) ذكر النص كاملاً، لا سيما في الآيات، حتى يعرف السياق، فيذكر ما قبلها وما بعدها، وإلا تورطنا في جريمة «تحريف الكلم عن مواضعه»، حيث أن هذا الفعل، أي انتزاع الآية من سياقها، هو أحد صور «تحريف الكلم عن مواضعه» الممكنة، وهي جريمة شنعاء قد تصل إلى درجة الكفر!
(ب) أن الله جل وعلا لم ينزل تلك الآية فقط، بل أنزل آيات كثيرة أخرى، والنبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، له أحاديث كثيرة ثابتة (لعلها تنوف على عشرة آلاف متن مستقل متميز). كل تلك الآيات، وكل تلك الأحاديث واجبة الطاعة، يجب الإيمان بها كلها، وإعمالها كلها، وتعظيمها كلها. فمن الجهل المركب الشنيع، أو الإجرام المحرم الفظيع، الاستشهاد إذاً بآية أو حديث في مسألة أو باب وقد ورد غيرها، بل لا بد من جمع نصوص الباب كلها، وإعمالها كلها، حسب الأصول المقررة في علم أصول الفقه، وقواعد الاستنباط: فما جاء مجملاً في موضع، قد يفصل ويفسر في موضع آخر، وما جاء عاماً في موضع، قد يكون له مخصص في موضع آخر، وما جاء مطلقاً في موضع، قد يكون له قيد في موقع آخر. بل قد يأتي شيء منسوخ، وناسخه في موضع آخر.
ومن لم يلتزم بهذه القاعدة فهو من المجرمين المقتسمين، }الذين جعلوا القرآن عضين{، أي أجزاء وتفاريق، يأخذون ما يعجبهم، ويتركون ما لم يكن على «المزاج»، وهو يوشك أن يكون من الكافرين، الذين يؤمنون ببعض الكتاب، ويكفرون ببعض، فيستحق الخزي في الحياة الدنيا، ثم يرد إلى أشد العذاب.
(ج) بالنسبة لآيات الذكر الحكيم يحسن جداً مراجعة كتب التفسير المعتمدة، لا سيما تلك التي تعتني وتجمع مرويات السلف في الآية محل الدرس (الطبري، وابن أبي حاتم هم خير مثال، ثم ابن كثير، وغيرهم كثير)، إن وجد حديث مرفوع صحيح في تفسير الآية، أو بعض الآية، أو لفظة من الآية، فهو، بداهة، الحجة القاطعة، التي لا يجوز تجاوزها.
والآن نعود إلى الآية الكريمة آنفة الذكر، أي قوله سبحانه وتعالى: }والذين اتخذوا من دونه أولياء، ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى{.
فالآية تنص على أنهم (عبدوهم):
وهذا يعني عندكم: أنهم سجدوا لهم، أو ركعوا، أو رقصوا، أو انشدوا القصائد، أو أوقدوا لهم الشموع، أو قدموا لهم القرابين، أو ذبحوا لهم الذبائح، أو غير ذلك من قائمة الأفعال التي تسمونه عبادة، بغض النظر عن معتقد فاعلها في من تقدم له. فحسب قولك: كل ذلك عبادة بغض النظر عن المعتقد، حتى لو اعتقد جازماً أنهم مخلوقون مربوبون لا يملكون لأنفسهم شيئاً، ولا قدرة لهم ولا مشيئة إلا بتقدير الله ومشيئته، ...إلخ
وقد أبطلنا أعلاه أن يكون السجود من حيث هو سجود مجرد عبادة، وكذلك بالضبط، حرفاً بحرف يمكن إبطال كون أي شيء من ذلك عبادة من حيث هو فعل مجرد. وسنزيد هذا إبطالاً، عما قريب
وهذا يعني عندنا: أنهم اتخذوهم آلهة، واعتقدوا استحقاقهم لأفعال التقديس والخضوع والتعظيم والمحبة والنسك والتقرب التي استحقت بذلك أن تسمَّى «عبادة» لأنهم وسائط تقرب إلى الله لاعتبارات فصلها القرآن في مواضع أخرى، منها:
(1) أن تلك الآلهة بنات الله ومن ثم ذوي «طبيعة» إلاهية، أي أنهم من «عنصر» أو «نسب»، أو «جوهر» إلاهي،
(2) أو أنهم أنداد يجيرون على الله ويحتاج الله إلى إرضائهم، وكسب ولائهم،
(3) أو أن الله لا يعلم أحوال العباد إلا بإخبارهم، أو لا يستطيع الفعل والتنفيذ إلا بواسطتهم، فهو من ثم فقير محتاج إليهم،
(4) أو أنهم يفلتون من الله ويعجزونه هرباً كما كانت العرب تعتقد في الجن،
أو غير ذلك من الاعتبارات، تعالى الله عن ذلك كله علواً كبيراً. وقد أثبتنا أن بعض ذلك كان هو معتقد قريش، وبعضه الآخر هو معتقد غيرها، كما هو الواقع التاريخي الثابت يقيناً، وقد يكون بعضه أو مثله معتقد غيرهم من المشركين.
وقد أقمنا قواطع الأدلة على بطلان قولكم، وصحة قولنا عموما فيما سلف، فأصبح قولنا من المحكمات، وهو الواجب تطبيقه في هذه الحالة المخصوصة التي تحتمل عدة معان، أي لكونها من المتشابهات. والواجب هو رد المتشابه إلى المحكم، وإلا وقعنا في الزيغ والضلالة.
على أن بطلان قولكم، وصحة قولنا، هو الحق في هذه الحالة الخاصة، والآية في سياقها التام، وتفسيرها الصحيح، كما جاء عن أئمة السلف، ليست من المتشابهات، إذ أن الآية في سياقها التام تقول هكذا: }بسم الله الرحمن الرحيم v تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم v إنا أنزلنا إليك الكتاب يالحق فأعبد الله مخلصاً له الدين v ألا لله الدين الخالص، والذين اتخذوا من دونه أولياء: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار v لو أراد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى مما يخلق ما يشاء، سبحانه، هو الله الواحد القهار{، وقال الإمام الطبري في تفسير الآيات الثلاث الأول نصاً: [يقول تعالـى ذكره: تَنْزِيـلُ الكِتابِ الذي نزّلناه علـيك يا مـحمد مِنَ اللّهِ العَزِيزِ فـي انتقامه من أعدائه الـحَكِيـمِ فـي تدبـيره خـلقه، لا من غيره، فلا تكوننّ فـي شكّ من ذلك ورفع قوله: تَنْزِيـلُ بقوله: مِنَ اللّهِ. وتأويـل الكلام: من الله العزيز الـحكيـم تنزيـل الكتاب. وجائز رفعه بإضمار هذا، كما قـيـل: سُورَةٌ أنْزَلْناها غير أن الرفع فـي قوله: تَنْزِيـلُ الكِتابِ بـما بعده، أحسن من رفع سورة بـما بعدها، لأن تنزيـل، وإن كان فعلاً، فإنه إلـى الـمعرفة أقرب، إذ كان مضافـا إلـى معرفة، فحسن رفعه بـما بعده، ولـيس ذلك بـالـحسن فـي «سُورَةٌ»، لأنه نكرة. وقوله: إنَّا أنْزَلْنا إلَـيْكَ الكِتابَ بـالـحَقّ يقول تعالـى ذكره لنبـيه مـحمد: إنا أنزلنا إلـيك يا مـحمد الكتاب، يعنـي بـالكتاب: القرآن بـالـحقّ يعنـي بـالعدل يقول: أنزلنا إلـيك هذا القرآن يأمر بـالـحقّ والعدل، ومن ذلك الـحقّ والعدل أن تعبد الله مخـلِصا له الدين، لأن الدين له لا للأوثان التـي لا تـملك ضرّا ولا نفعا. وبنـحو الذي قلنا فـي معنى قوله: الكِتابَ قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة إنَّا أنْزَلْنا إلَـيْكَ الكِتابَ بـالـحَقّ يعنـي: القرآن.وقوله: فـاعْبُدِ اللّهِ مُخْـلِصا لَهُ الدّينَ يقول تعالـى ذكره: فـاخشع لله يا مـحمد بـالطاعة، وأخـلص له الألوهة، وأفرده بـالعبـادة، ولا تـجعل له فـي عبـادتك إياه شريكا، كما فَعَلَتْ عَبَدة الأوثان. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب، عن حفص، عن شمر، قال: يؤتـي بـالرجل يوم القـيامة للـحساب وفـي صحيفته أمثال الـجبـال من الـحسنات، فـيقول ربّ العزّة جلّ وعزّ: صَلَّـيت يوم كذا وكذا، لـيقال: صلَّـى فلان أنا الله لا إله إلا أنا، لـي الدين الـخالص. صمتَ يوم كذا وكذا، لـيقال: صام فلان أنا الله لا آله إلا أنا لـي الدين الـخالص، تصدّقت يوم كذا وكذا، لـيقال: تصدّق فلان أنا الله لا إله إلا أنا لـي الدين الـخالص فما يزال يـمـحو شيئا بعد شيء حتـى تبقـى صحيفته ما فـيها شيء، فـيقول ملكاه: يا فلان، ألغير الله كنت تعمل؟!.
حدثنا مـحمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، أما قوله: مُخْـلِصا لَهُ الدِّينَ فـالتوحيد، والدين منصوب بوقوع مخـلصا علـيه. وقوله: ألا لِلّهِ الدِّينُ الـخالِصُ يقول تعالـى ذكره: ألا لله العبـادة والطاعة وحده لا شريك له، خالصة لا شرك لأحد معه فـيها، فلا ينبغي ذلك لأحد، لأن كل ما دونه ملكه، وعلـى الـمـملوك طاعة مالكه لا من لا يـملك منه شيئا. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة ألا لِلّهِ الدِّينُ الـخالِصُ شهادة أن لا إله إلا الله. وقوله: وَالَّذِينَ اتَّـخَذُوا مِنْ دُونِهِ أوْلِـياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إلاَّ لِـيُقَرّبُونا إلـى اللّهِ زُلْفَـى يقول تعالـى ذكره: والذين اتـخذوا من دون الله أولـياء يَتَولَّونهم، ويعبدونهم من دون الله، يقولون لهم: ما نعبدكم أيها الآلهة إلا لتقربونا إلـى الله زُلْفَـى، قربة ومنزلة، وتشفعوا لنا عنده فـي حاجاتنا وهي فـيـما ذُكر فـي قراءة أبـيّ: «ما نَعْبُدُكُمْ»، وفـي قراءة عبد الله: «قالُوا ما نَعْبُدُهُمْ» وإنـما حسُن ذلك لأن الـحكاية إذا كانت بـالقول مضمرا كان أو ظاهرا، جعل الغائب أحيانا كالـمخاطب، ويترك أخرى كالغائب، وقد بـيَّنت ذلك فـي موضعه فـيـما مضى. حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: حدثنا أحمد بن الـمفضل، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، قال: هي فـي قراءة عبد الله: «قالُوا ما نَعْبُدُهُمْ». وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: حدثنا الـحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، فـي قوله: ما نَعْبُدُهُمْ إلاَّ لِـيُقَرّبُونا إلـى اللّهِ زُلْفَـى قال: قريش تقوله للأوثان، ومن قَبْلَهم يقوله للـملائكة ولعيسى ابن مريـم ولعزَيز. حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وَالَّذِينَ اتَّـخَذُوا مِنْ دُونِهِ أوْلِـياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إلاَّ لِـيُقَرِّبُونا إلـى اللّهِ زُلْفَـى قالوا: ما نعبد هؤلاء إلا لـيقرّبونا، إلا لـيشفعُوا لنا عند الله. حدثنا مـحمد، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السديّ، فـي قوله: ما نَعْبُدُهُمْ إلاَّ لِـيُقَرَبونا إلـى اللّهِ زُلْفَـى قال: هي منزلة.... حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: ما نَعْبُدُهُمْ إلاَّ لِـيُقَرِّبونا إلـى الله زُلْفَـى قال: قالوا هم شفعاؤنا عند الله، وهم الذين يقرّبوننا إلـى الله زلفـي يوم القـيامة للأوثان، والزلفـى: القُرَب. وقوله: إنَّ اللّهَ يَحْكُمُ بَـيْنَهُمْ فِـيـما هُمْ فِـيهِ يَخْتَلِفُونَ يقول تعالـى ذكره: إن الله يفصل بـين هؤلاء الأحزاب الذين اتـخذوا فـي الدنـيا من دون الله أولـياء يوم القـيامة، فـيـما هم فـيه يختلفون فـي الدنـيا من عبـادتهم ما كانوا يعبدون فـيها، بأن يُصْلِـيَهم جميعا جهنـم، إلا من أخـلص الدين لله، فوحده، ولـم يشرك به شيئا]، انتهى نص الطبري.
لاحظ أقوال المفسرين، وكلهم من الصحابة والتابعين: (ما نعبدكم أيها الآلهة إلا لتقربونا إلـى الله زُلْفَـى)، وهذا تصريح باعتقاد الألوهية فيهم، وكذلك:( قريش تقوله للأوثان، ومن قَبْلَهم يقوله للـملائكة، ولعيسى ابن مريـم ولعزَيز)، وكذلك قول السدي: (للأوثان)، وهؤلاء كلهم نسبت إليهم الألوهيه واعتقدت فيهم بدلالة نصوص القرآن، والحديث والسيرة المتواترة، والنقل التاريخي المتيقن من صحته، كما سلف.
ثم قال الإمام الطبري في تفسير الآية الرابعة نصاً: [ يقول تعالـى ذكره: إنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي إلـى الـحقّ ودينه الإسلام، والإقرار بوحدانـيته، فـيوفقه له مَنْ هُوَ كاذِبٌ مفتر علـى الله، يتقوّل علـيه البـاطل، ويضيف إلـيه ما لـيس من صفته، ويزعم أن له ولدا افتراء علـيه، كفـار لنعمه، جحود لربوبـيته. وقوله: لَوْ أرَادَ اللّهُ أنْ يَتَّـخِذَ وَلِدا يقول تعالـى ذكره: لو شاء الله اتـخاذ ولد، ولا ينبغي له ذلك، لاصطفـى مـما يخـلق ما يشاء، يقول: لاختار من خـلقه ما يشاء. وقوله: سُبْحانَهُ هُوَ اللّهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ يقول: تنزيها لله عن أن يكون له ولد، وعما أضاف إلـيه الـمشركون به من شركهم هُوَ اللّهُ يقول: هو الذي يَعْبده كلّ شيء، ولو كان له ولد لـم يكن له عبدا، يقول: فـالأشياء كلها له ملك، فأنى يكون له ولد، وهو الواحد الذي لا شريك له فـي مُلكه وسلطانه، والقهار لـخـلقه بقدرته، فكل شيء له متذلِّل، ومن سطوته خاشع].
قلت: نص الطبري السابق كله يدل على أن الموضوع في الآية هم آلهة قريش من الملائكة الذين كانت تعتقد قريش أنهم بنات الله، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وهو النص الصريح للآية التالية في السياق: }لو أراد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى مما يخلق ما يشاء، سبحانه، هو الله الواحد القهار{، فما الذي جعل الآية الثانية أولى في الاعتبار من الآية الثالثة؟!
على أنه من المحال الممتنع أن يطلب الإنسان من حجر يعتقد أنه حجر موات شيئاً، إلا أن يكون من نزلاء مصحات الأمراض العقلية، فعبدة الأصنام يعبدون آلهة ترمز إليها تلك الأصنام، أو حلَّت في الأصنام، أو تنوب عنها تلك الأصنام، وينسبون إليها إما الخلق، وإما التصرف، وإما الشفاعة بدون إذن الله، أو أنهم يتمردون على الله ويعجزونه هرباً، أو أنهم ذوي نسب بالله، بنين وبنات وعمات وخالات، أو غير ذلك من المقولات الشركية الكفرية، التي ذكرنا كثيراً منها فيما سلف!
لذلك قال أبو سفيان في أحد: أعل هبل، فأجابه المسلمون: الله أعلى وأجل. ومن المحال الممتنع أن يكون مقصوده تمثال الحجارة الموجود بعيداً في الكعبة على مسيرة تسعة أيام من جبل أحد في المدينة المنورة، بوصفه حجراً أصم، وإنما قصد الإله هبل (وهو في الأرجح تعريب لإله الشمس اليوناني: أبولو) الذي يرمز له ذلك التمثال الموجود في جوف الكعبة آنذاك. ولا نستبعد أن يكون معتقد قريش فيه كمعتقد اليونان: أنه ابن كبير الآلهة، الذي هو المشتري عند اليونان، وهو الله عند العرب، تعالى الله عن ذلك وتقدس!
فأكثر شرك بسطاء المشركين، من أمثال عوام اليونان والهندوس وقريش، كما أسلفنا في باب سابق، هو الاعتقاد بأن الألوهية، كالإنسانية، اسم جنس تتعدد أفراده ويجوز عليهم التناسل والتوالد، كما تختلف مراتب أولئك الأفراد ودرجاتهم: فهذا رئيس، وذاك مرؤوس، وهذا كبير، وذاك صغير، بل هذا ملك، وذالك رقيق مملوك، كالبشر سواء بسواء. وليس القدم أو الأزلية متطلب ضروري لمفهوم الألوهية عند هؤلاء: فالآلهة عندهم تنشأ وتولد، بعد أن كانت معدومة، ولا يستغرب أن تفنى بعد ذلك؛ ومن باب أولى لا يشترط في الإله، عندهم، الكمال أو السلامة من النقص، بل إن نصيب بعض الآلهة من المخازي والفضائح كالزنا والسرقة، وغيرها، أكثر من غيرها!
فلا يستغرب أن يهتف أحدهم: (لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك)، فهو يعتقد وجود آلهة أخرى، شركاء لله في «الجوهر» أو «العنصر» أو «النسب» أو «الجنس» الإلاهي، وإن كانوا في مرتبة الرقيق المملوك، تماماً كما أن العبد الرقيق المملوك إنسان، وسيده الذي يملكه إنسان أيضاً.
وهذا هو اعتقاد جمهور بسطاء المشركين كالمصريين القدماء، واليونان، وأكثر مشركي العرب، وعوام الهنود، ويجوز عند أكثرهم أن يتزاوج البشر والآلهة منتجين أنصاف آلهة أو عمالقة، كما تتزاوج الآلهة والجن منتجة الملائكة، إلى غير ذلك من العجائب والمخازي!!
كما تختلف الآلهة المزعومة في قدراتها وإختصاصاتها: فهذا إله للشمس، وآخر للحرب، وثالث للبحر، وتلك للحب، وهذه للصيد، والثالثة للموت والفناء، وهذا ينبت الزرع، والآخر يحمي التجار، بل يوجد إله متخصص في رعاية اللصوص، إلى غير ذلك من الأقوال الساقطة المتناقضة المنكرة.
أما العرب العدنانية ــ عرب الشمال ــ وقريشا بالأخص فقد كانت لهم جملة من الآلهه أكثرها إناث ــ كاللات والعزى ومناة وغيرها ــ يعتقدون أنها ملائكة، وأن الملائكة بنات الله، وربما اعتقدوا أن بين الله ــ تعالى عن ذلك ــ وبين الجن نسب ومصاهرة. ولكنهم لقرب عهدهم بالتوحيد، في ملة ابراهيم، كانوا ينسبون أكثر الخلق، والتصرف في الكون إلى الله تبارك وتعالى، لأنه أبو الآلهة وكبيرهم، حسب معتقدهم الفاسد، سبحان الله عما يصفون. هذا ظاهر جداً من مناقشة القرآن لهم، وإيقاعه إياهم في التناقض بسبب ذلك.
وقد أدى الفهم المتعجل المبتسر لهذا، وعدم ملاحظة جميع النصوص في نفس الوقت، كما أسلفناه في موضعه، ببعض الأكابر، مثل شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، وتبعه في ذلك الإمام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، إلى توهم أنهم كانوا يقرون بما أسماه: «توحيد الربوبية»، وأن شركهم يقتصر على ما أسماه: شرك «الألوهية». هذا خطأ فادح أدى إلى تخليط كبير، وتقاسيم باطلة، ما أنزل الله بها من سلطان، وإرباك وقصور في مفهوم «العبودية» التي إنما خلق الخلق لها، ومسخ وبتر لمفهوم «التوحيد»، الذي تحول إلى مجموعة من المباحث المضحكة المهووسة عن «القبور»، والمباحث الثانوية عن «التوسل».
ومع نسبة العرب العدنانية ــ وقريشا بالأخص ـ كما أسلفنا، أكثر الخلق، والتصرف في الكون إلى الله تبارك وتعالى فقد كانوا ينسبون بعض ذلك إلى غيره، كنسبة التحكم في الموت، والتقدير إلى «مناة»، إلهة الموت (المنية)، والمتحكمة في مقادير البشر، فضلاً عن نسبتهم هؤلاء الأغيار إلى الله نسبة قرابة وتولد، أي مشاركة في «الجوهر الإلهي» بمعنى أو آخر، كما جاءت بذلك النصوص الثابتة الصحيحة، التي أسلفنا ذكر أكثرها بطولها في بابها، ومنها:
v فقد قال البخاري في الجامع الصحيح المختصر: [باب ذكر الجن وثوابهم وعقابهم لقوله: } يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي{، إلى قوله: }عما يعملون{،} بخساً{، نقصاً، قال مجاهد: }وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً{، قال كفار قريش: الملائكة بنات الله، وأمهاتهم بنات سروات الجن! قال الله: }ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون{، ستُحْضَر للحساب].
v وقال الحافظ في «فتح الباري شرح صحيح البخاري»: [قوله باب ذكر الجن وثوابهم وعقابهم أشار بهذه الترجمة إلى اثبات وجود الجن وإلى كونهم مكلفين ... إلخ) في كلام طويل، إلى قوله: (قوله: (وقال مجاهد وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا الخ)) وصله الفريابي من طريق بن أبي نجيح عن مجاهد به وفيه فقال أبو بكر: (فمن أمهاتهم؟!)، قالوا: (بنات سروات الجن!) ...الخ، وفيه قال علمت الجن أنهم سيحضرون للحساب قلت وهذا الكلام الأخير هو المتعلق بالترجمة وسروات بفتح المهملة والراء جمع سرية بتخفيف الراء أي شريفة]، انتهى كلام الحافظ.
v وفي «فتح الباري شرح صحيح البخاري»: [... قال أبو عبيدة في قوله تعالى ان يدعون من دونه إلا إناثا: (الا الموات حجراً أو مدراً أو ما أشبه ذلك والمراد بالموات ضد الحيوان)، وقال غيره: (قيل لها إناث لأنهم سموها مناة واللات والعزى وإساف ونائلة ونحو ذلك)، وعن الحسن البصري: لم يكن حي من أحياء العرب الا ولهم صنم يعبدونه يسمى أنثى بني فلان! وسيأتي في الصافات حكاية عنهم أنهم كانوا يقولون الملائكة بنات الله، تعالى الله عن ذلك، وفي رواية عبد الله بن أحمد في مسند أبيه عن أبي بن كعب في هذه الآية قال مع كل صنم جنية، ورواته ثقات]، قلت: هذا هو عين قولنا: مع كل صنم كائن خفي من الجن، والجن كائنات إلهيه، وإلا كيف يمكن لله، تعالى وتقدس، أن يصاهر إليهم، إلا إذا كانوا من جنسه أو نوعه أو صنفه، وإن لم يكونوا من قبيلته؟!
v وقال البخاري في «الجامع الصحيح المختصر»: باب تفسير سورة الصافات. وقال مجاهد: }وبين الجنة نسبا{، قال كفار قريش: الملائكة بنات الله وأمهاتهم بنات سروات الجن!
v وفي «فتح الباري شرح صحيح البخاري»: [قوله باب وقالوا أتخذ الله ولدا سبحانه كذا للجميع وهي قراءة الجمهور، وقرأ بن عامر: قالوا بحذف الواو، واتفقوا على أن الآية نزلت فيمن زعم أن لله ولداً من يهود خيبر ونصارى نجران ومن قال من مشركي العرب الملائكة بنات الله فرد الله تعالى عليهم].
v وفي «تفسير الجلالين»: ونزل في النضر بن الحارث وجماعته: }ومن الناس من يجادل في الله بغير علم{، قالوا: الملائكة بنات الله، والقرآن أساطير الأولين، وأنكروا البعث وإحياء من صار ترابا!
v وفي «تفسير الجلالين»: }وجعلوا له من عباده جزءً{، حيث قالوا: الملائكة بنات الله، لأن الولد جزء من الوالد، والملائكة من عباده تعالى، }إن الإنسان {، القائل ما تقدم }لكفور مبين {، بين ظاهر الكفر!
v وفي «تفسير الجلالين»: }إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى{، حيث قالوا هم بنات الله!
فلا صحة مطلقاً، إذاً، لما يقال أنهم لم يكن لديهم شرك في ما يسمونه «الربوبية»، أو شرك في الاسماء والصفات، بل هذا هو عين شركهم وحقيقته، لا غير، وهو أقبح أنواع الشرك على الإطلاق: شرك الذات، ومشاركة الرب في الأسماء والصفات أو في بعضها، أو مساواته ونديته ولو في اعتبار واحد منها، أو تشبيه الله بخلقه، وغير ذلك من الفظائع.
وعلى ذلك الشرك في الذات والأسماء والصفات، وبعض الربوبية، ترتب الإشراك في العبادة والحكم والتشريع.
فقول شيخ الإسلام ابن تيمية أن قريش لم يكن لديها شرك في الربوبية (بغض النظر على كون تعريفه للربوبية غامضاً مشوشاً مضطرباً، لا خطام له ولا زمام، كما أسلفنا في أبوابه) هو بالقطع غير صحيح، وقد تابعه شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، فصقل الموضوع وبلوره فلم يزد الغلط إلا حدة وبروزاً، حتى أصبح سيفاً تقطع به الرقاب بالباطل، بسبب هذه الزلة الشنعاء.
هذا من زلات العلماء التي تخوفها النبي، صلوات الله وسلامه على أمته، عندما تخوف من: «زلة عالم، وجدل المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين». والإمامان ما أرادا إلا الخير، ففازا بأجر الاجتهاد على كل حال، إن شاء الله تعالى، ولكن الزلات لا بد من رفضها رفضاً باتاً قاطعاً، وإصلاحها فور ظهور الدليل الموجب لذلك، ولا يجوز التهاون فيها مطلقاً، مع الاستغفار للعلماء الراسخين الذين زلت القدم بهم، فحصلت الغلطة منهم.
ولكن ما شأن المقلدة الجهلة في أيامنا هذا، يصرون على متابعتهم على الخطأ المبين؟! هل أنتم جهلة لا علم لكم، إذا فاسكتوا، وأطيعوا أمر الله: }فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون{، أم أنتم أهل هوى ونفاق تريدون أن تتمادوا في هدم الإسلام بـ«جدل المنافق بالكتاب»، عياذاً بالله، بعد أن عمل معول الهدم فيه أول مرة بزلة العالم، مهما كانت غير مقصودة، ومهما كانت بحسن نية؟!
وكذلك لا يجدي القوم الاستشهاد بقوله، تعالى ذكره: }وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ{، (العنكبوت؛ 29::61)، وقوله: }وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ{، (العنكبوت؛ 29::63)، وقوله: }وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ{، (لقمان؛ 31:25)، وقوله: }ولَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ{، (الزمر؛ 39:38)، وقوله: }وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ{، (الزخرف؛ 43:87)، وقوله، : }قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ{، (يونس؛ 10:31)، ونحوها من الآيات كثير، والتعقيب بأنهم كانوا يعتقدون بـ(أن الله هو المتفرد بتدبير الأمور، لكنهم أشركوا بالله من جهة التوسط في الطلب أو العبادة)، كما زعم الشيخ القرني في كتابه آنف الذكر.
قلت: ليس في الآيات أولاً أنهم يعتقدون أنه (المتفرد) بذلك، فهذا خارج عن النص، وتقويل للرب جل جلاله ما لم يقله، وهذا شنيع جداً، ونحسبها زلة غير مقصودة من الشيخ، وإلا فهو الكفر الصراح البواح، والعياذ بالله تعالى.
فإقرارهم، مثلاً، بأنه هو الذي يرزق من السماء والأرض، هذا الإقرار في هذه القضية المعينة الجزئية:
(1) لا يعني ضرورة أنه وحده المتفرد بذلك، بل لعل هناك رازقون آخرون مستقلون عنه ينافسونه على رزق العباد، وربما كان هو الرازق الأكبر، تماماً كما تتنافس الشركات على الأسواق،
(2) ولا يعني ضرورة أنه وحده المتفرد بذلك، القائم به على وجه الاستقلال، بل يجوز أنهم يعتقدون حاجته إلى معين على ذلك، أو واسطة في تنفيذ ذلك، قياساً على الملوك من المخلوقين،
(3) ولا يترتب عليه ضرورة أن ملكه يخلو من بعض المجرمين المشاغبين، أو الثوار المتمردين، الذين يعجزونه هرباً إلى رؤوس الجبال وأعماق الأودية، وهم الذين يرزقون أنفسهم وأتباعهم، ولهم خزائنهم وتموينهم،
(4) وحتى لو سلمنا جدلاً بأن الآية تقضي بأنه هو الذي يرزق من السماء والأرض متفرداً بذلك، فليس فيها أي كلام عن غير ذلك فيجوز أن يكون له شركاء في أمور أخرى مثل:
(أ) وجود إله آخر يخلق الشر، ويتسبب في الأمراض والعدوى، ويفسد على الله أمره، ولا قدرة لله عليه كاعتقاد الثنوية في إله الشر، الذي لا يرزق، ولا يملك السمع والأبصار، ولا يحيي ويميت، ولكنه يتمرد على الله، فيستعصي عليه ويفسد عليه أمره، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، أو أن هناك قوى كونية تخرج عن سيطرته كالعدوى، والغول، ونحو ذلك،
(ب) أو أن في الوجود إله أو رب غيره، ند له ولو في بعض الاعتبارات، فيجير عليه، أو يخشى من معارضته، فلا بد لله من الأخذ بـ«خاطره»،
(ج) أو أن في الوجود إله آخر، له عالم وكون آخر، مستقل تماماً عن كوننا هذا، فهو لا يتدخل في كوننا أصلاً، ولكنه بموجب كونه إلاهاً أهل لأن يعظم ويحترم، وإن كان لا يطلب منه شيء، ولا يأتي منه ضر ولا نفع، لأنه بعيد عن كوننا هذا، له مملكته «الأجنبية» المستقلة، لا يعنيه أمرنا، ولا يتدخل في شؤون مملكة إلهنا «المحلية»!
(د) أو أن لله بنين وبنات من عنصر أو جوهر إلهي، ولكن لا تصرف لهم، فلا يرزقون، ولا يتملكون، ولا يشرعون، ولكن مكانتهم عند أبيهم عالية، ومحبته لهم عظيمة، فهم مدللون، وهن مدللات، تماماً كأبناء الملوك المستبدين وبناتهم، فيشفعون عنده شفاعة لا ترد، ولا تحتاج إلى استئذان. فهو يفرح بوساطتهم، ويثيب من عبدهم، تعالى الله عن ذلك كذلك علواً كبـيراً.
فليس في الآية التي تنص فقط على أنه ( هو الذي يرزق من السماء والأرض) ما يمنع من أنهم كانوا يعتقدون بعض أو كل ما سلف، لذلك قال تعالى معقباً: }أفلا تتقون{ أي اتقوا الله الذي أقررتم له بالرزق، وملكية السمع والأبصار، والإحياء والإماتة فلا تجعلوا له شركاء في بعض ذلك، ولا تنسبوا له النقص والفقر والحاجة إلى غيره، ولا تخرقوا له بنين وبنات بغير علم، كما جاء مفصلاً في غير هذه الآية، في مواضع كثيرة. فالقرآن، بحمد الله، يكمل بعضه بعضرآ، ويبين بعضه بعضاً، فلا يجوز الاستشهاد بآية مجملة، وقد جاء غيرها في نفس الموضوع مفسراً ومكملاً، هذا شنيع جداً، قد يصل بصاحبه إلي كارثة ضرب كتاب الله بعضه ببعض، أو إلى مرتبة الإيمان ببعض الكتاب، والكفر ببعض، وهذا هو الكفر المهلك، المردي في نار جهنم الأبدية، والخلود في اللعنة السرمدية.
وأصل كل هذه االبواطيل، والمصائب والبلايا، هو تشبيه المشركين لله بخلقه، وهو أمر معلوم مشهور، بل إن أكثر الشرك مرجعه إلى تشبيه الله بخلقه، وقياسه عليهم، أو تشبيه بعض الخلق بالله، والغلو فيهم، ورفعهم فوق مراتب المخلوقين. وكثير مما سبق ذكره الآن هو في جوهره معتقد مشركي العرب وأكثر مشركي الأفارقة الآن في الجن، فليست تلك تفريعات خيالية، ولا تقاسيم جدلية، بل وصف لعقائد موجودة الآن، أو كانت موجودة فعلاً.
وقد قال الإمام الطبري قريباً من ذلك نصاً: [يقول تعالى ذكره لنبيه محمد: قُلْ يا محمد لهؤلاء المشركين بالله الأوثان والأصنام مَنْ يَرْزُقَكُمْ مِنَ السَّماءِ الغيث والقطر ويطلع لكم شمسها ويغطش ليلها ويخرج ضحاها. ومن الأرْضِ أقواتكم وغذاءكم الذي ينبته لكم وثمار أشجارها. أمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ والأبْصَارَ يقول: أم من ذا الذي يملك أسماعكم وأبصاركم التي تسمعون بها أن يزيد في قواها أو يسلبكموها فيجعلكم صُمًّا، وأبصاركم التي تبصرون بها أن يضيئها لكم وينيرها، أو يذهب بنورها فيجعلكم عميا لا تبصرون. وَمَنْ يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ يقول: ومن يخرج الشيء الحيّ من الميت، ويُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيّ يقول: ويخرج الشيء الميت من الحيّ. وقد ذكرنا اختلاف المختلفين من أهل التأويل والصواب من القول عندنا في ذلك بالأدلة الدالة على صحته في سورة آل عمران بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وَمَنْ يُدَبِّرِ الأمْرَ وقل لهم: من يدبر أمر السماء والأرض وما فيهنّ وأمركم وأمر الخلق. فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ يقول جلّ ثناؤه: فسوف يجيبونك بأن يقولوا الذي يفعل ذلك كله الله. فَقُلْ أفَلا تَتَّقُونَ يقول: أفلا تخافون عقاب الله على شرككم وادّعائكم ربًّا غير من هذه الصفة صفته، وعبادتكم معه من لا يرزقكم شيئا ولا يملك لكم ضرًّا ولا نفعا ولا يفعل فعلاً]، انتهى كلام الإمام الطبري. لاحظ قوله، رحمه الله: [وادّعائكم ربًّا غير من هذه الصفة صفته]، وقوله: [وعبادتكم معه من لا يرزقكم شيئا].
ولعلنا نلاحظ هنا أن الكثير من الآيات المشابهة إنما جاءت في سياق الرد على منكري البعث، مع إقرارهم أن الله هو الذي أنشأ وخلق، وهو يملك السمع والبصر، وهو الذي يرزق وينزل الغيث، فأنكر الله عليهم نسبة العجز عن إحياء الموتى إليه. فالجدال معهم في تلك المواضع إنما هو حول البعث والنشور، وليس التوحيد والعبادة.
وإن كان الشيخ القرني قد أساء باستخدام لفظة «المتفرد»، وهي خارجة عن النص، وإنما ابتدعها من خياله الجامح، فإن الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب قد أفحش في الخطأ، وأساء إساءة بالغة، عندما بالغ فاستخدم جملة: «وحده لا شريك له»،:
v كما جاء في «مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب»، (ج: 1 ص: 146): [فإذا تدبرت هذا الأمر العظيم وعرفت أن الكفار يقرون بهذا كله لله وحده لا شريك له وأنهم إنما اعتقدوا في آلهتهم لطلب الشفاعة والتقرب إلى الله كما قال تعالى: }ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله{، وفي الآية الأخرى: }والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى{، فإذا تبين لك هذا وعرفته معرفة جيدة بقي للمشركين حجة أخرى وهي أنهم يقولون هذا حق ولكن الكفار يعتقدون في الأصنام فالجواب القاطع أن يقال لهم إن الكفار في زمانه صلى الله عليه وسلم منهم من يعتقد في الأصنام ومنهم من يعتقد في قبر رجل صالح مثل اللات ومنهم من يعتقد في الصالحين وهم الذين ذكر الله في قوله عز وجل: }أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه{، يقول تعالى هولاء الذين يدعونهم الكفار ويدعون محبتهم قوم صالحون يفعلون طاعة الله ومع هذا راجون خائفون فإذا تحققت أن العلي الأعلى تبارك وتعالى ذكر في كتابه أنهم يعتقدون في الصالحين وأنهم لم يريدوا إلا الشفاعة عند الله والتقرب إليه بالاعتقاد في الصالحين وعرفت أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين من اعتقد في الأصنام ومن اعتقد في الصالحين بل قاتلهم كلهم وحكم بكفرهم]، انتهى بأحرفه.
ونص الشيخ محمد بن عبد الوهاب آنف الذكر ما هو إلا أخطاء متراكمة، وظلمات بعضها فوق بعض:
(1) إتيانه بجملة «وحده لا شريك له»، وهي اختراع محض، لا وجود لها في نصوص الكتاب والسنة، وهي أكثر قبحاً من لفظة «المتفرد» التي زلَّت قدم الشيخ القرني بها، وقد أشبعناها نقاشاً وإبطالاً فيما سلف، فهذه من باب أولى أكثر بطلاناً.
(2) زعمه: (وأنهم إنما اعتقدوا في آلهتهم لطلب الشفاعة والتقرب إلى الله)، هكذا حصراً. وهذا باطل كما سلف مراراً، وتكراراً، إلى درجة تبعث على الملل، وكما سيأتي منه مزيد.
نعم: هذا فقط «بعض» ما كانوا يعتقدون، في «بعض» الآلهة. وليس هو حصراً «كل» ما يعتقدون في «كل» الآلهة، كما زعم الشيخ. والشفاعة التي كانوا يعتقدونها شفاعة من دون الله، أي شفاعة لا ترد، أو لا تحتاج إلي استئذان، وليست هي الشفاعة بإذن الله التي أثبتها الله كرامة لأنبيائه وأوليائه، فكان الواجب أن ينص الشيخ على ذلك صراحة وبكل وضوح.
(3) إساءة الفهم لقوله، تعالى ذكره: }ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله{، فظن أنهم يعتقدون أنهم لا يضرون ولا ينفعون، وفاته أن ذلك محال في ذاته لأن الشفيع ينفع ويضر، وهم قطعاً يعتقدون أنهم شفعاء لهم عند الله، شفاعة لا تحتاج إلى استئذان، أو لا يمكن ردها: هذه منفعة هائلة جسيمة. والحق أن ذلك إخبار من الله، جل جلاله، بحقيقة أمر هؤلاء المعبودين من دونه، وأنهم لا يضرون ولا ينفعون، ولا يشفعون ولا يتصرفون، خلافاً لمعتقد المشركين الباطل الذي هو ضد ذلك. فالشيخ خلط بين معتقد المشركين، وبين حقيقة الأمر كما أبانه رب العالمين، وناهيك بذلك زلة مهلكة شنعاء!
(4) عدم تعريف العبادة تعريفها الصحيح، أي أنها مسبوقة باعتقاد الألوهية، حيثما جاءت في القرآن متعلقة بالآلهة الباطلة، وبكل ما يعبد من دون الله، كما هو في هذه الآية: }ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله{.
(5) إساءة الفهم لقوله، جل جلاله: }والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى{، وقد سبقت مناقشتها أثناء كلامنا السابق عن أخطاء الشيخ القرني.
(5) زعمه أن إن الكفار في زمانه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، منهم من يعتقد في قبر رجل صالح مثل اللات. وهذا باطل بنص القرآن القاطع المثبت أن الات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، آلهة إناث كانت قريش تعتقد أنها بنات الله، ولما ثبت عن خاتمة إنبياء الله، عليه وعلى آله صلوات وتسليمات وتبريكات من الله، أن أول من غير دين إسماعيل هو عمرو بن لحي الخزاعي، وأنه هو الذي استورد الأصنام، ودعى الناس إلى عبادتها.
أما قصة الرجل الذي (يلت) السويق للحجاج في الطائف، فمات فعبدوه إنما هي موقوفة على ابن عباس، رضي الله عنهما. وهي إنما هي أسطورة عربية، وخرافة شعبية، ولم تكن عند العرب قبور تحترم إلا ما روي أنهم كانوا يعظمون قبر تميم بن مر، والد القبيلة المعروفة، ولم يرد قط أنهم عبدوه أو ألّهوه، بل كان عندهم زعيماً محترماً فقط، لا غير. ولقد أشبعنا قصة (اللات) الذي كان بلت السويق نقداً وإبطالاً في الفصل المسمَّي: (ما هي حقيقة «اللات»؟!)، وكذلك في الفصل المسمَّي: (كيف ترك العرب دين إسماعيل؟!)، فليراجع.
وحتى لو ثبتت قصة (اللات) الأسطوري، الذي كان يلت السويق للحاج، لما صلحت للاحتجاج لأن الروايات تقول أنهم (عبدوه) بعد أن مات، وهذا يقتضشي أنهم اتخذوه إلاهاً مع الله، فصارت أعمالهم الموجهة إليه، كالعكوف على قبره، (عبادة)، لأنها مسبوقة باعتقاد الألوهية فيه. ولعلهم اعتقدوا حلول «اللات» فيه، لتشابه الإسم، أو تحوله إلى كائن إلاهي، بالحلول أو الاتحاد أو التطور، أو غير ذلك، أو غير ذلك من المعتقدات الشركية المكفرة.
(6) زعمه أن إن الكفار في زمانه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، منهم من يعتقد في الصالحين وهم الذين ذكر الله في قوله عز وجل: }أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه{، فاختلط عليه إخبار الله عن حقيقة الأمر، بمعتقد المشركين في المعبودين. فالمشركين يعتقدون أنهم آلهة، وأنهم راضون بعبادة عابديهم لهم، وحقيقة الأمر أنهم عباد صالحون مكرمون، وأنهم رافضون لعبادة عابديهم، ساخطون عليهم أشد السخص، متبرؤون من أفعالهم، وسيظهر كل ذلك عياناً يوم القيامة، بحيث يراه كل أحد.
فالشيخ خلط ها هنا أيضاً بين معتقد المشركين الباطل، وبين واقع الأمر في ذاته، الذي هو الحق، كما أبانه رب العالمين، وناهيك بذلك زلة شنعاء أخرى!
هذه التخاليط والوساوس هي كالتي نجدها في كتابه المشهور (كتاب التوحيد) حيث قال معقباً على آية الإسراء: (بيَّن فيها الرد على المشركين الذين يدعون الصالحين، ففيها بيان أن هذا هو الشرك الأكبر)، وآية الإسراء المقصودة هي: }أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب، ...، الآية{، (الإسراء؛ 17:57)، هكذا ذكرها مبتورة، وإليك الآية كاملة في سياقها: }قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً v أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً{، (الإسراء؛ 17:56-57).
سؤالنا هو: أين وجد الشيخ الإمام، رحمه الله، لفظة (الصالحين)؟! فالقرآن يستخدم في حق المدعووين، أي الذين توجه إليهم المشركون بالدعاء، جملة: (الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ)، أي الذين اتخذتم آلهة من دونه، بشهادة الآيات الأخرى، وجملة النصوص، وروايات السنة الصحيحة، وأخبار السيرة المتواترة، وشهادة التاريخ التي أسلفنا، في غير موضع، طرفاً منها. ثم بين أن أولئك الذين يدعوهم المشركون من دون الله هم في «الحقيقة» عباد صالحون من الملائكة والنبيين لا يشركون بربهم، بل: }يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً{. فالمشركون لم يعتقدوا قط أن هؤلاء عباد صالحون يتقربون إلى ربهم بكل عمل صالح، وبكل وسيلة مقربة، وهم بين رجاء رحمته، وخشية عذابه، بل اعتقدوا فيهم الألوهية، ولو في جانب واحد أو اعتبار واحد، فدعاؤهم حينئذ هو دعاء عبادة، لا محالة، وهو بداهة شرك أكبر.
فالآيات إذاً بيان من الله أن آلهة المشركين من أمثال اللات، والعزى، ومناة، والجن، والملائكة، الذين كانوا يعتقدون أنهم أبناء وبنات الله، والمسيح الذي يعتقدون أنه ابن الله، وعزيز الذي يعتقدون أنه ابن الله، وما أشبه ذلك، لا وجود لها بهذه الصفة في الحقيقة أصلاً، إلا في أذهانهم وخيالاتهم المريضة، ومعتقداتهم السخيفة الباطلة، أما الملائكة والمسيح فهم في «الحقيقة» عباد صالحون، وليسوا بآلهة، فلا يجوز أن يتوجه إليهم بالدعاء والتعبد أصلاً. فلو أن الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، تأمَّل هذا الموضوع الخطير حق تأمله، وراجع أقوال الأئمة السابقين، وتحرر من التقليد، تقليد شيخ الإسلام ابن تيمية، لتبين له ذلك. وإليك تفسير الإمام الطبري لهاتين الآيتين:
v حيث جاء في «تفسير الطبري»، (ج: 15 ص: 103 وما بعدها): [يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم قل يا محمد لمشركي قومك الذين يعبدون من دون الله من خلقه ادعو أيها القوم الذين زعمتم أنهم أرباب وآلهة من دونه ثم ضر ينزل بكم فانظروا هل يقدرون على دفع ذلك عنكم أو تحويله عنكم إلى غيركم فتدعوهم آلهة فإنهم لا يقدرون على ذلك ولا يملكونه وإنما يملكه ويقدر عليه خالقكم وخالقهم. وقيل إن الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم هذا القول كانوا يعبدون الملائكة وعزيرا والمسيح وبعضهم كانوا يعبدون نفرا من الجن. ذكر من قال ذلك:
ــ حدثني محمد بن سعد قال حدثني أبي قال حدثني عمي قال حدثني أبي عن أبيه عن ابن عباس قوله قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا قال كان أهل الشرك يقولون نعبد الملائكة وعزيرا وهم الذين يدعون يعني الملائكة والمسيح وعزيرا
القول في تأويل قوله تعالى: }أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا{، يقول تعالى ذكره هؤلاء الذين يدعوهم هؤلاء المشركون أربابا يبتغون إلى ربهم الوسيلة يقول يبتغي المدعوون أربابا إلى ربهم القربة والزلفة لأنهم أهل إيمان به والمشركون بالله يعبدونهم من دون الله، أيهم أقرب أيهم بصالح أعماله واجتهاده في عبادته أقرب عنده زلفة ويرجون بأفعالهم تلك رحمته ويخافون بخلافهم أمره عذابه إن عذاب ربك يا محمد كان محذورا]
v ثم قال الطبري بعد ذلك بقليل: [اختلفوا في المدعووين فقال بعضهم هم نفر من الجن ذكر من قال ذلك:
ــ حدثني أبو السائب قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن عبد الله في قوله أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة قال كان ناس من الإنس يعبدون قوما من الجن (فأسلم) الجن وبقي الإنس على كفرهم فأنزل الله تعالى أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة، يعني الجن
ــ حدثنا ابن المثنى قال حدثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله العجلي قال حدثنا شعبة عن سليمان عن إبراهيم عن أبي معمر قال قال عبد الله في هذه الآية أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب قال قبيل من الجن كانوا يعبدون فأسلموا
ــ حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد قال حدثني أبي قال حدثني الحسين عن قتادة عن معبد بن عبد الله الزماني عن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن مسعود في قوله أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة قال نزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرا من الجن (فأسلم) الجنيون والإنس الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون بإسلامهم فأنزلت الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب.
ــ حدثنا بشر قال حدثنا يزيد قال حدثنا سعيد عن قتادة عن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن حديث عمه عبد الله بن مسعود قال نزلت هذه الآية في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرا من الجن (فأسلم) الجنيون والنفر من العرب لا يشعرون بذلك
ــ حدثنا ابن عبد الأعلى قال حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن قتادة الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة قوم عبدوا الجن (فأسلم) أولئك الجن فقال الله تعالى ذكره أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة
ــ حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا عبد الرحمن قال حدثنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر عن عبد الله أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة قال كان نفر من الإنس يعبدون نفرا من الجن (فأسلم) النفر من الجن واستمسك الإنس بعبادتهم فقال أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة
ــ حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا ابن عيينة عن الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر قال قال عبد الله كان ناس يعبدون نفرا من الجن (فأسلم) أولئك الجنيون وثبتت الإنس على عبادتهم فقال الله تبارك وتعالى أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة
ــ حدثنا الحسن قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب قال كان أناس من أهل الجاهلية يعبدون نفرا من الجن فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم أسلموا جميعا فكانوا يبتغون أيهم أقرب
وقال آخرون بل هم الملائكة
ــ حدثني الحسين بن علي الصدائي قال حدثنا يحيى بن الموطأ قال أخبرنا أبو العوام قال أخبرنا قتادة عن عبد الله بن معبد الزماني عن عبد الله بن مسعود قال كان قبائل من العرب يعبدون صنفا من الملائكة يقال لهم الجن ويقولون هم بنات الله فأنزل الله عز وجل أولئك الذين يدعون معشر العرب يبتغون إلى ربهم الوسيلة
ــ حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة قال الذين يدعون الملائكة تبتغي إلى ربها الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته حتى بلغ إن عذاب ربك كان محذورا قال وهؤلاء الذين عبدوا الملائكة من المشركين
وقال آخرون بل هم عزير ونصف وأمه، ذكر من قال ذلك:
ــ حدثني يحيى بن جعفر قال أخبرنا يحيى بن الموطأ قال أخبرنا شعبة عن إسماعيل السدي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة قال عيسى وأمه وعزير.
ــ حدثنا محمد بن المثنى قال حدثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله العجلي قال حدثنا شعبة عن إسماعيل السدي عن أبي صالح عن ابن عباس قال عيسى ابن مريم وأمه وعزير في هذه الآية أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة
ــ حدثني محمد بن عمرو قال حدثنا أبو عاصم قال حدثنا عيسى وحدثني الحرث قال حدثنا الحسن قال حدثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح عن مجاهد يبتغون إلى ربهم الوسيلة قال عيسى ابن مريم وعزير والملائكة
ــ حدثنا القاسم قال حدثنا الحسين قال حدثني حجاج عن ابن جريج عن مجاهد مثله حدثنا ابن حميد قال حدثنا جرير عن مغيرة عن إبراهيم قال كان ابن عباس يقول في قوله أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة قال هو عزير والمسيح والشمس والقمر
وأولى الأقوال بتأويل هذه الآية قول عبد الله بن مسعود الذي رويناه عن أبي معمر عنه وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر عن الذين يدعوهم المشركون آلهة أنهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومعلوم أن عزيرا لم يكن موجودا على عهد رآه عليه الصلاة والسلام فيبتغي إلى ربه الوسيلة وأن عيسى قد كان رفع وإنما يبتغي إلى ربه الوسيلة من كان موجودا حيا يعمل بطاعة الله ويتقرب إليه بالصالح من الأعمال، فأما من كان لا سبيل له إلى العمل فبم يبتغي إلى ربه الوسيلة، فإذ كان لا معنى لهذا القول فلا قول في ذلك إلا قول من قال ما اخترنا فيه من التأويل أو قول من قال هم الملائكة وهما قولان يحتملهما ظاهر التنزيل
وأما الوسيلة فقد بينا أنها القربة والزلفة، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ذكر من قال ذلك:
ــ حدثنا القاسم قال حدثنا الحسين قال حدثني حجاج عن ابن جريج قال قال ابن عباس الوسيلة القربة
ــ حدثنا ابن عبد الأعلى قال حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن قتادة الوسيلة قال القربة والزلفى]، انتهى كلام الطبري بإصلاح طفيف لبعض أخطاء النساخ.
وقول الإمام الطبري هو في جوهره عين قولنا أنهم كانوا يعتقدون في هؤلاء المدعوين الربوبية والألوهية، فدعوهم دعاء عبادة، وهذا هو يقيناً الشرك الأكبر، فأخبرهم الله أن أولئك هم عباد صالحون إما في الأصل دائماً وأبداً، كالملائكة وعيسى وعزير، أو الآن بعد أن أسلموا هم وتركوا الشرك وتضليل البشر العابدين لهم، كما جاء موضحاً في سورة الجن، حيث أسلم نفر من الجن وتبرؤوا من عابديهم، بعد أن كانوا قبل ذلك، تصديقاً لسفيههم إبليس، ونصرة له في معاداته لله، جل وعلا، يظنون أنهم يعجزون الله هرباً، ويفرحون بعبادة بعض البشر لهم، ويزيدونهم رهقاً!
نعم: هذا هو الراجح أن نزول الآية كان أصلاً في الجن الذين أسلموا، لأنها منطبقة على ذلك الواقع انطباقاً تاماً أولياً، ثم هي منطبقة في جوهر موضوعها بعد ذلك على كل من اعتقد فيه الألوهية والربوبية مع كونه في حقيقة الأمر من عباد الله الصالحين، المتقربين إليه بكل وسيلة مشروعة، كالمسيح عيسى بن مريم ووالدته، عليهما صلوات من الله وسلام، وعزير، وغيرهما، المتبرئين من كل من غلا فيهم، فجعل فيهم شيئاً من الألوهية والربوبية.
فظهر بذلك يقيناً بطلان قول الشيخ محمد بن عبد الوهاب: (إن الكفار في زمانه صلى الله عليه وسلم منهم من يعتقد في الصالحين)، وكذلك بطلان جملته: (بيَّن فيها الرد على المشركين الذين يدعون الصالحين، ففيها بيان أن هذا هو الشرك الأكبر)، فما كان في زمانه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، من يعتقد في المقبورين، ولا من يعتقد في الصالحين، كما زعم الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ومقلدته من رجالات الدعوة الوهابية. فإذ لم يكن لهؤلاء وجود أصلاً، فمن المحال الممتنع أنه: (قاتلهم كلهم وحكم بكفرهم)، كما زعمه الشيخ.
وإذ بطل هذا قطعاً، فقد بطلت معارضته لمن أسماهم بـ«المشركين»، إذ قال: (بقي للمشركين حجة أخرى وهي: أنهم يقولون هذا حق ولكن الكفار يعتقدون في الأصنام فالجواب القاطع أن يقال لهم إن الكفار في زمانه صلى الله عليه وسلم منهم من يعتقد في الأصنام ومنهم من يعتقد في قبر رجل صالح مثل اللات ومنهم من يعتقد في الصالحين، ..، إلخ)، فالجواب «القاطع» المزعوم، ليس بقاطع، بل هو محض خطأ وباطل، وهو قد انبنى على تخيل أشياء لا وجود لها في الواقع التاريخي، وعلى إهمال فظيع لنصوص القرآن والسنة.
وأما استشهاد الشيخ القرني، وغيره من رجالات الدعوة الوهابية، بقوله تعالى: }وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون{، وأمثالها كثير، فهو كذلك لا يغني عنهم شيئاً، لأن ذلك يعني أنهم يؤمنون ببعض ما ينبغي أن يعتقد فيه جل شأنه ككونه إلاهاً موجوداً خالقاً رازقاً، إلا أنهم يمزجون بذلك نوعاً أو أنواعاً من الشرك باعتقاد الألوهية في غيره، وصرف شعائر الخضوع والتذلل والتعظيم والمحبة لهم، أو الخشية والخوف، بناء على اعتقاد تحقبق بعض معاني الألوهية أو جوانبها فيهم، لا سيما أن الكلام هنا في المقام الأول عن «الإيمان»، الذي ينصرف الذهن عادة عند ذكره إلى المعتقد والتصور، وإن كان «الإيمان» في حقيقته أكثر من مجرد ذلك، وليس عن «العبادة»، التي ربما انصرف الذهن إلى الشعائر التعبدية، والأفعال الظاهرة، وإن كانت في حقيقتا تعود إلى تصور ومعتقد معين، كما أسلفنا.
وهذا كذلك هو قول الطبري ومن سبقه من مفسري السلف، حيث قال، رحمه الله، نصاً: [يقول تعالـى ذكره: وما يقر أكثر هؤلاء الذين وصف عزّ وجلّ صفتهم بقوله: وكأيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِـي السَّمَواتِ والأرْضِ يَـمْرُّونَ عَلَـيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ بـالله، أنه خالقه ورازقه وخالق كلّ شيء، إلا وهم به مشركون فـي عبـادتهم الأوثان والأصنام، واتـخاذهم من دونه أربـابـا، وزعمهم أنه له ولدا، تعالـى الله عما يقولون. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمران بن عيـينة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس: وَما يُؤْمِنُ أكْثَرُهُمْ بـاللّهِ... الآية، قال: من إيـمانهم إذا قـيـل لهم من خـلق السماء، ومن خـلق الأرض، ومن خـلق الـجبـال؟ قالوا: الله. وهم مشركون.
حدثنا هناد، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرمة، فـي قوله: وَما يُؤْمِنُ أكْثَرُهُمْ بـاللّهِ إلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ قال: تسألهم من خـلقهم ومن خـلق السموات والأرض، فـيقولون: الله. فذلك إيـمانهم بـالله، وهم يعبدون غيره.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن إسرائيـل، عن جابر، عن عامر وعكرمة: وَما يُؤْمِنُ أكْثَرُهُمْ بـاللّهِ... الآية، قالا: يعلـمون أنه ربهم، وأنه خـلقهم، وهم مشركون به.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبـي، عن إسرائيـل، عن جابر، عن عامر وعكرمة بنـحوه. قال: حدثنا ابن نـمير، عن نصر، عن عكرمة: وَما يُؤْمِنُ أكْثُرُهُمْ بـاللّهِ إلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ قال: من إيـمانهم إذا قـيـل لهم: من خـلق السموات؟ قالوا: الله وإذا سئلوا: من خـلقهم؟ قالوا: الله وهم يشركون به بعد.
قال: حدثنا أبو نعيـم، عن الفضل بن يزيد الثمالـي، عن عكرمة، قال: هو قول الله: وَلَئِنْ سألْتَهُمْ مَنْ خَـلَقَ السَّمَوَاتِ والأرْضِ لَـيَقُولُنَّ اللّهُ فإذا سئلوا عن الله وعن صفته، وصفوه بغير صفته وجعلوا له ولدا وأشركوا به.
حدثنا الـحسن بن مـحمد، قال: حدثنا شبـابة، قال: حدثنا ورقاء، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قوله: وَمَا يُؤْمِنُ أكْثُرُهُمْ بـاللّهِ إلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ إيـمانهم قولهم: الله خالقنا ويرزقنا ويـميتنا.
حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: وَما يُؤْمِنُ أكْثَرُهُمْ بـاللّهِ إلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ إيـمانهم قولهم: الله خالقنا ويرزقنا ويـميتنا.
حدثنـي الـمثنى، قال: أخبرنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: وَما يُؤْمِنُ أكْثَرُهُمْ بـاللّهِ إلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ إيـمانهم قولهم: الله خالقنا ويرزقنا ويـميتنا، فهذا إيـمان مع شرك عبـادتهم غيره.
قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: وَما يُؤْمِنُ أكْثَرُهُمْ بـاللّهِ إلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ قال: إيـمانهم قولهم: الله خالقنا ويرزقنا ويـميتنا.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا هانىء بن سعيد وأبو معاوية، عن حجاج، عن القاسم، عن مـجاهد، قال: يقولون: الله ربنا، وهو يرزقنا وهم يشركون به بعد.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد، قال: إيـمانهم قولهم: الله خالقنا ويرزقنا ويـميتنا. قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنا أبو تـميـلة، عن أبـي حمزة، عن جابر، عن عكرمة ومـجاهد وعامر، أنهم قالوا فـي هذه الآية: وَما يُؤْمِنُ أكْثَرُهُمْ بـاللّهِ إلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ قال: لـيس أحد إلا وهو يعلـم أن الله خـلقه وخـلق السموات والأرض، فهذا إيـمانهم، ويكفرون بـما سوى ذلك.
حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وَما يُؤمِنُ أكْثَرُهُمْ بـاللّهِ إلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ فـي إيـمانهم هذا، إنك لست تلقـى أحدا منهم إلا أنبأك أن الله ربه وهو الذي خـلقه ورزقه، وهو مشترك فـي عبـادته.
حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: حدثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: وما يُؤْمِنُ أكْثَرهُمْ بـاللّهِ... الآية، قال: لا تسأل أحدا من الـمشركين من ربك إلا قال: ربـي الله، وهو يشرك فـي ذلك.
حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: حدثني أبـي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، قوله: وَما يُؤْمِنُ أكْثَرُهُمْ بـاللّهِ إلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ يعنـي النصارى. يقول: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَـلَقَ السَّم وَاتِ والأَرْضَ لَـيَقُولُنَّ الله وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَـلَقُهُمْ لَـيَقُولُنَّ الله ولئن سألتهم من يرزقكم من السماء والأرض؟ لـيقولنّ الله. وهم من ذلك يشركون به ويعبدون غيره ويسجدون للأنداد دونه.
حدثنـي الـمثنى، قال: أخبرنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيـم، عن جويبر، عن الضحاك، قال: كانوا يشركون به فـي تلبـيتهم.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن نـمير، عن عبد الـملك، عن عطاء: وَما يُؤْمِنُ أكْثرُهُمْ بـاللّهِ... الآية، قال: يعلـمون أن الله ربهم، وهم يشركون به بعد. حدثنـي الـمثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيـم، عن عبد الـملك، عن عطاء، فـي قوله: وَما يُؤْمِنُ أكْثَرُهُمْ بـاللّهِ إلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ قال: يعلـمون أن الله خالقهم ورازقهم، وهم يشركون به. حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال: سمعت ابن زيد يقول: وَما يُؤْمِنُ أكْثَرُهُمْ بـاللّهِ... الآية، قال: لـيس أحد يعبد مع الله غيره إلا وهو مؤمن بـالله، ويعرف أن الله ربه، وأن الله خالقه ورازقه، وهو يشرك به ألا ترى كيف قال إبراهيـم: أفَرأيْتُـمْ ما كُنْتُـمْ تَعْبُدُونَ أنْتُـمْ وآبـاؤُكُمُ الأقْدَمُونَ فإنَّهُمْ عَدُوّ لـي إلاَّ رَبَّ العَالَـمِينَ قد عرف أنهم يعبدون ربّ العالـمين مع ما يعبدون. قال: فلـيس أحد يشرك به إلا وهو مؤمن به، ألا ترى كيف كانت العرب تلبـي، تقول: لبـيك اللهم لبـيك، لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تـملكه وما ملك؟ الـمشركون كانوا يقولون هذا]، انتهى كلام الإمام الطبري بعينه!
ومن الجدير بالملاحظة قوله: (وما يقر أكثر هؤلاء بـالله، أنه خالقه ورازقه وخالق كلّ شيء، إلا وهم به مشركون فـي عبـادتهم الأوثان والأصنام، واتـخاذهم من دونه أربـابـا، وزعمهم أن له ولدا، تعالـى الله عما يقولون)
وقد استمر الشيخ القرني بأقوال وجمل هي تكرار لما سبق، بصيغ أخرى، مثل قوله: (ومن جميع ما تقدم يتبين أن شرك التقرب وعبادة غير الله ليس شركاً اعتقادياً يستلزم أن يكون المعبود عند من عبده مستحقاً للعبادة من دون الله، وإنما هو شرك في إرادة غير الله بالعبادة)، فها هنا، مرة أخرى، الدور الخفي، والخلط في مفهوم العبادة مرة أخرى. وها هنا قائمة أفعال ظاهرة وباطنة تسمَّى «عبادة»، بغض النظر عن أي اعتقاد، وهذا باطل كما أسلفنا.
وها هنا أيضاً محال لا يتشكل في عقل: (معبود لا يستحق عند من عبده أن يعبد!!)، بل إن قصص العنقاء والرخ، وأساطير جبل «قاف»، أقرب إلى العقل من هذا الهراء.
نعم، جملة: (معبود لا يستحق عند من عبده أن يعبد!!) صحيحة لغوياً تتكون من مبتدأ وخبر، ولكنها فارغة من أي معنى، بل متناقضة ذاتياً كقولك: (الدائرة مربعة)، جملة أسمية تتكون من مبتدأ وخبر، ولا معنى لها، بل تناقض محض. كل هذه «البهلوانيات اللغوية»، والمحالات العقلية، في محاولة إنقاذ الخطأ وتحويله بالقوة، أو المراوغة، أو السفسطة إلى صواب.
ثم زاد الشيخ «الطين بلة» فخلط هذا الموضوع بموضوع الإيمان، وأنه ليس مجرد اعتقاد فقال: (لكن مرجئة المتكلمين لما ظنوا أن التوحيد هو مجرد اعتقاد وحدانية الله في ذاته وصفاته وأفعاله، وأن ذلك هو مفهوم الألوهية، التزموا أنه لا شرك بالتقرب إلى غير الله بالعبادة إلا إذا تضمن استحقاق المعبود للعبادة من دون الله، وأن المعبود منفرد بالخلق والتدبير)، إلى أن قال: (فكما قالوا هنا أن التوحيد هو اعتقاد وحدانية الرب، فكذلك الالتزام بالشريعة هو مجرد اعتقاد أنها حق بتصديق النبي، صلى الله عليه وسلم)، فها هنا تعود الإشكالية القديمة في تعريف العبادة، والدور الخفي إلى الظهور، والشيخ القرني لا يشعر بها: فكيف يعبد من لا يستحق العبادة؟! لست أدري. وكيف تصبح أقوال وأفعال ظاهرة وباطنة عبادة من غير أن يسبقها اعتقاد الألوهية في المصروفة إليه؟! لا أدري كذلك.
نعم: هناك خطأ في قصر من أسماهم «مرجئة المتكلمين» للتوحيد على مجرد الاعتقاد بوحدانية الرب، جل وعلا، بل لا بد من الخضوع له، وتعظيمه، ومحبته، والتسليم له، وحده لا شريك له، لأن الخلق إنما خلقوا لعبادته فعلاً وحده لا شريك له، وليس لمجرد اعتقاد وحدانيته.
واعتقاد وحدانيته ركن في العبادة، وشرط لصحتها، ولكنه ليس كل العبادة، ولا هو ذاتها. وهذا يشبهه خطؤهم في جعل الإيمان الشرعي، المنجي في الآخرة، مجرد تصديق جازم واعتقاد محض، وهو أكثر من ذلك بكثير. ولكن هذا الخطأ لا يبرر خطأ الشيخ الفادح في زعمه أن «العبادة» يمكن أن تكون مجردة عن الاعتقاد، اعتقاد استحقاق من تصرف له لها، أي اعتقاد «الألوهية». فكون الإيمان الشرعي ليس مجرد اعتقاد بل منه أعمال وأن التوحيد الشرعي، المنجي في الآخرة، ليس مجرد اعتقاد بل منه عبادة لا يعني بالضرورة أن العمل ممكن بغير اعتقاد أو أن العبادة متصورة غير مسبوقة باعتقاد، فهذه قضية، وتلك قضية أخرى مباينة تماماً، بل هي ضدها ومقابلتها: فسبحان من نكَّس القضايا في ذهن الشيخ القرني!
والحق أن العمل الاختياري، ولا بد، مسبوق بإرادة ونية، والإرادة والنية مسبوقة بتصور واعتقاد، كما يعلمه كل واحد علماً ضرورياً بالتأمل في نفسه، واستبطان ما يجري في داخله عند التردد، ثم العزيمة فالعمل.
وعلى كل حال فكتاب الشيخ القرني موجود في الأسواق فمن شاء رجع إليه ولن يجد سوى ما ذكرنا، بألفاظ متباينة، وجمل مختلفة، لا تزيد ما ذهب إليه إلا بطلاناً وسقوطاً.
وكذلك لا صحة لما زعمه الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، رحمه الله، عندما قال في كتابه المسمَّى: (القول السديد)، وهو شرح لـ(كتاب التوحيد) المشهور، وله طبعات عديدة بيدي منها الآن طبعة على شكل كتيب من إصدار (مكتب الدعوة في بريطانيا) ضمن سلسلة (رسائل الإصلاح والفقه: رقم 27): [فإن حد الشرك الأكبر، وتفسيره الذي يجمع أنواعه: (أن يصرف العبد نوعاً أو فرداً من أفراد العبادة لغير الله). فكل اعتقاد أو قول أو عمل ثبت أنه مأمور به من الشارع فصرفه لله وحده توحيد وإيمان وإخلاص، وصرفه لغيره شرك وكفر. فعليك بهذا الضابط للشرك الأكبر فإنه لا يشذ عنه شيء]، انتهى كلامه نصاً.
قارن هذا بتعريف أبي بكر الصديق، رضوان الله وسلامه عليه، الذي أخرجه البخاري بإسناد صحيح في «الأدب المفرد» عن معقل بن يسار قال: انطلقت مع أبي بكر، رضي الله عنه، إلى النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال: «يا أبا بكر! للشرك فيكم أخفى من دبيب النمل». فقال أبو بكر: (وهل الشرك إلا من جعل مع الله إلهاً آخر؟!)، فقال النبي، صلى الله عليه وعلى اله وسلم: «والذي نفسي بيده، للشرك أخفى من دبيب النمل، ألا أدلك على شيء إذا فعلته ذهب قليله وكثيره؟!»، قال: «قل: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم».
فقول أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، وهو عربي قرشي فصيح، أوَّل الأمر: (وهل الشرك إلا من جعل مع الله إلهاً آخر؟!)، هكذا حصراً، هو عين قولنا الذي فصلناه أعلاه، إذ لم يتشكل في ذهنه للشرك معنى إطلاقاً إلا في اتخاذ إله آخر مع الله، أي في اعتقاد الألوهية في غير الله، وهو بداهة يقصد الشرك الأكبر، شرك الكفر.
فبطلان تعريف الشيخ عبد الرحمن بن سعدي ظاهر في أنه:
(1) جعل الاعتقاد في مرتبة واحدة مع الأعمال، وقد برهنا من قبل أن الاعتقاد، وبلفظ أدق: اعتقاد الألوهية، سابق على تعريف العبادة. والاعتقاد المجرد ليس فعلاً، ولا يسمَّى عبادة أو غير عبادة، ولكن العبادة الاعتقادية هي أن يتقرب المرء بهذا الاعتقاد إلى من يعتقد فيه الألوهية. أي أن يتخذ ذلك الاعتقاد قربة، فهو ليس مجرد تصديق أو اعتقاد مجرد محض.
فلو أيقن إنسان أن الألوهية محال أن تتعدد، وأن ليس ثمة في الوجود إلا إله واحد هو الله، أي لو شهد أنه لا إله إلا الله، لكان محقاً، وصاحب مقولة حق، ولعله مفكر عبقري، أو فيلسوف كبير، ولكنه ليس بعابد، ولا مسلم، ولا هو بمؤمن الإيمان الشرعي حتى يتخذ معتقده هذا قربة إلى الله، يريد به وجه الله.
(2) أن الشرك الأكبر هو مجرد اعتقاد الألوهية في غير الله، بغض النظر عن صرف أي فعل، أو التلفظ بأي قول يستحق أن يسمَّى حينئذ عبادة، أو اتخاذ أي معتقد قربة إلى من يعتقد فيه الألوهية.
(3) أن كل الأفعال التي يقصد بها التذلل وإظهار التعظيم، أو التقرب وإظهار المحبة، أو طلب جلب المنافع ودفع المضار وإظهار الفقر والحاجة، ونحوه، ممن يعتقد فيه الألوهية هي بالضرورة عبادة، بغض النظر عن كون مثيلاتها تصرف لله بالدليل الشرعي أو لا تصرف. فرقص المشركين لآلهتهم عبادة، مع أن الله لا يتعبد له بالرقص، وكذلك المكاء والتصدية أي التصفيق والتصفير، وتمكين المرأة للرجال من نفسها من غير نكاح في بعض المناسبات هو عند بعض عبدة الوثن في الهند عبادة، وليس شيئاً من هذا عند أهل الإسلام عبادة، بل هو فاحشة عظيمة، وإثم كبير، وهكذا.
وحديث أبي بكر، رضي الله عنه، آنف الذكر يبطل أيضاً تعريفه للشرك الأصغر، حيث قال نصاً: [كما أن حد الشرك الأصغر هو: (كل وسيلة وذريعة يتطرق منها إلى الشرك الأكبر من الإرادات والأقوال والأفعال التي لم تبلغ رتبة العبادة)]. هذا باطل من وجوه:
(1) أن تعريفه للعبادة وللشرك الأكبر مضطرب وباطل، كما أسلفنا، وهو أدخل كلا من «العبادة» و«الشرك الأكبر» في تعريف «الشرك الأصغر»، فصار الحد ليس بمعلوم، ولا منضبط، ومن ثم عديم الجدوى، قليل المحصول.
(2) أن التسمية بـ«الشرك الأصغر» شرعية خالصة، وليست مما تعرفه العرب في كلامها، جاءت تسمية لأفعال معينة، ولم تأت النصوص بعلة أو علل يسوغ القياس عليها قياساً منضبطاً، حتى يجوز لنا التعميم بلفظ (كل)، فتكون النتيجة لهذا التعميم الجامح هي تسمية أفعال شركاً مع أن الله ورسوله لم يسمياها شركاً، وهذا هو «الابتداع» في دين الله، والتقديم بين يدي الله ورسوله، وهذا عظيم جداً، والقوم يزعمون أنهم أهل اتباع، وليسوا أهل ابتداع، حتى أن بعضهم يمضي أكثر العمر في محاربة «بدع» السبحة، ومحاربة «بدعة» الخروج مع جماعة التبليغ لمدة «ثلاثة» أيام؟!
v ومن التخاليط والوساوس كذلك ما قاله الإمام شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية في «مجموع الفتاوى»، (ج: 1 ص: 124): [وقال تعالى: }ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لى من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون v ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون{، (آل عمران؛ 3:79-80)، فبين سبحانه (أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا كفر). فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار، مثل أن يسألهم غفران الذنب وهداية القلوب وتفريج الكروب وسد الفاقات فهو كافر بإجماع المسلمين]، انتهى كلامه، رحمه الله، نصاً.
أما (أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا كفر) فهذا حق يقيني لا شبهة فيه، وهو نص الآية الكريمة. ولكن قوله: (جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار، مثل أن يسألهم غفران الذنب وهداية القلوب وتفريج الكروب وسد الفاقات فهو كافر بإجماع المسلمين)، ليس هو نص القرآن المعصوم، لأن القرآن نص فقط علي: (أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا كفر)، وأحال إلى لغة العرب، وآيات الذكر الحكيم الأخرى، والبيان النبوي الشريف، لإكمال بيان لفظتي «اتخاذ»، و«أرباب» التي هي بيت القصيد ها هنا، لأن الكفر أنيط بـ«اتخاذ الأرباب»، وليس بشيء آخر.
ولا شك أن مجرد اعتقاد الربوبية أو الألوهية في غير الله هو كفر، وكذلك من عبد غير الله، بأدلة القرآن والسنة القطعية، وبالإجماع المتيقن، وهذا يقتضي ضرورة أنه يعتقد في المعبود شيئاً من الألوهية أو الربوبية. وقد أثبتنا في ما مضى أن الأفعال والأقوال المجردة لا يصح أن يقال عنها أنها عبادة أو غير عبادة، فلا بد من ثم من أخذ الاعتقاد في الاعتبار، فالعبادة أقوال وأفعال، بل ومعتقدات، صرفت لمن يعتقد فيه «الألوهية»، أو «الربوبية من دون الله»، ولو في جزئية من الجزئيات.
فقول الشيخ: (جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار، مثل أن يسألهم غفران الذنب وهداية القلوب وتفريج الكروب وسد الفاقات فهو كافر بإجماع المسلمين) ليس محرراً أو بيناً بذاته، لأن لفظة يدعوهم تحتمل دعاء العبادة، وهذا لا يكون إلا مع وجود اعتقاد معين، وليس بمجرد الفعل أو القول، كما أشبعناه بحثاً فيما سلف.
نعم: لا شك أن الأمور التي مثَّل بها: (غفران الذنب وهداية القلوب وتفريج الكروب وسد الفاقات)، لا تصدر عادة إلا مع وجود اعتقاد معين يجعل صاحبه مشركاً كافراً. نقول: عادة، وليس دوماً وضرورة. فالإنسان الذي يقول لصديقه: (أنا مكروب، أعاني من أشد الضيق، ساعدني وانتشلني من هذا المأزق)، لم يصبح مشركاً كافراً بمجرد هذا القول، بل لا بد من وجود اعتقاد معين، وهو غير موجو ها هنا بقرينة الحال، بخلاف القرشي الذي يقول مخاطباً هبل: (أنا مكروب، أعاني من أشد الضيق، ساعدني وانتشلني من هذا المأزق)، فهذا مشرك كافر، بقرينة الحال أيضاً، لأن هبل هو اسم أحد آلهة قريش المعروفة، مع استخدامها «عين» اللفظ، وتلفظهما «عين» الدعاء!
فظهر أن مقولة شيخ الإسلام آنفة الذكر ليست محررة منضبطة، إلا إذا قلنا أنه يعتبر وجود اعتقاد معين أمر بديهي لا يحتاج إلى ذكر. ولكن تكراره لمثل هذا في مواضع كثيرة، على هذا النحو المشكل الملتبس، يشعر بأنه ينظر فقط إلى ظاهر العمل، بغض النظر عن الاعتقاد أو التصور المصاحب، وهذا باطل تترتب عليه مصائب وبلايا، كما أسلفنا.
أما دعوى الشيخ، رحمه الله، انعقاد الإجماع على ما قال فهي دعوى مجردة، لأن مقولته ملتبسة غير محررة، فهي باطلة حتي يتم تحريرها وتصحيحها، ولو انعقد الإجماع عليها لانعقد على باطل، ولكانت الأمة مجمعة على ضلالة، عياذاً بالله.
أما المعني المحرر الصحيح، الذي يجعل الاعتقاد، اعتقاد الألوهية، أو الربوبية من دون الله، ولو في جزئية واحدة، أو اعتبار واحد، هو مناط الحكم، هذا المعنى الصحيح المحرر قد ثبث ثبوتاً قطعياً بالآية التي استشهد بها الشيخ، وبغيرها من آي القرآن الكثيرة، وأدلة السنة الصحيحة، ووقائع التاريخ المتواترة. وما كان كذلك فهو، ضرورة، مجمع عليه، وذلك لأن المخالف كافر خارج عن الملة.
ومن المؤسف أن الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب أخذ جملة شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية كما هي، على عجرها وبجرها. بل وجعلها الناقض الثاني من نواقض الإسلام:
v كما جاء في «مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب»، (ج: 1 ص: 212 وما بعدها): [إعلم أن من أعظم نواقض الإسلام عشرة:
الأول: الشرك في عبادة الله وحده لا شريك له والديل قوله تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومنه الذبح لغير الله كمن يذبح للجن أو القباب.
الثاني: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة كفر إجماعا.
الثالث: من لم يكفر المشركين أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم كفر إجماعا.
الرابع: من اعتقد أن غير هدى النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه أو أن حكم غيره أحسن من حكمه كالذين يفضلون حكم الطاغوت على حكمه فهو كافر
الخامس: من أبغض شيئا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولو عمل به كفر إجماعا والدليل قوله تعالى ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم
السادس: من استهزأ بشيء من دين الله أو ثوابه أو عقابه كفر والدليل قوله تعالى قل أبالله ورسوله كنتم تستهزؤن لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم
السابع: السحر ومنه الصرف والعطف فمن فعله أو رضى به كفر والدليل قوله تعالى وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر
الثامن: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين والدليل قوله تعالى ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين
التاسع: من اعتقد أن بعض الناس لا يجب عليه اتباعه صلى الله عليه وسلم وأنه يسعه الخرروج من شريعته كما وسع الحضر الخروج من شريعة موسى عليهما السلام فهو كافر
العاشر: الأعراض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به والدليل قوله تعالى ومن أظم ممن ذكر بايات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون
ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف إلا المكره وكلها من أعظم ما يكون خطرا ومن أكثر ما يكون وقوعا فينبغي للمسلم أن يحذرها ويخاف منها على نفسه نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه وصلى الله على محمد]، انتهي نصاً.
والناقض الأول لا بأس به بشرط أن تعرف «العبادة» تعريفها الصحيح، كما حررناه، وليس كتعريف الشيخ لها الذي ألمح إليه في قوله: (الذبح للقباب)، وهو كلام لا معنى له. فلا يوجد أحد في العالم يذبح للقباب، وإنما يكون الذبح لصاحب القبة، أي المقبور. ثم ما هو المعتقد في المقبور؟! هل هو معتقد يجعله إلاهاً من دون الله. أو هو غير ذلك من المعتقدات الباطلة أو الصحيحة؟! ثم ما معنى الذبح لشخص ما؟! وما هو المقصود منه؟! لعلها أضحية أو صدقة عنه وأساء الناس التعبير عنها فقالوا ذبح له، بدلاً من القول الصحيح: (ذبح عنه)؟!
وكذلك ما هو معتقد الذابح للجن في الجن وطبيعتهم؟! هل يعتقد مثلاً أنهم مخلوقات شريرة، لا تخرج عن قدر الله وسلطته، ولا يستطيعون منه إفلاتاً، ولا يعجزونه هرباً، فإذا ألقى إليهم بذبيحة أمن شرهم تماماً كما يأمن شر السبع الضاري إذا ألقى له بذبيحة ينشغل بها عن هذا الإنسان الذابح حتى يتمكن من الفرار؟! هذا تخريف وليس شركاً.
نعم: قد يقول قائل إنما قصد الشيخ ذبح التعبد، وما قصد شيئاً مما ذكرتموه. فنقول: قضايا الإسلام والكفر، والتوحيد والشرك أخطر من تركها نهباً للظنون والاحتمالات، والشكوك والتخريصات.، وربما قصد كيت، وأراد ذاك.
ثم ما معنى قولكم: إنما قصد الذبح تعبداً، فما هي العبادة إذاً؟! وهكذا ندور، وتدورون أبد الدهر في حلقة مفرغة من التخاريص والظنون حتى تعرفوا العبادة تعريفاً صحيحاً، مطابقاً لواقعها، سالماً من المعارضة، جامعاً مانعاً.
وليس في العالم تعريف منضبط بهذه الصفة إلا تعريفنا:
العبادة: هي أي اعتقاد، أو قول، أو عمل من أعمال القلب، أو لفظ من الفاظ اللسان، أو فعل من أفعال الجوارح، وجه إلى من يعتقد فيه «الألوهية»، أو «الربوبية من دون الله»، (ولو في جزئية واحدة أو معنى واحد من معاني «الألوهية» أو «الربوبية من دون الله»)، بقصد التقرب وإظهار المحبة، أو التذلل والخضوع والتعبير عن التعظيم والاحترام، أو المطالبة بدفع الضر وجلب النفع وإظهار الفقر والحاجة، ونحو ذلك.
فلا يمكن أن يسمى عمل من أعمال القلب، أو لفظ من الفاظ اللسان، أو فعل من أفعال الجوارح «عبادة» إلا إذا كان مسبوقاً باعتقاد«الألوهية»، أو «الربوبية من دون الله»، ولو في جزئية واحدة أو معنى واحد من معانيها، فيمن يوجه إليه ذلك الفعل، أي فيمن يراد التقرب إليه بذلك الفعل؛
وجزئيات «الألوهية»، أو «الربوبية من دون الله» سبق حصرها، أو حصر أكثرها، في هذا الكتاب، وهي أمور ذاتية وجودية فيمن تعتقد فيه، لا علاقة لها بأفعال العابدين، ولا حتى بوجود من يعتقد ذلك أصلاً.
أما بقية النواقض التي ذكرها الشيخ فبعضها يحتاج إلى مزيد شرح وتحرير، لا سيما «الناقض الثالث»، فهو كما هو هناك خطير ملتبس، لا سيما أن الشيخ سمَّى أقواماً بـ«المشركين» بالباطل، مع أنهم من أهل الإسلام، فوقع ناقضه من ثم ساقطاً منقوضاً، للأسف الشديد.
وأما «الناقض السابع»، أي «السحر»، فهو هكذا على إطلاقه خطأ محض، وسوف نحرر ذلك في فصله من أبواب الشرك العملي، إن شاء الله تعالى.
وهو كذلك أخطأ في قصر العذر على المكره فقط، ولم يذكر اعذار «تكفير المعين» الأخرى: الجهل، والتأويل، والرواية والحكاية والشهادة، ونحوها، ولكن تحرير هذا موضعه ليس هنا.
والناقض الثامن خطير جداً، لأنه لم يقصره على الكفار الحربيين، أو على تحريض الكفار على حرب المسلمين، أو على مظاهرة الكفار على المسلمين بإفشاء أسرار المسلمين الحربية والأمنية لهم. وهذا التحديد هو الواجب، كما أشبعناه درساً وتحليلاً، والحمد لله، في كتابنا: «الموالاة والمعاداة»، فراجعه، وهو في غاية الأهمية عموماً، وفي أيامنا هذه خصوصاً إذ يتعرض المسلمون لواحدة من أشرس وأخبث هجمات العدو الكافر الحربي المعتدي: هجمة الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل.
وتظهر الإشكاليات المترتبة على هذه «الفوضى» الشنعاء في تعريف العبادة بشكل واضح مرة أخرى في قول آخر لشيخ الإسلام ابن تيمية:
v كما جاء في «الرسالة السنيه»: [فإذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من انتسب إلى الاسلام من مرق منه مع عبادته العظيمة فليعلم أن المنتسب الى الاسلام والسنة في هذه الازمان أيضا قد يمرق أيضا من الاسلام وذلك بأسباب منها الغلو الذي ذمه الله في كتابه حيث قال: }يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم، ..، الآية{. وكذلك الغلو في بعض المشايخ بل الغلو في علي بن أبي طالب بل الغلو في المسيح عليه السلام فكل من غلا في نبي أو رجل صالح وجعل فيه نوعا من الإلهية مثل أن يقول يا سيدي فلان انصرني أو أغثني أو ارزقني أو اجبرني أو أنا في حسبك ونحو هذه الاقوال فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل فان الله إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده، ولا يدعى معه إله آخر. والذين يدعون مع الله آلهة أخرى مثل المسيح والملائكة والاصنام لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق أو تنزل المطر أو تنبت النبات وإنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم أو يعبدون صورهم يقولون: }إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى{، ويقولون: }هؤلاء شفعاؤنا عند الله{، فبعث الله رسله تنهى ان يدعى أحد من دونه لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة]، انتهى.
فها هنا أصلح الشيخ، رضي الله عنه، وأجاد إذ قال: (من غلا في نبي أو رجل صالح وجعل فيه نوعا من الإلهية) فبين أن الغلو المهلك، الذي ذمته الآية، هو أن يجعل شيئاً من الألوهية فيمن وقع الغلو في حقه.
ثم كأنه لم يصبر على الصواب إلا قليلاً فهدم سريعاً ما بني، كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، حيث فسر الألوهية: (وجعل فيه نوعا من الإلهية مثل أن يقول يا سيدي فلان انصرني أو أغثني أو ارزقني أو اجبرني أو أنا في حسبك ونحو هذه الاقوال فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل)، فجعل مجرد القول بواحدة من تلك الجمل مرادفاً لجعل المنادى أو المطلوب منه أو المسؤول إلاهاً: لقد والله هزلت «الألوهية» إن كان هذا هو معناها!!
ولو أن الله فتح على الشيخ فتأنَّى، ولم يستعجل، وقرأ الآية إلى منتهاها، ونظر في غيرها من آي الذكر التي جاءت في نفس موضوعها، لعلم أن غلو النصارى في المسيح أنهم قالوا فيه، أي اعتقدوا فيه، غير الحق: أنه الله، أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة، وأنه على كل حال إلاه تام الألوهية، مساوٍ لأبيه في الجوهر، إله حق من إله حق، نور من نور. فأين هذا من الجملة الهزيلة: (يا سيدي: أنا في حسبك) أو (يا عيسى: أنا في حسبك)؟! نعم: قد تكون هذه الجملة ممن يعتقد في عيسى بن مريم، صلوات الله عليه وعلى والدته، ما ذكرناه من الكفريات، فتكون عبادة له، وكفراً، وشركاً بالله، ومظهراً لذلك الاعتقاد الخبيث، الذي هو من حيث هو اعتقاد مجرد شرك وكفر. وقد تكون هذه الجملة، وما شاكلها، بدون هذا الاعتقاد، أو إساءة في التعبير لمعنىً صحيح، فلا تكون من باب الشرك والكفر، ولكن تكون دراستها من باب الحلال والحرام، والمستحب والمكروه، أو الخطأ والصواب، ونحو ذلك.
وزاد الشيخ، سامحه الله، في الخطأ، بل بالغ وأفحش عندما قال: (والذين يدعون مع الله آلهة أخرى مثل المسيح والملائكة والاصنام لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق أو تنزل المطر أو تنبت النبات وإنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم أو يعبدون صورهم). هذه مزاعم شاطحة مجردة، بل أخطاء يقينية، مقطوع بكونها خطأ، من جوانب كثيرة:
(1) فالمسيح بوصفه هو الله، هو الخالق، منزل المطر، منبت الزرع، وبوصفه ابن الله، أو بعض الله، أو ثالث ثلاثة مشارك في ذلك ضرورة، بنحو أو آخر، وبوصفله «كلمة الله» هو «آلة» الخلق، فالله يخلق بـ«الكلمة». ودعاء المسيح وعبادته ها هنا هي له لذاته لأنه إله حق مستحق لذلك، فضلاً عن كونها ترضي بقية أشخاص أو «أقانيم» الثالوث لأنهم ثلاثة في واحد وواحد في ثلاثة، وهم «شركة مباركة متآلفة» يحب بعضهم بعضاً، ويرضى بعضهم لبعض ما يرضى لنفسه!
(2) والملائكة عند قريش كائنات إلاهية، وهي بنات الله لصلبه، أمهاتهم سروات الجن، وحسبك بهذا شركاً وكفراً. ولا ندري هل كانت قريش تعتقد أن لهن مشاركة في خلق الخلائق، أو إنزال المطر، أو انبات الزرع، ولكننا نعلم قطعاً أنهن مدللات يشفعن عند أبيهن بدون استئذان شفاعة لا ترد، لكونهم من «عنصر» و«نسب» إلاهي سماوي، وهذا بمفرده شرك اعتقادي وكفر.
نعم: الغالب ها هنا أن يكون دعاء هؤلاء وعبادتهم لأنهم يقربون إلى الله زلفى، ويشفعون عنده شفاعة لا ترد، ولا تحتاج إلى استئذان لأنهن البنات المقربات، الحبيبات المدللات!
(3) أما الملائكة عند الصابئة، عبدة النجوم، فهم عقول أو نفوس أو أرواح فلكية، كائنات إلاهية، وسيطة بين الله (الذي يسمونه العقل الأول، أو العلة الأولى)، درجة بعد درجة حتى فلك القمر، وهو أدنى تلك العقول الفلكية، ذات الجوهر الإلاهي، وبين العالم السفلي، عالم المخلوقات، عالم الموت والفساد والفناء، في الاتجاهين، صعوداً وهبوطاً: فالله جل جلاله لا يتصرف مباشرة، إن كان له تصرف أصلاً (بعض مذاهبهم تقول: أنه لا يعقل إلا ذاته، ولا يدرك غير نفسه)، والدعاء لا يصعد إليه مباشرة، بل مروراً بالعقول السفلى، درجة بعد درجة، فيقوم كل فلك بما عليه، حسب اختصاصه، ثم «يرفع» الباقي إلى أعلى: فيا لها من دولة هرمية؟! وحسبك بذلك تخريفاً وشركاً وكفراً.
وفي هذا النوع من المعتقد يكون دعاء هؤلاء وعبادتهم ليس فقط لأنهم يقربون إلى الله زلفى، ويشفعون عنده شفاعة لا ترد، بل لأن لهم صلاحيات وأمور يبتون هم فيها بتاً نهائياً، من غير رفعها إلى أعلى أصلاً، فلهم من الاستقلالية ما لا يوجد لدى «ملائكة قريش» المسكينة، ذات الصلاحيات المحدودة!!
(4) لا يوجد في العالم قبر عبد قط، وإنما يكون المعبود هو المقبور، إن كان معبوداً أصلاً. وبالضرورة نعلم أن من دعاه أو طلب منه شيئاً يعتقد فيه أنه حي حاضر يسمع ويرى ويجيب، وهذا المعتقد، على بطلانه عموماً، ليس من اعتقاد الألوهية في المقبور من صدر ولا ورد. فإن وجد اعتقاد الألوهية في المقبور أصبح النداء والطلب عبادة وشركاً ينقل عن الملة. وإن لم يوجد اعتقاد مكفر، فليس ثمة شرك أكبر، يخرج عن الملة.
نعم: ربما كان هناك أو معصية أو ابتداع محرم، أو حتى شرك عملي أصغر، لا ينقل عن الملة، ولكن هذا كله باب آخر، يختلف تماماً عن الشرك الأكبر، شرك الكفر المناقض للإسلام كل المناقضة، المخرج من الملة، المردي في اللعنة الأبدية، والنار السرمدية، والذي هو فقط محل بحثنا هنا في هذا الباب.
(5) ولا يوجد في العالم من يعبد الصور، وإنما تكون العبادة، إن كانت عبادة بحق، للشخص أو الذات المصورة، أما الصورة، من حيث هي صورة، فما عبدت قط. ولكن عبدة الأصنام، وهي نوع مخصوص من التماثيل والصور، يعتقدون أن الآلهة تحل فيها، أو ترتبط على نحو ذاتي بها، أو أن الصنم يمثل الإله ونوب عنه نيابة كاملة، لذلك ساغ هنا، وهنا فقط أن نقول: فلان يعبد الصنم، كما قال الله في القرآن، ومن أصدق من الله قيلاً!
فأنت ترى حجم الخلل الجسيم، والخطأ القاتل في هذا النص القصير. وقد جاء هذا مقروناً مع إساءة التعبير البالغة، في مثل قوله: (يعبدون قبورهم، أو يعبدون صورهم). هذه صياغات قد تحتمل على مضض من جهلة العوام، أو من أهل المراء المتنابزين بالألقاب، أما من أكابر العلماء من أمثال شيخ الإسلام؟!
v ولكن جاء في «شرح كتاب التوحيد»، ( ج: 1 ص: 195): [قال تعالى: }ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذا أنتم مسلمون{، وهذا بعينه هو الذي يعتقده من دعا الأنبياء والصالحين ولهذا يسألونهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات وشفاء ذوي الأمراض والعاهات فثبت أن ذلك شرك]،
قلت: الخطأ هنا أهون لأن الشارح أرجع كل شيء إلى الاعتقاد، كما هو الواجب، ولكنه زعم أن معتقد (من دعا الأنبياء والصالحين) هو «عين» ما نصت عليه الآية من (اتخاذهم أرباباً)، وهذا ليس بمسلم، فقد يكون وقد لا يكون، وما ذكره من الأقوال، وأنواع المسألة، لا يقتضي ذلك ضرورة، وإن كان كذلك عادة في أكثر الأحوال، كما أسلفنا.
ونحسب أن القراء الكرام قد ملوا تكرار ذكر هذه النصوص، وتكرار الرد عليها، وهي نصوص متشابهة، وردود متقاربة، فلعلنا نكتفي بهذا، وفيه لطالب الحق كفاية وزيادة، إن شاء الله.
كما نأمل أن الموضوع قد تبلور في ذهن القراء حتى أصبح كأنه ملموساً باليد، وليس فقط مدركاً بالعقل.
غير أنه ينبغي أن يعلم، على كل حال، هنا في هذا المقام وغيره من المقامات ــ كما أسلفنا مرارًا وتكرارًا ــ علمًا يقينيًا لا يتطرق إليه الشك أن العبرة هى بحقيقة المعتقد، وجوهر محتوى التصور بغض النظر عن الأسماء والألفاظ، فمن اعتقد:
(أ) أن غير الله يتصرف في الكون بغير إذن من الله، ولا مشيئة ولا تقدير،
(ب) أو أن له قدرة وتصرف تضاهي قدرة الله،
(ج) أو أن بعض الكائنات تقدر على الإفلات من سلطة الله، أو أنهم يجيرون على الله، أو أنهم يعجزون الله هرباً، كاعتقاد بعض جهلة العوام في الجن فقد جعله متصفًا ببعض صفات الألوهية، أي استحقاق العبادة، أي جعله مع الله إلها آخر.
(د) أن لغير الله عند الله شفاعة واجبة القبول فلا ترد، ولا تحتاج إلى استئذان
(هـ) أو نسب إلى غير الله الخلق والإيجاد من عدم ــ كما يفعل ثنوية المجوس بالنسبة لما يسمونه إله الشر «أهريمن»،
من اعتقد شيئاً من ذلك، أو نحوه، فقد جعله متصفًا ببعض صفات الألوهية، أي استحقاق العبادة، أي جعله مع الله إلها آخر، وذلك بغض النظر عن:
(1) اعتقاداته الأخرى فيه، فلا يلزم أن يعتقد أنه أزلي أو واجب الوجود، أو أنه من عنصر أو جوهر أو جنس إلاهي، بل من الممكن جدا أن يكون حادثاً مخلوقاً، كإله الشر عند بعض طوائف المجوس. ولا يلزم أن يعتقد أنه نشأ من اتحاد أو تجسد أو حلول لله في مخلوق،
(2) وبغض النظر عن تسميته، سواء سماه إلهاً، أو سماه شيطانا، أو سماه ملكا، أو عقلا فلكيا، أو روحاً علوياً أو سفلياً، أو غير ذلك،
(3) وبغض النظر عن حبه له أو بغضه إياه، أو عدم مبالاته به.
(4) وبغض النظر عن تقديم الشعائر والقرابين أو عدم تقديمها له،
(5) وبغض النظر عن تسمية تلك الشعائر: سواد سمِّيَت صراحة «عبادة»، أو سميت نداء، أو تكريماً، أو إحتراماً، أو توسلاً، أو وساطةً، أو استشفاعاً، إذ العبرة بمحتوى وحقيقة المعتقد وليس بالتسميات، وكل ما يصرف من أفعال التذلل والخضوع هو عبادة حقيقية بغض النظر على المسمى الذي يطلقه فاعلها عليها: فهي عبادة على الحقيقة : ولو سميت نداء، أو تكريماً، أو إحتراماً، أو توسلاً، أو وساطةً واستشفاعاً.
وكذلك من زعم أن لغير الله حق التشريع سواء سمى ذلك ألوهية، أو ربوبية، أوسماه ممارسة للسيادة والحرية، أو نسبه إلى سيادة الشعب، أو الدولة، أو أرجعه إلى الحق الإلهي للملوك، أو إلى (تفويض) من الله لـ«مجمع الكرادلة»، أو كذب على الله فسمَّاه «طاعة مشروعة لأولي الأمر»، من زعم أي شيء من ذلك ونسبه إلى غير الله فقد جعله سيداً ورباً من دون الله، وهو من ثم قد عبده من دون الله. إذ العبرة بمحتوى وحقيقة المعتقد، وليس بالتسميات! وكل ما يصرف إليه من أفعال الطاعة والإتباع والإلتزام بالأمر والنهي، هو عبادة حقيقة، بغض النظر عن المسمى الذي يطلقه فاعلها عليها: فهي عبادة على الحقيقة ولو سميت تكريماً، أو إحتراماً، أو احترام القانون، أو خضوعاً للنظام.
فـ«العبادة» هي اذآً: (معتقدات وأقوال والفاظ وأعمال ظاهرة وباطنة يراد بها: اظهار التذلل والخضوع والتعبير عن التعظيم والاحترام، أو التودد والتقرب وإظهار المحبة، أو طلب جلب المنافع ودفع المضار وإظهار الخشية والفقر والحاجة لمن يعتقد باستحقاقه الذاتي لذلك، أي لمن يعتقد بألوهيته، أو بتمتعه ببعض خصائص الألوهية، أي إستحقاق العبادة، أو ربوبيته الذاتية، والعبرة في ذلك كله بحقيقة المعتقد، وجوهر المحتوى التصوري، وليس بالتسميات والألفاظ).
فخطأ الإمامين أحمد بن تيمية، ومحمد بن عبد الوهاب، ومن قلدهما من أتباع الدعوة الوهابية، هو في عدم اعتبار الاعتقاد في تعريف العبادة، فظنوها مجرد أقوال وأفعال ظاهرة وباطنة، لا علاقة لها بمعتقد قائلها أو فاعلها. هذه زلة جسيمة، وخطأ قاتل، وليس هو ذلك فحسب: بل هو بدعة نكراء، لأنهم جعلوا ذلك التعريف المحدث المخترع، هو مقصود صاحب الشريعة، أي أنه هو النعريف المشروع.
وخطأ الخصوم ، خصوم الدعوة الوهابية، إنما هو إما في نظرهم إلى «النية»، وهي لا محل لها ها هنا في تعريف العبادة، وإنما محلها استحقاق الثواب والعقاب، وكذلك اعتدادهم بـ(التسميات والألفاظ)، مع أن الواجب هو اعتبار (حقيقة المعتقد، وجوهر المحتوى التصوري)، فقط لا غير.
فمثلاً، قد يعترض أحدهم قائلاً:
(1) إن المشركين جعلوا الأصنام آلهة، والمسلمون ما اعتقدوا إلا إلهاً واحداً، فعندهم أن الأنبياء أنبياء والأولياء أولياء، ليس إلا، فلم يتخذوهم آلهة مثل المشركين.
وجواب هذا هو: هذا اعتداد بـ(التسميات والألفاظ) فقط، من غير بحث في جوهر المعتقد. فتسمية الولي، مثلاً، ولي، لا تعني بالضرورة أن بعض المنتسبين إلى الإسلام لا يعتقد فيه اعتقاداً مكفراً، يجعله، متخذاً له في الحقيقة، «إلاها» من دون الله.
نعم: إذا كان الكلام عن المشركين فحمل أقوالهم وأفعالهم على الشرك والكفر، هكذا ابتداءً، وللوهلة الأولى، هو الأصل، حتي يقوم البرهان على خلاف ذلك. وهم عادة يصرحون بألفاظ العبادة والألوهية، ولكن ليس دوماً. فمثلاً: لا تكاد تجد علمانياً غربياً يسمي الشعب «رباً»، مع أنه أقر له بحق التشريع، فجعله من ثم، «إلاهاً»، و«رباً» من دون الله، وهو بهذا مشرك كافر، شركه شرك الكفر، المناقض للإسلام كل المناقضة، المخرج لمن كان قبل ذلك مسلماً من الملة.
والواجب كذلك حمل ما يظهر من المنتسبين للإسلام من أفعال قد يظن أنها «عبادة»، على أنها صدرت بدون اعتقاد الألوهية فيمن وجهت إليه، هكذا ابتداءً، وللوهلة الأولى، حتى يقوم البرهان على خلاف ذلك.
(2) أن المشركين اعتقدوا أن تلك الآلهة مستحقون للعبادة، بخلاف المسلمين، فإنهم لم يعتقدوا أن أحداً من المتوسل بهم مستحق لأقل عبادة، وليس عندهم المستحق للعبادة إلا الله وحده سبحانه وتعالى.
وجواب هذا هو: الإله هو المستحق للعبادة، فجملة: (المشركون اعتقدوا أن تلك الآلهة مستحقون للعبادة) تحصيل حاصل، لا جدوى منه، كقولك: (أن الآلهة آلهة)، أو (الماء هو الماء)، كلام صحيح، ولكنه عديم المحصول. فلا بد من ذكر جزئيات المعاني التي تجعل من اتصف بها إلاهاً من دون الله، ثم تكون الأفعال الموجهة إليه من ثم عبادة.
ولعل ها هنا ذلك الدور الخفي الخبيث: الإله هو المعبود، والعبادة هي كل ما يوجه إلى الإله.
(3) أن المشركين عبدوا تلك الآلهة بالفعل، كما قال تعـالى حكاية عنهم: }ما نعبدهم إلا ليقربونا{، والمسلمون ما عبدوا الأنبياء والصالحين في توسلهم بهم إلى الله تعالى.
وجواب هذا هو: هذا هو الدور الخفي مرة أخرى: فما ندري عن تلك الأفعال التي توجه بها بعض المنتسبين إلى الإسلام إلي الأنبياء والصالحين هل هي عبادة، أم لا؟! ومجرد تسميتها توسلاً لا يحل الإشكالية، فهذا اعتداد بـ(التسميات والألفاظ) فقط، وهو لا يجوز. فلا محيص لكم عن تعريف صحيح للعبادة، خال من الدور والتناقض. أما الحلقة المفرغة من جمل هي إما متناقضة، وإما تحصيل حاصل، فلا يجدي، ولا ينتج!
(4) أن المشركين قصدوا بعبادة أصنامهم التقريب إلى الله تعالى. أما المسلمون فلم يقصدوا بتوسلهم بالأنبياء وغيرهم التقريب إلى الله تعالى، لأن التقريب إلى الله تعالى لا يكون إلا بالعبادة، ولذلك قال الله تعالى حكاية عن المشركين: }ما نعبدهم إلا ليقربونا{، بل إن المسلمون قصدوا التبرك والاستشفاع بهم، والتبرك بالشيء غير التقريب به، كما لا يخفى.
وجواب هذا هو: هذا لا يصفوا إلا إذا عرفنا أن التوسل ليس عبادة، وهذا يتطلب أن نعرف العبادة تعريفاً صحيحاً، خالياً من الدور والتناقض. فلو اعتقد المتوسل أن المتوسل به، أو المستشفع به، يشفع بدون استئذان، أو له عند الله شفاعة لا ترد، أو يجير على الله، أو يفلت من قبضة الله، أو أنه يعجز الله هرباً، فقد جعله نداً مساوياً لله في هذا الاعتبار المعين، وقد اتخذه من ثم إلاهاً من دون الله، فهو بمجرد هذا الاعتقاد مشرك كافر، وتوسله عبادة لغير الله، فهي إذاً زيادة شرك وكفر.
وقد استشكل السيد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني، رحمه الله تعالى، وهو من معاصري ومؤيدي الدعوة الوهابية، بعد أن كان أول الأمر من خصومها، حكم الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، على من أسماهم بـ«القبوريين» بالوقوع في الشرك الأكبر، شرك الكفر، والخروج من الإسلام، فجزم بخلاف ذلك وصنفهم من أهل الإسلام الآثمين لوقوعهم في «الشرك الأصغر» فقط:
v كما جاء في «الغنية عن الكلام وأهله»، (ج: 1 ص: 56 وما بعدها): [والذي نحن بصدده هو أنه إذا خفي على بعض أهل العلم ما ذكرناه وقررناه في حكم المعتقدين للأموات لسبب من أسباب الخلفاء التي قدمنا ذكرها ولم يتعقل ما سقناه من الحجج البرهانية القرآنية والعقلية فينبغي أن نسأله ما هو الشرك فإن قال: (هو أن تتخذ مع الله إلها آخر كما كانت الجاهلية تتخذ الأصنام آلهة مع الله سبحانه)، قيل له: وماذا كانت الجاهلية تصنعه لهذه الأصنام التي اتخذوها حتى صاروا مشركين؟! فإن قال كانوا يعظمونها ويقربون لها ويستغيثون بها وينادونها عند الحاجات وينحرون لها النحائر ونحو ذلك من الأفعال الداخلة في مسمى العبادة فقل له لأي شيء كانوا يفعلون لها ذلك فإن قال لكونها الخالقة الرازقة أو المحيية أو المميتة فاقرأ عليه ما قدمنا لك من البراهين القرآنية المصرحة بأنهم مقرون بأن الله الخالق الرازق المحيي المميت وأنهم إنما عبدوها لتقربهم إلى الله زلفى وقالوا هم شفعاؤهم عند الله ولم يعبدوها لغير ذلك فإنه سيوافقك ولا محالة إن كان يعتقد أن كلام الله حق وبعد أن يوافقك أوضح له أن المعتقدين في القبور قد فعلوا هذه الأفعال أو بعضها على الصفة التي قررناها وكررناها في هذه الرسالة فإنه إن بقى فيه بقية من إنصاف وبارقة من علم وحصة من عقل فهو لا محالة يوافقك وتنجلي عنه الغمرة وتنقشع عن قلبه سحائب الغفلة ويعترف بأنه كان في حجاب عن معنى التوحيد الذي جاءت به السنة والكتاب]، انتهى بحروفه.
v واستمر في «الغنية عن الكلام وأهله»، (ج: 1 ص: 56 وما بعدها): [ومن جملة الشبه التي عرضت لبعض أهل العلم ما جزم به السيد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير، رحمه الله تعالى، في شرحه لأبياته التي يقول في أولها:
رجعت عن النظم الذي قلت في النجدي
فإنه قال إن كفر هؤلاء المعتقدين للأموات هو من الكفر العملي لا الكفر الجحودي ونقل ما ورد في كفر تارك الصلاة كما ورد في الأحاديث الصحيحة وكفر تارك الحج في قوله تعالى فإن الله غني العالمين، ..إلخ]، ثم عقَّب: [وتحقيقه أن الكفر كفر عمل وكفر جحود وعناد فكفر الجحود أن يكفر بما علم أن الرسول جاء به من عند الله جحودا وعنادا فهذا الكفر يضاد الإيمان من كل وجه وأما كفر العمل فهو نوعان نوع يضاد الإيمان ونوع لا يضاده ثم نقل عن ابن القيم كلاما في هذا المعنى. ثم قال السيد المذكور قلت ومن هذا يعني الكفر العملي من يدعو الأولياء ويهتف بهم عند الشدائد ويطوف بقبورهم ويقبل جدرانها وينذر لها بشيء من ماله فإنه كفر عملي لا اعتقادي فإنه مؤمن بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم وباليوم الآخر لكن زين له الشيطان أن هؤلاء عباد الله الصالحين ينفعون ويشفعون ويضرون فاعتقدوا ذلك كما اعتقد ذلك أهل الجاهلية في الأصنام لكن هؤلاء مثبتون التوحيد لله لا يجعلون الأولياء آلهة كما قاله الكفار إنكارا على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعاهم إلى كلمة التوحيد أجعل الآلهة إلها واحدا فهؤلاء جعلوا لله شركاء حقيقة فقالوا في التلبية لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك فأثبتوا للأصنام شركة مع رب الأنام وإن كانت عباراتهم الضالة قد أفادت أنه لا شريك له لأنه إذا كان يملكه وما ملك فليس شريك له تعالى بل مملوك فعبادة الأصنام الذين جعلوا لله أندادا واتخذوا من دونه شركاء وتارة يقولون شفعاء يقربونهم إلى الله زلفى بخلاف جهلة المسلمين الذين اعتقدوا في أوليائهم النفع والضر فإنهم مقرون لله بالوحدانية وإفراده بالالهة وصدقوا رسله فالذي أتو من تعظيم الأولياء كفر عمل لا اعتقاد فالواجب وعظهم وتعريفهم جهلهم وزجرهم ولو بالتعزير كما أمرنا بحد الزاني والشارب والسارق من أهل الكفر العملي إلى أن قال فهذه كلها قبائح محرمة من أعمال الجاهلية فهو من الكفر العملي وقد ثبت أن هذه الأمة تفعل أمورا من أمور الجاهلية هي من الكفر العملي كحديث أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركوهن الفخر في الأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي مالك الأشعري فهذه من الكفر العملي لا تخرج به الأمة عن الملة بل هم مع إتيانهم بهذه الخصلة الجاهلية أضافهم إلى نفسه فقال من أمتي.
فإن قلت: أهل الجاهلية تقول في أصنامها أنهم يقربونهم إلى زلفى كما يقول القبوريون هؤلاء شفعاؤنا عند الله كما يقوله القبوريون. قلت: لا سواء فإن القبوريون مثبتون للتوحيد لله قائلون أنه لا إله إلا هو ولو ضربت عنقه على أن يقول أن الولي إله لما أطاع الله كان له بطاعته عنده تعالى جاء به تقبل شفاعته ويرجى نفعه لا أنه إله مع الله بخلاف الوثني فإنه امتنع عن قول لا إله إلا الله حتى ضربت عنقه زاعما أن وثنه إله مع الله ويسميه ربا والها قال يوسف عليه السلام أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار سماهم أربابا لأنهم كانوا يسمونهم بذلك كما قال الخليل هذا ربي في الثلاث الآيات مستفهما لهم مبكتا متكلما على خطابهم حيث يسمون الكواكب أربابا وقالوا أجعل الآلهة إلها واحدا وقال قوم إبراهيم من فعل هذا بآلهتنا أانت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم وقال إبراهيم أأفكا آلهة دون الله يردون ومن هذا يعلم أن الكفار غير مقرين بتوحيد الإلهية والربوبية كما توهمه من توهم من قوله ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض خلقهن العزيز العليم قل من يرزقكم من السماء والأرض إلى قوله فسيقولون الله فهذا إقرار بتوحيد الخالقية والرازقية ونحوهما لا أنه إقرار بتوحيد الآلهة لأنهم يجعلون أوثانهم أربابا كما عرفت فهذا الكفر الجاهلي كفر اعتقاد ومن لازمه كفر العمل بخلاف من اعتقد في الأولياء النفع والضر مع توحيد الله والإيمان به وبرسوله وباليوم الآخر فإنه كفر عمل فهذا تحقيق بالغ وإيضاح لما هو الحق من غير إفراط ولا تفريط انتهى كلام السيد المذكور رحمه الله تعالى]
قلت: كلام السيد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير رحمه الله تعالى، جيد إلا أنه لم يوفق لإدراك المناط الحقيقي لاختلاف الحكم بين الحالتين، ألا وهو: اختلاف المعتقد، وتباين المحتوى التصوري تبايناً جوهرياً. فأهل الجاهلية اعتقدوا في آلهتهم أموراً معينة جعلتهم آلهة، وأرباباً من دون الله، والقليل من ذلك قد يكون متعلقاً بالخالقية والرازقية، ونحوها، والكثير بأمور أخرى مهمة وجوهرية غير ذلك، وقد أسلفنا تفصيلاً وافياً لأكثر ذلك. هذا هو المهم، وهو مربط الفرس، وليس تسميتهم لتلك المعبودات آلهة، أو أرباباً، أو الاعتراف لهم بشركة الله في مثل قولهم: (لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك)، وإن كانت هذه التسميات والألفاظ، في العادة وأغلب الأحوال، وليس بالضرورة، قرينة قوية على وجود تلك المعتقدات الكفرية.
أما معتقد المنسوبين إلى الإسلام فيمن ينادون من الأموات والأولياء فهو مختلف اختلافاً جوهرياً، أو هكذا ينبغي أن يفترض فيهم للوهلة الأولى. وما يجري على ألسنتهم من تسميات وألفاظ يرجح أن ما لديهم من معتقدات ليس بالضرورة معتقداً كفرياً، وإن كان يحتمل أن يكون كذلك في بعض الأحوال التي نرجو الله أن تكون نادرة.
فالعبرة هو بحقيقة المعتقد، وجوهر محتوى التصور، وليس بالأسماء والمسميات، ولا بمجرد الانتساب إلى الإسلام، أو التلفظ الصوري بالشهادتين.
كما أن السيد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير رحمه الله تعالى، أخطأ في تصنيف بعض الأعمال التي تصدر عن المنتسبين إلى الرسلام بأنها في جملتها كفر عملي، أو كفر أصغر، من غير نظر لمحتوى التصور والمعتقد، ومن غير نظر في الأحكام الشرعية. لأن بعض ذلك قد لا يكون كفراً عملياً أو اعتقادياً أصلاً، وإنما هي معاصي أو حتى مكروهات فقط، وبعضه، وهو الأقل، قد يكون كفراً مخرجاً من الملة.
والكفر الأصغر إنما هو فقط بتصنيف الشارع الإسلامي لا غير: فقد يطلق على أمور من الصغائر، كما سيأتي البرهان عليه في الأبواب المتعلقة بالشرك العملي، في حين أن بعض الكبائر الموبقة المهلة، التي تقارب الشرك الأكبر والكفر الناقل عن الملة في الإثم، كأكل مال اليتيم ظلماً، وشهادة الزور، واليمين الغموس، لم يسمها الشارع كفراً أو شركاً، وإن كان جعلها مقاربة للشرك في الإثم والشر!
v ثم حاول صاحب «الغنية عن الكلام وأهله»، (ج: 1 ص: 64 وما بعدها)، الرد على السيد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير، رحمه الله تعالى، فقال: [وأقول هذا الكلام في التحقيق ليس بتحقيق بالغ بل كلام متناقض متدافع وبيانه أنه لا شك أن الكفر ينقسم إلى كفر اعتقاد وكفر عمل ولكن دعوى أنه ما يفعله المعتقدون في الأموات من كفر العمل في غاية الفساد فإنه قد ذكر هذا البحث أن كفر من اعتقد في الأولياء كفر عمل وهذا عجيب كيف يقول كفر من يعتقد في الأولياء ويسمى ذك اعتقادا ثم يقول أنه من الكفر العملي وهل هذا إلا التناقض البحت والتدافع الخالص انظر كيف ذكر في أول البحث أن كل من يدعو الأولياء ويهتف بهم عند الشدائد ويطوف بقبورهم ويقبل جدرانها وينذر لها بشيء من ماله هو كفر عمل. فليت شعري ما هو الحامل له على الدعاء والاستغاثة وتقبيل الجدران ونذر النذورات هل هو مجرد اللعب والعبث من دون اعتقاد فهذا لا يفعله إلا مجنون أم الباعث عليه الاعتقاد في الميت فكيف لا يكون هذا من كفر الاعتقاد الذي لولاه لم يصدر فعل من تلك الأفعال ثم انظر كيف اعترف بعد أن حكم على هذا الكفر بأنه كفر عمل لا كفر اعتقاد بقوله لكن زين الشيطان أن هؤلاء عباد الله الصالحين ينفعون ويشفعون فاعتقد ذلك جهلا كما اعتقده أهل الجاهلية في الأصنام فتأمل كيف حكم بأن هذا كفر اعتقاد ككفر أهل الجاهلية واثبت الاعتقاد واعتذر عنهم بأنه اعتقاد جهل. وليت شعري أي فائدة لكونه اتقاد جهل فإن طوائف الكفر بأسرها وأهل الشرك قاطبة إنما حملهم على الكفر ودفع الحق والبقاء على الباطل الاعتقاد جهلا وهل يقول قائل إن بكلمة التوحيد فقط من دون نظر إلى ما ينافي ذلك من أفعال المتكلم بكلمة التوحيد ويخالفه من اعتقاده الذي صدر عنه تلك الأفعال المتعلقة بالأموات وهذا الاعتبار لا ينبغي التعويل عليه ولا الاشتغال به فالله سبحانه إنما ينظر إلى القلوب وما صدر من الأفعال عن اعتقاد لا إلى مجرد الألفاظ وإلا لما كان فرق بين المؤمن والمنافق]
قلت: هذا رد جيد، تمكن فيه من «لي» ذراع العلامة السيد محمد بن إسماعيل الأمير رحمه الله تعالى، فأوقعه في التناقض، وأن هؤلاد المنتسبين إلى الإسلام ما هتفوا بالأولياء إلا وعندهم، ضرورة، اعتقاد معين، كما يظهر بوضوح من قوله: (فليت شعري ما هو الحامل له على الدعاء والاستغاثة وتقبيل الجدران ونذر النذورات هل هو مجرد اللعب والعبث من دون اعتقاد فهذا لا يفعله إلا مجنون أم الباعث عليه الاعتقاد في الميت).
كما أنه أحسن في بيان أن الجهل، وإن كان ربما مسقطاً للمؤاخذة الأخروية، إلا أنه لا يغير حقائق الأشياء في ذاتها: فالمشرك مشرك، حتى لو فرضنا أنه معذور بالجهل، وعدم بلوغ الرسالة. والخرافة خرافة حتى لو ظنها إنسان، بشبهة عرضت له، حق مطابق لواقع.
إلا أن حجته لا بد أن تنقلب عليه ضرورة لأنه لم يدرك أن هناك معتقدات شركية مكفرة، وأخرى ليست كذلك وإن كانت ربما باطلة. فظن أن القضية مجرد اعتقاد ما، أي «اعتقاد»، يتعلق بمجرد حصول جلب نفع أو دفع ضر، ونحوه، وليس نوع الاعتقاد وموضوعه ومحتواه. وقد اسلفنا أن مجرد اعتقاد أن «كذا وكذا» يضر وينفع، لا علاقة له بالكفر والإسلام، والشرك والتوحيد، وإلا لكفر وأشرك كل من اعتقد أن حماره أو سيارته مفيدة نافعة!!
نعم: سيسارع القوم بالقول: ليس هذا، بداهة، التفع والضر الذي نعني! فنقول لهم: أحسنتم، وأجدتم، وأنصفتم فبينوا لنا الفرق الصحيح المنضبط بين اعتقاد النفع في «السيارة»، و«الحمار»، «وحزمة الحطب»، واعتقاد النفع في «اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى»؟!
واستمر صاحب «الغنية عن الكلام وأهله» في مناقشة السيد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني، رحمه الله تعالى، ذاكراً نقولاً عن الإمام ابن القيم تفيد أنه يحكم على من أسماهم بـ«القبوريين» بالشرك الأكبر، خلافاً لما قد يكون الإمام الصنعاني قد ظنه من قول ابن القيم. وكل ذلك بحمد الله لا يعنينا: فسواء قال ابن القيم بذلك، أو كان فهم الإمام الصنعاني هو الصحيح لنصوص ابن القيم، فمنذ متى أصبحت أقوال الإمام ابن القيم نصوصاً شرعية؟! فالحق المبين هو، بمنة الله وفضله، ما أقمنا عليه قواطع الأدلة فيما سلف بالحجج البرهانية، مع ابطال أقول المخالفين وتفنيدها قولاً، قولاً.
وقد حاول الإمام محمد بن علي الشوكاني مزيد تحرير للمسألة، وتجاوز الإشكالية، عندما قال في رسالة «وجوب توحيد الله»: [إن من يدعوا الأموات، ويهتف بهم عند الشدائد، ويطوف بقبورهم، ويطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله (سبحانه)، لا يصدر ذلك منه إلا عن اعتقاد كاعتقاد أهل الجاهلية في أصنامهم، هذا إن أراد من الميت، الذي يعتقده، ما كان تطلبه الجاهلية من أصنامها من تقربهم إلى الله، فلا فرق بين الأمرين. وإن أراد استقلال من يدعوه من الأموات بأن يطلبه ما لا يقدر عليه إلا الله (عز وجل)، فهذا أمر لم تبلغ إليه الجاهلية، ...]
فها هنا حاول الإمام الشوكاني، وهو فقيه كبير ومجتهد مطلق، حسم المسألة بإضافة «ضابط» جديد يتعلق بالاعتقاد، وليس بمجرد الأفعال والأقوال من حيث هي أفعال وأقوال مجردة، بقوله: (يطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله)، موجهاً، حسب ظنه واعتقاده، الضربة القاضية إلى «القبوريين»، حاكماً عليهم من ثم بالشرك الأكبر، شرك الكفر، مخرجاً لهم بذلك من الملة، منهياً للإشكاليات التي أوردها السيد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني، رحمه الله تعالى.
ولكن هذا كذلك باطل، وهو لا يجدي، لأن هذا الضابط المزعوم ليس صحيحاً، لأنه جاء غير محرر لا يعرف المقصود منه: هل يعني الإمام الشوكاني (ما لا يقدر عليه إلا الله) كما هو في نفس الأمر وحقيقته، بموجب الأدلة العقلية والشرعية القاطعة، أو حسب معتقد «القبوري» السائل؟!
أما الأول فلا قيمة له لأننا نعلم يقيناً، بالبراهين العقلية، والتاريخية، والشرعية المقطوع بها أن «اللات» ما هو إلا اسم لكائن مؤنث خرافي، لا وجود لها في الحقيقة، ومع ذلك فمن اعتقد بوجودها، وكونها من بنات الله فهو مشرك كافر، فضلاً عن كونه مخطيء مخرِّف.
إذاً المعتبر هو معتقد السائل، أي هذا الشخص محل البحث، الذي قال عنه الشوكاني أنه: (يدعوا الأموات، ويهتف بهم عند الشدائد، ويطوف بقبورهم، ويطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله)، أي محتوى المعتقد، وجوهر التصور الذهني، الباعث على تلك الأفعال والأقوال، وليس مجرد وجود أي معتقد، كما أشبعناه بحثاً وبرهنة فيما سلف. وحينئذ نستطيع أن نحكم على هذا الاعتقاد بأنه: (كاعتقاد أهل الجاهلية في أصنامهم)، أو حتى أبشع وأسوأ، كما زعم الإمام الشوكاني.
وبالضرورة نعلم أن هذا السائل عنده قطعاً «اعتقاد» و«تصور» معين، فهو لا يتوجه بمسألته إلا إلى من يعتقد أنه يسمعه، أو يبلغه نداؤه، وأنه قادر على إجابة السؤال، وتحقيق المطلوب، وإلا كان، ضرورة، مجنوناً، مختل العقل، لا يستحق خطاب التكليف!
والبحث إنما يكون في «ماهية» أو «محتوى» معتقد هذا السائل الداعي، فإذا اعتقد في من يدعوه معتقداً شركياً، مناقضا لقطعيات الإسلام، كان دعاؤه دعاء عبادة، وكان شركاً، وكفراً، ينقل عن الملة، وإلا فلا.
فمثلاً إذا دعى داع بما تعتقد أنت أنه أمر «لا يقدر عليه إلا الله» فلا بد من سؤاله عن ذلك، ولن يخرج جوابه عن واحدة مما يلي:
(1) أن هذا الأمر حقاً «لا يقدر عليه إلا الله»، فليزمه حينئذ أن يقول أن المدعو هو الله، أو أن الله اتحد به، أو حل فيه، أو أنه «بعض» الله، أو أنه صورة خيالية لا حقيقة لها وإنما خلقها الله في إدراك الناظرين، أو نحو ذلك من الأقوال التي قيل مثلها في المسيح عيسى بن مريم، صلوات الله عليه وعلى والدته. وكل هذا شرك وكفر اعتقادي من حيث هو معتقد، فهذا الداعي قد اتخذ المدعو إلاهاً، لأن المدعو هو بزعمه «عين» الله، أو «بعض» الله، أو تجسد الله، أو صورة الله، أو من حل فيه الله، أو ما شاكل، والدعاد حينذذ ضرورة دعاء عبادة، وهو بدعائه هذا عابد لهذا المدعو. هذه المقولة، وهي مقولة كفرية بذاتها، نادرة جداً، والقائلون بها يصرحون بها ابتداءً (كالنصارى المثلثين) فلا يحتاج الأمر معهم عادة إلى كبير جدال.
(2) أن يقول أن هذا الأمر المطلوب مقدور لغير الله، وهذا متصور في أحوال منها:
(أ) أن المدعو له قدرة تضاهي أو تقارب قدرة الله، ولو فقط في هذا الأمر المخصوص أو تلك الجزئية المعينة. فهذا الداعي بهذا المعتقد قد جعل المدعو نداً لله، ومساوياً له، أو في نفس مرتبته، ولو في جزئية واحدة أو أمر واحد. فهذا شرك وكفر اعتقادي من حيث هو معتقد، فهذا الداعي قد اتخذ المدعو إلاهاً من دون الله، والدعاد حينذذ ضرورة دعاء عبادة، وهو بدعائه هذا عابد للمدعو من دون الله.
ونسارع فنقول أن هذه مقولة كفرية بذاتها، ولا مخرج منها بالقول أن تلك «القدرة» المساوية أو المضاهية أو المقاربة لقدرة الله، مخلوقة لله، فذلك مناقض لنصوص الشرع القطعية الصريحة، وهو قبل ذلك في ذاته محال عقلاً لأنه يترتب عليه ضرورة أن الله جل وعلا، ليس هو الحق، الأول، القيوم، الغني بذاته، واجب الوجود القديم، وهو كذلك في نفس الوقت، فيكون التناقض، وينهدم العقل، وتبطل الشرائع، عياذاً بالله: هذا كفر صريح، وهو شرك صريح أيضاً لأن كل شيء يجوز أن يكون إلاهاً في نفس الوقت، في مسلسل لا ينتهي من التناقضات والمحالات.
(ب) أن المدعو له قدرة على ذلك الأمر، فلا يرد عليه قولنا: هذا أمر «لا يقدر عليه إلا الله»، وهي لا تضاهي قدرة الله، ولكنها ذاتية فيه ليست من خلق الله ولا تقديره، فهو إذاً مستقل في الفعل عن الله، لا يحتاج إلى إذن الله ومشيئته، كمعتقد قريش قديماً، وأكثر الأفارقة الوثنيين الآن في الجن لأنهم من عنصر إلاهي، وإن كانوا من «قبيلة» غير «قبيلة» الله، تعالى وتقدس، وفي الملائكة، وهؤلاء من نفس القبيلة، ولعله أبناء الله وبناته، جل جلاله وسمى مقامه فوق هذه الأقاويل الخبيثة والظنون الشنيعة.
فهذا أيضاً شرك وكفر اعتقادي من حيث هو معتقد، فهذا الداعي قد اتخذ المدعو إلاهاً من دون الله، والدعاد حينذذ ضرورة دعاء عبادة، وهو بدعائه هذا عابد للمدعو من دون الله، وهو من ثم ضرورة مشرك الشرك الأكبر، شرك الكفر.
(ج) أن المدعو له قدرة على ذلك الأمر، فلا يرد عليه قولنا: هذا أمر «لا يقدر عليه إلا الله»، وهي لا تضاهي قدرة الله، ولكنها ليست ذاتية فيه بل هو مخلوق لله، وقدرته تلك من خلق الله وتقديره، ولا يستطيع استخدامها إلا بإذن الله ومشيئته، فهو إذاً ليس مستقلاً في الفعل عن الله، وإنما يفعل بإقدار الله له، وبإذن الله ومشيئته.
فغاية هذا أن يكون:
(1) مخطئاً في نسبة تلك القدرة إلى المدعو، وهي في حقيقة الأمر ليست كذلك. هذا قد يكون خطأً أو تخريفاً، ولكنه ليس بالضرورة شركاً. نعم: (كل شرك هو خرافة وباطل، وليس كل خرافة وباطل شركاً). فإذا افهم هذا وعلم، وبين له أنه على خرافة وخطأ، فإما أن يرتدع ويتوقف عن ذلك الدعاء، أو يلحق ضرورة بأحد الأنواع السابقة أو الاحقة.
(2) أو مخطئاً في التعبير، كمن يقول: (يا سيدي رسول الله اغفرلي)، أو (يا سيدي عبد القادر ارحمني)، وهو إنما يقصد: (يا سيدي رسول الله: ادع لي بالمغفرة، أو استغفر لي)، (يا سيدي عبدالقادر ادع لي بالرحمة).
وقد يقول قائل سريعاً: كيف ينادى الغائب أو الميت؟! أليس هذا معتقد شركي بذاته؟! فنقول: طبعاً لا. والحي الحاضر إنما يسمع بما خلقه الله فيه من أدوات وقدرات على السمع، وبإذن الله ومشيئته، لا بقدرته الذاتية، ولا على وجه الاستقلال. وسماع الميت والبعيد بإقدار الله له ليس على الله بعزيز، إلا أنه خلاف العادة، ويحتاج إلى برهان من الحس والعقل (الهاتف والاسلكي مثلاً) أو من الشرع، فالقول به من غير برهان على وجوده باطل وتخريف، وليس شركاً: (كل شرك هو خرافة وباطل، وليس كل خرافة وباطل شركاً).
وبعض الناس يعتقد أن النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بوفاته، وتحرر روحه من الجسد، قد انتقل إلى حالة أكمل وأقوى، فأصبح يسمع من بعيد، ويتصرف بما لم يكن مقتدراً عليه حال الحياة. كل ذلك بتمكين الله له، وبما أعطاه من قوى خاصة، ومكانة متميزة، وهو بذلك لم يجاوز مراتب المخلوقين، فما زال عبداً مخلوقاً مربوباً، لا يملك لنفسه ضراً، ولا نفعاً، إلا أن يشاء الله. فهذا ونحوه، على هذه الصورة من التعميم المفرط، معتقد باطل، وكذب بذاته، غير مطابق للواقع، وإن كان لا يخرج من الملة، وليس فيه انتقاص من قدرة الله، أو تفرده بالخلق، والتصرف، والتدبير. فالدعاء يكون في مثل هذه دعاء مسألة، وليس دعاء عبادة، وقد يكون محرماً لأنه جاء على صورة غير شرعية خلافاً للأحكام الشرعية.
ولعل المناقشة الفائتة، على اختصارها، تبين أن جملة: (الدعاء لا يكون دعاء عبادة إلا إذا سأل السائل من غير الله «ما لا يقدر عليه إلا الله»)، تحتاج إلي شرح وبيان، وتقسيم وتفريع، وإلا وقعت قليلة الجدوى، ضئيلة المحصول، وهذا لا يجوز التساهل فيه في قضايا الإسلام والكفر، والتوحيد والشرك: هذه قضايا (حياة أو موت). فهي إذاً ليست «ضابط» كما زعم مقلدة الإمام محمد بن عبد الوهاب، بل هي بأمس الحاجة إلى ضوابط وشروح تجعل لها معنىً مفيداً، فتعساً لهذا «الضابط»، الذي لا ينضبط!
أما قول الإمام الشوكاني: (وإن أراد استقلال من يدعوه من الأموات بأن يطلبه ما لا يقدر عليه إلا الله (عز وجل)، فهذا أمر لم تبلغ إليه الجاهلية)، فهو قول مرسل، جاء خلاف البرهان القاطع أن مشركي الجاهلية كانوا يعتقدون الألوهية في أصنامهم، وهذا يتضمن أنواعاً مختلفة من المعتقدات التفصيلية، يقتضي أكثرها اعتقاد الاستقلالية في الآلهة، ولو في جزئية واحدة معينة، أو اعتبار واحد معين. والظاهر أن الإمام الشوكاني أخذ خرافة «اللات»، الذي كان يلت السويق للحجاج، محمل الجد، واعتمد مزاعم الشيخ محمد بن عبد الوهاب أنهم كانوا (يعتقدون في الأموات، والصالحين) قضية مسلمة، وكل ذلك باطل بالبراهين القينية القاطعة، آنفة الذكر.
فما أسماه الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب إذاً «شرك القبور»، هو من حيث المبدأ، في ذاته «خرافة» لا وجود لها، ومن حيث ربط أحكام الكفر والإسلام به «بدعة» نكراء، وضلالة عمياء.
ومن ناحية أخرى «نداء» الأولياء والصالحين قد يكون شركاً أكبر، فيكون «النداء» حينئذ نوعاً من أنواع «العبادة»، كما قال الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، وقد يكون شركاً أصغر، كما قال السيد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير، رحمه الله تعالى، وقد لا يكون لا هذا ولا هذا. وكل ذلك بحسب محتوى المعتقد، وليس بمجرد وجود أي «معتقد»، وحسب ما تمليه النصوص الشرعية، وليس بالأقيسة المنتنة، والمزاعم الشاطحة، أو التعميمات المكذوبة المجردة.
ومفهوم «العبادة»، هذا الذي أسلفنا تحريره، في عرف العرب مفهوم ضيق، كما أسلفنا، فلم يكن العرب يدركون أن التشريع من خصائص الألوهية، ولا يتصورون أن الطاعة من ألوان العبادة، يستوى في ذلك مشركهم، وأهل الكتاب منهم، كما هو ظاهر من حديث عدي بن حاتم الوارد في تفسير قوله تعالى: }اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله{ فقال: ما عبدناهم، فبين له النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن طاعتهم في تحريم الحلال وتحليل الحرام ـ أي في التشريع، وليس مجرد العمل ــ عبادة لهم.
كما كان ربط العرب للعبادة بالولاء والبراء والمحبة ضعيفا أو معدومًا كماهو ظاهر من سلوك أغلب المشركين مع قراباتهم من المؤمنين. غير أن الاسلام جاء بتعميق هذا المفهوم وتوسعته فأدخل فيه مفهوم الاتباع والطاعة، وكذلك الولاء والبراء، وقصر جميع أنواع العبادة على الله، سبحانه وتعالى، كما منع أعمالاً والفاظاً أن تصرف لغير الله، ولو بدون اعتقاد الألوهية، وسمى ذلك شركًا (أي: شركاً عملياً، لا يخرج من الملة الإسلامية، كما سيأتي، إن شاء الله)، وذلك لمناسبة ظاهر الفعل لفعل أهل الشرك، كما سيأتي بيان ذلك وتفصيله فيما بعد.
فـ«توحيد العبادة والتقديس»، هو إذن: إفراد الله وحده لا شريك له بالتعظيم الكامل، والمحبة الخالصة، مع غاية الذل والخضوع التام والتسليم الكامل، مع الإقرار بالفقر والحاجة إليه المبني على اعتقاد استحقاقه لذلك بذاته لما له من خصائص الألوهية وصفات الجمال والكمال والجلال.
أي هو: توحيد الله بأفعال العباد التعبدية. ومعناه صرف جميع أنواع الأفعال والشعائر التعبدية (من ذبح ـ ونذر ـ وركوع ـ وسجود ـ وقيام ـ وقعود ـ وسعي ـ وسكون ـ ودعاء ـ وتوكل ـ وخوف ـ ورجاء ـ وإنابة ـ ورغبة ـ ورهبة ـ وخشية وغير ذلك من أنواع الشعائر) لله وحده لا شريك له.
أو بلفظ آخر: توحيد الله بأفعال العباد المبنية على الإعتقادات التى تشملها، في المقام الأول، الأنواع الثلاثة الأولى من توحيد العلم والإعتقاد، ألا وهى: «توحيد الذات»، و«توحيد الخلق والتكوين»، و«توحيد التصرف والتدبير».
وهذا هو أحد أركان معنى: أشهد أن لا اله إلا الله.
والآيات في ذلك كثيرة، بل أكثر القرآن إنما يدور على هذا:
قال تعالى: }واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا{، (النساء؛ 4:36).
وقال تعالى: }وقضي ربك ألا تعبدوا إلا إياه .. {، (الاسراء؛ 17:23).
وقال تعالى: }وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون{، (الذاريات؛ 51:56).
ويتناقض مع هذا أنواع من الشرك الإعتقادي المخرج من الملة من أهمها:
(أ)ــ صرف ذلك، أو بعضه لغير الله، على وجه التعبد، أي مبنياً على إعتقاد إستحقاق ذلك الغير لذلك، لما له من خصائص الألوهية وصفات الكمال الذاتية أو لما له من قرابة ونسب إلهي، أو لتحوله إلى إله أو نصف إله باتحاده مع الإله، أو حلول الإله فيه، أو غير ذلك من المسوغات.
(ب) ـ صرف ذلك أو بعضه، وبالأخص: الاستعاذة والاستغاثة والاستعانة وطلب جلب النفع ودفع الضر، والذبح والنسك والنذور، لغير الله، لاعتقاد فاعل ذلك أن الله لا يعلم أحوال العباد وحوادث الكون على وجه التفصيل كما هو قول كثير من الفلاسفة الذين يزعمون أن علم الله يقتصر على الكليات، وأن الله لا يعلم الجزئيات ــ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ــ فترتب على ذلك أنه لا يقصد في طلب نفع، أو دفع ضر، أو دعاء مسألة، وهذا هو كذلك قول بعض الصابئة المشركين، عبدة النجوم والأفلاك، أو العقول والأرواح الفلكية. وشر من ذلك قول أرسطو أن الله لا يعلم سوى نفسه ولا يعقل سوى ذاته. وهذه المقولات، بذاتها، كفر ينقل عن الملة حتى لو لم يترتب عليها شرك العبادة هذا.
(ج) ـ صرف ذلك أو بعضه لغير الله، لاعتقاد أن الله وإن كان قد أحاط بأحوال العباد وجزئيات الحوادث علماً إلا أنه بعيد مترفع متعالي، لا عناية له بهم، ولا يستمع لدعائهم، ولا يبالي بمطالبهم، فاحتاج العباد أن يتوجهوا إلى غيره لقضاء حاجاتهم والاستجابة لمسألتهم من هذا الغير مباشرة، أو للحصول على وساطة وشفاعة ذلك الغير عند الله لقضائها.
وهذه المقولات، بذاتها، كذلك كفر ينقل عن الملة حتى لو لم يترتب عليهاهذا النوع من الأعمال الشركية، لما فيها، عقلاً، من نسبة النقص إلى الله سبحانه وتعالى، حيث دلت ضرورة العقل (والشرع) على أن العناية والإحسان والإنعام والرحمة صفات كمال في المخلوقين، فالله سبحانه وتعالى أولى بها: }وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه، وله المثل الاعلى في السماوات والارض، وهو العزيز الحكيم{ (الروم؛ 30:27).
وهي كذلك، بذاتها، كفر ينقل عن الملة حتى لو لم يترتب عليهاهذا النوع من الأعمال الشركية، شرعا، لما فيها كذلك من تكذيب خبر الله عن نفسه في الكتب المنزلة.
(د) ــ صرف ذلك أو بعضه لغير الله، لاعتقاد أن الله وإن كان قد أحاط بأحوال العباد وجزئيات الحوادث علماً، وبالرغم من كمال عنايته ورحمته بمخلوقاته إلا أنه أذن بالتقرب إلىه بالوسائط كحال ملوك البشر الذين لايصل إليهم الناس إلا بواسطة الوزراء والمعاونين، لحاجته، تعالى عن ذلك، لهم، ،كنوع من إظهار العظمة والسلطان، أو لإنفاذ أمره وإكمال تصرفه.
وهذه المقولات، بذاتها، كذلك كفر ينقل عن الملة من عدة أوجه:
الوجه الأول: لما فيها من تشبيه الله بخلقه ونسبة النقص والاحتياج إلى المعاونين والوزراء إليه، حتى لو لم يترتب عليها هذا النوع من الأفعال الشركية، حيث علم من الدين بالضرورة أن الله سبحانه وتعالى موصوف بكمال العلم والعناية والقدرة وأنه جل وعلا غني عن الوسائط كما أنه موصوف بالعظمة والجلال الذاتي فلا يحتاج البتة إلى غيره لإظهار عظمته وسلطانه وعلو شأنه أو لإنفاذ أمره، وهو قريب من عباده، أقرب إليهم من حبل الوريد، يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، وهو يحب أن يدعى وقد أمر أن يدعى ويرجى ويطلب كافة المطالب، فهو الظاهر الذي ليس فوقه شىء وهو الباطن الذي ليس دونه شىء.
الوجه الثاني: لما فيها من تكذيب لخبر الله المتيقن، المقطوع به ثبوتاً ودلالة، في وحيه إلى أنبيائه بخلاف ذلك.
(هـ) ــ صرف ذلك أو بعضه لغير الله، لإعتقاد مكانته الخاصة عند الله، الممكنة له من:
(أ) التوسط والشفاعة، وساطةً وشفاعةً واجب على الله قبولها، نافذة لا ترد،
(ب) أو الشفاعة بغير إذن،
(ج) أو التدخل في أقدار الناس بما يترائى للشفيع من النفع والضر، على وجه الاستقلال.
كما يضاده أنواع من الشرك العملي، أي الشرك الأصغر، الذي لا يخرج من الملة الإسلامية، سيأتي بيانها في أبواب خاصة بذلك.


تعريف «عبادة الله» شرعًا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق