التوحيد: تعريفه، وبراهينه

بــــــــاب
التوحيد: تعريفه، وبراهينه

u فصل: تعريف لفظة «التوحيد»
التوحيد مصدر من وحَّد ــ بتشديد الحاء المهملة ــ وهو يعني واحدًا من أمرين:
أولا: جَمَعَ الأشياء المتفرقة وجعلها وحدة، فنقول أن الزعيم الفلاني جاء إلى قبائل وكيانات متنافرة فوحدها في كيان واحد توحيدا.
ثانيا:إدراك الشيء الواحد أو الوحدة أو الوحدانية والإقرار بذلك فيقال: وحَّدت الله توحيدًا، أي أدركت أنه واحد، وأقررت بذلك، وهذا المعنى هو المقصود هنا.
u فصل: الأدلة على مشروعية لفظة «التوحيد»
v قال الله تعالى: }وإذا ذكرتَ ربُك في القرءان وحده، ولَّوا على أدبارهم نفورًا{، (الاسراء؛ 17:46).
v وقال تعالى: }وإذا ُذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لايؤمنون بالأخرة، وإذا ذكرالذين من دونه ، إذا هم يستبشرون{، (الزمر؛ 39:45).
v وقال تعالى: }ذلكم بأنه إذا دُعى الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا، فالحكم لله العلي الكبير{، (غافر؛ 40:40).
v عن ابن عباس ــ رضى الله عنهما ــ أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما بعث معاذًا إلى اليمن قال له: «إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله تعالى»، حديث صحيح، أخرجه البخاري واللفظ له، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وأبو داود، وابن ماجه، وأحمد، وغيرهم..
v عن طارق بن أشيم ــ رضى الله عنهما ــ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: «من وحّد الله، وكفر بما يعبد من دونه، حرُمَ ماله ودمه، وحسابه على الله عز وجل»، حديث صحيح، أخرجه مسلم، واحمد.
v عن ابن عمر ــ رضى الله عنهما ــ عن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «بُنى الإسلام على خمس: على أن يُوحَّد الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان»، حديث صحيح، أخرجه مسلم.
v وفي الحديث الطويل الصحيح عن جابر بن عبد الله رضى الله عنهما في سياق حجة الوداع: «فأهَلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد». أخرجه مسلم، وأبو داود، وابن ماجه، وأحمد، وعبد بن حميد، وغيرهم.
وفي هذه النصوص دليل قاطع على أن لفظ (التوحيد) لفظ شرعي، وأنه مكافيء للشهادتين فلا فرق بين قوله: «يوحد الله»، وقوله: «شهادة أن لا اله إلا الله، وأن محمداً رسول الله».
u فصل: براهين «لا اله إلا الله»
كتابنا هذا هو في الأصل لأهل الإسلام، وهم الذين صدقوا تصديقاً جازما، وآمنوا إيماناً خالصاً أنه: «لا اله إلا الله، وأن محمداً رسول الله». وكل واحد من هؤلاء قامت عنده البراهين اليقينية على صحة معتقده هذا، ولا نظن أحداً يكون في العالم يعتقد شيئاً اعتقاداً جازما إلا بدليل اقتنع هو به، حتى ولو كان في نفس الأمر باطلاً. لذلك لا نطيل في مناقشة البراهين على وجود الله، سبحانه وتعالى، ووحدانيته، وعلى صدق نبوة محمد بن عبد الله، عليه وعلى اله صلوات وتسليمات وتبريكات من الله، ونحيل في كل ذلك على كتابنا: «طريق الإيمان»، وهو ما زال تحت الإعداد، ونقتصر ها هنا على مناقشة مختصرة محدودة.
البرهان اليقيني القاطع على صحة «لا اله إلا الله»: أن الإنسان من لحظة وعيه على نفسه، ووعيه على العلم المحيط به، يدرك ضرورة، وعلى الفور للوهلة الأولى، أن له بداية، لم يكن موجوداً قبلها، وكذلك والديه، ووالدَي والديه. وهذا ينطبق على كل الأشياء المحيطة به، وجدت بعد أن لم تكن موجودة، مها طال زمن وجودها وبقائها. ويشاهد موت الأقارب والأحبة، ويعالج مشكلة الموت والبلى والفناء، لا يستطيع منها هروباً.
ثم يرتقي الإنسان في مدارج الفكر والتجريد فيدرك أن كل ما يمكن تعقله من الموجودات هو بالضرورة إما محتاج لغيره في وجوده، أي أن وجوده ليس من ذاته، ولا هو مكتفي بنفسه، قائم بذاته، مستقل عن غيره، وهذا يستحيل أن ينشأ من العدم من غير سبب أو علة كافية، فلا بد له إذاً من موجد. هذا النوع من الموجودات يسمَّى: «ممكن الوجود»، أو، بلفظ مختصر، «الممكن» لأنه ليس مستحيلاً، وإلا لم يوجد أصلاً، وكان مجرد تقدير ذهني لا غير.
والصنف الآخر: هو ما كان قائماً بذاته، مستقلاً بها عن غيرها، لا يحتاج في وجوده إلى غيره مطلقاً، ولا بأي صورة من الصور، أو بأي اعتبار من الاعتبارات، وهذا هو «واجب الوجود»، أو «القيُّوم»، لأن وجوده وجب له من نفسه بنفسه، لا من غيره. ولا يوجد غير هاذان الصنفان مطلقاً.
أما «مستحيل الوجود» فهو تقدير وفرض ذهني، لا غير، وليس هو من الموجودات أصلاً، ولا هو كائن أصلاً، فهو من «أشياء» الذهن وفرضياته، لا من أشياء الواقع.
فإذا تقرر هذا علمنا ضرورة أن بين الأشياء الموجودة حقيقة، أي خارج الذهن، لابد أن يكون بينها «واجب وجود» واحد على الأقل، لأن الممكن يحتاج إلى غيره لكي يوجد، ولا بد، وإلا لم يظهر في الوجود أصلاً. فكل ممكن الوجود مشروط بغيره، معلول له، وهذه العلة إما أن تكون كافية بذاتها، مستقلة بذاتها، غنية بذاتها، خالقة موجدة محدثة لغيرها، وهذا هو «القيوم» أو «واجب الوجود» الذي نبحث عنه، وإما أن تكون ممكنة، فالبحث فيها إذاً كالبحث في سابقتها، فلا بد لسلسلة العلل والمعلولات من علة أو سبب أول، هو واجب الوجود ضرورة، أو يتسلسل الأمر إلى غير نهاية وهو مستحيل، أو يدور الأمر بحيث يكون (أ) مثلاً علة (ب)، وفي نفس الوقت يكون (ب) علة (أ)، وهذا يقتضي أن يكون (أ) موجوداً ومعدوماً في نفس الوقت، من نفس الجهة، ونفس الاعتبار، وهذا «دور قبلي» مستحيل، وكذلك بالنسبة لـ(ب).
وكل ما لوجوده بداية فهو ممكن ضرورة، لأنه مسبوق بالعدم، إما بالزمان أو في رتبة الوجود.
ومجرد التصفح لجميع موجودات هذا الكون المادي الفسيح، التي يقع عليها الحس مباشرة، أو التي يستدل على وجودها من مقدمات حسية وبراهين رياضية ملزمة، كلها ذات بداية، ولها مهما طال الأمد نهاية، حتى الشموس والنجم، وهي أجرام في غاية الضخامة، ذات أعمار طويلة جداً، ثبت بالرصد المباشر والاستدلال الحسابي اليقيني أنها تفقد ملايين الأطنان كل ثانية من كتلتها، ولا بد، ولو بعد آلاف الملايين من السنين، أن تستهلك مادتها وتنتهي، هذا إذا لم تنفجر أو تنهار قبل ذلك، كما هو مشاهد في مجرتنا وفي غيرها من المجرات، حيث يرصد علماء الفلك هذه الظواهر يومياً. فوجب أن يكون لهذا الكون موجداً، يختلف في ذاته وصفاته عن مادة العالم، وصنف العالم. وهو ضرورة خارج إطار الزمان والمكان لأن الزمان والمكان صفة من صفات هذا العالم المحسوس، كما دل عليه نظر حذاق الفلاسفة والمتكلمين في الماضي، وضرورات العلم التجريبي، وبراهينه الرياضية في زمننا الحاضر.
وقد جاء الكتاب العزيز بهذا البرهان في صورة أخرى تضمنها قوله، تباركت أسماؤه، وسمى مقامه: }أم خلقوا من غير شيء، أم هم الخالقون v أم خلوقا السماوات والأرض، بل لا يوقنون{، (الطور؛ 52:35-36).
هذه سلسلة من الأسئلة الاستنكارية: إذا لم يكن الله هو الذي خلقك، وخلق السماوات والأرض من حولك:
(1) فهل خلقت من غير شيء، أي هل جئت من العدم المحض؟! هذا محال ممتنع!
(2) فلعلك أنت الذي خلقت نفسك، أي كنت ضرورة موجوداً قبل أن توجد؟! وهذا أوغل في الاستحالة والبطلان!
(3) هل خلقت أنت السماوات والأرض؟! طبعاً لا!
(4) فهل جاء الكون من العدم المحض؟! هذا مستحيل كذلك!
(5) ومحال أن يكون الكون خلق نفسه، تماماً بنفس الحجة التي أبطلنا بها خلقك لنفسك!
ونزيد ذلك بسطاً بصياغته على شكل حوار:
أنت تعلم أنك حادث وجدت بعد أن لم تكن: فإما أن تكون وجدت من العدم المحض، أو أن يكون شيئاً آخر قد أوجدك؟!
ومن المستحيل أن تكون جئت من العدم المحض، إذاً لا بد لك من موجد!
هذا الموجد أما أن يكون أنت أو غيرك
ومن المستحيل أن تكون أنت الذي أوجدت نفسك، أي كنت ضرورة موجوداً قبل أن توجد؟! هذا أوغل في البطلان!
إذاً لا بد أن يكون موجدك غيرك، ضرورة.
هذا الغير إما أن يكون محتاجاً إلى موجد، أو أن لا يكون
لا يجوز أن يكون مثلك محتاجاً لأن ما قلناه عنك ينطبق عليه تماماً
إذاً لا بد أن يكون الموجد خالقاً قيوماً، أي قائما بذاته، غنياً بنفسه غير محتاج إلى موجد أصلاً: وهذا هو الله العزيز الحكيم!
وقال الإمام أبو محمد علي بن حزم من زاوية أخرى طريفة: [أن العالم بكل ما فيه ذو زمان لم ينفك عنه قط ولا يتوهم ولا يمكن أن يخلو العالم عن زمان. ومعنى الزمان هو مدة بقاء الجسم متحركا أو ساكنا ومدة وجود العرض في الجسم وإذا الزمان مدة كما ذكرنا فهو عدد معدود ويزيد بمروره ودوامه والزيادة لا تكون ألبتة إلا في ذي مبدأ ونهاية من أوله إلى ما زاد فيه والعدد أيضا ذو مبدأ ولا بد والزمان مركب بلا شك من أجزائه وكل جزء من أجزاء الزمان فهو بيقين ذو نهاية من أوله ومنتهاه والكل ليس هو شيئا غير أجزائه وأجزاؤه كلها ذات مبدأ فهو كله ذو مبدأ ضرورة.
فلما كان الزمان لا بد له من مبدأ ضرورة وكان العالم كله لا ينفك عن زمان والزمان ذو مبدأ فما لم يتقدم ذا المبدأ فهو ذو مبدأ ولا بد فالعالم كله جوهره وعرضه ذو مبدأ وإذ هو ذو مبدأ فهو محدث والمحدث يقتضي محدثا ضرورة إذ لا يتوهم أصلا ولا يمكن محدث إلا وله محدث فالعالم كله مخلوق وله خالق لم يزل وهو ملك كل ما خلق فهو إله كل ما خلق ومخترعه لا إله إلا هو]، انتهى نص كلام أبي محمد، وفيه اختصار، فإن عسر عليك فخذ ورقة وقلم وأعد كتابته مفصلاً مطولاً، مع ضرب الأمثال العملية، حتى تستوعبه، مع ملاحظة أن المحدث هو بالضرورة «ممكن الوجود»، ومحال أن يكون «واجب الوجود» وإلا لما كان لوجوده بداية، ومن المحال أن يكون مستحيلاً، لأنه موجود في الواقع خارج الذهن الآن..
واجب الوجود لا يمكن إلا أن يكون واحداً، لأنه لو كان هناك ثمة إثنان «واجبان الوجود» لزم أن يتميز أحدهما عن الآخر ولو في صفة واحدة أو اعتبار واحد على أقل تقدير وإلا كانا متطابقين لا تمايز بينهما مطلقاً، ولا يمكن الإشارة إلى أحدهما دون الإشارة إلى الآخر، ولا التعبير عن أحدهما دون التعبير عن الآخر، ولا الكلام عن أحدهما، دون الكلام عن الآخر، أي لكانا شيئاً واحداً، وهذا مناقض لمفهوم الإثنينية أصلاً، فيكون المشار إليه واحداً هو إثنين، في نفس الوقت، ومن نفس الجهة، ومن نفس الاعتبار، ويكون المشار اليهما إثنان هما واحد، في نفس الوقت، ومن نفس الجهة، ومن نفس الاعتبار، وهذا تناقض، وخلف مستحيل.
فإذاً لا بد من اختلافهما في صفة أو اعتبار واحد على الأقل. وهذه الصفة أو الاعتبار لا تخلو أن تكون ضرورية لمن قامت به منهما، لأنه واجب الوجود، وهي من ضرورات وجوده، لا يعقل أن يكون واجباً إلا بها، بتلك الكيفية وعلى ذلك النحو، فيكون الآخر الذي يفتقد هذه الصفة ليس واجباً لأنه فقد إحدى ضروريات الوجود، التي يقتضيها كونه «واجب الوجود»، فعاد ممكناً، وليس هو بواجب، فتحصل لنا «واجب وجود» واحد فقط لا إثنان، وهو المطلوب إثباته.
أو تكون تلك الصفة ليست ضرورية لوجوده، لا يحتاج إليها لتحقيق كونه واجب الوجود، فتكون بالضرورة غيره، لأنه وجوده واجب، هكذا محضاً، لا تشوبه شائبة إمكان، ولا بأي اعتبار من الاعتبارات، لأن هذا هو معنى «وجوب الوجود»، هذه ضرورة عقلية مفاهيمية مطلقة. ولكن هذا مستحيل لأن «واجب الوجود» لا يحتاج إلى غيره مطلقاً، وإلا جعلناه واجباً ممكناً في آن واحد، وهذا تناقض مستحيل، بل هو شر من ذلك لأننا جعلنا الواجب محتاجاً للمكن، وهذا هو هدم كل عقل، بل هو انتكاس العقل، وانعكاس المفاهيم، ومسخ كل فطرة، وكل ذوق، وهو الجنون المحض، والهوس الخالص.
فتحصل ضرورة أن مفهوم «وجوب الوجود» لا يمكن أن ينطبق إلا على كائن واحد، لا غير، على أقصى تقدير، ولا يجوز أن ينطبق على إثنين فصاعداً. وقد برهنا من قبل أنه لا بد من وجود «واجب وجود» واحد على الأقل، وإلا استحال أن يكون هناك كون أو موجودات البتة، خلافاً لضرورة الحس والعقل والإدراك المباشر.
إذاً هناك «واجب وجود» واحد فقط لا غير، لا أكثر، ولا أقل، من غير زيادة ولا نقصان، وهو ضرورة: الله، لا إله إلا هو العزيز الحكيم.
وقال الإمام الكبير أبو محمد علي بن حزم من زاوية أخرى، بعضها يشبه ما قلنا، وإن كانت مجملة، وبعضها مختلف: [هو الله لا إله إلا هو وأنه تعالى واحد لم يزل ولا يزال: برهان ذلك أنه لما صح ضرورة أن العالم كله مخلوق وأن له خالقا وجب أن لو كان الخالق أكثر من واحد أن يكون قد حصرهما العدد وكل معدود فذو نهاية كما ذكرنا وكل ذي نهاية فمحدث.
وأيضا فكل اثنين فهما غيران وكل غيرين ففيهما أو في أحدهما معنى ما صار به غير الآخر فعلى هذا كان يكون أحدهما ولا بد مركبا من ذاته ومما غاير به الآخر وإذا كان مركبا فهو مخلوق مدبر فبطل كل ذلك وعاد الأمر إلى وجوب أنه واحد ولا بد وأنه بخلاف خلقه من جميع الوجوه والخلق كثير محدث فصح أنه تعالى بخلاف ذلك وأنه واحد لم يزل إذ لو لم يكن كذلك لكان من جملة العالم تعالى الله عن ذلك
قال تعالى: }فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير{، وقال تعالى: }ولم يكن له كفوا أحد{]، انتهى كلام الإمام الكبير أبي محمد علي بن حزم.
على أن العلوم الرياضية والفيزيائية قد بلغت الآن شأواً بعيداً، وأصبحت لدينا نظريات تفصيلية عن البنية الأساسية للكون: حقوله (Fields)، وجسيماته، (Particles)، وقواه الأساسية، (Forces). كما أن لدينا وصفاً جيداً لتطور الكون من لحظاته الأولى: لحظة الانفجار العظيم. كل ذلك صمد للنقد، ومحاولة الإبطال والتزييف، صموداً جيداً، وتطابق مع التجربة المحكومة، والرصد المتقن، والحساب الرياضي، بل وكذلك التطبيق الهندسي الذي نستمتع به يومياً، إلى أبعد الحدود.
نعم: نحن لا ننكر أن هذه النظريات ما زالت تخضع لمزيد من التنقيح والتطوير إلا أنها جميعها، وكذلك كل صورها المستقبلية المتخيلة، عجزت عن حل مشكلة الشروط الابتدائية، ومن المحال أن تحلها لأنها، بالضرورة، في صورة معادلات تفاضلية، لا يمكن حلها إلا بوضع شروط ابتدائية، أو شروط حدية.
ذلك لأن المعادلات الرياضية التي تصف بنية الكون، وعلاقة مركباته بعضها ببعض، ليست ضرورية أو مكتفية بذاتها لإيجاد حلولها، بل تحتاج إلى تحديد شروط ابتدائية أو حدية، وقيم أولية لبعض النسب والمتغيرات الحرة. وهذه النسب والقيم والشروط «حرة» بحق، أي أنها مستقلة عن القوانين، والمعادلات الواصفة للكون وأجزائه، مغايرة لها في الماهية: فلا القوانين والمعادلات تحدد تلك القيم، ولا القيم تحدد أو تفرض قوانين ومعادلات بعينها، فهما شيئان متغايران، ومفهومان مستقلان.
هذه النسب والقيم الابتدائية لا بد أن تكون محددة معينة عند لحظة البدء نفسها، ثم يتطور الكون بعد ذلك بموجب قوانينه على النحو الذي حددته تلك الشروط الابتدائية.
وقد أثبت الرصد والدرس الفيزيائي، والحساب والتحليل الرياضي أن حال الكون الآن يتعلق بـ«حسن» اختيار تلك الشروط والقيم الابتدائية، وأن تغييراً طفيفاً في بعضها، ولو بجزء من مائة مليون مليون مليون، كاف لإنتاج كون ميت مقفر، لا حياة فيه مطلقاً.
ولما كانت القوانين والمعادلات لا تحدد تلك الشروط والقيم والنسب الابتدائية، بل هي مستقلة عنها تمام الاستقلال، كما أسلفنا،
ولما كانت تلك الشروط الابتدائية «ضرورية التحقق عند لحظة الابتداء»، أي لا بد أن تكون معينة محددة موجودة، لحظة «الصفر» بعينها، وليست هي من جنس تلك القيم والمعطيات والمتغيرات الأخرى التي تنشأ بعد لحظة «الصفر»، ثم تتطور وتتغير أثناء مسيرة الكون وتطوره،
فكيف نفسر أننا موجودون الآن هنا ندرس ونتأمل؟! ومن الذي حدد القيم الابتدائية هكذا بحيث ينتهي الحال إلى ما هو عليه الآن: أرض تزخر بالأحياء، وإنسان منتصب القامة، مرفوع الرأس إلى السماء، يفكر ويتكلم ويتفلسف ويسعى إلى غزو الفضاء؟!
سيقول الملحدون: هكذا بفعل الصدفة، من دون فعل فاعل، أو ترجيح مرجح. فنقول: هذا كلام فارغ، وهراء محض، فلفظة الصدفة مجرد وصف لحال، وليست تفسيراً أو برهاناً على شيء، وهي تعني إما:
(1) أن هناك أفراد كثيرون من نفس النوع أو الجنس لكل ظروفه التي تتفاوت في مدى معين، فإذا التقطنا أحدها فلا غرابة أن تكون القيمة محل الدرس بذلك القدر الذي وجدناه، بنسب معينة أو احتمال معين، وهذا ما يدرسه علم الإحصاء الرياضي، وكذلك نظرية الاحتمالات، وهي علوم رياضية محترمة صارمة. وهذا لا ينطبق على هذا الكون فما ثمة إلا هذا الكون الواحد فقط، هذا الذي نرصده.
لم يخف علينا أن بعضكم، معشر الملحدين، يزعم أن هناك عدد غير متناه من الأكوان، طبعاً نحن لا نراها ولا نحسها، يتحقق في كل واحد منها بعض تلك القيم الابتدائية. فنقول: نعم، وفي أحدها كوكب فيه قرود تكتب الشعر على آلة كاتبة انبثقت من الصخر مباشرة، وفي كون آخر قرآن، كقرآننا هنا، محفور في الصخر بفعل الرياح وعوامل التعرية هناك؟! أما نحن فلا نتعاطى المخدرات والعقاقير المهلوسة، فتناولوها أنتم وزودونا بمزيد من الخيالات الشاطحة، والكوابيس المزعجة.
(2) وإما أن تعني من غير علة أصلاً، وهذا ليس تفسيراً، وإنما هو هروب من التفسير، وهو هدم لمبدأ العلة الكافية، التي قام عليها بنيان العقل. فإن كنتم رضيتم لأنفسكم بهدم العقل، أي بالجنون، فهنيئاً لكم، أما نحن فمستمسكون بالعقل، الذي هو من أكبر نعم الله علينا، لا نرضى به بديلاً!
وهناك في داخل هذا الكون الذي نعيش فيه عجائب وغرائب أخرى تجعل فرضيات الملحدين أوغل في الجنون أو الهلوسة أو «السكر»، وما ثمة تفسير محترم معتبر إلا أن لهذا الكون خالق، حدد الشروط الابتدائية، وأخرجه من ثم إلى الوجود، قال: كن، فكان!
وهذا الخالق فاعل مختار، أي فاعل بالمشيئة والإرادة الحرة الطليقة، وهذا يقتضي ضرورة، كما أسلفنا، أنه يدرك نفسه، ويعلم بها، ويعلم حقائق كل الممكنات، ويحيط بها علماً، ويختار منها ما يشاء من العوالم والكائنات الممكنة، ويعلم أن هذه الشروط الابتدائية المعينة تنتج ذلك الكون المعين، ثم يخرجه من العدم بالكيفية والشروط الابتدائية التي يختار، فهو: }يخلق ما يشاء ويختار{!
u فصل: أفعال الله وأحكامه لا تعلل، بل هو يفعل ما يشاء ويختار، ويحكم ما يريد
أفعال الله، جل جلاله، لا تعلل، فهو: }فعَّال لما يريد{، (البروج؛ 85:16)، }إن الله يحكم ما يريد{، (المائدة؛ 4:1)، }يخلق ما يشاء ويختار، ما كان لهم الخيرة، سبحان الله وتعالى عما يشركون{، (القصص؛ 28:68)، }لا يسأل عما يفعل، وهم يسألون{، (الأنبياء؛ 21:23).
فهو، جل جلاله وسما مقامه، خالق فاعل آمر حاكم بالمشيئة والإرادة الحرة الطليقة من كل قيد ولا شرط، إلا ما قيّد هو به نفسه أو اشترطه على نفسه أو أوجبه على نفسه، ليس وراءه أو فوقه سلطة تلزمه: لا يغالبه غالب، ولا يقلت منه هارب.
هذا وحده هو الذي يفهم ضرورة من نصوص القرآن القطعية ثبوتاً، والقطعية دلالة بمجموعها، وتفسير بعضها ببعض، وكذلك من السنة النبوية، وهي بمجموعها قطعية ثبوتاً ودلالة كذلك.
فالله سبحانه وتعالى: }يخلق ما يشاء ويختار، ما كان لهم الخيرة، سبحان الله وتعالى عما يشركون{، (القصص؛ 28:68)، أي أنه خالق بالإرادة الحرة المطلقة، المتعالية على كل قيد أو شرط، لا لعلة أو ضرورة أوجبت عليه ذلك. هذه ضرورة عقلية، أكدها الوحي، ويستحيل عقلاً غير ذلك.
v قال الإمام الحجة أبو محمد علي بن حزم: [وأنه خلق كل شيء لغير علة أوجبت عليه أن يخلق: لو فعل شيئا مما فعل لعلة لكانت تلك العلة إما لم تزل معه وإما مخلوقة محدثة ولا سبيل إلى قسم ثالث. فلو كانت لم تزل معه لوجب من ذلك شيئان ممتنعان:
أحدهما: أن معه تعالى غيره لم يزل فكان يبطل التوحيد الذي قد أبنا برهانه آنفا
والثاني: أنه كان يجب إذ كانت علة الخلق لم تزل أن يكون الخلق لم يزل لأن العلة لا تفارق المعلول ولو فارقته لم تكن علة له وقد أوضحنا آنفا برهان وجوب حدوث العالم كله.
وأيضا فلو كانت ههنا علة موجبة عليه تعالى أن يفعل ما فعل لكان مضطرا مطبوعا أو مدبرا مقهورا لتلك العلة وهذا خروج عن الإلهية.
ولو كانت العلة محدثة لكانت ولا بد إما مخلوقة له تعالى وإما غير مخلوقة فإن كانت غير مخلوقة فقد أوضحنا آنفا وجوب كون كل شيء محدث مخلوقا فبطل هذا القسم وإن كانت مخلوقة وجب ولا بد أن تكون مخلوقة لعلة أخرى أو لغير علة فإن وجب أن تكون مخلوقة لعلة أخرى وجب مثل ذلك في العلة الثانية وهكذا أبدا وهذا يوجب وجوب محدثين لا نهاية لعددهم وهذا باطل لما ذكرنا آنفا وبأن كل ما خرج إلى الفعل فقد حصره العدد ضرورة بمساحته أو بزمانه ولا بد وكل ما حصره العدد فهو متناه فبطل هذا القسم أيضا وصح ما قلناه ولله تعالى الحمد.
وإن قالوا بل خلقت العلة لا لعلة سئلوا من أين وجب أن يخلق الأشياء لعلة ويخلق العلة لا لعلة ولا سبيل إلى دليل]، انتهى كلام أبي محمد نصاً، إلا من علامات الترقيم.
قلت: كلام أبي محمد تضمَّن براهين ضرورية لا مزيد عليها، وإن كانت مختصرة، فتدبرها بدقة.
ونحن نزيدها ها هنا إيضاحاً وبياناً، فنقول: أن من زعم أن لأفعال الله وأقضيته (التكوينية القدرية) أو لأوامره وأحكامه وأقضيته (التشريعية الدينية) علل، (والعلل ضرورية موجبة) قيل لهم: أخبرونا عن أي واحدة من هذه العلل الضرورية الموجبة التي تزعمون:
(1) أهي من فعل غيره أو حكم غيره أو قضاء غيره أو أمر غيره؟!
(2) أم لا من فعله أو حكمه أو قضائه أو أمره تعالى، ولا من فعل غيره ولا من حكمه ولا من قضائه ولا من أمره؟!
(3) أم من فعل الله تعالى وحكمه وأمره وقضائه؟!
ومن المحال الممتنع أن يجدوا قسماً رابعاً أصلاً!
فإن قالوا من فعل غير الله، أو من حكم غيره جعلوا ههنا خالقا غيره، وحاكماً غيره، وهذا شرك مجرد وكفر صريح، بل هو أشنع من ذلك: جعلوا فعل ذلك الفاعل، أو حكم ذلك الحاكم موجبا على الله تعالى أن يفعل ما فعل وأن يحكم بما حكم به، فليس مع الله شركاء فحسب، بل منهم من هو أعلى منه مرتبة، وأشد قوة، وأسمى مقاماً!
وإن قالوا ليست من فعله، ولا من فعل غيره، لزمهم أن في الوجود أشياء قديمة لم تزل، لا فاعل لها؛ أو أنهم في هذا الحاكمون على الله تعالى بها وهم الذين يحللون ويحرمون ويقضون على الباري عز وجل، وهذا كذلك كفر وشرك مجرد، وهو في غاية التناقض:
(أ) لأن تعدد القدماء محال كما قام عليه البرهان أن واجب الوجود الأول الأزلي القديم من غير ابتداء واحد فقط لا غير،
(ب) وعلى فرض تعدد القدماء (وهو مستحيل) جدلاً، فإن تسلط بعضهم بعض محال، وعلو بعضهم على بعض محال، وحكم بعضهم على بعض محال، لأنهم في مرتبة واحدة ضرورة.
(ج) وخروج شئ إلى الوجود مع تمانع القدماء وتساويهم في مراتب القدرة والسيادة والعلو والحاكمية محال أيضاً، لأن كل واحد يقدر على منع الآخر، وكل واحد منهم يقدر على إبطال فعل الآخر، فإن كان الأمر كذلك: فمن أين جاءت هذه الممكنات التي لا تحصى في هذا الكون الفسيح؟!
فمذهب منكري الصانع، من الدهريين والماديين، أمثل من هذا وأعدل، وأقل تناقضاً لأنه يقولون بقديم واحد هو الطبيعة الخلاقة الفعالة بالضرورة، لا بالاختيار، وهذا إنما يتناقض فقط مع الواقع، أي مع حالة الكون المحسوس المشاهد، كما هو اليوم، ولا يستلزم ذلك البحر المتلاطم من التناقضات والمستحيلات!
فإن رجعوا إلى الحق، وقالوا بل هي من فعل الله عز وجل وحكمه، وحده لا شريك له؛ قلنا لهم أخبرونا عن أي علة من تلك العلل، واعلنا نفرض علة واحدة معينة، نجعلها موضع نظرنا وبحثنا، هذه العلة المعينة موضع الدرس:
(أ) أفعلها الله تعالى، أو حكم بها، لعلة أخرى؟!
(ب) أو فعلها وحكم بها لغير علة أصلاً؟!
فإن أصابوا الحق، وقالوا: بل فعلها تعالى، أو حكم بها، لغير علة أصلاً تركوا مقولتهم الشنعاء، وأقروا أنه، تبارك وتعالى، يفعل الأشياء لا لعلة، من حيث المبدأ.
وإن قالوا بل فعَل الأشياء الثانوية أو حكَم الأحكام الثانوية لعلة، أما الأوليات، وهي العلل نفسها، فهي هكذا بدون علة، قيل لهم: ما الذي أوجب أن تكون الأفعال والأحكام الثواني لعلل، وتكون الأفعال والأحكام الأول، التي هي علل تلك الأفعال والأحكام الثواني لا لعلل؟! وهذا تحكم بلا دليل ودعوى ساقطة لا برهان عليها، إلا أنه أمر ممكن في ذاته، لا تناقض فيه، فإذا جاء من الله خبر بذلك نأخذ به، ونتوقَّف عنده. وعلى كل حال فهذا هدم لقاعدتهم الأصلية: أنه، جل جلاله وسما مقامه، لا يفعل أو يحكم مطلقاً إلا لعلة!
وإن قالوا بل فعلها تعالى، أو حكم بها، لعلل أخر سئلوا في هذه العلل أيضا كما سئلوا في التي قبلها وهكذا أبدا إلى ما لا نهاية؛ فلا بد لهم، بالضرورة العقلية المطلقة، من أحد أمرين، لا ثالث لهما:
(أ) إما أن يصلوا إلى أفعال وأحكام ما فيقولون إنه فعلها لغير علة، فيكونون بذلك تاركين لقولهم المكذوب الباطل: (إنه، تعالى ذكره، لا يفعل شيئا، أو يحكم ويأمر بشى، إلا لعلة)، فيكون الرب، جل جلاله وسمى مقامه، لا يفعل أو يحكم أو يأمر أو يقضي بشئ لعلة في التحليل النهائي، وإن كان ربما جعل شيئاً علة لشئ، أو شيئاً سبباً لشئ، في النظر المتوسط، أو المراتب المتوسطة، أما في التحليل والنظر النهائي، فلا!
(ب) أو يقولون بمفعولات وأحكام وأوامر وأقضية لا بداية لها، مع ترتب بعضها على بعض بالعلية أو السببية الضرورية، وهذا تسلسل في العلل والمعلولات، وهو مستحيل بإجماع العقلاء، لأنه هدم للعقل، وتحطيم له، وهو مع هذا كفر وخروج عن الإسلام بإجماع الأمة.
فقبّح الله قولا يؤول إلى المستحيل الممتنع عقلاً، وإلى الكفر المناقض للشريعة من كل وجه!!
فهذا هو البرهان الضروري الذي لا انفكاك عنه على صحة قولنا: (إن الله، تعالى وتقدَّس، يفعل ما يشاء ويختار، ويحكم ما يريد لا لعلة أوجبت عليه ذلك الفعل أو الحكم، أصلا، ولا بوجه من الوجوه، في التحليل والنظر النهائي)، وبطلان غيره من الأقوال المتناقضة.
فواجب الوجود، وهو كائن واحد فقط لا غير، من غير زيادة ولا نقصان، ليس جماداً ميتاً، ولا هو قوة خارقة ميتة عمياء صماء تخلق بالضرورة وهي لا تعي ما تفعل، فهذا كله محال كما سلف، وإنما هو فاعل مختار، أي فاعل بالمشيئة والإرادة الحرة الطليقة، وهذا يقتضي ضرورة أنه يدرك نفسه، ويعلم بها، ويعلم حقائق كل الممكنات، ويحيط بها علماً، ويختار منها ما يشاء من العوالم والكائنات الممكنة، ثم يخرجه من العدم بالكيفية والشروط الابتدائية التي يختارها هو، فهو: }يخلق ما يشاء ويختار، ما كان لهم الخيرة، سبحان الله وتعالى عما يشركون{، (القصص؛ 28:68).
والكائن الوصوف بالعلم والإدراك، وبالمشيئة والإرادة والفعل الاختياري يسمّى حياً، وواجب الوجود له، ضرورة، من معاني «الحياة» أكمل معانيها، ومنتهى غايتها، حياة أزلية أبدية دائمة، لا يتصور في حقها موت ولا ذهول، ولا سنة ولا نوم، ولا ضعف أو مرض أو قصور، فالله هو «الحي»، وهو واجب الوجود، قائم بذاته، غني بذاته عن غيره، وهذا هو: «القيُّوم»: فهو: }الله لا إله إلا هو الحي القيوم، لا تأخذه سنة ولا نوم{، جل جلاله، وسمى مقامه، حقاً وصدقاً. أزلاً وأبداً.
u فصل: القدر خيره وشره من الله تعالى
أسلفنا أن العالم كله، بما في ذلك الكون المرئي وغيره من الأكوان غير المرئية، والأكوان القديمة التي بادت وذهبت قبل كوننا هذا، إن كان ذلك قد وقع أصلاً، والأكوان التي ستأتي وليست هي موجودة الآن بعد، أي كل الممكنات، أي كل الكائنات والموجودات، باستثناء الله الحي القيوم واجب الوجود الأحد، إنما خلقها الله، ووضع نظامها، وقدر مقاديرها، وحدد شروطها الابتدائية المحددة لمسار تطورها، وعلم على التفصيل والإجمال ما سيكون واقعاً فيها، وأذن بوقوع ذلك كله، ولو لم يأذن بوقوعه وخروجه إلى الوجود لما خرج إلى الوجود فعلاً، ضرورة ولا بد بحكم العقل، لا محيص من التسليم لها، وهكذا جاء الشرع آمراً بالإيمان والتسليم بـ(القدر خيره وشره من الله تعالى).
ومن حق قائل أن يقول: خيره، فهمناها، وعلى العين والرأس، ولكن شره؟!
نعم، وشره: بغض النظر عن كون الإنسان قد يحكم على أمور حكماً خاطئاً أو نسبياً بأنها شر من وجهة النظر الإنسانية المحدودة، لأنها مؤلمة مثلاً، كافتراس أسد كاسر لإنسان، وهي ليست كذلك، أي ليست شراً، أو ليست شراً بإطلاق، بل هي بعض ما يقتضيه تناسق نظام الكون، واطراد قواعده.
وقد يكون ما يسميه الإنسان شراً، هو شر بحق، كمعصية أمر الله، من بعض المخلوقين، المتمتعين بالعقل والإدراك والتمييز، الذين منَّ الله عليهم بحرية الإرادة والاختيار، وهي حرية حقيقية، فهم فاعلين بالاختيار في داخل هذا الكون، وفي إطار نظامه. فبدلاً من شكر المنعم بطاعته، والإحسان إلى خليقته، انقلب هذا الإنسان إلى خصيم مبين، فعصى وتمرد، وأجرم وتجبر، ونشر الفساد والدمار، وأهلك الحرث والنسل: هذا شر قطعاً! وما كان هذا ليقع ويخرج إلى الوجود إلا بإذن الله ورخصته، بالرغم من كراهية الله لذلك وسخطه على فاعله، ومن المحال عقلاً، وشرعاً، أن يكون غير ذلك.
قد يقول قائل هذا ثمن زهيد في مقابل نعمة العقل والتمييز، والإرادة الحرة، وهو مترتب عليها ضرورة. فمن المحال أن يتمتع مخلوق بالعقل والتمييز والإرادة الحرة، ثم يمنع من اختيار ما يريد مع تحمله لكافة مسؤوليته.
فنقول: نعم، ولكن هذا لا يفسر لم وقع اختيار الله على كون كهذا، فلولا خلق كوناً من الآلات المجبرة، أو الملائكة المعصومة المسخرة المسيرة؟! والجواب لأن الله، جل جلاله، وتباركت أسماؤه، هكذا هو، كما هو هو: ولن تدرك ذلك إلا إذا أحطت به علماً، وهذا محال.
فليس لك إذاً إلا القبول والتسليم، بضرورة العقل، قبل ورود الشرع: فكما سلمت بأنه موجود، وأنه الأزلي الأول واجب الوجود، فكذلك سلم بهذه، أي أن: (القدر خيره وشره من الله تعالى).
فإذا بلغت هاهنا فتوقَّف وأمسك: فليس فوق الله مرجعية، ولا لفعله مسائلة، ولا لقضائه تعقيب أو مراجعة، لأنه هو غاية الغاية، ونهاية النهاية.
وهبك أرت أن تراجع أو تعقب أو تقاضي أو تحاكم، فإلى من يا ترى؟!
(1) إلى واجب وجود آخر يعلو عليه أو يساويه في المرتبة؟! ولكن ما ثمة في الوجود واجب غيره، فاستحال هذا!
(2) أو إلى عقلك، أو عقول جمهور العقلاء من المخلوقين: فهذا العقل من خلق الله، والعقل نهائي ممكن، دون الله في المرتبة، فكيف يحكم الأسفل على الأعلى؟!
ولو تواقحت وحكمت بعقلك الأدنى أن ما تسميه شراً، غير مقبول، وأنه ظلم وتجاوز من الله، تعالى الله عن ذلك، فكذلك عقلك ليس بموثوق به، فلعله مختل في أصل خلقته، فكما أنك جوَّزت أن الله، تعالى وتقدس، ظلم، فكذلك يجوز أن يكون قد تلاعب وعبث: فخلق عقلك آلة مختلة، لا تصلح للحكم، فبعض أحكامها مناقض للحق. بل إن الحق والصدق لم يعد لهما معنى أصلاً، وكذلك الخير والشر: فمرحباً بك في مصحة الأمراض العقلية!!
(2) أم إلى «عقله»، أي علمه وإدراكه المحيط بكل شيء؟! هذا تحاكم حسن جميل، ولكنه وقع فعلاً، وفرغ منه: ولولا أنه، تبارك وتعالى، قد حكم (من قبل أن تخلق أنت أصلاً، وتأت مجادلاً محاججاً) أن هذا الكون حسن جميل، (من وجهة نظره هو طبعاً، وبالضرورة، تعالى وتقدس)، وأهل أن يخلق هكذا، بهذه الصفة، لولا ذلك لما خلقه أصلاً، ولما كنت أنت ها هنا تجادل وتسأل، وتطلب التحكيم: فمجرد وجودك اليوم ها هنا، وتساؤلك وجدالك، هو «عينه» جواب سؤالك، والحكم الفصل في قضيتك!
فمشكلة القدر، كما ترى أيها الإنسان المجادل، أي مشكلة وجود «الشر» في العالم، بحر ليس له قرار، ولا يدرك له غوار، إلا لمن أدرك وأحاط علماً بذات الواحد القهار، الملك الجبار، وليس علم ذلك، علماً شاملاً، وإدراكه، وإدراك إحاطة واستيعاب كامل، ليس ذلك ممكناً إلا لكائن واحد فقط: هو الله الحي القيوم، العزيز الغفار، إذاً توقَّف وأمسك، وسلّم واستسلم!!
u فصل: الله، جل جلاله: }لم يلد ولم يولد{
أقمنا من قبل البرهان القاطع على أن مفهوم «وجوب الوجود» لا يمكن أن ينطبق إلا على كائن واحد، فقط لا غير، ولا يجوز أن ينطبق على إثنين فصاعداً.
وهذا «الكائن» له أسماء وصفات ونعوت تعبر عن معاني ومفاهيم تتعلق به، أي بذاته، وهي قائمة بهذه الذات، مرتبطة بها ارتباطاً حتمياً، ويستحيل أن تنفك عنها، لأن ذلك لو جاز لعاد «ممكناً» ولو في اعتبار واحد، أو موضوع واحد، أو صفة واحدة، أو نعت واحد، وهذا مناقض لمفهوم «واجب الوجود» الذي يقتضي أنه واجب، ضروري في ذاته وصفاته وارتباطاتهما من كل وجه، وفي كل اعتبار، أزلاً وأبداً، في جميع الأزمنة، إن جاز، أصلاً، التعبير عنه بمفاهيم الزمان.
وهذا «الكائن» يستحيل أن يكون مركبا من أبعاض، أي من جزئين فصاعداً، يقبلان الانفصال بحيث يمكن أن يكون كل جزء ذاتاً مستقلة قائمة بنفسها، كما هو حال الجوارح عند الانسان، إذ يجوز أن تقطع يده وتدفن، ويبقى هو بعدها حياً لمدة طويلة، ولو على قصور ونقص. هذا ظاهر الاستحالة في حق «واجب الوجود» لأن وجود جزء منه يقبل الانفصال يعني أن فيه شى من معاني الإمكان: فيمكن أن يوجد بذلك الجزء، ويجوز أن يبقى بعد انفصاله، وهذا يعني أحد أمرين:
الأول: أن ذلك الجزء ليس ضرورياً لوجوده، وأن ذاته تقبل الزيادة والنقصان، وجاز أن يقتطع بعضه، أو أن يقتطع نصفه، أو أن يزول كله، وهذا مناقض لمعنى «وجوب الوجود»، أي أنه «واجب» و«ممكن» في نفس الوقت، في آن واحد، من نفس الجهة والاعتبار، وهذا من ثم مستحيل.
الثاني: أنه كامل، قائم بذاته، غني بذاته غنىً مطلقاً من دون ذلك الجزء، فيكون ذلك الجزء ليس منه أي ليس بعضاً، وهو بعض في نفس الوقت، ومن نفس الاعتبار، وهذا كذلك جمع بين التقيضين، وهو كذلك محال.
ولا يقال: لعله مركب من ذاتين مستقلتين، كل منهما كانت بمفردها ذات كاملة «واجبة الوجود»، ثم قررت الاندماج واختارته، وهذا محال أيضاً من عدة وجوه:
أولها: لأننا أثبتنا أن «وجوب الوجود» لا ينطبق إلا على ذات واحدة فقط، لا على اثنين فصاعداً، فما ثمة ذاتان واجبتان في الوجود أصلاً، فمن أين أتت الذات الواجبة الثانية التي تركبت مع الأولى؟!
وثانيها: أنه مع تقدير ذلك المحال، والتسليم جدلاً بتعدد الكائنات «الواجبة» لا يبقى للتركيب معنى لأن كل واحد منها قد بلغ غاية النهاية من الكمال المطلق، فلن يزيده التركيب كمالاً، فلا معنى له إذاً على الإطلاق، بل إن التركيب يلزم كل واحد منهما بأخذ الآخر في الاعتبار، أي مراعاة «خاطره»، والقيام بحق «الألفة والصحبة»، ولو في معنى واحد، أو فعل واحد، وهذا «تحديد»، و«تقييد»، وهو من ثم نقص، وليس كمالاً، فيعود كل واحد منهما ناقصاً، فيالها من صفقة «خاسرة»، مع كونها أوغل في الاستحالة، لأنها بنيت على مقدمات مستحيلة!
وأوغل في الاستحالة أن يكون مركباً من ذات واجبة وأخرى أو أخريات ممكنة، لأن الواجب لا يحتاج الممكن، وهو قائم بذاته، مكتمل بذاته، فليس ثمة تركيب أصلاً، وهذا يناقض مفهوم كونه مركباً، الذي افترضناه في البداية جدلاً.
فواجب الوجود إذاً ضرورة «أحد صمد» بكل معناني الأحدية والصمدية، أي أنه ذات واحدة «بسيطة» غير مركبة، لا تقبل التبعيض ولا التجزئة بأي معنىً من المعاني مطلقاً، أزلاً وأبداً.
فهو لم يتركب أصلاً من عدة ذوات «واجبة» موجودة من قبل، ولا يتفكك أو يتجزأ أو يتبعض إلى ذوات متعددة منفصلة يقوم كل منه مستقلاً بنفسه أيا كان نوع هذه الذوات الناشئة من التفكك: واجبة أم ممكنة. هذا كله محال، ولا يجوز على «واجب الوجود» الأزلي الأبدي مطلقاً.
كما يظهر من ذلك استحالة أن يكون «واجب الوجود» والداً، لأن القول بأن أحد الكائنات، ولنسمه «ب» مولود من آخر «أ» يقتضي أن يكون جزء من «أ» قد انفصل منه فتكون منه «ب» إما:
(1) بـ«الانقسام» فوراً، كما هو الحال في بعض الأحياء البسيطة، التي تتكاثر بالانقسام فتنقسم الخلية الأم إلى خليتين ابنتين، وتبدأ هاتان في النمو إلى تمام حجمهما، وهكذا دواليك. أما الأم فهي على التحقيق، تزول تماماً وتنعدم. ولا داعي لإطالة القول أن ذلك على «واجب الوجود» محال، فهو لا يتبعض ولا يفنى.
ثم على فرض المحال فإن «المولود» الناتج كان بعد أن لم يكن، فهو مسبوق بالعدم إما بمقاييس الزمان أو في رتبة الوجود، وهذا يعني أنه ليس «واجباً»، فهو إذن ليس من جنس «والده»، بل هو من جنس «المخلوقات»، و«الحادثات» و«الممكنات». والمولود، ولا بد، من جنس والده، إلا أن يكون «ولد حرام»، عياذاً بالله، أي ليس ولداً أصلاً لمن نسب إليه، وإنما هي نسبة مكذوبة!
فإن وجدنا بين الكائنات من نشأ هكذا فهو في الحقيقة مخلوق «ممكن الوجود» قطعاً. ومن عبر عنه بلفظ التبرعم، أو الولادة، أو الانبثاق، أو غيرها ممن الألفاظ قد غلط غلطاً فادحاً، وأساء إساءة منكرة إلى العقل ومفاهيمه، واللغات ومصطلحاتها، وضل ضلالاً بعيداً.
(2) بـ«التبرعم»، كما هو الحال بالنسبة لكثير من الطحالب والفطريات، بل وبعض النباتات الراقية. وذلك يتم بانفصال جزء من «الوالد«، مع بقاء الوالد على حاله أو بنقص طفيف، ونمو الجزء المنفصل إلى كائن من نوع الوالد في مدة مناسبة له. وهذا محال أيضاً، فـ«واجب الوجود» يستحيل عليه الانتقسام والتجزئة، كما اسلفنا. أما «المولود» فحاله كحال المولود في القسم السابق، ما هو إلا «مخلوق» أسئ التعبير عنه إساءة بالغة.
(3) بـ«التزاوج»، كما هو الحال بالنسبة للحيوانات وبعض النباتات الراقية. في هذه الحالة يشترك والدان في انتاج «المولود»، فينفصل من الأب «لقاح» يتحد مع «بويضة» أو «بذرة» من الأم. هذا أوغل في الاستحالة من سوابقه، فما ثم في الوجود إلا واجب واحد، فمن أين جاء الطرف الآخر في هذه الزيجة العجيبة؟! ولعل أحد الطرفين «ممكن» مخلوق، والآخر «واجب وجود» ؟! فتحصل جميع المحالات التي أسلفنا بالنسبة لـ«واجب الوجود» منهما، وزيادة محالات تتعلق باندماج أو اتحاد «الواجب» في «الممكن»، أو حتى حلوله فيه، تحتاج إلى بعض تفصيل ونظر مستقل، لذا سنتطرق إليها قريباً، إن شاء الله.
(4) أو بأي طريقة أخرى، حقيقية لها انموذج واقعي موجود في العالم أو مقدرة متخيلة في الذهن: وهذه، مهما كانت، لا بد من أن تتضمن انفصال جزء من «واجب الوجود»، وإلا كان التعبير بالولادة تخليطاً وعبثاً. وكل تجزئة وتبعض، على كل حال، محال لا يجوز على «واجب الوجود». أو تقتضي مشاركة ذات أخرى في «وجوب الوجود»، على أي نحو من الأنحاء، وهذا كما برهنا محال أيضاً، فما ثم إلا «واجب وجود» واحد فقط، لا غير، من غير زيادة ولا نقصان.
وما فصلناه آنفاً بالنسبة لـ«التولد» من الله، ينطبق حرفياً على القول بأن الكائن الفلاني «انبثق» عن الله، أو «انبثق» من الله، أو «فاض» عن الله، أو «فاض» من الله، وما شابه، لأن كل ذلك يتضمَّن، ضرورة، مفهوم خروج شئ من شئ، أو تولد شئ من، كما «ينبثق» الماء من الصخر، و«يفيض» السائل من الوعاء، ونحوه، وكل ذلك محال في حق «واجب الوجود»، إلا أن يكون إساءة تعبير عن «خلق» كائن مستقل، بائن عن خالقه، وما عدا ذلك فهو باطل ومحال.
وكل ذلك محال من حيث هو بغض النظر عن مفاهيم الزمان والمكان: فـ«التولد» من الله محال سواء كان التولد الآن، أو في الماضي، أو قبل جميع الأزمنة والدهور. بل إن جعل ذلك قبل الأزمنة والدهور، كما هو في «الأمانة» النيقية، التي يؤمن بها جمهور النصارى المثلثين الضلال، يزيد المشكلة تعقيداً، ويضيف محالات أخرى إلى ما برهنا عليه آنفاً من التناقضات والمستحيلات.
أما صفات واجب الوجود، كالعلم والقدرة والإرادة والحياة، وهي أشياء مختلفة: فمفهوم العلم قطعاً ليس هو مفهوم القدرة، ومفهوم الإرادة، ضرورة، ليست هو مفهوم العلم، وهلم جراً، هذه الصفات ليست أبعاضاً أو أجزاءً بالمعنى المبين أعلاه، فهي ليست ذوات مستقلة قابلة للانفصال، فليست هي جارحة يمكن أن تنفصل وتقطع كيد الإنسان مثلاً، وإنما هي معاني تقوم بالذات المناسبة لها. وتفكيكها إلي أشياء مستقلة، أو مفاهيم مستقلة، وكذلك الكلام عن الذات «المجردة» من كل صفاتها بوصفها شيئاً، كل ذلك إنما هو في «التقدير الذهني» لتسهيل دراستها، والتمكين من البحث في موضوعها، وترتيب ذلك وتبويبه، وكذلك القول بأن الصفات هي غير الذات، أي أن الصفات المقدرة أشياءً مستقلة في الذهن هي غير الذات المحضة المجردة من صفاتها مقدرة في الذهن. كل هذه الأقوال والتعبيرات، وما شابهها، إنما حيث فيما يتعلق بالتقدير الذهني، أو الفرض الجدلي، لتسهيل الدراسة والبحث.
أما في الواقع الموجود، أي خارج الذهن، فإن الصفة الموجودة في الخارج قائمة بالذات الحقيقية، المتصفة بتلك الصفة، الموجودة في الخارج، مرتبطة بها، لا تستطيع عنها فكاكاً، فلا يقال أن الصفة غير الذات، بإجماع جميع العقلاء، والنظار، والباحثين، قولاً واحداً، وقال جمهور الفلاسفة والمتكلمين والنظار لا يقال أنها «عين الذات»، ولكن قالت قلة منهم: أنها «عين الذات» الموجودة في الخارج وذلك فقط في حق «واجب الوجود»، وهي ليست عين الذات في حق «ممكن الوجود» بإجماعهم، وهذه مباحث فلسفية ثانوية، وليست هي مباحث شرعية، فهي من ثم لا تعنينا، ولا يترتب عليه كفر ولا إيمان، ولا زيادة تقوى أو يقين، ولا تقرب قيد أنملة من رب العالمين، خلافاً لمزاعم أهل الهوس والغلو.
u فصل: بطلان الحلول والتحاد
قول القائل إن صفات الله سبحانه وتعالى، ومن ذلك معاني أسماء الله الحسنى، صارت أوصافا لغيره من الموجودات، وهذا «الغير» هو من ثم بالضرورة عبد، مخلوق، لأن «واجب الوجود» هو كائن واحد فقط، لا غير، من غير زيادة ولا نقصان، وهو الله تبارك وتعالى، كما أشبعناه برهاناً وتفصيلاً. هذا القول لا يخلو إما أن يعني به:
(1) عين تلك الصفات
(2) أو مثلها،
فإن عنى به عينها، وهو القسم الرئيس الأول، فلا بد إما أن يكون:
(1.أ): بطريق انتقال الصفات من الرب إلى العبد
(1.ب): أو من غير انتقال،
فإن لم يكن بالانتقال فلا يخلو إما أن يكون:
(1.ب.1): باتحاد ذات العبد بذات الرب حتى يكون هو هو فتكون صفاته،
(1.ب.2): وإما أن يكون بطريق الحلول، فهذه أقسام ثلاثة وهي: الانتقال والاتحاد والحلول،
وإن عنى به مثلها فلا بد أن يكون المعنى به:
(2.أ): مثلها مطلقا من كل وجه،
(2.ب): وإما أنه عنى به مثلها من حيث الاسم والمشاركة في التعليق بعموم الصفات دون خواص المعاني، فهذان قسمان متفرعان من القسم الرئيس الثاني.
فهذه خمسة أقسام الصحيح الممكن منها قسم واحد، وهو المرقوم (2.ب)، أي أن يثبت للمخلوق من هذه الصفات أمور تناسبها على الجملة وتشاركها في الاسم ولكن لا تماثلها مماثلة تامة.
وأما القسم الثاني، المرقوم (2.أ)، وهو أن يثبت له أمثالها على التحقيق فمحال فإن من جملته أن يكون له علم محيط بجميع المعلومات حتى لا يعزب عنه ذرة في الأرض ولا في السموات، أو أن تكون له حياة كاملة مطلقة، لا يتطرق إليها الموت، ولا يدركها الفوت، أو أن يكون له قدرة واحدة تشمل جميع المخلوقات حتى يكون هو بها خالق الأرض والسموات وما بينهما وكيف يتصور هذا لغير الله تعالى وكيف يكون العبد خالق السموات والأرض وما بينها وهو من جملة ما بينهما فكيف يكون خالق نفسه ثم إن ثبتت هذه الصفات لعبدين يكون كل واحد منهما خالق صاحبه فيكون كل واحد خالقا من خلقه؟! وكيف يتصف مخلوق ممكن حادث محدود بصفة على النحو والكيفية والدرجة الذي اتصف بها واجب الوجود الأزلي الانهائي المطلق، على ذلك النحو وبتلك الدرجة، بسبب كونه واجباً، وكيف تحمل ذات «محدودة» صفة غير محدودة؟! كل ذلك ترهات ومحالات، بل جنون وهوس.
وأما القسم الثالث، المرقوم (1.أ)، وهو انتقال عين صفات الربوبية فهو أيضا محال لأن الصفات يستحيل مفارقتها للموصوفات وهذا لا يختص بالذات الواجبة القديمة، أي ذات الله تبارك وتعالى فحسب، بل لا يتصور أن ينتقل عين علم زيد إلى عمرو بل لا قيام للصفات إلا بخصوص الموصوفات ولأن الانتقال يوجب فراغ المنتقل عنه فيوجب أن تعرى الذات عن تلك الصفة التي اتقلت عنها، فلا تعود صفتها، ولا تجوز نسبتها إليها. وهذا في حق واجب الوجود، القديم الأزلي، محال مطلقاً، ومناقضة لمفهوم «وجوب الوجود» من أساسه، كما يترتب على انتقال صفات الربوبية أن يتعرى عن الربوبية فلا يعود رباً وإلاهاً، وهذا ظاهر الاستحالة.
وأما القسم الرابع، المرقوم (1.ب.1)، وهو الاتحاد فذلك أيضا أظهر بطلانا لأننا إذا تأملنا، وتفكرنا بدقة وعناية، وتعقلنا بعمق واستنارة، وأدركنا ذاتين مستقلتين: زيداً وحده وعمروا وحده، ثم قيل إن زيدا صار عمروا واتحد به فلا يخلو عند الاتحاد إما أن يكون كلاهما موجودين أو كلاهما معدومين أو زيد موجودا وعمرو معدوما أو بالعكس ولا يمكن قسم وراء هذه الأربعة.
فإن كانا موجودين فلم يصر عين أحدهما عين الآخر بل عين كل واحد منهما موجودة وإنما الغاية أن يتحد مكانهما أو محلهما، وذلك لا يعني الاتحاد فإن العلم والإرادة والقدرة قد تجتمع في ذات واحدة ولا تتباين محالها ولا تكون القدرة هي العلم، ولا يكون العلم هو الإرادة، بل يبقى كل شئ من هذه الأشياء مستقلاً، مختلفاً عن الآخر، ولا يكون قد اتحد البعض بالبعض، بل هذا اجتماع يمكن إلغائه بالتفريق، وقد يكون خلطاً أو مزجاً كما يحصل من مزج الماء والكحول، أو من مزيج الهيدروكاربنات التي يتكون منها سائل النفط (البترول)، وهذه المركبات يمكن الحصول عليها من المزيج بالتقطير، أو إذابة كما حال الملح في ماء البحر، ويسمَّى الناتج محلولاً ويمكن الحصول على أجزائه بالتبخير أو الترسيب. وكل ذلك ليس اتحاداً، ولا يجوز أن يسمَّى اتحاداً على التحقيق، وإن كابر مكابر وسمَّى ذلك اتحاداً فهو عابث بالألفاظ، لا يصح معه حوار حتى يحدد معاني ألفاظه التي يستخدمها.
وإن كان معدومين فما اتحدا بل عدما ولعل الحادث شيء ثالث، أي ذات ثالثة غير زيد وعمرو الذين بدأنا بهما، وكما هو الحاصل في اتحاد دولتين، فتنعدما، ولا يبقى لهما وجود مستقل في الموقف الدولي، وينشأ من ثم كيان جديد، وربما تحولت كل من الدولتين السابقتين إلى ولاية في الكيان الجديد، فيصبح لدينا: دولة جديدة في الموقف الدولي، وولايتان تابعتان لها، لا وجود لهما في الموقف الدولي، ولا تتعاملان مباشرة مع الدول المستقلة الأخرى. وهذا أيضاً هو الحاصل في التفاعلات الكيمياوية: فإذا حرقنا غاز الهيدروجين في الهواء مثلاً انعدم ذلك الهيدروجين وذهب، وانعدم معه مقدار من غاز الأكسوجين ونشأت مادة جديدة هي الماء، وهو من السوائل، وهو غير غاز الهيدروجين أو غاز الأكسوجين، ولا يمكن الحصول على الغازين مرة ثانية إلا بإعدام الماء، وتحليله كيمياوياً أو كهربائياً إلى الغازين الذين نشأ منها ابتداءً. وكل هذا في حق واجب الوجود الأزلي محال مطلقاً، فهو واجب باقي أبداً لا يفنى.
وإن كان أحدهما معدوما والآخر موجودا فلا اتحاد إذ لا يتحد موجود بمعدوم، كما لو ابتلعت دولة دولة أخرى، وأزالتها بالكلية من الوجود بوصفها كياناً مستقلاً، هذا «ابتلاع» وليس «اتحاداً». وهذا محال في حق واجب الوجود الأزلي، فهو باقي لا يفنى، ومحال أن يفنى، فلا يمكن أن يكون هو الذي انعدم، وهو كامل بذاته، ضروري بذاته، مكتف بذاته، فلا يحتاج إلى ابتلاع غيره، فلم «الابتلاع» إذاً؟! والابتلاع يؤدي إلى نشوء ذات جديدة مركبة من الذات الأصلية مضافا إليها كل أو بعض ما ابتلع، وهذا التركيب محال في حق «واجب الوجود» كما أسلفنا، فلا يمكن هذا أيضاً.
فاتحاد واجب الوجود الأزلي بغيره من الممكنات في غاية الاستحالة، لأن انعدام واجب الوجود الأزلي مستحيل، وتحوله إلى ممكن مستحيل، وتحول الممكن إلى واجب مستحيل، ونشوء شئ ليس بواجب ولا ممكن مستحيل أيضاَ، واحتياج الواجب الأزلي لغيره بحيث يتحد به من أجل ذلك محال أيضاً، وإذا فني الممكن فقد ذهب وانتهى وليس ثمة اتحاد إذاً، وبقي الأزلي واجب الوجود فقط، وخالصاً من كل شائبة، ليس هذا «اتحاداً»، بل هو «إفناء» للمكن المخلوق، و«إعدام» له بالكامل!
وأما القسم الخامس وهو الحلول وهو محال أيضاً، ووجه استحالة الحلول لا يفهم إلا بعد فهم دقيق لمعنى الحلول فإن المعاني المفردة إذا لم تدرك بطريق التصور، ولو على نحو مجمل، لم يمكن أن يفهم نفيها أو إثباتها فمن لا يدري معنى الحلول فمن أين يدري أن حلول الخالق في المخلوق، أو حلول واجب الوجود في ممكن الوجود، ممكن أو مستحيل؟!
المفهوم من الحلول أمران، أحدهما:
الأول: النسبة التي بين الجسم الممتد، الذي تسري عليه مفاهيم «المكان»، أي الذي له طول وعرض وارتفاع، وبين مكانه الذي يكون فيه، وذلك لا يكون إلا بين جسمين ممتدين تسري عليهما مقولات «المكان»، فحقيقة الحلول إنما هي أن يحصل جسم أو متحيز في شيء أو على شيء فيسمى الحاصل حالا والمحصول فيه يسمى محلا وتسمى النسبة بينهما حلولا، فالبريء عن معنى الجسمية يستحيل في حقه ذلك، لأنه لا تنطبق عليه مفاهيم «المكان» أصلاً. ومن ذلك ضرب النصارى المثل بـ«حلول» الماء في الزجاجة، فواقع ذلك أن الزجاجة جوفاء، فيها فراغ داخلي يملؤه الهواء، فإذا صب فيها الماء، طرد الهواء، واحتل الماء مكانه، أما الزجاجة فهي كما كانت لم يطرأ عليها تغيير. فالماء لم يحل في الزجاجة، وإنما هو حل مكان الهواء في التجويف الذي حددته بنية الزجاجة، لأنها صنعت جوفاء لهذا الغرض: أي لتكون وعاءً. وحلول «ذات» الله في مكان بهذا المعنى محال، لأنه جل وعلا لا تسري عليه مفاهيم الزمان والمكان، ولو فرضنا المستحيل، جدلاً، وأنها تسري عليه لم يجز أن يكون محدوداً محصوراً في «وعاء» مادي محدود، بخلاف السوائل، ومنها الماء، التي تحتاج إلى الأوعية لحفظها، وتحديد شكلها وقوامها.
هذا بالنسبة للذات الإلاهية أما الصفات فهي قائمة بذواتها، لا تنفصل عنها ضرورة، ما دامت موجودة، وما دامت الذات تستحق تلك الصفة أو النعت، وهذا في حق الذات الإلاهية أوكد، لأنه، جل وعلا، واجب الوجود، لا تنفك ذاته عن صفاته، ولا صفاته عن ذاته، أزلاً وأبداً، وهو مستحق لتلك الصفات دوماً وسرمداً، فأنى لصفته أن تنفصل وتبين عنه، فكيف تحل صفته في مخلوق، بدون أن يحل هو بـ«ذاته» في ذلك المخلوق؟!
ولو فرضنا المستحيل، أي أن الصفة تنفصل عن الموصوف، وأن واجب الوجود يعرى منها ويفتقدها، فينفصل عنه «العلم» مثلاً، فيعود جاهلاً، لزمنا محال آخر أن «صفة» بلغت غاية النهاية في كمالها المتصور لمفهومها، أي أنها لا نهائية حلت في مخلوق محدود نهائي: لا نهائي حل و«حشر» في نهائي، أي أن المحدود النهائي أصبح أكثر وأكبرمن المطلق الانهائي، ولا بأس حينئذ أن يصبح الجزء أكبر من الكل، أو لعل الصفة لم تنفصل عن الموصوف الأول، بل قامت في نفس الوقت والزمن، ومن نفس الاعتبار بذاتين متباينتين، ومرحباً بمستشفى الأمراض العقلية ؟!
والثاني: النسبة التي بين الصفة والموصوف فإن الصفة يكون قوامها بالموصوف فقد يعبر عنه بأنها، أي الصفة، حالة في الموصوف، على وجه النساهل والتجاوز في التعبير في حق الأعراض والصفات فيقال: (حل العرض في في محله) ومعناه صار المحل متصفا به وصار العرض قائما به وموجودا فيه، ولكن الأدق والأولى أن يقال: (أن الصفة محلها الموصوف)، لأنها هكذا دائماً وأبداً، ما دامت موجودة.
أما ما كان قوامه بنفسه فذلك محال في حقه. فإن كل ما قوامه بنفسه يستحيل أن يحل فيما قوامه بنفسه إلا بطريق المجاورة الواقعة بين الأجسام، كما أسلفناه قريباً، فلا يتصور الحلول بين عبدين مخلوقين، فكيف يتصور بين العبد والرب؟! فدع عنك ذكر الرب تعالى وتقدس في هذا المعرض أصلاً. فكيف يتصور أن يقال إن الرب تبارك وتعالى حل في العبد أو العبد حل في الرب تعالى رب الأرباب عن قول الظالمين علواً كبيرا
وإذا بطل الحلول والانتقال والاتحاد والاتصاف بأمثال صفات الله سبحانه وتعالى على سبيل الحقيقة لم يبق لقول القائل: (أن العبد اتصف بصفات الرب)، أو (أن صفات الرب انتقلت أو تمثلت في العبد)، أو (أن الألوهية تجلت في فلان)، أو (أن الألوهية تجسدت في فلان)، أو (أن فلان تجسدت فيه الألوهية)، أو ما شابه، معنى صحيحاً إلا ما أشرنا إليه، ألا وهو: (أن يثبت للمخلوق من هذه الصفات أمور تناسبها على الجملة وتشاركها في الاسم ولكن لا تماثلها مماثلة تامة). وذلك يمنع من إطلاق القول بأن معاني أسماء الله تعالى تصير أوصافا للعبد إلا على نوع من التقييد خال عن الإيهام، وإلا فمطلق هذا اللفظ موهم، وربما يكون فيه نوع من التوسع والاستعارة فإن معاني الأسماء هي صفات الله تعالى وصفاته لا تصير صفة لغيره ولكن معناه أنه يحصل له ما يناسب تلك الأوصاف كما يقال فلان حصل علم أستاذه، مع أن «عين» علم الأستاذ لا يحصل للتلميذ، بل يحصل له «مثل» علمه.
ولعل هذا سبب غلط جمهورالنصارى المثلثين، أتباع بولص الطرسوسي، حيث رأوا تلك المعاني الكاملة والصفات الباهرة في ذات المسيح عيسى بن مريم، الوجيه المقرب، صلوات الله وسلامه وتبريكاته عليه وعلى والدته، فقالوا هو الإله، بل هو غلط من ينظر إلى مرآة قد انطبع فيها صورة متلونة بتلونه فيظن أن تلك الصورة هي صورة المرآة وأن ذلك اللون لون المرآة وهيهات بل المرآة في ذاتها لا لون لها وشأنها قبول صور الألوان على وجه يتخايل إلى الناظرين إلى ظاهر الأمور أن ذلك صورة المرآة حتى إن الطفل الصغير إذا رأى إنسانا في المرآة ظن أن الإنسان في داخل المرآة، أو ورائها حقيقة، بل قد يحصل هذا للكبير المجرب في مواقف معينة، لا سيما إذا أخذ على غرة ولم ينتبه لوجود المرآة.
وقول النصارى بـ«ظهور اللاهوت على الناسوت»، أو «ظهور اللاهوت في الناسوت»، وربما عبروا عن ذلك بـ«الفيض»، فكلام غامض لا مفهوم له، وقد حاولوا التمثيل لذلك على أوجه متعددة:
v فمنهم من قال مثاله ما ينطبع في الأجسام الصقيلة من الأشياء التي تقابلها، أي كظهور الشئ في المرآة. وربما سمَّوا ذلك «ظهوراً» أو «فيضاً».
هذا تجلي، أو ارتسام صورة، وليس هو حلول أو اتحاد: فصاحب الصورة أمام المرآة، بائن منفصل عنها، فهو لم يتحد بها، ولا هو في داخلها. بل هناك ذاتان مستقلتان: الشخص، صاحب الصورة، والعاكس أو المرآة. فلا يقال ولا يعقل أن المرآة أصبحت شخصاً، ولا الشخص أصبح مرآةً، ولو قال هذا أحد لزج به في مستشفى الأمراض العقلية.
والخالق، جل وعلا، يتجلى في جميع مخلوقاته بهذا المعني فكلها مظهر للقدرة العلية، ولكن إدراك ذلك يحتاج إلى فكر مستنير عميق، وحس مرهف دقيق. وهو يتجلى في أنبيائه وأوليائه: ففيهم تتجلى الهداية والنعمة الإلاهية، وللسيد المسيح، بأبي هو وأمي، من ذلك أوفى نصيب، وليس هو الوحيد في ذلك فما معنى تخصيصه به؟!
وجسد المسيح، صلوات الله عليه، ليس مرآةً، ولا هو من جنسها، و«الكلمة» لم تتجلى فيه تجلي الصورة في المرآة، وإلا لصعق، وذهل، وآمن قسراً كل من رآه. هذا كله لم يحصل، بل خانه واحد من أقرب التلاميذ، لقاء ثمن بخس، دراهم معدودة، كما هو في مرويات القوم.
v ومنهم من قال: مثاله الطابع المنقوش إذا اتصل بشمع وما يضاهيه فيظهر نقش الطابع عليه وإن لم يحل فيه شيء من الطابع. وهذا ليس من مثال المرآة ببعيد: فالختم أو الطابع لم يحل في الشمع أو اندمج معه، بل بقي الختم موجوداً مستقلاً، كما كان قبل استخدامه، والشمع موجود مستقل بعد ختمه بالختم، إلا أنه ارتسمت فيه «صورة» الخاتم، كما هو الحال في المرآة، إلا أنها صورة، نشأت من تشكل وزحزحة الشمع تحت ضغط الختم، وهي ثابتة تبقى بعد إعادة الختم إلى صندوق حفظه، لا كصورة المرآة التي تزول إذا زال «الشخص» من أمامها.
v ومنهم من قال معنى ظهور اللاهوت على المسيح كمعنى استواء الإله على العرش عند الإسلاميين. وهذا كذلك لا مفهوم له، ولا علاقه له بالحلول أو الاتحاد أو التجسد، لأن الاستواء، مهما اختلف فيه أهل الإسلام، لم يتحول به العرش إلى كائن إلاهي أو نصف إلاهي، ولم يتجسد فيه الإله، ولا حل فيه، ولا به اتحد. ثم إن القول باستواء الله على العرش ليس قصراً على أهل الإسلام فهم يقولون كذلك بأن الأب مستوي على «العرش السماوي»، وأن «المسيح» صعد بعد صلبه، ثم قيامته، فقعد على يمين «الأب» فوق العرش الإلهي، ولكنهم لا يقولون أن العرش كائن «إلهي»، فمن أين جاؤوا بهذا التمثيل؟!
v وربما يعبرون عن الإتحاد بالتدرع كأنهم أخذوا ذلك من لفظ الدرع يشيرون إلى أن «اللاهوت اتخذ ناسوت المسيح درعا». وهذا يشبه مثال «الزجاجة» أو «الوعاء» آنف الذكر، لأن الدرع «وعاء» لمن ارتداه، يحيط به من كل أو بعض جوانبه، ويفصله عن الخارج، وقد فصلنا القول في هذا آنفاً. مع أن في هذه اللفظة، ألا وهي: «التدرع» شئ من قلة الأدب، فكأن «اللاهوت» يحتاج درعاً لحمايته، وهو محال.
v ومنهم من قال: (إن الكلمة خالطت جسم المسيح ومازجته امتزاج الخمر باللبن). وهذا مثال لا محصول منه، لأن الكلمة عندهم «أقنوم» من أقانيم الثالوث، وهي كناية عن «العلم الإلاهي»، والعلم الإلاهي ليس بجسد ولا جوهر ولا هو ذات مستقلة، فمحال، كما أسلفنا أن ينفصل عن الموصوف به، جل وعلا، فيعود الرب جاهلاً، بل يصبح كالأموات لا يعلم شيئاً، ولا يدرك شيئاً، بما في ذلك ذاته المقدسة، أي أنه يصبح كالميت أو يموت بالفعل!
وحتى لو قدرنا ذلك المحال، وزعمنا أن الكلمة خالطت جسد المسيح وامتزجت به امتزاجاً حقيقياً تاماً بحيث نشأ كائن جديد، ليس هو «الكلمة» فقط، ولا هو «الجسد» فقط لوقعنا في محالات وتناقضات لا تنتهي: ماذا حدث لـ«الكلمة» الأصلية؟! هل فنيت: هذا محال لأنها واجبة الوجود أزلية، وفق الفرضية الني زعمناها في البداية، هل طرأ عليها تغير جوهري في ماهيتها، هذا محال لأنها واجبة الوجود فكل صفاتها لازمة لها بالضرورة، لا تنفك عنها، فالكلمة إذا محال أن تكون تغيرت أو اتحدت، فما ثم اتحاد إذا ولا امتزاج، أما الجسد فأمره أهون فلعله فني وذهب، وبقيت صورة خيالية يراها الناس، ولكن ليس لها وجود حقيقي. فالمسيح إذا إله خالص، ليس فيه «ناسوت» قط، فإن كان كذلك: فعلى من وقع الصلب، والتعذيب؟! ومن هو المتألم المعاني؟!
v ومنهم من قال أن الكلمة، التي هي عندهم كائن أزلي وأقنوم إلهي، انقلبت لحماً ودماً. هذا خيال شاطح جامح، بل هو خيال مريض، لا معنى له، ولا محصول من ورائه: فالأزلي الواجب محال أن ينقلب إلى محدود حادث نهائي. فإن جاز ذلك فخروج العالم إلى الوجود من غير خالق موجد أولى وأقرب إلى العقل.
v ومنهم من أثبت «الاتحاد»، ولكنه قال: (لا يسأل عنه ولا يكيف).
فأما هؤلاء فقد كفونا، بحمد الله، مؤنة الرد عليهم لأنهم اعترفوا بجهلهم، ولكن يبقى السؤال: كيف أثبتم ذلك للمسيح وأنتم لا تعرفون عنه شيئاً مطلقاً؟! لا بد أن في أذهانكم تصوراً، أو مفهوماً، أو تعريفاً لـ«الاتحاد»، ولو بشكل مجمل، ولا بد أنه يمكنكم التعبير عنه، ولو بشكل مشوش غامض ناقص، وإلا فلم أثبتموه للمسيح إذاً؟!
هذه مذاهب المشتهرين من طوائفهم وأما اختلاف آحادهم وعوامهم فلا يكاد ينضبط ولا يرتبط، وهو أوغل في التخليط والخيال.
بقيت شبهة واحدة يستخدمها القائلون بأن لله ولداً، أو أنه حل في فلان، أو أن الله أو بعض الله أو كلمة الله قد انقلبت لحماً ودماً، وهي: أن القول باستحالة ذلك يعني تقييد قدرة الله، فلا يعود الله: }على كل شيء قدير{.
والحق أن القدرة الإلاهية إنما تتعلق بالممكنات العقلية والمنطقية فقط، ولا تتعلق بالمستحيلات المنطقية أو العقلية.
أما المستحيل عادة أو طبيعة، أي وفق العادة الجارية أو وفق قانون الطبيعة، كانقلاب العصا حية على الفور، فليس هو من المستحيلات العقلية أو المنطقية، أو الممنوعات بالضرورة المفاهيمية المطلقة، لأن العصا ممكنة، وهي موجودة الآن وقد بدأ وجودها بعد عدم، وهناك في الواقع المشاهد عصي كثيرة، والحية ممكنة، وهي موجودة الآن وقد بدأ وجودها بعد عدم، وهناك في الواقع المحسوس حيات كثيرة، وانعدام العصا أو الحية وتحولهما إلى (لا شيء) أمر ممكن، وكذلك نشوء العصا أو الحية من (لا شيء) أمر ممكن أيضاً، والكون كله قد نشأ من (لا شيء) في بدايته، مهما طالت سلسلة الأسباب والمسببات بين تلك البداية وبين هذه اللحظة الآنية..
فثبت إذاً أن انقلاب العصا حية، وعودة الحية عصاً ممكن عقلاً، فهو مقدور لله، وقد وقع ذلك فعلاً لموسى بن عمران، صلوات الله وسلامه عليه وعلى أخيه هارون، وإن كان ذلك محالاً في العادة، أي وفق قانون الطبيعة، ولكنه ممكن عقلاً، فليس هو من المحالات العقلية المنطقية.
أما القول بأن القدرة الإلاهية تتعلق بالمحالات العقلية فيجوز من ثم لله أن يتخذ ولداً حقيقياً ذي عنصر وجوهر إلاهي، ويجوز للكلمة الإلاهية أن تنقلب لحماً ودماً، القول بذلك ونحوه يفضي إلى جعل الله، تعالى وتقدس، باطلاً: فيجوز أن ينقلب من واجب وجود إلى ممكن، فالأولى أن يحكم بأنه معدوم، ونشوء الكون من لا شيء بغير خالق أهون من ذلك، وأسهل قبولاً. وبهذا ينهدم العقل، وتبطل اللغات والشرائع، عياذاً بالله.
وهذا المبحث في حقيقة الإرادة والمشيئة والأمر من أخطر مباحث العقيدة لذلك زلت فيه الأقدام، واحتارت فيه فيه الأفهام. فالقدرة لا تتعلق بالواجب لذاته، أي: واجب الوجود، ولا بالمستحيل لذاته، لأنها إن تعلقت بوجود الواجب لزم تحصيل الحاصل وهذا لغو لا معنى له، وان تعلقت بعدمه لزم انقلاب حقيقة الواجب، وحقيقته لا تقبل العدم أصلاً بالضرورة المفاهيمية المطلقة، لأن انعدام واجب الوجود محال مطلقاً.
والقدرة أيضاً لا تتعلق بالمستحيل، لأنها ان تعلقت بالمستحيل لإعدامه لزم تحصيل الحاصل أيضا وهو هراء لا معنى له، وان تعلقت به لإيجاده لزم انقلاب حقيقة المستحيل لذاته، وحقيقته لا تقبل الوجود أصلاً، بالضرورة المفاهيمية المطلقة، فلزم ضرورة أن القدرة لا تتعلق إلا بالممكن.
والله، جل جلالده، وسما مقامه، هو الحق المبين، الذي قد أحاط بكل شئ علماً، القدوس المنزه عن كل عيب ونقص، فمن المحال المتتنع أن تتجه مشيئته وإرادته أصلاً إلى الباطل، لذلك لا يمكن أن تتجه المشيئة والإرادة لا إلى الواجب بذاته، ولا إلى المستحيل لذاته
بناءً على هذا فان القدرة والإرادة كلاهما لا تتعلقان بالمستحيل لذاته ولا بالواجب بذاته. ولا يلزم من عدم تعلقهما بالواجبات والمستحيلات نسبة العجز والقصور إليهما، وإنما يلزم ذلك فقط فيما يمكن أن تتعلق به القدرة والإرادة، وليس هذا هو الحال ها هنا لأن القدرة لم تتعلق به أصلاً، ولا المشيئة اتجهت إليه ابتداءً.
والكثير من الناس يتخوف من النص على ما قلناه، وهو: (أن القدرة الإلاهية إنما تتعلق بالممكنات العقلية والمنطقية فقط، ولا تتعلق بالمحالات العقلية أو المنطقية)، وذلك تعظيماً لله، وتأدباً معه. فنقول: أحسنت وأجدتم إذ التزمت الأدب عند الكلام عن الرب، جل جلاله، وتقدست أسماؤه، ولكن لا تخافوا، فقد جاء هذا من كلام الله نصاً، حيث قال، تعالى ذكره: }لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ{، (الزمر؛ 39:4). فهذا تقدير امتناع لامتناع: فلو فرض المحال جدلاً أن الله يشتهي الولد، ويريد أن يتخذ ولداً، تعالى وتقدس عن تلك الشهوات والإرادات، لما كان في الإمكان أكثر من أن «التبني»، أي أن «يصطفي» من مخلوقاته ما يشاء، فقط لا غير. أما ولد للصلب فمحال، وأما تبني كائنا إلاهيا آخر فيصبح ولداً متبنىً فمحال أيضاً، إذا ما ثم إلا كائن إلاهي واحد، فقط لا غير، من غير زيادة ولا نقصان، هو الله العزيز الحكيم. وهذا هو قولنا الذي سلف، حرفاً بحرف، فالحمد لله الذي أنزل الذكر، قرآناً وسنة، شفاءً لما في الصدور، وهدىً ورحمة لقوم يوقنون.
وهذا الهدى والنور الذي أنزله الله على خاتمة أنبياء الله، محمد بن عبد الله، عليه وعلى آله صلوات وتسليمات وتبريكات من الله، يبين أيضاً أن الله، جل جلاله، لا يشتهي الولد أصلاً، ولا يريده، ومن ثم فهو لا «يتبنى» مطلقاً، قلا يجوز أن يوصف إنسان من البشر في الأرض، أو ملك من ملائكة السماء، أو أي مخلوق آخر، بأنه «ابن» الله، أو «بنت» الله. لذلك فإن القول بأن المسيح عيسى بن مريم، صلوات الله وسلامه وتبريكاته عليه وعلى والدته، ابن الله، حتى بمعنى «التبني» هذا، باطل، ومن قال به بعد نزول القرآن فهو كافر لأنه مكذب لله تعالى.
غير أن طوائف من النصارى، من أتباع آريوس وكذلك أغلب اليهود المتنصرين الأوائل، قد قالوا بذلك قديماً. وهم بذلك مخطؤون، إلا أنهم ليسوا مشركين، إن شاء الله تعالى، لأن الكتب الأولى لم تذكر من هذا شيئاً، بل قد جاءت ألفاظ في الكتب القديمة يفهم منها «التبني» بمعتى «الاصطفاء»، فهم إذاً مؤمنون موحدون، لم يكذبوا لله خبراً، ولم يجعلوا لله شريكاً، ولم ينسبوا له ولداً «حقيقياً»، أي من طبيعة أو عنصر إلاهي، مساوياً لأبيه في الجوهر، كما فعل المثلثون، وغيرهم من فرق الشرك والكفر، كما سيأتي تفصيله.
وحتى من قال بـ«البنوة» الحقيقية، وهي مقول شرك وكفر بذاتها، كثير منهم قد يكون معذوراً بجهل أو تأويل، أو بعض موانع التكفير المعروفة، وذلك قبل بزوغ شمس الرسالة المحمدية، وانبلاج نور الحجة الرسالية، فإلى الله ينبغي تفويض أمرهم، كما سيقول السيد المسيح عيسى بن مريم، صلوات الله وسلامه وتبريكاته عليه وعلى والدته، نفسه يوم القيامة: }إن تعذبهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم{، وهكذا نقول، والثانية أي المغفرة نرجو، ولن يهلك على الله إلا هالك!
هذه مجرد لمحة خاطفة في أهم المباحث المتعلقة بتوحيد الرب، جل جلاله، وسما مقامه، على وجه الإجمال والاختصار. أما بسط الكلام في هذا فيحتاج المجلدات، وله موضع غير هذا: نسأل الله فسحة في الأجل، وصحة في البدن لمحاولته، لا إله إلا هو، عليه نتوكل، وبه نستعين.
u فصل: براهين شهادة أن: «محمداً رسول الله»
ومن ناحية أخرى فإن كل ما غاب عنا، أي ما لم يقع عليه حسنا مباشرة، أو كان قبلنا، فلا يمكن أن يعرف إلا بالخبر عنه. وخبر التواتر يوجب العلم الضروري، ولا بد، ولو دخلت في نقل التواتر داخلة أو شك لوجب أن يدخل الشك هل كان قبلنا خلق من بني آدم أم لا إذ لم نعرف كون الخلق موجودا قبلنا بهذه الصفة إلا بالخبر المتواتر ومن شك في هذا هدم العقل، ولحق بالمجانين، ولم يعد يحسن معه خطاب أو حوار أو كلام.
والتواتر هو نقل عدد يستحيل تواطؤهم على الكذب عن مثلهم إلى منتهاه، بحيث يكون المنتهى مما يقع عليه الحس، أي مما يمكن أن يكون السامع لخبره ناقلاً له من جملة الناقلين لو كان حضره فشهده ببصره أو سمعه أو كليهما. أما إجماع الجم الغفير على معتقد أو رأي فلا قيمة له، وهو ليس بتواتر يثبت به شئ، وكدلك إجماعهم على ضروريات العقل، ليس بتواتر، وإن كانت ضروريات العقل هي المرجع والحكم النهائي في كل معرفة، ولكنه ليس بتواتر، ولا من جنسه، وإن كان أعلى منه في القيمة المعرفية. وإنما التواتر هو النقل الموصوف أعلاه المنتهي إلى الحس، أي إلى «الشهادة»، بالسمع أو البصر أو بكليهما، وربما بغيرهما من الحواس، لا غير.
وبنقل التواتر المذكور ثبت أن قوما من الناس أتوا أهل زمانهم يزعمون أن الله تعالى خالق الخلق أوحى إليهم يأمرهم بإنذار قومهم بأوامر ألزمهم الله تعالى إياها فسئلوا برهانا على صحة ما قالوا فأتوا بأعمال هي خلاف لطبائع ما في العالم لا يمكن البتة في العقل أن يقدر عليها مخلوق، حاشا خالقها الذي ابتدعها كما شاء:
ــ كقلب عصا حية تسعى،
ــ وشق البحر لشعب عظيم جازوا فيه وغرق من اتبعهم، وهم جيش كبير عليه ملك جبار،
ــ وكإحياء ميت قد صح موته يقيناً بعد موته بأيام عديدة، وفي أكثر الأحيان يكون قد دب فيه العفن المتقدم، أو يكون قد تطاول عليه الزمن حتى عاد عظاماً نخرة،
ــ وكإبراء أكمه ولد أعمى فارتد بصيراً على الفور،
ــ وكناقة حية من لحم ودم تأكل وتشرب وتُحلب خرجت من صخرة صمَّاء ميتة،
ــ وكإنسان رمي في النار المتأججة فلم يحترق،
ــ وكإشباع مئات من الناس من صاع شعير،
ــ وكنبعان الماء من بين أصابع إنسان حتى روي العسكر كله،
فثبت ضرورة أن الله تعالى شهد لهم بما أظهر على أيديهم بصحة ما أتوا به عنه وأنه تعالى صدقهم فيما قالوه.
وثبوت النبوة والرسالة لإنسان يعني أن من أرسله هو الله، خالق الكون والإنسان والحياة، وأن هذا الشخص نبي صادق، وأنه مؤيد بتلك البينات من الذي أرسله: فثبوت النبوة والرسالة يثبت فوراً، وللوهلة الأولى، وجود المرسل، فهو إذاً يغني عن البراهين المستقلة على وجود الخالق تبارك وتعالى.
أي أن براهين النبوة والرسالة هي في نفس الوقت، وعلى الفور للوهلة الأولى، أدلة على وجود المرسل، تبارك وتعالى، فلا حاجة لما ذكرناه من البراهين العقلية المحضة، آنفة الذكر، على وجود الخالق تبارك وتعالى، إذ أن براهين النبوة تجزئ عنها.
فما قد يقدمه بعض الفلاسفة من استشكالات على تلك البراهين العقلية، تتعلق أكثرها بإشكالية حدود تعقل وتصور الزمان والمكان، لا يضر شيئاً إذ أن النبوة والرسالة تبرهن برهاناً قاطعاً على وجود المرسل، وتخبر عن أهم صفاته، من غير أن ترد عليها تلك الإشكاليات. فالحمد لله الذي أقام صنوفاً مختلفة من البراهين على وجوده ووحدانيته وألوهيته وربوبيته، لا إله إلا هو، عليه نتوكل، وبه نتأيد!
ومحمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي العربي هو رسول الله إلى جميع الإنس والجن كافرهم ومؤمنهم بالبراهين القطعية الكثيرة، ومنها:
v معجزة القرآن: وهي أهم معجزاته وأعلاها، أنه أتى بهذا القرآن المنقول إلينا بأتم ما يكون من نقل التواتر، المحفوظ حرفاً حرفاً، بل حركة حركة، مع كيفية ترتيله والتغني به، وأنه دعا من خالفه إلى أن يأتوا بمثله متحدياً لهم، ساخراً منهم، في أسلوب كله تقريع وتوبيخ، فعجزوا كلهم عن ذلك، وهذا التعجيز لجميع العرب عن أن يأتوا بمثله أولهم عن آخرهم موجود في نص القرآن في مواضع عديدة، بل إن التحدي على الإتيان بمثله كان لكل الجن والإنس، ثم قطع أنهم لا يستطيعون ذلك ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ومعيناً، وقد عجزوا عن ذلك، وما زالوا عاجزين، وسيبقون عاجزين إلى يوم القيامة.
ولا يهم ماهية هذا الإعجاز: أهو لأمر ذاتي في القرآن، أي لأنه معجز بذاته، أو بـ«الصرفة» أي لأن الله صرفهم، وأحبط عزيمتهم، وأفشل إرادتهم، فكلا الأمرين خارق لنظام الكون. وعلى كل حال فالتحدي بالقرآن قد تم، وعجز العرب وغيرهم قد ثبت، هذه حقيقة تاريخية ثابتة.
نعم: لقد قامت الحجة واكتمل البرهان، لا سيما وأن العرب الأقحاح الذين يتكلمون اللسان العربي الفصيح على السليقة قد انقرضوا في أواسط القرن الهجري الرابع، أي الميلادي العاشر، ولم يبق من يتكلم باللسان العربي الفصيح إلا بعد تكلف وتعليم، وليس أحد منهم حجة على العربية الفصحى، فلا يقبل حكمه في القرآن: لا بالقول أنه معجز، ولا بالقول أنه ليس بمعجز من الناحية اللغوية البلاغية المحضة.
أما التحدي بالقرآن من ناحية معانيه، وما فيه من إبداع أدبي وبلاغي، وما تميز به من تصوير فني، وإخراج قصصي مسرحي، وما فيه من إخبار صادق عن الأمم السابقة، وما فيه من معجزات علمية، وخلوه من التناقض، وتأثيره المذهل في النفوس حتى في ترجماته، التي غالباً ما تكون هزيلة، إلى لغات أخرى، فهذا التحدي ما زال قائماً إلى اليوم، وسيبقى قائماً إلى أبد الأبد: قال، جل وعز، عن هذا القرآن نفسه: }سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسه حت« يتبين لهم أنه الحق، أو لم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد{، (فصلت: 41؛53)، أي أن القرآن حق من عند الله، أو أن ما جاء به محمد حق من عند الله، وكل ذلك متلازم يقتضي بعضه بعضاً.
ولعلنا نؤكد حقيقة هامة، وهي أن خلو القرآن من التناقض جاء في صورة تحدي للخصوم بأن يتدبروه بكل دقة بقصد إثبات تناقضه، أي بقصد إبطاله، ثم قال متحدياً: لن تجدوا أبد الدهر فيه شيء من ذلك، لأنه من عند الله، كما قال رب العزة والجلال، تباركت أسماؤه: }أفلا يتدبرون القرآن؟! ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً{، (النساء؛ 4:82).
هذه دعوة صريحة للنقد والتمحيص، وليست دعوة للتسليم من غير برهان، وهي تقرير لمبدأ «الإبطال والتزييف»: أي أن كل ما لم يصمد للفحص والتدقيق، ومحاولة التزييف، فهو خلو من البرهان، وهو من ثم باطل، ومدعيه كاذب، حتى لو أصاب الحقيقة بالصدفة: }هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين!{، (النمل؛ 27:64) وهذه آية مكية، وكذلك: }هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين!{، (البقرة؛ 2:111) وهذه مدنية.
فالحقيقة، وإن كانت في ذاتها ثمينة مطلوبة، إلا أنها لا تصمد في ذهن المؤمن بها، ولا تنتج فكراً أو عملاً بحق إلا إذا كانت قد قامت على البرهان، وإلا عصفت بها الرياح.
ومن قبل بدعوى، حتى ولو كانت صحيحة في ذاتها، بغير برهان، فهو متقول بغير دليل، وهو من ثم كاذب، حتى ولو كانت المقولة في ذاتها صادقة، لأن من لم يأت بالبرهان كاذب: }هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين!{: أي إن كنت صادقاً فأرني برهانك، وإلا فأنت كاذب، لأنه ليس ثمة إلا: صادق أو كاذب، لا ثالث لهما!
وقوله، تعالى ذكره: }سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسه حت« يتبين لهم أنه الحق، أو لم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد{، (فصلت: 41؛53)، إذا تدبرته مع ما أسلفناه دعوة صريحة للنظر في الآفاق، وفي ذات الإنسان، للبحث عما يثبت بطلان القرآن، من قبل من يزعم أنه ليس من عند الله، لأن الله الذي أنزل القرآن وعد أنه سيأتي بمزيد أدلة على صدق القرآن، شيئاً فشيئاًً، في العالم المحسوس: في الآفاق وفي أنفسنا، وقد تحقق من ذلك الكثير، فمثلاً:
ــ ذكر القرآن العظيم العديد من الأمور المتعلقة بتشكل الجنين وتطوره، وبعضها يستحيل الوصول إليه بمجرد التشريح المعتاد، بل هو بحاجة إلى استخدام المجاهر وآليات حديثة أخرى. وقد جمع أكثر ذلك بعض الدارسين وترجموه بكل دقة ثم عرضوه، كما هو الواجب عقلاً وشرعاً، على أهل الاختصاص من أساتذة علم الأجنة، ومنهم: الأستاذ الدكتور كيث مور، أستاذ علم الأجنة في جامعة تورونتو بكندا، فدهش الرجل من دقة تلك المعلومات، وقام بإجراء تعديلات على الطبعة الثانية من أحد كتبه، وقام بإظهار ذلك على الملأ، في الإذاعة والتلفاز، وحظي ذلك بتغطية في الصحافة التي خرج بعضها بعناوين مثل: (أشياء مدهشة وجدت في كتاب عتيق):
(SURPRISING THINGS FOUND IN ANCIENT BOOK!).
ــ نص القرآن على أن الأحياء خلقت كلها «من» الماء. ليس هذا هو القول بأن الكائنات الحية «تحتاج» الماء، كما هو معروف لكل أحد منذ أقدم الأزمنة، وإنما هو أنها مكونة في جوهرها من الماء، وأن الماء مكون أساسي لها. وهذا إنما ثبت حديثاً من دراسة جميع الخلايا الحية دراسة مجهرية فثبت أن الزلال الخلوي يحتوي من 80% من الماء، وأن وظائف الحياة المعروفة كلها تتعذر إلا في الوسط المائي.
v ومن معجزاته، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أنه شق له القمر قال الله عز وجل: }اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر وكذبوا واتبعوا أهوآءهم وكل أمر مستقر ولقد جآءهم من الأنبآء ما فيه مزدجر حكمة بالغة فما تغني النذر{، ورآه الكثير منهم عيانآ. وقد استشكل أقوام أن ذلك ما رؤي إلا في مكة وما حولها، لم يره غيرهم، فأين بقية سكان الأرض، على كثرتهم. فنقول: لو تابعتم نشرة الأحوال الجوية في التلفاز لأدركتم أن نصف الكرة الأرضية قد تغطيه السجب بأكمله إلا بقاع قليلة مرات كثيرة في السنة. وحادثة انشقاق القمر إنما استغرقت ثوان قليلة، ورآها أهل مكة، ومن حولهم، وهم المخاطبين بها لا غيرهم. أما بقية بقاع الأرض في جانبنا هذا من الكرة الأرضية فكانت تغطيها السحب. على أن ذلك كان ليلاً، وما لم يرفع الإنسان رأسه إلى السماء، حيث كانت صحواً، فلا يمكنه إدراك ذلك أو رؤيته.
ويحتمل أن قلة من الناس رأته فلم تجرؤ على الكلام عنه خشية أن تتهم في عقولها، فالحدث إنما دام ثوان معدودة. وأخبرني بعض أهل الهند أن أحد ملوكهم شهد هذا وسجله، ولكنه لم يأتني بمرجع أو إسناد معتبر.
أما من زعم أن هذا سيكون عند، أو قبيل، القيامة الكبرى فما أصاب، ونص الآية قطعي على أنهم رأوا الآية وأعرضوا واتهموا محمداً بالسحر، فلم المكابرة والتكلف إذاً؟! على أنه قد جاءت روايات صحيحة، في البخاري وغيره، عن نفر من الصحابة بوقوع ذلك في مكة.
v ودعا اليهود إلى تمني الموت إن كانوا صادقين في زعمهم أنهم أولياء الله وأنهم «شعب الله المختار» من دون الناس، وأن الجنة لهم وحدهم محجوزة مرتبة، وأخبرهم أنهم لا يتمنونه أبداً لكذبهم وسوء عملهم، فعجزوا كلهم جهاراً عن تمني الموت، ولزمتهم الفضيحة إلى آخر الأبد.
v ودعا النصارى، نصارى نجران، إلى مباهلته لحسم الخلاف حول طبيعة السيد المسيح عيسى بن مريم، صلوات الله وسلامه عليه وعلى والدته، ووصفهم بالكذب والكفر، وتوعدهم بالنار، فأبوا كلهم، وقبلوا أن يخضعوا لسلطانه، وأن يدفعوا الجزية وهم صاغرون، من غير كر ولا فر ولا قتال، ولزمتهم الفضيحة كذلك إلى آخر الدهر.
v وقطع على أن عمه أبا لهب بن عبد المطلب وزوجه أم جميل من أهل النار في سورة تتلى إلى اليوم، وإلى الأبد، وبقي عمه بعد نزول السورة أعواماً في ضلاله وغيه حتى مات على الكفر وعلى معاداة محمد، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله. وكان أسهل شئ في الدنيا عليه أن بتقدم إليه معلناً التوبة والرغبة في اتباعه، فيظهر بذلك تناقضه، فلا يستطيع محمد محو السورة أو إنكارها من غير أن يفتضح، ولا هو بمستطيع الإفلات من مضمونها، وهو قطعي الدلالة لا محيص عنه، ولكن ذلك كله لم يحصل، مع أن أولياء أبي لهب من المشركين كان فيهم الدهاة، ورجال المناورة، ومن اعتاد دبلوماسية الملوك، مثل عمرو بن العاص، ولكنهم كلهم أعماهم الله عن هذه المناورة السهلة البسيطة، بالرغم من استماتتهم في البحث عما يبطل نبوته، وتآمرهم ليل نهار عليه وعلى دعوته وأصحابه، وتواطئهم على تعذيبهم، ومصادرة أموالهم، وقتلهم وإخراجهم.
v وجاء في القرآن العظيم أن الفرعون الذي غرق في مطاردة بني إسرائيل نُجِّي ببدنه: }ليكون لمن خلفه آية{، وهو أمر لم تذكره كتب بني إسرائيل، الذين شهدوا الواقعة، بل ذكروا أنه قد غرق وجيشه فقط، ثم انقطعت أخبار مصر عنهم بعد ذلك. وبالفعل وجدت أجسام جميع الفراعنة الذين كانوا قبل وبعد ذلك الزمن محنطة مصبرة، لم يفقد منهم أحد مطلقاً. وهذا سبب إشكالات كبيرة لعلماء الآثار المحاولين التحقق من صدق «العهد القديم»، وروايات بني إسرائيل. وهذه آية كبرى لمحمد بن عبد الله، عليه وعلى آله صلوات وتتسليمات وتبريكات من الله، تقوم بها وحدها الحجة اليقينية على نبوته.
v وأخبر في القرآن العظيم، والنص موجود فيه يقرأ حتى هذه الساعة، أن الروم الذين غلبهم الفرس وألحقوا بهم هزيمة نكراء، أوشكت أن تبيد دولتهم، وحاصروهم في عاصمتهم القسطنطينية، أخبر أنهم ستكون لهم كرة أخرى ينتصرون فيها على الفرس.
وكانت قريش الوثنية فرحت بهزيمة الروم، وهم أهل كتاب، على يد الفرس، وهم وثنيون يؤمنون بإلهين متحاربين متخاصمين: إله النور وإله الظلمة، وقالت قريش متفائلة ما معناه: (كما أن الفرس هزموا الروم، أهل الكتاب، ويوشكون على استئصالهم، فنحن كذلك سوف نستأصل محمداً وأتباعه)، وكانت هزيمة الروم على يد الفرس هزيمة ساحقة في موقعة أنطاكية الشهيرة عام 613م، فجاء القرآن مكذباً لفألهم، مخبراً أن الوضع سينقلب إلى ضده في بضع سنين. وقد قامر أبو بكر الصديق، رضوان الله وسلامه عليه، أحد المشركين على أن الروم سوف ينتصرون بعد ثلاث سنين وأخبر النبي، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، بذلك فسأله: «ما البضع في لسان قومك؟!»، فقال: (من ثلاث إلي تسع)، فأمره بالزيادة في الرهان مقابل الزيادة في المدة، ففعل أبو بكر، وانعقد الرهان على تسع سنين، وربح الرهان، بانتصار الروم عام 622م، وذلك قبل مجئ الحكم بتحريم القمار والمراهنة، وهذه الأحداث مذكورة في (تاريخ الدولة البيزنطية) للمؤرخ الروسي «أوستروجورسكي»، وهو كذلك عند المؤرخ الإنجليزي الشهير «جيبون» في موسوعته العظيمة: (انحدار وسقوط الامبراطورية الرومانية).
v وجاء في القرآن الكثير من أخبار الأمم السابقة على نوح يشبه، ولكنه لا يتطابق مع الكتب القديمة، بل وأحياناً على خلاف جوهري لما في كتب أهل الكتابين السابقين:
ــ فمن ذلك رفعه لشأن سليمان الذي يتهمه اليهود بالردة والكفر والسحر، وأكثرهم عى أنه في أحسن أحواله ملك حكيم، وليس بنبي، فمن أين أتى بهذا؟! لو كان متنبئاً كاذباً ماكراً لما أدخل نفسه في هذه الورطات من غيرضرورة أو سبب موجب. ولو كان موسوساً مغلوباً على عقله، يعتقد في نفسه النبوة لعاطفة جامحة، أو لخيال مريض، فما هي دوافعه، أو دوافع «عقله الباطن» المزعومة، في التحمس لسليمان ووصفه بالنبوة، ومصادمة ما هو مشهور عند الناس ويعتقده حتى صغار الأطفال فيه من السحر وتنصيب الأوثان، وليس بينه وبين سليمان قرابة، أو مودة أو أي علاقة مصلحية من قريب أو بعيد، بل بينهما فوق ألف وخمسمائة عام، وهما من شعبين مختلفين، يكره كل منهما الآخر ويحتقره.
ــ وكذلك تبرئة هارون، صلوات الله عليه، من مزاعم اليهود، كما هي في العهد القديم، أنه هو الذي صنع «العجل الذهبي».، فكيف جاء هذا كله، وما هي دوافعه، ولماذا خالف ما وصل إلى علمه من أهل الكتاب، إن كان قد تعلم منهم، كما يزعم مكذبوه في جميع العصور، وبخاصة من المستشرقين «المتعالمين».
ــ وفي قصة يوسف وإخوته خالف في نقاط مهمة ما جاء في «العهد القديم»، كما هو في أيدي اليهود والنصارى. فمثلاً ينص «العهد القديم» على أن إخوة يوسف باعوه لقافلة من «الإسماعيليين». ولكن القرآن ينص على أنهم لم يباشروا ذلك بأنفسهم، وإنما ألقوه في الجب آملين أن يلتقطه بعض السيارة، أي أحد القوافل التي تعبر بانتظام، ولعلهم رصدوا في الأفق قافلة مقبلة من بعيد فألقوه حينئذ. ومهما كان الأمر فإن قصة العهد القديم غير معقولة، وتفوح منها رائحة الكذب: فبنو إسماعيل. وهو الأخ الأكبر لإسحاق، الجد الأول المباشر ليوسف وإخوته، لا يمكن أن تتكاثر أعدادهم في تلك المدة القصيرة بحيث يمكن أن تتكون منهم قافلة تتجه إلى مصر للتجارة، تستحق أن تسمَّى قافلة من «الإسماعيليين»، لا سيما وأنهم كانوا في أعماق الجزيرة العربية. هذه أكذوبة متأخرة، بعد أن أصبح الإسماعيليون أمة كبيرة، لها قوافل منظمة، وكانت بينهم وبين بني إسرائيل مناوشات وعداوات وحروب، فقام بعض المتأخرين من كذبة بني إسرائيل بوضع تلك الأكذوبة لإظهارهم بصورة سيئة، على عوائد أساطين الدعاية الكذابين عندما يخوضون الحروب المعنوية، وحرب الدعاية: فما دام إخوة يوسف، بنو يعقوب بن إسحاق، سلام الله عليهما، سقطوا تلك السقطة الشنيعة، وقاموا بذلك العمل القبيح في حق أخيهم يوسف، فلم لا نشرك بني إسماعيل معهم، حتى يصبح الجميع في القبح والإجرام سواء؟!
سيقول المستشرقون والمنصرون، كعادتهم طبعاً، هذا من نباهة محمد وعبقريته! فيا لله للعجب من هذا الرجل:
ــ فهو تارة عبقري فذ، وفيلسوف كبير، وسياسي ماهر، يتعمد الكذب ويتقنه، وكان يتظاهر بالأمية والعامية. هذه «فضيحة»: ولهذا قل من يقول بها اليوم، فحياة محمد من أولها إلى آخرها تظهر أنه كان على يقين راسخ، وإيمان جازم، لا يتزعزع، بأنه نبي مرسل.
ــ وأخرى جاهل أبله يغلط في البديهيات، حتى فاته أن هارون هو صانع العجل الذهبي، وأنه لم يكن زمن موسى من يسمًّى (سامري)، وأن (الصلب) عقوبة رومانية لم توجد في العالم قط، فكيف صلب فرعون السحرة؟! ولما كان قد درس على أهل الكتب السابقة فهو، ضرورة، تلميذ «خائب»، تكثر غلطاته حتى في البديهيات.
ــ وتارة درس على أحبار النصارى واليهود وحفظ، لذلك روى عنهم بدقة كبيرة، ولكنه ما أتى بكبير جديد، وإنما هو يجتر ما أبدعوه اجتراراً،
ــ بل لعله أسقف نصراني، متمكن في علوم النصرانية، تمرد على الكنيسة واتبع المبتدع «آريوس»، الذي ينكر ألوهية المسيح.
والمعضلة، بل «الفضيحة»، في هذه الحالة أعظم، لأن ذلك يتناقض مع النقل التاريخي المقطوع به: أنه كان أمياً، ولم تكن له أي علاقة مطلقاً بكنائس النصارى أو أحبار اليهود، كما يتناقض مع عدم وجود نص قرآني، أو حديث صحيح ثابت، يشبه أن يكون منقولاً، ولو بتصرف، من القصص الموجودة الكتب الأولى، أو يقترب من أسلوب سردها.
ــ بل لعله متطرف متحمس مهووس، يريد إصلاح المجتمع المكي «البورجوازي» الفاسد، فغلبه عقله الباطن، فاعتقد في نفسه النبوة اعتقاداً جازماً، فهو مخلص في ادعائه، ولكنه مغلوب على عقله،
ــ طبعاً قل اليوم جداً من يقول أن الشيطان هو الذي أوحى لمحمد بالقرآن. هذا الكلام «عيب»، ولا يوافق عقلية العصر الحديث، التي تنكر الجن والعفاريت والشياطين!
ولكن لا بأس: فما أحسن هذا «الشيطان» الذي يوحي بمثل هذا القرآن المملوء بالمواعظ والحكم، والأمر بالعدل والإحسان، وصلة الأرحام، والرحمة باليتيم والمسكين والضعيف؟! وأي «شيطان» عجيب هذا الذي يعلم غيوب المستقبل، ومطويات الماضي؟!
ولعل القوم يتحفوننا قريباً بنظرية جديدة لتفسير «الظاهرة المحمدية». وعلى كل حال فلا خير في أي تفسير لا يكون:
(1) «شاملاً» يفسر جميع جوانب «الظاهرة المحمدية»، بدون استثناء،
(2) مع كونه «متناسقاً»، أي خالياً من التناقض.
v وجاءت في القرآن بعض الأخبار عن الأمم السابقة التي لا وجود لها أصلاً في كتب أهل الكتابين السابقين:
ــ ذكر القرآن أن أحد وزراء فرعون، أو لعله أحد رجالات الدولة الفرعونية القياديين، كان يسمّى، أو يلقب، بـ«هامان»، وذلك في نصوص القرآن التالية:
(1) }وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ{، (غافر؛ 40:36)؛
(2) }وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ{، (القصص؛ 28:38)؛
(3) }وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ{، (القصص؛ 28:6)؛
(4) }فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ{، (القصص؛ 28:8)؛
(5) }وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ{، (العنكبوت؛ 29:39)؛
(6) }إِوَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ v لَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ{، (غافر؛ 40:23-24).
وقد أشكلت هذه الإشارة على كثيرين ممن يزعم أن محمداً، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، إنما اقتبس معلوماته التاريخية من الكتب المتقدمة. ولكن الكتب الأولى لا تذكر هذا الإسم عند الكلام عن موسى وفرعون.
نعم: هناك هامان آخر، ولكن هذا كان وزيراَ لأحد ملوك بابل أثناء الأسر البابلي لبني إسرائيل، لذلك سارع بعض المستشرقين والمنصرين بالقول أن محمداً اختلطت عليه الأمور، فنقل هذا الوزير إلى قصة موسى، وهي متقدمة على الأسر البابلي بما يزيد على ألف عام.
إلا أن الحق هو أن لفظة «هامان» لفظة فرعونية، وجدت هكذا بعينها منقوشة على حجر رشيد الشهير، الذي كان المفتاح لفك رموز الكتابة الهيروغليفية، وليس هذا فحسب بل أن موصوف بكونه: (رئيس عمال المحاجر، وقطع الصخور)، أي ما يشبه (وزير الأشغال العامة) في العرف الحديث، فهو إذاً المسؤول عن المشاريع المعمارية الضخمة للدولة الفرعونية، تماماً كما هو في النص القرآني آنف الذكر.
بل إن هناك في الآيات مؤشرات أخرى، من أهمها أن ذلك الـ«هامان» المعين، الموجود في زمن فرعون موسى، كان يلعب دوراً سياسياً بارزاً، يشبه دور رئيس الوزراء أو الوزير الأول، ولا يتناسب عادة مع منصب (وزير الأشغال العامة) في الأحوال العادية. لذلك لا بد أن يكون ذلك العهد عهد منشئات ضخمة، وأعمال معمارية كبيرة، بحيث كان تأثير (وزير الأشغال العامة) كبيراً وبارزاً على نحو ملفت للنظر، أو كان رئيس الوزراء يحتفظ لنفسه بهذه «الحقيبة» المهمة. هذا يتناسب جيداً مع كون زمن موسى هو، في الأرجح، أيام رمسيس الثاني، أو قبله بقليل، أو بعده بقليل، وهي عصور أضخم الإنجازات المعمارية الفرعونية.
ــ وجاء في نص القرآن: }أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ v إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ v الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ{، (الفجر؛ 89:6-8).
هذا النص يجعلنا نقطع بأن (إرم) هذه مدينة مهمة، لعلها عاصمة دولة (عاد) أو أهم مدنها، وأنها عديمة النظير في الدنيا آنذاك. كما أن نصوص القرآن الأخرى التي تذكر الأنبياء بترتيبهم الزمني تجعلنا نقطع أن قوم عاد، وكذلك ثمود، كانوا سابقين على زمن موسى وهارون، بل على زمن إبراهيم، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، بمدة طويلة.
وقد بقي ذكر القرآن لمدينة (إرم) هذه هو الذكر الوحيد لها، ولم يوجد لها ذكر أو أثر في أي مرجع أو أثر تاريخي آخر، حتى وردت إشارة إليها في أحد الألواح المكتوبة بالخط المسماري، التي كانت ضمن مجموعة تزيد على خمسة عشر ألف لوحة مسمارية تشكل أكبر أرشيف تم اكتشافه على الإطلاق، ويعود هذا الأرشيف إلى الألفية الثالثة (قبل المسيح). وقد تم اكتشاف تلك «المكتبة» في أطلال قصر دُمِّر في القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد. (راجع مجلة الجمعية القومية الجغرافية، ديسمبر 1978م).
فمن أين أتى محمد، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، بذكر هذه المدينة التي دمرت في الماضي السحيق، قبل مولده بجولي ثلاثة آلاف عام، ولم يعد لها ذكر؟! وحتى مع التسليم جدلاً أنها كانت من ضمن أساطير العرب، فكيف وثق بوجودها أصلاً وذكرها في القرآن؟!
ويزداد ذكر (إرم) في القرآن غرابة أنه، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، لم يرد عنه أن كان يذكر شيئاً من أساطير العرب إلا على وجه التكذيب والإنكار؛ حتى روي أنه كان يقف بنسبه الشريف عند عدنان، ويكتفي بالنص علي أن عدنان من ولد إسماعيل بدون ذكر سلسلة نسب فوق ذلك، ثم يقول: «كذب النسابون»، فكيف جزم ها هنا بوجود (إرم)، بل وذكرها في القرآن؟!
ما سبق ذكره من البراهين مذكور كله في نص القرآن، وهناك براهين كثيرة أخرى نقلت نقل التواتر، خارج النص القرآني، منها:
v حن الجذع إذ فقده حنينا سمعه كل من حضره، وهم جموع كثيرة،
v ونبع لهم الماء من بين أصابعه الشريفة في أكثر من واقعة، وفي مناسبات عديدة، فسقى به الجيش الكبير، وتوضئوا، واغتسل بعضهم، وتزوَّدوا.
v وأطعم مئات من الناس من طعام قليل لا يكفي العشرة، مثل صاع شعير وجدي، فأكلوا حتى شبعوا، وزادت فضلة. وقد حدث هذا كذلك في مناسبات عديدة.
v وأذعن ملوك اليمن والبحرين وعمان لأمره للآيات التي صحت عندهم عنه فنزلوا عن ملكهم كلهم طوعا دون رهبة أصلا ولا خوفا من أن يغزوهم ولا برغبة رغبهم بها بل كان فقيرا يتيما. وكان هناك قوم يدعون النبوة كصاحب صنعاء وكصاحب اليمامة كلاهما أقوى جيشا وأوسع منه بلادا فما التفت لهم أحد غير قومهما وكان هو أضعفهم جندا وأضعفهم بلدا وأبعدهم من بلاد الملوك دارا
v ودعا العرب، وهم شعب عنصري متغطرس متمرد لا يعترف بسلطة مركزية، ويأنف من الطاعة والانضباط، ويحتقر الشعوب الأخرى، إلى إقامة الصلاة وأداء الزكاة وإسقاط الفخر والتجبر والتزام التواضع والصبر للقصاص في النفس فما دونها من كل حقير أو رفيع، والسمع والطاعة للولاة الشرعيين، وتقديم أهل العلم والفضل، حتى ولو كانوا من العبيد السود، دون أن يكون معه مال ولا عشيرة تنصره، بل إن قبيلته كانت هي الأولى والأسبق لتكذيبه، ومطاردة أتباعه، وتعذيبهم، حتى فروا بجلودهم إلى النجاشي في الحبشة، وكان من رؤوس المكذبين عمه وبنو عمومته. بل اتبعه كل من اتبعه مذعنا لما بهرهم من آياته ولم يأخذ قط بلدة عنوة وغلبة إلا خيبر ومكة فقط.
v وتنبأ بكثير من الأحدلث المستقبلية، ذاكراً لبعض جزئياتها بدقة وتفصيل، وليس على عادة الكهان في الكلام الغامض، والعموميات التي تكاد تنطبق على كل واقعة. وقد تحقق الكثير مما أخبر به أو أنذر، وما زال الكثير في مطويات المستقبل، ورحم الغيب.
بعض تلك النبوءات تحقق في حياته، وبعضه بعد وفاته بمدد متفاوته، ولعلنا نستقصي ذلك في كتابنا «طريق الإيمان»، إن شاء الله تعالى، إلا أننا نكتفي ها هنا ببعض تلك النبوءات المفصلة التي تحققت بعده بزمن طويل، بحيث تم تدوين كتب الحديث، ونقلها بالتواتر عن مؤلفيها، وانتشارها في الآفاق بحيث يستحيل العبث بها، أو إدراج شئ فيها من خارجها، تم كل ذلك قبل تحقق تلك النبوءات. وإنما بالغنا في هذا الاحتياط تخلصا من اعتراضات بعض المكابرين الذين ربما زعموا أن تلك الروايات إنما افتريت ووضعت ثم أدخلت في الكتب بعد وقوع الأحداث، لا قبلها، ثم نسبها بعض «الأتقياء» إلى نبيهم لإثبات نبوته، وتكثير البراهين على صدقه.
وإليك بعض تلك النبوءات الصادقة التي تحققت قبل كتابة هذه السطور، وبعد تكامل تدوين كتب الحديث وانتشارها في الآفاق، بحيث يستحيل العبث بها أو تزويرها، أي بعد 450 هـ تقريباً، الموافقة لعام 1050 م:
v من دلائل نبوته، عليه وعلى آله الصلاتة والسلام: قوله، عليه وعلى آله الصلاة والسلام: «لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى»، وجاء في بعض الوايات زيادة تفصيل أن ذلك في واد من «حرة بني سليم»، جنوب المدينة المنورة، اسمه: «حبس سيل»، قريباً من موقع يقال له «رومان» أو «ركوبة». وقد حاولنا استيعاب تلك الأحاديث المتعددة بطرقها المختلفة في الملحق.
هذه الطرق المتعددة عن كل من: أبي هريرة، وعاصم بن عدي الأنصاري، وبشير السلمي، وأبي ذر الغفاري، وحذيفة بن أسيد، رضي الله عنهم، نقل تواتر يحدث علماً يقينياً بصدور تلك النبوءة عن أبي القاسم، رسول الله وخاتم النبيين، عليه وعلى آله أتم الصلاة وأكمل التسليم. وهي كذلك في كتب نقلت نقل تواتر عن مؤلفيها: «صحيح البخاري»، و«صحيح مسلم»، و«مسند الإمام أحمد بن حنبل»، و«صحيح ابن حبان»، و«المعجم الكبير»، و«المستدرك على الصحيحين»، وغيرها. وهذا الكتب قد انتشرت في الآفاق، وتجاوزن نسخها الألوف المؤلفة مما يجعل العبث بها كلها في آن واحد من المستحيلات.
وقد ظهرت هذه النار بالفعل، ليلة الأربعاء، أي مساء يوم الثلاثاء، بعد صلاة العشاء، 03/جمادى الثانية/654 هـ، الموافق 27/يونيو/1256م، ودون المؤرخون والمؤلفون أخبارها، ووصفوهاً وصفاً حياً دقيقاً يثير الإعجاب، يتبين منه أنها ثورة بركانية دامت عدة أشهر وتدفقت منها كمية كبيرة من الحمم، (قدرها بعض الباحثين المعاصرين بأكثر من عشرة كيلومترات مكعبة)، فسالت مسافة لا يستهان بها حتى قاربت المدينة المنورة:
v كما جاء، على سبيل المثال في «فتح الباري شرح صحيح البخاري»: [قال القرطبي في التذكرة قد خرجت نار بالحجاز بالمدينة وكان بدؤها زلزلة عظيمة في ليلة الأربعاء بعد العتمة الثالث من جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة واستمرت الى ضحى النهار يوم الجمعة فسكنت وظهرت النار بقريظة بطرف الحرة ترى في صورة البلد العظيم عليها سور محيط عليه شراريف وابراج ومآذن وترى رجال يقودونها لا تمر على جبل الا دكته وأذابته ويخرج من مجموع ذلك مثل النهر أحمر وأزرق له دوي كدوي الرعد يأخذ الصخور بين يديه وينتهى الى محط الركب العراقي واجتمع من ذلك ردم صار كالجبل العظيم فانتهت النار الى قرب المدينة ومع ذلك فكان يأتي المدينة نسيم بارد وشوهد لهذه النار غليان كغليان البحر وقال لي بعض أصحابنا رأيتها صاعدة في الهواء من نحو خمسة أيام وسمعت انها رؤيت من مكة ومن جبال بصرى. وقال النووي: (تواتر العلم بخروج هذه النار عند جميع أهل الشام). وقال أبو شامة في ذيل الروضتين: (وردت في أوائل شعبان سنة أربع وخمسين كتب من المدينة الشريفة فيها شرح أمر عظيم حدث بها فيه تصديق لما في الصحيحين فذكر هذا الحديث قال فأخبرني بعض من أثق به ممن شاهدها انه بلغه انه كتب بتيماء على ضوئها الكتب فمن الكتب فذكر نحو ما تقدم ومن ذلك ان في بعض الكتب ظهر في أول جمعة من جمادى الآخرة في شرقي المدينة نار عظيمة بينها وبين المدينة نصف يوم انفجرت من الأرض وسال منها واد من نار حتى حاذى جبل أحد وفي كتاب آخر انبجست الأرض من الحرة بنار عظيمة يكون قدرها مثل مسجد المدينة وهي برأي العين من المدينة وسال منها واد يكون مقداره أربع فراسخ وعرضه أربع أميال يجري على وجه الأرض ويخرج منه مهاد وجبال صغار وفي كتاب آخر ظهر ضوؤها الى ان رأوها من مكة قال ولا أقدر أصف عظمها ولها دوي. قال أبو شامة: (ونظم الناس في هذا أشعارا ودام امرها أشهرا ثم خمدت)، والذي ظهر لي ان النار المذكورة في حديث الباب هي التي ظهرت بنواحي المدينة كما فهمه القرطبي وغيره] ، انتهى نص كلام الحافظ، وما نقله عن السابقين من شهود العيان، وكيفوا وصفوا تلك النار الهائلة.
وقد درس بعض الباحثين المعاصرين، من علماء طبقات الأرض (الجيولوجيا)، الصخور التي تكونت من تلك الثورة البركانية، وقدَّروا حجمها، وتثبتوا من أعمارها، فلعلك تتأكد من بعض ذلك في المراجع التالية:
(1) Sindi, H.O.; The Geochemical-Geophysical aspects of the tectonism in the Arabian Shield.
Workshop on the "Geophysics and its tectonic implications in the Arabian peninsula and the Red Sea region" held in 25-31 October 1986, at the Department of Geology, Faculty of Science, Sana'a University, Sana'a, Yemen Arab Republic.
Bulletin of the Faculty of Science (Special volume), Sana'a University, Sana'a, Yemen Arab Republic. 1987.
(2) Sindi, H.O.; Geochemical Evolution and Basement Tectonism of the Arabian-Nubian Dome.
Proceeding of the "Ninth international Conference on Basement Tectonics" held at the Australian National University, Geology Department, A.C.T.S., Canberra, Australia, July /1-7/1990.
International Basement Tectonic Association Incorporated, Publication No. 7, (Applied Geophysics, Inc.), M. J. Rickard, et al. (eds.), Salt Lake city, Utah, U.S.A; and Kluwer Academic Publishers; Printed in Netherlands. p. 161-168, 1992.
(3) Sindi, H.O.; The Geology and Geochemistry of the Red Sea, Saudi Arabia, and its relation to the Pacific region.
Proceeding of the "Fifth International conference and exhibition of the Circum-Pacific council for Energy and Mineral resources Transactions", convened at the Hilton Hawaiian Village, Honolulu, Hawaii, U.S.A. on July 29 - August 3, 1990.
Gerald P. Salisbury and Alice C. Salisbury (eds.), cosponsored by the American Association of Petroleum Geologists (A.A.P.G.), Gulf Publishing Company, Houston, Texas, U.S.A, p. 411-420, 1996.
v ومن دلائل نبوته، عليه وعلى آله الصلاتة والسلام: إخباره أن أمته سوف تقاتل قوماً فطس الأنوف، صغار العيون ذلفها، حمر الوجوه، كأن وجوههم «المجان المطرقة»، وهذا وصف دقيق للشعوب التركمانية المغولية الصينية، بل قد جاء التصريح بأنهم هم «الترك». وقد أكدت الروايات أن ذلك سيكون في هجمات كبرى ثلاث مرات في أقل تقدير، وربما أكثر، لأن هذه السلالة البشرية سوف تشكل القوام الأكبر لجنود المسيح الدجال، فهذه هجمة كبرى، وبعضهم هم يأجوج ومأجوج، وهؤلاء لهم هجمة كبرى بعيد القضاء على الدجال، لعنه الله، بمدة قليلة، لعلها انتقاماً لهزيمته، والقضاء عليه.
ولكن النصوص ذكرت هجمات كبرى لا علاقة لها بواقعة الدجال، أو بهجمة يأجوج ومأجوج إذ هم من كل حدب ينسلون. وقد صورت الروايات بعض ما يكون في الهجمات من مآسي مفزعة:
v الهجمة، أو الهجمات، الأولى:
ــ «لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا الترك صغار الأعين حمر الوجوه ذلف الأنوف كأن وجوههم المجان المطرقة ولا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما نعالهم الشعر»
ــ «لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما صغار الأعين، عراض الوجوه، كأن أعينهم حدق الجراد، كأن وجوههم المجان المطرقة، ينتعلون الشعر ويتخذون الدرق: حتى يربطوا خيولهم بالنخل»
ــ «يجيء قوم صغار العيون عراض الوجوه كأن وجوههم الحجف فيلحقون أهل الإسلام بمنابت الشيح كأني أنظر إليهم وقد ربطوا خيولهم بسواري المسجد»،
ــ «إن أمتي يسوقها قوم عراض الوجوه، صغار الأعين، كأن وجوههم الحجف ثلاث مرار حتى يلحقوهم بجزيرة العرب أما الساقة الأولى فينجو من هرب منهم وأما الثانية فيهلك بعض وينجوا بعض وأما الثالثة فيصطلون كلهم: من بقي منهم»، قالوا: (يا نبي الله: من هم؟!)، قال: «هم الترك»، قال: «أما والذي نفسي بيده ليربطن خيولهم إلى سواري مساجد المسلمين»
ــ وقال أبو هريرة: ( ليسوقنهم حمرا غضابا كأنما وجوههم المجان المطرقة حتى يلحقوا ذا الزرع بزرعه وذا الضرع بضرعه)
ــ وقال عبد الله بن عمرو بن العاصي: (ليوشكن بنو قنطوراء بن كركري: خنس الأنوف، صغار الأعين، كأن وجوههم المجان المطرقة، في كتاب الله المنزل، أن يسوقونكم من خراسان وسجستان سياقا عنيفا. قوم يوفون اللمم، وينتعلون الشعر، ويحتجزون السيوف على أوساطهم، حتى ينزلوا الأيلة)، ثم قال: (وكم الأيلة من البصرة؟!)، قلنا: (أربع فراسخ!)، قال: (ثم يعقدون بكل نخلة من نخل دجلة رأس فرس!)
ــ وقال شداد بن معقل: قال عبد الله: (يوشك أن لا تأخذوا من الكوفة نقدا ولا درهما!)، قلت: (وكيف يا عبد الله بن مسعود؟!)، قال: (يجيء قوم كأن وجوههم المجان المطرقة حتى يربطوا خيولهم على السواد فيجلوكم إلى منابت الشيح، حتى يكون البعير والزاد أحب إلى أحدكم من القصر من قصوركم هذه)
ــ وقال الربيع بن ناجذ عن ابن مسعود قال: (يأتيكم قوم من قبل المشرق عراض الوجوه صغار العيون كأنما ثقبت أعينهم في الصخر كأن وجوههم المجان المطرقة حتى يوثقوا خيولهم بشط الفرات)
ــ وقال ابي هريرة: «أعينهم كالودع ووجوههم كالحجف لهم وقعة بين الدجلة والفرات ووقعة بمرج حمار ووقعة بدجلة حتى يكون الجواز أول النهار بمائة دينار للعبور إلى الشام ثم يزيد آخر النهار»
ــ وقال حذيفة لأهل الكوفة: (ليخرجنكم منها قوم صغار الأعين، فطس الأنف، كأن وجوههم المجان المطرقة، ينتعلون الشعر، يربطون خيولهم بنخل جوخا ويشربون من فرض الفرات)
ــ وفي «شرح سنن ابن ماجه»: [قال النووي: (وقد وجد في زماننا هكذا وفي رواية حمر الوجود أي بيض الوجوه مشوبة بحمرة وهذه كلها معجزات لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقد وجد قتال هؤلاء الترك بجميع صفاتهم التي ذكرها، صلى الله عليه وسلم، صغار الاعين حمر الوجوه ذلف الانوف عراض الوجوه كأن وجوههم المجان المطرقة ينتعلون الشعر فوجدوا بهن الصفات كلها في زماننا وقاتلهم المسلمون مرات وقاتلهم الآن ونسأل الله الكريم إحسان العاقبة للمسلمين في أمرهم وأمر غيرهم وسائر أحوالهم وادامة اللطف بهم والحماية وصلى الله على رسوله الذي لا ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحى)]
ــ وفي «فتح الباري شرح صحيح البخاري»: [ثم جاءت الطامة الكبرى، ...، فكان خروج جنكزخان بعد الستمائة فأسعرت بهم الدنيا نارا خصوصا المشرق بأسره حتى لم يبق بلد منه حتى دخله شرهم، ثم كان خراب بغداد، وقتل الخليفة المسعتصم آخر خلفائهم على أيديهم في سنة ست وخمسين وستمائة، ثم لم تزل بقاياهم يخربون إلى أن كان آخرهم اللنك ومعناه الأعرج، واسمه تَمُر (بفتح المثناة وضم الميم، وربما أشبعت: تَمُّر)، فطرق الديار الشامية وعاث فيها، وحرق دمشق حتى صارت خاوية على عروشها، ودخل الروم، والهند وما بين ذلك، وطالت مدته إلى أن أخذه الله، وتفرق بنوه البلاد، وظهر بجميع ما أوردته مصداق قوله، صلى الله عليه وسلم، إن بني قنطورا أول من سلب أمتي ملكهم وهو حديث أخرجه الطبراني من حديث معاوية والمراد ببني قنطورا الترك]
v ثم هجمة الأعور المسيح الدجال:
ــ «إن الدجال يخرج من أرض بالمشرق يقال لها خراسان يتبعه أقوام كأن وجهوهم المجان المطرقة»
ــ يهبط الدجال خوز وكرمان في ثمانين ألفا ينتعلون الشعر ويلبسون الطيالسة كأن وجوههم المجان المطرقة»
ــ «لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا خوزا وكرمان من الأعاجم حمر الوجوه فطس الأنوف صغار الأعين وجوههم المجان المطرقة نعالهم الشعر»،
v فهجمة يأجوج ومأجوج:
ــ «انكم تقولون لأعدو وإنكم لا تزالون تقاتلون عدوا حتى يأتي يأجوج ومأجوج: عراض الوجوه، صغار العيون، شهب الشعاف، من كل حدب ينسلون كان وجوههم المجان المطرقة»
وفي الملحق سرد لإكثر الطرق والروايات، ومصادرها من الكتب والمؤلفات، فلتراجع هناك.
حقاً، وصدقاً: لا يمكن تفسير كل ذلك تفسيراً مقنعاً معقولاً، أي تفسيراً «شاملاً» لكل تلك الحقائق، و«متناسقاً»، أي خالياً من أي تناقض، لا سبيل إلى ذلك إلا بتصديق ما جاء في القرآن العظيم: }قل: يأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون{، وقال تعالى: }يامعشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقآء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين{، وقال تعالى: } قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به{، إلى قوله: }وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطب{، وقال تعالى: }ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين{
مما سبق يظهر يقيناً أن النبوة بعامة حق، وأن نبوة محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي العدناني العربي الأمَّي، حق، لا يشك فيها إلا من مسخ الله عقله، وغلبت عليه شقوته، فأبى إلا أن يحتجز قراراً بئيساً في نار جهنم، حيث التعاسة الأبدية، واللعنة السرمدية، بدلاً السعادة والمسرة الأبدية في دار السلام، }... في جنات ونهر v في مقعد صدق عند مليك مقتدر{.
هذا هو، على الاختصار، البرهان العقلي على «التوحيد» أي على «شهادة أن لا اله إلا الله، وأن محمداً رسول الله»، أما إشباع ذلك بحثاً، مع تمام الرد على الماديين، والوضعيين المنطقيين، والطبائعيين، وكذلك المبتدعة الكفرة الضلال من اليهود والنصارى، وغيرهم من فرق الكفر والضلالة فذلك يتطلب كتاباً مستقلاً، نسأل الله فسحة في العمر، وسعة في الوقت والصحة والمال لإنجازه، لا إله إلا هو: عليه نتوكل، وبه نتأيد، وإليه ننيب.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق