v ومن الأدلة على نسخ جميع الشرائع السابقة، والبطلان المطلق لمقولة: (شرع من قبلنا شرع لنا) قوله، جل جلاله، وتقدَّست أسماؤه: }ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ{، (الجاثـية؛ 45:18)، فهو، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، على شريعة خاصة مستقلة، تختلف عن الشرائع السابقة، أوحيت إليه من أول أمره في مكة، لأن سورة الجاثـية مكية إجماعاً، لذلك ما سأل أهل الكتاب عن شئ من الهدى أو الأحكام قط، بل نهى عن ذلك أشد النهي، كما سيأتي قريباً. ولعل بعض الناس، وبخاصة اليهود، تسخطوا من ذلك، فأعلمهم الله، بعد ذلك في المدينة، أن سنته المطردة الثابتة هي: جعل كل أمة على شريعة، وكل شريعة هي، في وقت شرعها وللقوم الذين شرعت لهم، شريعة الله، والعمل بها طاعة لله، فالمهم هو المسارعة إلى الأعمال الصالحة، والمسابقة إلى الخيرات، فإذا نسخت كانت الشريعة الجديدة هي شريعة الله، تجب طاعتها، ولا تحل مخالفتها، كما نبَّه جل جلاله، وسما مقامه، إذ قال: }وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ{، (المائدة:48)، وسورة المائدة من أواخر ما نزل في المدينة إجماعاً.
v ومن الأدلة على نسخ جميع الشرائع السابقة، والبطلان المطلق للمقولة الكاذبة الباطلة: (شرع من قبلنا شرع لنا)، قوله عليه وعلى آله الصلاة والسلام: «لو أصبح موسى فيكم حيا اليوم فاتبعتموه وتركتموني لضللتم»، كما سنشبعه نقاشاً في الفصل المقبل. وموسى نبي ورسول معصوم، لا يحل له مخالفة أمر الله. فمن المحال الممتنع أن لا يسعه إلا متابعة محمد، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بمعصية الله الذي أوحى إليه بشريعة معلومة مستقلة، فوجب ضرورة أن تكون شريعته منسوخة عن آخرها، بحيث لو بعث حياً لم يجز له إلا اتباع محمد، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وإلا كان عاصياً آثماً، حاشاه. فهذا كذلك برهان رابع على كون الشرائع السابقة منسوخة كلها، وعلى كوننا غير مخاطبين بها أصلاً، وأن (شرع من قبلنا شرع لنا) مقولة باطلة لا يحل التفوه بها.
v ومن القرائن القوية على نسخ جميع الشرائع السابقة، والبطلان المطلق للمقولة الكاذبة؛ (شرع من قبلنا شرع لنا)، إمامته، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، للأنبياء يوم أسريَ به إلى بيت الله المقدس، حيث بعث له الأنبياء السابقين، فتدافعوا من يتقدم، ثم قدموه أو قدمه جبريل أمامهم، فأمهم في الصلاة. يترتب على ذلك ضرورة أنه صلواتهم قد نسخت، لأنهم صلوا بصلاته، والصلاة عمود الدين، فغيرها نسخ من باب أولى. فهذا برهان خامس على كون الشرائع السابقة منسوخة كلها، وعلى كوننا غير مخاطبين بها أصلاً، وأن (شرع من قبلنا شرع لنا) مقولة باطلة لا يحل التفوه بها.
ــ وقد ثبتت قصة إمامته، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، للأنبياء بما جاء في «صحيح مسلم» حيث قال الإمام مسلم: [وحدثني زهير بن حرب حدثنا حجين بن المثنى حدثنا عبد العزيز وهو بن أبي سلمة عن عبد الله بن الفضل عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها فكربت كربة ما كربت مثله قط»، قال: «فرفعه الله لي أنظر إليه ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به، وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء فإذا موسى قائم يصلي فإذا رجل ضرب جعد كأنه من رجال شنوءة، وإذا عيسى بن مريم عليه السلام قائم يصلي أقرب الناس به شبها عروة بن مسعود الثقفي، وإذا إبراهيم عليه السلام قائم يصلي أشبه الناس به صاحبكم يعني نفسه، فحانت الصلاة فأممتهم، فلما فرغت من الصلاة قال قائل: (يا محمد هذا مالك صاحب النار فسلم عليه!)، فالتفت إليه فبدأني بالسلام]،
ــ وهو في «السنن الكبرى» للإمام النسائي: [أخبرنا محمد بن رافع قال حدثنا حجين بن المثنى قال حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة بعينه إلى منتهاه سنداً ومتناً]
ــ وفي «مسند الشاميين» من حديث طويل: [حدثنا مطلب بن شعيب حدثنا عبد الله بن صالح (ح) وحدثنا أحمد بن خليد الحلبي حدثنا يحيى بن صالح الوحاظي قالا: حدثنا سعيد بن عبد العزيز التنوخي حدثنا يزيد بن أبي مالك عن أنس بن مالك أن النبي، صلى الله عليه وسلم قال: «أتيت بدابة فوق الحمار ودون البغل خطوتها عند منتهى طرفها فركبت ومعي جبريل عليه السلام فسارت بي، ...»] إلى أن قال: [«ثم دخلت بيت المقدس فجمع لي الأنبياء فصليت بهم، ثم صعد بي إلى السماء الدنيا، ...الحديث»]
ــ وفي «فتح الباري شرح صحيح البخاري» ذكر لرواية أخرى: [وفي حديث أبي امامة عند الطبراني في الأوسط ثم اقيمت الصلاة فتدافعوا حتى قدموا محمداً]
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق