حرمة اتخاذ القبور مساجد

بـــــــــــاب
حرمة اتخاذ القبور مساجد

u فصل: اتخاذ القبور مساجد من الكبائر المحرمة
اتخاذ القبور، وبالأخص قبور الأنبياء والصالحين، مساجد من المحرمات الكبائر التي يستحق فاعلها اللعنة والطرد من رحمة الله، وهو من شرار الخلق عند الله. والمسجد هو مكان السجود، أي المكان المتخذ المخصص للصلاة، لا فرق بين مسجد مبني مشيد مزخرف كما هو الحال في كنائس النصارى، ومكان متميِّز، له حدود معروفة، مخصص للسجود، حتى ولو لم يكن مبنياً، كما هو متيقن من قوله، عليه الصلاة والسلام، الثابت بالتواتر: «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً»، أي مكانا طاهراً صالحاً للصلاة.
والمسجد قد يكون:
(1) دائمياً في بقعة معلومة مخصصة من الأرض، تكون عادة مبنية، وفي بعض الأحوال القليلة، تكون حدوده مجرد خطوط في الأرض، أو مرسومة بالدهان على الأرض الصخرية، أو معلمة بالحجارة، كمساجد البدو الرحل، ونحوها: فهذه كلها مساجد دائمية مرفوعة مشيدة حكماً، وإن لم تكن كذلك باللبن والحجارة والإسمنت المسلح فعلاً.
(2) وقد يكون مؤقتاً فيكون مكان الصلاة عند دخول المصلي في الصلاة، وهو البقعة المستطيلة التي تمتد من مؤخرة أعقاب المصلي من وراءه، إلي موضع السجود، أو الحائط، أو الحائل من أمامه، وعن يمينه ويساره بقدر مجافاته بين مرفقيه في السجود. فإذا سلم المصلي من صلاته ذهب ذلك المسجد المؤقت وزال.
وقريب من اتخاذ القبور مساجد في الإثم والشر جعلها عيداً، أي موسما يجتمع الناس فيه في أوقات مخصوصة، تتكرر أبداً، كالعيد. وفعل ذلك أو بعضه يجعل القبر «وثناً»، أي رمزاً من رموز الكفر والشرك، كما نص عليه رسول الله، صلوات الله وسلامه وتبريكاته عليه وعلى آله.
«الوثن»: هو كل رمز للشرك أو الكفر من الأصنام، والأنصاب، والأشجار والأحجار، والصلبان، والرايات، ومزارات الطواغيت وأعيادها، سواءً كان معبوداً أم لم يعبد، وهو على أي حال رجس يجب اجتنابه، كما قال تعالى: }...، فاجتنبوا الرجس من الأوثان، واجتنبوا قول الزور v حنفاء لله غير مشركين به{، (الحج؛ 22:30-31)، ومن ذلك:
الأصنام: وهي تماثيل منحوتة من حجر، أو خشب، أو مسبوكة من معدن، أو غير ذلك، على صورة ذوات الأرواح، أي على صورة إنسان، أو حيوان، أو طائر، أو مركبة من ذلك: فالجسد جسد إنسان والرأس رأس حيوان أو طير، أو العكس الرأس والوجه وجه إنسان والجسم جسم حيوان أو طائر، ترمز إلى أحد الآلهة المعبودة، أو يعتقد أنها تنوب عن أحد الآلهة، أو أن الألوهية حلت فيها، فكل صنم تمثال، وليس كل تمثال صنم، وكل صنم وثن، وليس كل وثن صنم. قال تعالى رواية لقول إبراهيم وهو يدعو قومه أوّل الأمر: }إنما تعبدون من دون الله أوثاناً، وتخلقون إفكاً{، (العنكبوت؛ 29:17)، ثم قال كذلك رواية لقول إبراهيم قبيل هجرته بعد أن أنجاه الله من النار: }وقال: إنما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودة بينكم في الحياة الدنيا، ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض، ويلعن بعضكم بعضاً، ومأواكم النار، وما لكم من ناصرين{، (العنكبوت؛ 29:25)، ومعلوم أن قوم إبراهيم كانوا يعبدون الأصنام، وكان أبوه من كبار سدنتها ونُحَّاتِها.
الأنصاب: وهي مباني من الحجر، أو منحوتات لغير ذوات الأرواح، أو مذابح مبنية، ومحاريب مشيدة، أو أعمدة منفردة، تستخدم عادة لتقديم الذبائح والقرابين، ونصب الرايات، وربما طرحت عليها الذبائح أو علقت ليأخذ منها من شاء ما شاء، لذلك قال تعالى: }وما ذبح على النصب{.
الأشجار والأحجار: التي ترمز إلى بعض الطواغيت، كالصفاة الطويلة المنقوشة بالطائف التي كانت ترمز إلى اللات التي تعظمها ثقيف، والشجرة التي كانت بنخلة (بين الطائف ومكة) وعليها بناء وأستار وهي تمثل «العزَّى» التي تعظمها قريش. والظاهر أنها هي نفس الشجرة التي كانوا يعلقون سيوفهم عليها ويسمونها كذلك: «ذات أنواط»، كما جاء في الحديث الصحيح عن أبي واقد الليثي، رضي الله عنه، قال: [خرجنا مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط! فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر! إنها السنن: قلتم، والذي نفسي بيده، كما قالت بنو إسرائيل لموسى: }اجعل لنا إلهاً، كما لهم آلهة؛ قال: إنكم قوم تجهلون{، لتركبن سنن من قبلكم»]. واستنكار النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، الشديد لقولهم إنما هو لمشابهة ظاهر قولهم، لظاهر قول قوم موسى، وما فيه من دلالة على أنهم لم يتخلصوا بعد من رواسب الشرك، والمعتقدات الضالة الفاسدة عن الله، جل جلاله، ذلك لأن تبرك المشركين بتلك المواضع فرع لمعتقدهم الفاسد بألوهيتها، واعتقادهم أن تلك الأوثان تمثل الآلهة وترمز إليها، أو أن الآلهة حلت فيها، أو قد تحل فيها أحياناً. في حين أن المناسك، والمشاعر الشرعية إنما أصبحت كذلك بجعل الله لها هكذا بأمره الشرعي، وليس فيها من ذات الله شيء حالا أو متحداً، ولا هي ترمز البتة إليه، جل وعلا، ولا تمثله مطلقاً، وإن جاز أن تكون إحياءً لذكرى تاريخية: مثل سعي أم إسماعيل هاجر، عليها السلام، بين الصفا والمروة، طلباً للماء؛ ومسار إبراهيم، صلى الله عله وسلم، لموضع ذبح ابنه، ورجمه لإبليس حين اعترض طريقه، ونحوه. هذا هو الذي حرص أمير المؤمنين عمر بن الخطاب على تأكيده بقوله مخاطباً الحجر الأسود: (إني أعلم أنك حجر، لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك)، أو كما قال، وهو عين قولنا: أن تقبيل الحجر الأسود ثبت فقط بالحكم الشرعي، وإنما هو حجر كغيره من الأحجار جعل شعيرة من الشعائر، وليس في ذاته شئ من الألوهية، ولا هو يالذي يرمز لها!
الأعياد: وهي مواضع أعياد أهل الشرك، وأسواقهم التي تقام للطواغيت. أما أسواق التجارة والأدب كسوق عكاظ في الجاهلية، فهي ليست أوثاناً لأنها لم تؤسس تعظيماً لشيء من الطواغيت.
الصليب: لأنه يعظم ويعلق لكونه يرمز لعقيدة كفر وشرك ألا وهي: التضحية بابن الله، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، لخلاص البشرية من «الخطيئة الموروثة»!
والصليب وثن، ذلك بنص قول رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لعدي بن حاتم الطائي عندما دخل عليه وفي عنقه صليب من ذهب فقال له: «يا عدي، اطرح عنك هذا الوثن». و«الصليب» بالقطع لا يعبد، بل يعلق ويعظم فقط.
وقد يقول قائل: (فما معنى جملة: «عبدة الصليب»، التي تطلق على النصارى كثيراً؟!)، فنقول: أين جاء هذا اللفظ عن الله ورسوله؟! أما ما يستخدمه الناس من الأساليب «الخطابية»، و«الدعائية»، و«التنابز بالألقاب» مع خصومهم فليس من شأننا، ولا هو مما يعنينا، وإنما تعنينا فقط نصوص الوحي، أي نصوص الكتاب والسنة، لأنهما الوحي المعصوم، فقط لا غير، من غير زيادة ولا نقصان.
وأهل الأوثان، ويقال كذلك، عبدة الأوثان، هم المشركون من غير أهل الكتاب، تقال في مقابلة أهل الكتاب، كما في الحديث الصحيح عند البخاري، ومسلم، وغيرهما، أنه، صلى الله عليه وسلم: (مر على مجلس فيه أخلاط من المشركين عبدة الأوثان، ومن اليهود، والمسلمين، فسلَّم). وقد وردت نسبة أهل الكتاب، ونسبة بعض أقوالهم وأفعالهم، إلى الشرك، وتسمية بعض رموزهم كالصليب بالوثن، ولكن لم يرد قط تسميتهم: «أهل وثن»، فليلاحظ!
أما كون اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد من المحرمات الكبائر التي يستحق فاعلها اللعنة والطرد من رحمة الله، وهو من شرار الخلق عند الله، فأدلته كثيرة منها:
v ما أخرج البخاري بإسانيد في غاية الصحة عن عائشة وعبدالله بن عباس قالا: [لما نزل برسول الله، صلى الله عليه وسلم، طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه فقال، وهو كذلك: «لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»، يحذر ما صنعوا]، وأخرج مثله مسلم، والنسائي، وأحمد، والدارمي، وأبو عوانة، وابن سعد في «الطبقات الكبرى»، وعبد الرزاق في «المصنف» عن ابن عباس فقط.
v وأخرج البخاري بإسانيد صحاح، في غاية الصحة، عن عائشة رضي الله عنها عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال في مرضه الذي مات فيه: «لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»، قالت: (ولولا ذلك لأبرزوا قبره غير أنه خشى أن يتخذ مسجداً)، وأخرج مثله مسلم، وأبو عوانة، وأحمد، والسراج في «مسنده». وجاءت روايات لتعقيب عائشة بلفظ:(فلوا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً).
v وأخرج بإسناد في غاية الصحة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»، وأخرج مثله مسلم، وأبو داود، وأحمد، وقال أحمد في رواية غاية في الصحة: «لعن الله ... إلخ»، وأخرج مثله مسلم، وأبو عوانة، وأبو داود، وأبو يعلى، وابن عساكر، والسراج في «مسنده»، وعبد الرزاق في «المصنف» موقوفاً.
v وأخرج النسائي بإسناد غاية في الصحة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»، وأخرجه أحمد بإسانيد غاية في الصحة، إلا أنه قال: «قاتل الله .. إلخ»، وبإسناد آخر صحيح: «لُعِنَ الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد».
v وأخرج أحمد نحو ذلك عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله (وفي رواية: قاتل الله) اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»، بإسناد فيه عقبة بن عبد الرحمن بن أبي معمر (ويقال: بن معمر) الحجازي، فيه جهالة، ولم يرو عنه إلا ابن أبي ذئب، ووثقه ابن حبان على قاعدته.
v وأخرج مسلم بإسناد صحيح عن جندب بن عبد الله البجلي قال سمعت النبي، صلى الله عليه وسلم، قبل أن يموت بخمس وهو يقول: «إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله تعالى قد اتخذني خليلا، كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلاً! ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد! إني أنهاكم عن ذلك»، وهو عند أبي عوانة، والطبراني في «المعجم الكبير»، وابن سعد في «الطبقات الكبرى» مختصراً.
v وأخرج أحمد بإسناد صحيح عن أبي عبيدة بن الجراح قال: [كان آخر ما تكلم به نبي الله، صلى الله عليه وسلم: أن أخرجوا يهود الحجاز من جزيرة العرب، واعلموا: أن شرار الناس الذين يتخذون القبور مساجد]، وهو كذلك عند ابن عساكر بإسناد صحيح، وأخرجه أيضاً أبو يعلى، والطحاوي في «مشكل الآثار».
v وأخرج أحمد بإسناد حسن قوي عن أسامة بن زيد قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أدخل عليَّ أصحابي!»، فدخلوا عليه، فكشف القناع ثم قال: «لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»، وهو بنحوه عند الطيالسي، والطبراني في «المعجم الكبير».
v وجاء في «مصنف ابن أبي شيبة»، (ج: 2 ص: 150): [7546: حدثنا زكريا بن عدي عن عبيد الله بن عمر عن زيد بن أبي أنيسة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن الحارث النجراني قال حدثني جدي قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: «الا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك»]، وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم.
v وأخرج البخاري بإسناد صحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما اشتكى النبي، صلى الله عليه وسلم، ذكرت بعض نسائه كنيسة رأينها بأرض الحبشة يقال لها مارية، وكانت أم سلمة وأم حبيبة رضي الله عنهما أتتا أرض الحبشة، فذكرتا من حسنها، وتصاوير فيها، فرفع رأسه فقال: «أولئك قوم إذا مات منهم الرجل الصالح (أو: العبد الصالح) بنوا على قبره مسجداً، ثم صوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله»، وأخرج مثله مسلم، والنسائي، وأحمد، وأبو عوانة كلهم بأسانيد صحاح، وأخرجه كذلك أبو يعلى، وابن أبي شيبة في «المصنف»، والسراج في «المسند»، والبيهقي، والبغوي.
v وأخرج أحمد بإسناد حسن قوي عن عبد الله بن مسعود قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن من البيان سحراً، وإن من شرار الناس من تدركه الساعة وهم أحياء، ومن يتخذ القبور مساجد»، وأخرجه أحمد في مواضع أخرى بأسانيد أخرى محتملة، وهو حديث صحيح بمجموع طرقه، وشواهده، وقد صححه، هكذا بذاته كما هو، ابن حبان، وأخرجه ابن خزيمة في «صحيح ابن خزيمة»، والطبراني في «المعجم الكبير»، وابن أبي شيبة في «المصنف»، وأبو يعلى، وأبو نعيم في «أخبار أصبهان»، وغيرهم.
v وقال الألباني في كتيبه المسمَّى: «تحذير الساجد» : [عن أمهات المؤمنين أن أصحاب رسول الله، صلي الله عليه وسلم، قالوا: كيف نبني قبر رسول الله، صلي الله عليه وسلم؟! أنجعله مسجداً؟! فقال أبو بكر الصديق: سمعت رسول الله، صلي الله عليه وسلم، يقول: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد] ، ثم همَّش قائلاً: [رواه ابن زنجويه في «فضائل الصديق» كما في «الجامع الكبير» (3/147/1)]، ولم يتكلم عن الإسناد، ولا ذكره، ولا عقب بتصحيح أو تضعيف. هكذا هو في رسالته: (تحذير الساجد، من اتخاذ القبور مساجد)، كما هي أمامي الآن في طبعتها الرابعة، من اصدار «المكتب الإسلامي» بتاريخ. 1403 هـ، الموافق 1983م.
v وأخرج مالك في «الموطأ» عن إسمعيل بن أبي حكيم أنه سمع (أمير المؤمنين) عمر بن عبد العزيز (بن مروان)، رضي الله عنه، يقول: (كان من آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: «قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد؛ لا يبقينَّ دينان بأرض العرب»)، هذا مرسل صحيح، وهو دليل على شهرة ذلك وانتشاره عند التابعين، بل وتواتره عندهم!
v وأخرج ابن ماجه بإسناد في غاية الصحة عن أبي سعيد الخدري عنه قال: «الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام»، وأخرج مثله أحمد بأسانيد صحاح وحسان، والدارمي، والترمذي وقال: (وفي الباب عن علي، وعبد الله بن عمرو، وأبي هريرة، وجابر، وابن عباس، وحذيفة، وأنس، وأبي أمامة، وأبي ذر قالوا: إن النبي قال: «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً»)، وقد أعله الترمذي بالاضطراب، للاختلاف في وقفه ورفعه. والحق أن رفعه زيادة ثقة، بل ثقات، لا بد من قبولها، فنسيان بعض الرواة لا يضر حفظ من حفظ، وما ذنب الحافظ الضابط إذا نسي أو ضيَّع غيره؟! لذلك صححه بحق الأئمة: ابن خزيمة، وابن حبان، ووافقه شعيب الأرناؤوط، والحاكم، ووافقه الذهبي، وكذلك ابن حزم في المحلَّى،
ويترتب عليه بطلان الصلاة في المقبرة، إلا صلاة الجنازة التي ورد النص بجوازها في المقبرة عن النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بالرغم من كون بعض المقابر، كقبور الأنياء والصالحين من أشرف وأطهر بقاع الأرض، ولكن الصلاة فيها باطلة، لا بعلة النجاسة، كما زعم بعض السخفاء من أدعياء الفقه، بل بأمر صاحب الحكم والربوبية والسيادة، جل ذكره، كبطلانها في المكان النجس، لأن طهارة الموضع شرط في صحة الصلاة، وفي الحمام سواءً بسواء، مع كون الحمام ليس نجساً في أغلب أحواله، بل لعله أنظف من مرابض الغنم، التي تجوز فيها الصلاة، وإنما النجس دوماً هو «الكنيف»، أي المرحاض، وهو بيت الخلاء، ونحوه.
u فصل: «اللهم لا تجعل قبري وثنا»
v أخرج أحمد، بإسانيد قوية جياد، تقوم بها الحجة، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم لا تجعل قبري وثناً: لعن الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»، ورواه أبو نعيم في «حلية الأولياء» بإسناد صحيح، وأخرجه كذلك ابن سعد، وأبو يعلى، والحميدي.
v كما هو في «مسند أبي يعلى»، (ج: 12 ص: 33): [حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل حدثنا سفيان عن حمزة بن المغيرة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «اللهم لا تجعلن قبري وثنا: لعن الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»]، وقال الشيخ حسين أسد: إسناده صحيح.
v وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد»، (ج: 4 ص: 2): [باب قوله: «لا تجعلن قبري وثنا»: عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تجعلن قبري وثنا لعن الله قوما اتخذوا قبور انبيائهم مساجد»، رواه أبو يعلى وفيه اسحاق بن أبي اسرائيل وفيه كلام لوقفه في القرآن وبقية رجاله ثقات]، قلت: اسحاق بن أبي اسرائيل ثقة لا يضره مثل هذا الكلام السخيف المهووس، على أنه توبع: تابعه الأئمة الحميدي في مسنده، وابن أبي عمر كما هو في «فضائل المدينة»، والبخاري في «التاريخ الكبير»، وغيرهما، كما هو:
v في «مسند الحميدي»، (ج: 2 ص: 445): [حدثنا سفيان قال حدثنا حمزة بن مغيرة الكوفي وكان من سراة الموالي عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «اللهم لا تجعل قبري وثنا، لعن الله قوما اتخذوا أو جعلوا قبور أنبياءهم مساجد»]
v وهو في «فضائل المدينة»، (ج: 1 ص: 39): [حدثنا بن أبي عمر وسعيد قالا حدثنا سفيان عن حمزة بن المغيرة الكوفي عن سهيل بن ابي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم لاتجعل قبري وثنا، لعن الله قوما جعلوا قبور أنبيائهم مساجد»]
v وهناك طريق أخرى في «العلل الواردة في الأحاديث النبوية»: [وسئل عن حديث المعرور بن سويد عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اللهم لا تجعل قبري وثنا»، وكان بنو إسرائيل اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. فقال يرويه أصحاب الأعمش عنه عن المعرور عن عمر موقوفا وأسنده عبد الجبار بن العلاء عن بن عيينة عن الأعمش عن المعرور عن عمر عن النبي، صلى الله عليه وسلم، ولم يتابع عليه، والمحفوظ هو الموقوف]
v وأخرج مالك في «الموطأ» مثله مرسلاً بإسناد صحيح إلى عطاء بن يسار، إلا أنه زاد «يعبد»، بعد لفظة «وثن»، فقال: «وثناً يعبد»،
v «وجاء نحوه في مصنف ابن أبي شيبة»، (ج: 3 ص: 30): [حدثنا أبو خالد الأحمر عن ابن عجلان عن زيد بن أسلم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم لا تجعل قبري وثنا «يصلى له»، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور انبيائهم مساجد]
v وجاء في «مصنف عبد الرزاق»، (ج: 1 ص: 406): [عن معمر عن زيد بن أسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال اللهم لا تجعل قبري وثنا «يصلى إليه» فإنه اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد]
ولم ترد هذه اللفظة: «يعبد»، أو «يصلى إليه»، من طريق موصول قط، فيما نعلم، فوجب طرحها، وعدم الأخذ بها. وهي، قطعاً ويقيناً، سبق لسان أو وهم من أحد الرواةنعم: رواه ابن عبد البر من طريق البزار ( غير طريق مالك) موصولاً:
v كما جاء في «التمهيد لابن عبد البر»، (ج: 5 ص: 42»: [حدثنا إبراهيم بن شاكر ومحمد بن إبراهيم قالا حدثنا محمد بن أحمد بن يحيى قال حدثنا محمد بن أيوب الرقى قال حدثنا أحمد بن عمرو البزار قال حدثنا سليمان بن سيف قال حدثنا محمد بن سليمان بن أبي داود الحراني قال أخبرنا عمر بن محمد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اللهم لا تجعل قبري وثنا «يعبد» اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد]،
ثم قال ابن عبد البر نصاً: (إلا أن عمر بن محمد أسنده عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعمر بن محمد ثقة روى عنه الثوري وجماعة)، وقال بعد قليل: (وقد أسند حديثه هذا عمر بن محمد وهو من ثقات أشراف أهل المدينة روى عنه مالك بن أنس والثوري وسليمان بن بلال وغيرهم وهو عمر بن محمد بن عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فهذا الحديث صحيح ثم من قال بمراسيل الثقات وعند من قال بالمسند لإسناد عمر بن محمد له وهو ممن تقبل زيادته وبالله التوفيق).
قلت: الأرجح أن الإمام ابن عبد البر قد وهم هنا، وأن عمر بن محمد هذا هو عمر بن صهبان، كما جاء منسوباً في بعض نسخ البزار. وعمر بن صهبان هذا ضعيف لا تقوم به حجة.
فزيادة «يعبد» هذه، أو «يصلى إليه»، لم تأت موصولة قط من طريق فيها خير، فلا تقوم بها الحجة، فلا يجوز التدين بها، بل يجب طرحها حتماً، ولا يجوز الأخذ بها مطلقاً، ولعلها سبق لسان أو وهم أو خاطر من بعض الرواة. وهي قد وافقت هوى بعض الناس فطاروا بها كل مطار ظانين أنها تنصر باطلهم، وهي بالعكس من ذلك تماماً: وكذلك الهوى يعمي ويصم!! وإلا فكيف يجوز أن تكون صحيحة ثابتة ثم لا ترد من طريق موصولة قط: أليس هذا هو تكذيب خبر الله: }إنا نحن نزلنا الذكر، وإنا له لحافظون{؟!، حاشا لله ثم حاشا لله.
وحتى لو ثبتت لما كان فيها زيادة بيان على الجملة السابقة لأن الوثن هو كل رمز لعقيدة كفر وشرك. كما أسلفنا، فلا يصبح قبر النبي وثناً، إلا إذا اعتقد بعض الناس فيه اعتقاداً كفرياً أو شركياً، عبد فعلاً أم لم يعبد، ومعاذ الله أن يعوذ خاتمة أنبياء الله، عليه وعلى آله صلوات وتسليمات من الله، فقط من مجرد أن يعبد، ولا يستعيذ من كل عقيدة باطلة في شخصه النبوي الكريم، وهو الذي كان دوماً يحذر من الغلو في ذاته الشريفة، ويحذر من إطرائه كما فعلت النصاري بالسيد المسيح عيسى بن مريم، صلوات الله وسلامه وتبريكاته عليه وعلى والدته.
ومهما يكن من أمر فهذا نقل تواتر، عن الثقات الأثبات: إمام الهدى علي بن أبي طالب، وأمين الأمة أبي عبيدة عامر بن الجراح، وأم المؤمنين عائشة، وأم المؤمنين أم سلمة، والحبر البحر عبد الله بن عباس، ترجمان القرآن، والإمام القدوة عبد الله بن مسعود حافظ القرآن، وزيد بن ثابت جامع القرآن وكاتب المصحف الإمام، وأئمة الرواية من الصحابة: أبي هريرة، وأبي سعيد، وجابر، وغيرهم من أمثال: جندب بن عبد الله البجلي، والحارث النجراني، يفيد القطع واليقين، يخرج من جحده أو أنكره من الإسلام، ويلحق بالكافرين، إن لم يكن قبل ذلك قد خرج من العقل ولحق بالمجانين والمبتلين، على أن «اتخاذ القبور مساجد من الكبائر المحرمة»،لا سيما إذا أضفنا إليه أدلة الفصل التالي المحرمة للبناء على القبور مطلقاً!
والمقبرة هي المكان المحدد أو الأرض المخصصة لدفن الموتى، بحدود معلومة، وقد تكون مسورة، وقد لا تكون، ولكنها علي كل حال معلومة محدودة، ولا تكون قطع الأرض المحددة المعلومة مقبرة بمجرد تخصيصها وحجزها لهذا الغرض، بل لا بد أن يكون قد تم فيها دفن فعلياً، ولو قبر واحد، حينئذ يصح أن تسمَّى مقبرة، وتنطبق عليه أحكام المقبرة: بقعة كل قبر بعينه، وكذلك الفضاء بين القبور الموجودة في تلك المقبرة، مهما كان ذلك الفضاء واسعاً. فإذا اندرست، وذهبت معالمها، وجهلت حدودها سقط عنها اسم المقبرة، وعادت أرضاً فضاءً، لا غير، وبالضرورة العقلية والشرعية لم يعد ينطبق عليها شيء من أحكام المقبرة.
وقد توجد أحياناً قبر منفرد أو قبور منفردة مبعثرة في الفضاء لا تضمها مقبرة معلومة، ففي هذه الحالة يكون كل قبر بذاته، بحدوده المعلومة، مقبرة بمفرده، أما الفضاء بين تلك القبور المبعثرة المنفردة فهو أرض فضاء، تقع بين مقابر متباينة، مهما كان صغيراً أو ضيقاً، بخلاف الفضاء بين المقابر الواقعة داخل مقبرة واحدة معلومة، فليس هو إذاً من المقبرة، ولا تسري عليه أحكامها.
بقي تحرير معنى جملته، عليه وعلى آله الصلاة والسلام: (اتخاذ القبور مساجد)، ماذا يتضمن، وماذا يعني. وبالرجوع إلى تحرير معنى «المسجد»، كما سبق، وكذلك لمفهوم «المقبرة» يتبين أن الجملة، جملة (اتخاذ القبور مساجد)، تعني ضرورة واحداً أو أكثر مما يلي:
(1) أن يكون القبر موجوداً أو المقبرة موجودة ثم يتخذ فوق أرضها مسجدا:
(أ) إما مسجداً محدداً دائمياً بحيث يكون القبر كله أو بعضه مشاركاً للمسجد في المساحة،
(ب) أو مسجداً مؤقتاً، أي بأن يسجد أو يصلى عليه، أي على ذات القبر،
(ج) أو مسجداً مؤقتاً، أي بأن يسجد أو يصلى في المسافات بين القبور في المقبرة المعلومة المحددة، لأن تلك المسافات، وإن خلت من قبر، إلا أنها بعض «المقبرة»، وتقع داخل حدودها، فهي منها لغة وعرفاً وحكماً، فلا تجوز الصلاة فيها.
والمسجد الذي يبنى على قبر معلوم أو مقبرة معلومة، مسجد لم يبن على التقوي، لأنه نشأ خلاف الحكم الشرعي، فإبطاله بالهدم والإزالة واجب، لأنه نشأ باطلاً، تماماً كالمسجد المبني على أرض مغصوبة، والقبر أو المقبرة أصيل سابق.
(2) الدفن في المسجد الموجود المحدد، مبنياً مشيداً كان أو لم يكن. ففي هذه الحالة طرأ القبر على المسجد، فالواجب هو إزالة القبر الطاريء، بنبش الميت ونقله إلى مكان لا مسجد فيه، في أرض غير مغصوبة أو معتدى عليها.
فلا يمكن أن يكون المكان الواحد مسجداً ومقبرة في آن في هذه الشريعة المباركة الخاتمة: فإن كان مقبرة حرم تحويلها إلى مسجد إلا بإبطال كونها مقبرة إما بنبش الموتى ونقلهم، أو باندراس المقبرة وذهاب أثرها مع تطاول الزمن بحيث لا تتميز عن الأرض الفضاء فيسقط عنا اسم «المقبرة». وإن كانت الأرض أو البناء مسجداً أصبح موقوفة على هذه الوظيفة فلا يجوز بيعها، ولا التصرف فيها إلا بما أذن به النص الشرعي صراحة، لا يجوز تحويلها إلى سوق أو مسكن، ومن باب أولى لا يجوز تحويلها إلى مقبرة.
وليس ما قلناه بدع من القول، أو تنطع، بل قد قال بمثله بعض أئمة السلف:
v كما جاء في «مصنف عبد الرزاق»، (ج: 1 ص: 404): [عن ابن جريج قال قلت لعطاء أتكره أن نصلي في وسط القبور أو في مسجد إلى قبر قال نعم كان ينهى عن ذلك قال أرأيت إن كان قبر وبيني وبينه بعد أو على مسجد ذراع فصاعدا قال يكره أن يصلي وسط القبور]
v جاء في «مصنف عبد الرزاق»، (ج: 1 ص: 405): [عن الثوري عن عمرو بن يحيى عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الأرض كلها مسجد إلا القبر والحمام]
v جاء في «مصنف عبد الرزاق»، (ج: 1 ص: 405): [ن الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن ابن عباس قال لا تصلين إلى حش ولا البغوي ولا في المقبرة]
v جاء في «مصنف عبد الرزاق»، (ج: 1 ص: 405): [عن الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال لاتصلين إلى حش ولا في الحمام ولا في المقبرة]
v جاء في «مصنف عبد الرزاق»، (ج: 1 ص: 407): [بد الرزاق عن ابن جريج قال أخبرني ابن طاووس عن أبيه قال لا أعلمه إلا كان يكره الصلاة وسط القبور كراهة شديدة]
v جاء في «مصنف عبد الرزاق»، (ج: 1 ص: 406): [ن ابن جريج قال قلت لنافع أكان ابن عمر يكره أن يصلي وسط القبور قال لقد صلينا على عائشة وأم سلمة وسط البقيع قال والإمام يوم صلينا على عائشة رضي الله عنها أبو هريرة وحضر ذلك عبد الله بن عمر]، قلتك هذا خارج عن الموضوع، لأن صلاة الجنازة تجوز نصاً في المقبرة.
وكون المقابر والصلاة لا يجتمعان بيِّن أيضاً من:
v ما أخرج ابن ماجه بإسناد في غاية الصحة عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تتخذوا بيوتكم قبوراً». وقد فسَّر النبي، صلى الله عليه وسلم، قوله: «لا تتخذوا بيوتكم قبوراً»، بقوله: «صلوا فيها»،
v وكما في الصحيحين عن عبد الله بن عمر بن الخطاب، مرفوعاً: «اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تتخذوها قبوراً»،
v وكما أخرج أحمد بإسناد صحيح عن زيد بن خالد الجهني، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تتخذوا بيوتكم قبوراً: صلوا فيها»،
v وعند مسلم عن عبد الله بن عمر بن الخطاب مرفوعاً: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر! فإن الشيطان ينفر من البيت الذي يسمع سورة البقرة تقرأ فيه».
وهذه النصوص تبطل قول من زعم أن جملة: «لا تتخذوا بيوتكم قبوراً» تقتضي النهي عن الدفن في المنزل، أي أن يكون القبر في المنزل، وهو ما يتبادر إلى الذهن عادة، لأن الذي تكفل بالبيان، تباركت أسماؤه، بين علي لسان نبيه أن هذا مجاز يقصد به: «صلوا فيها»، «اقرؤوا فيه القران، لا سيما سورة البقرة». فالدفن في كل مكان من العالم جائز، لا فرق بين البحر في أعالي البحار، والفضاء الخارجي لرواد الفضاء، وطبقات الثلج والجليد في القطبين الشمالي والجنوبي، وغيرها، إلا المسجد المعلوم، لما سلف، والمزابل والمراحيض لأن ذلك لا يكون إلا لتحقير الميت والانتقاص من حرمته، وهذا لا يجوز أن يفعل بمسلم، وهو مثلة قبيحة، لا تجوز لمسلم أو كافر.
وزعم قوم أن جملة (اتخاذ القبور مساجد) تتضمن النهي عن استقبال القبر بسجود أو في الصلاة، أي أن يكون في القبلة، أو ما هو شر من ذلك: أن يتخذ قبلة. وهذا باطل، بين البطلان، فالمسجد غير القبلة، و(اتخاذ القبور مساجد) ليس هو (اتخاذ القبور قبلة)، ولا هو (استقبال القبر في الصلاة)، بضرورة اللغة، المنبنية على ضرورة الحس والعقل.
نعم: الصلاة إلى القبر محرمة، ولكن ليس بدلالة ما سبق، وإنما بدليل مستقل، كما سيأتي الآن، إن شاء الله تعالى.
u فصل: النهي عن الصلاة إلى القبور، أي اتخاذها قبلة
v أخرج مسلم بأسانيد صحاح تقوم بها الحجة عن أبي مرثد الغنوي قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها»، وأخرج مثله النسائي، وأبو داود، وأحمد، والترمذي، وقال: (وفي الباب عن أبي هريرة وعمرو بن حزم وبشير ابن الخصاصية).
قوله: «لا تصلوا إليها» يعني ضرورة لا تصلوا في اتجاهها، أي لا تجعلوها في قبلتكم، إلا أن يكون هناك جدار أو ساتر. فإن وجد جدار أو ساتر، ولو خط رمزي يخطه المصلي بين يدي مكان صلاته في الفضاء، كما جاء في بعض الروايات. فإن وجد ساتر، مهما كان نوعه، فقد انقطعت الجهة، ولم يعد المصلي مستقبلاً القبر، ولا هو مصلياً إليه.
أما بالنسبة للمسجد المحدد الثابت فلا يجوز من ثم أن تكون القبور في قبلته إلا إذا انفصلت بحاجز ثابت، ويكفي في هذا جدار واحد بارتفاع يمنع المصلين من رؤية القبور، سواء كانت هذه القبور قبراً منعزلاً، أو قبوراً مبعثرة في الفضاء أو مقبرة محددة لا سور لها. وقد جاء نحو ذلك عن السلف:
v كما جاء في «مصنف عبد الرزاق»، (ج: 1 ص: 404): [عن ابن جريج عن عطاء قال لا تصل وبينك وبين القبلة قبر وإن كان بينك وبينه ستر ذراع فصل]
v جاء في «مصنف عبد الرزاق»، (ج: 1 ص: 404): [عن معمر عن ثابت البناني عن أنس بن مالك قال رآني عمر بن الخطاب وأنا أصلي ثم قبر فجعل يقول القبر قال فحسبته يقول القمر قال فجعلت أرفع رأسي إلى السماء فأنظر فقال إنما أقول القبر لا تصل إليه، قال ثابت فكان أنس بن مالك يأخذ بيدي إذا أراد أن يصلي فيتنحى عن القبور]
v جاء في «مصنف عبد الرزاق»، (ج: 1 ص: 405): [ن الثوري عن مغيرة عن إبراهيم قالوا كانوا يكرهون أن يتخذوا ثلاثة أبيات قبلة: القبر والحمام والحش]، قلت: أما القبر فلما سلف، وأما الحمام والحش فلعله من باب التنزه، والأدب الراقي، والذوق الرفيع، وإلا فما ثمة نص في هذا!
و(الصلاة إلى القبور)، كما بيناه، حرام، ولكنه ليس من جنس (اتخاذ القبور مساجد)، ولا هو من بابه، ولا من درجة تحريمه فهذا كبيرة قبيحة من كبائر الذنوب جاء النص صريحاً بلعن فاعلها، وتلك، أي (الصلاة إلى القبور)، جاء النهي عنها مجرداً عن اللعن أو الوعيد، فهو من صغائر الذنوب.
وفي كلتا الحالتين، أي (اتخاذ القبور مساجد) و(الصلاة إلى القبور) قد ورد النهي عن الصلاة، وفي الأولى النهي كذلك عن مطلق السجود. والحق الذي لا يجوز أن تكون فيه شبهة أن النهي يقتضي البطلان، فمن صلى كذلك وقعت صلاته باطلة، لأنه لم يصل كما أمر، بل صلى مخالفاً للنهي، إلا من عذر بجهل أو تأويل أو إكراه ملجيء، أو غيره من الأعذار الشرعية المعتبرة. فلا صحة لتقاسيم الألباني العجيبة حيث فرق بين حالتين:
الأولى: أن يقصد الصلاة فيها من أجل القبور، والتبرك بها، كما يفعله كثير من العامة، وغير قليل من الخاصة!
الثانية: أن يصلي فيها اتفاقاً لا قصداً للقبر.
وهذا هو عين لفظ الألباني كما هو في رسالته: (تحذير الساجد، من اتخاذ القبور مساجد)، كما هي أمامي الآن في طبعتها الرابعة، من اصدار «المكتب الإسلامي» بتاريخ. 1403 هـ، الموافق 1983م.
فنقول: هذه تقاسيم يستعاذ بالله منها! وسؤالنا للألباني ومقلدته: أين وجدتم هذه التقاسيم في نصوص الأحاديث المذكورة آنفاً؟! فلعلها فاتت النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثم عرفتموها أنتم واستدركتموها عليه؟! فإن كان هذا قولكم فحسبكم الكفر، وإن كان غير ذلك: فهاتوا برهانكم إن كنتم صادقين.
نعم: سيسارع القوم بذكر سلسلة من التعليلات والحكم المزعومة في هذه النواهي النبوية الشريفة آنفة الذكر لتبرير قسمتهم الباطلة، فنقول: اصبروا قليلاً حتى نهاية هذا الباب لتعرفوا مكانة تعليلاتكم الفاسدة من الشرع والعقل!
u فصل: النهي عن البناء على القبور والأمر بتسويتها
والبناء على القبور، وتجصيصها، أي طلائها بالجص وهو الجبس أو النورة، محرم كذلك، على الإطلاق، لا فرق بين فعل ذلك لاتخاذها مسجداً، فتتضاعف الحرمة وتغلظ، وتصبح كبيرة من كبائر الذنوب يستحق فاعلها لعنة الله وغضبه، أو لمجرد الزخرفة والزينة، أو للمظاهر والرياء وتنافس السفهاء من الأغنياء، للأدلة التالية:
v فقد أخرج أحمد بإسناد حسن قوي عن أبي موسى حين حضره الموت فقال: (إذا انطلقتم بجنازتي فأسرعوا المشي، ولا يتبعني مجمر، ولا تجعلوا في لحدي شيئا يحول بيني وبين التراب، ولا تجعلوا على قبري بناء، وأشهدكم أنني بريء من كل حالقة أو سالقة أو خارقة)، قالوا: أوسمعت فيه شيئا؟! قال: نعم من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
v وأخرج مسلم عن جابر قال: [نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه]، هذا حديث في غاية الصحة، أخرج مثله النسائي، وأحمد، بأسانيد غاية في الصحة، وأخرج ابن ماجه فقط النهي عن التجصيص بإسناد حسن.
وقد زاد بعض الضعاف من الرواة: (وأن يكتب عليه)، وهي زيادة منكرة باطلة، لا تثبت، فهي من أوهامهم أو أكاذيبهم. وأخرجه الترمذي وقال: (هذا حديث حسن صحيح قد روي من غير وجه عن جابر وقد رخص بعض أهل العلم منهم الحسن البصري في تطيين القبور وقال الشافعي لا بأس أن يطين القبر)، ولكنه اغتر به بطوله مع الزيادة: (وأن يكتب عليه)، وهي زيادة ساقطة دلسها ابن جريج عن راوٍ لا شك أنه ضعيف، وذلك لأن الإمام الحجة عبد الملك بن جريج، مع جلالة قدره ووثاقته المتفق عليها، إذا صرح بالتحديث، ليس كذلك إذا عنعن، لأنه يدلس تدليساً قبيحاً، ولا يكاد يدلس إلا عن مجروح، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ورواه بعضهم: «تقصيص»، بدلاً منك «تجصيص»، وهي لغة!
v كما أخرج أحمد بإسناد حسن قوي عن أم سلمة قالت: [نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبنى على القبر أو يجصص]، وهو صحيح بشهادة الحديث السابق.
v وأخرج مسلم بأسانيد صحاح عن أبي الهياج الأسدي قال: [قال لي علي بن أبي طالب: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! أن لا تدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرا مشرفاً إلا سويته)]، وأخرج مثله أبو داود، وأحمد، والترمذي، وقال: (وفي الباب عن جابر، قال أبو عيسى: حديث علي حديث حسن، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم يكرهون أن يرفع القبر فوق الأرض، قال الشافعي: أكره أن يرفع القبر إلا بقدر ما يعرف أنه قبر لكيلا يوطأ، ولا يجلس عليه). أبو الهياج حيَّان بن حُصَين الأسدي الكوفي، ثقة، كان علي شرطة إمام الهدى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضوان الله وسلامه عليه، وكان كذلك قد كتب لعمار، فلقب «كاتب عمار».
v وكذلك الدارقطني في «العلل الواردة في الأحاديث النبوية»: [حدثنا عبد الله بن محمد البغوي حدثنا محرز بن عون بن أبي عون قال حدثنا حسان بن إبراهيم عن خالد بن الحارث عن سفيان بن سعيد قال أخبرنا حبيب بن أبي ثابت عن أبي وائل عن أبي الهياج عن علي قال أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن لا أدع قبرا مشرفا إلا سويته ولا تمثالا في بيت إلا طمسته]، ثم قال الدارقطني بعد تعديد الطرق والأسانيد أن هذا الإسناد، الذي أوردناه آنفاً، هو الصحيح.
v وأخرج أحمد، من غير طريق أبي الهياج، أن علياً، رضي الله عنه، بعث صاحب شرطته فقال: (أبعثك لما بعثني له رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدع قبرا إلا سويته، ولا تمثالا إلا وضعته)، ولكن فيه أشعث بن سوَّار، القاضي، وهو ليس بذاك القوي، وقد أخرج له مسلم في المتابعات والشواهد، ولكن الحديث يعتضد بسابقه ويشهد لصحة القصة!
v وقال أحمد حدثنا أسود بن عامر حدثنا شعبة، قال: الحكم أخبرني عن أبي محمد، عن علي، رضي الله عنه، قال: (بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فأمره: (أن يسوي القبور)، أبو محمد (وقيل: أبو محمد الهذلي) مجهول، وحديثه طويل فيه مناكير، ولكنه يعتضد في هذه الجزئية بسوابقه!
فهذه أدلة قوية، بل لا نبالغ إذا قلنا أنها نقل تواتر عن أم المؤمنين أم سلمة، وإمام الهدى علي بن أبي طالب، وأبي موسى الأشعري، وجابر بن عبد الله، رضوان الله وسلامه عليهم، يوجب القطع بحرمة البناء على القبر، ووجوب تسويته فلا يكون مشرفاً، إلا تربيعاً أو تسنيما بارتفاع شبر أو نحوه ليعلم أنه قبر فيتميز، ومن باب أولى لا يجوز أن يكون مبنياً.
هذا التحريم هو تحريم للبناء على ذات القبر: قبة أو ضريحاً أو نحوه. فلا يدخل فيه أن يكون القبر في بناء سابق بني لغرض مشروع كالمساكن، والحصون، والمستشفيات، والمكتبات، وكل بناء حاشا المساجد. دليل ذلك:
أولاً: أن من دفن في بيته لا يقال عنه في لغة العرب، التي خوطبنا بها في القرآن، أن قبره بني عليه أو أن قبره مشرف، ولكن يقال: أنه دفن في بيته فقط، وهذا واقع يختلف، بضرورة اللغة، المنبنية على ضرورة الحس والعقل، عن من دفن ثم بني على قبره قبة، أو جعل على قبره ركام كبير من الحجارة والتراب حتى أصبح علماً مشرفاً.
ثانياً: أن نبي الله الخاتم، عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأتم التسليم، دفن في بيته، وهو حجرة مبنية مسقوفة، بتشاور الصحابة وإجماعهم، وهم أهل اللسان العربي الذين رووا عنه النهي عن البناء على القبر والأمر بتسويته.
ثالثاً: ما كان الله، جل وعلا، ليأذن أن يمس الذات النبوية الشريفة ما لا يرضاه، وهو الذي وعد: }والله يعصمك من الناس{.
أما الدفن في المسجد الموجود المشيد فلا يجوز لما سلف من النهي عن اتخاذ القبور مساجد، فلا يمكن أن يكون المكان الواحد مسجداً ومقبرة في آن: فإن كان مقبرة حرم تحويلها إلى مسجد إلا بإبطال كونها مقبرة إما بنبش الموتى ونقلهم، أو باندراس المقبرة وذهاب أثرها مع تطاول الزمن بحيث لا تتميز عن الأرض الفضاء فيسقط عنا اسم «المقبرة». وإن كانت الأرض أو البناء مسجداً أصبح موقوفة على هذه الوظيفة فلا يجوز بيعها، ولا التصرف فيها إلا بما أذن به النص الشرعي صراحة، لا يجوز تحويلها إلى سوق أو مسكن، ومن باب أولى لا يجوز تحويلها إلى مقبرة.
كما لا يدخل في التحريم أن يمتد بناء موجود فيدخل فيه قبر بحيث يصبح القبر مسقوفاً، كأن يحتاج أهل بيت إلى توسعته، ولا سبيل لهم إلا في اتجاه القبر وتجاوزه، وتعذر عليهم نبش القبر أو نقله. فهذا ليس بناء على قبر، بل هو بناء للسكنى، أو لغير ذلك من المقاصد المشروعة، دخل فيه قبر للضرورة.
وكذلك لا يدخل في التحريم أن تتم توسعة مسجد بجوار مقبرة، ولا تتيسر التوسعة إلا بإحاطة المسجد بالمقبرة كالسوار من جميع جوانبها، مع بقاء المقبرة منعزلة مسورة، وذلك لأن المسجد مباين للمقبرة، وإن أحاط بها إحاطة السوار، والمقبرة مباينة للمسجد منعزلة عنه مفصولة بجدارها، وإن أحيط بها من كل جانب فلا يصل إليها أحد إلا عابراً في أرض المسجد. فالمسجد ها هنا مسجد، وليس مقبرة، ولم يبنى على مقبرة، والمقبرة مقبرة، ولم تتحول إلى مسجد، كما هو مدرك بضرورة الحس. وهذا هو واقع القبر النبوي الشريف فهو منعزل في الحجرة النبوية الشريفة، مع إحاطة المسجد الشريف به من كل جانب.
ونسارع فنؤكد أنه في مثل هذه الحالة لا بد أن يكون القبر، أو أن تكون القبور، أو أن تكون المقبرة معزولة مسورة بجدار مرتفع، وإلا وقعت القبور، أو المقبرة، في قبلة بعض المصلين، وهو حرام لا يجوز.
كما نؤكد أن الجدار الواحد ساتر كاف، سواء كان الجدار جدار المسجد، أو جدار المقبرة، خلافاً لما تبناه بعض المجتهدين من وجوب وجود جدارين، جدار للمسجد وجدار للمقبرة، لأن ذلك إيجاب شرع ونفقة مال في بناء لم تأت به الشريعة، وهذا كله لا يجوز إلا بنص شرعي، ولا سبيل لهم إلى نص أبداً، ولعل الدافع إلى هذا القول المجرد عن الدليل هو «الوساوس» التي يسمونا «علل» و«حكم»، كما سنناقشه قريباً، إن شاء الله.
u فصل: لم دفن النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، في بيته؟!
المشهور علي ألسنة طلبة العلم أن النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إنما دفن في بيته، لأن الصحابة إنما تخوفوا أن يتخذ الجهال قبره مسجداَ:
v كما أخرجه البخاري بإسانيد صحاح، في غاية الصحة، عن عائشة رضي الله عنها عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال في مرضه الذي مات فيه: «لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»، قالت: (ولولا ذلك لأبرزوا قبره غير أني أخشى أن يتخذ مسجداً)، وأخرج مثله مسلم، وأبو عوانة، وأحمد، والسراج في «مسنده». وجاءت روايات لتعقيب عائشة بلفظ: (فلوا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً).
ولكن ليس في تعقيب عائشة، رضي الله عنها، ذكر أنها كانت حاضرة في شيء من الائتمار والمشاورة حول دفن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولكنها فقط ذكرت القرار النهائي الذي اتخذه الصحابة، ودوافعهم حسب معتقدها، وسيأتي تفصيل ذلك قريباً.
وعقب الألباني في كتيبه المسمَّى: «تحذير الساجد» قائلاً: [ومثل قول عائشة هذا ما روي عن أبيها رضي الله عنهما، فأخرج ابن زنجويه عن عمر مولى غفرة قال: لما ائتمروا في دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قائل: ندفنه حيث كان يصلي في مقامه! وقال أبو بكر: معاذ الله أن نجعله وثناً يعبد، وقال الآخرون: ندفنه في البقيع حيث دفن إخوانه المهاجرون، قال أبو بكر: إنا نكره أن يخرج قبر رسول الله صلي الله عليه وسلم إلى البقيع، فيعوذ به من الناس لله عليه حق، وحق الله فوق حق رسول الله، فإن أخرجناه (الأصل: أخرناه) ضيعنا حق الله، وإن أخفرناه(!) أخفرنا قبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قالوا: فما ترى أنت يا أبا بكر؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما قبض الله نبياً قط إلا دفن حيث قبض روحه»، قالوا: فأنت والله رضي مقنع، ثم خطوا حول الفراش خطاً، ثم احتمله علي والعباس وأهله ووقع القوم في الحفر يحفرون حيث كان الفراش]،
هذا هو نص الألباني بعينه، بما في ذلك علامات التنقيط، والظاهر منه أن الألباني لم يفهم النص، فاستبدل لفظة: (أخرناه) التي كانت في الأصل، بلفظة: (أخرجناه)، ظناً منه أن نذلك يجعل المعنى مستقيماً، فلم يوفق، بل الواجب هو استبدالها بلفظة: (أجرناه)، وبذلك تزول علامة التعجب التي كتبها الألباني بعد لفظة أخفرناه، كما أن هناك سقط في جملة: (فيعوذ به من الناس لله عليه حق)، والواجب أن تكون: (فيعوذ به من الناس «من» لله عليه حق):
v فنص رواية عمر مولى غفرة ينبغي أن يكون: [لما ائتمروا في دفن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال قائل: (ندفنه حيث كان يصلي في مقامه!)، وقال أبو بكر: (معاذ الله أن نجعله وثناً يعبد)، وقال الآخرون: (ندفنه في البقيع حيث دفن إخوانه المهاجرون)، قال أبو بكر: (إنا نكره أن يخرج قبر رسول الله، صلي الله عليه وسلم، إلى البقيع، فيعوذ به من الناس من لله عليه حق، وحق الله فوق حق رسول الله، فإن أجرناه، ضيعنا حق الله، وإن أخفرناه، أخفرنا قبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم)، قالوا: (فما ترى أنت يا أبا بكر؟)، قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: «ما قبض الله نبياً قط إلا دفن حيث قبض روحه»)، قالوا: (فأنت والله رضي مقنع)، ثم خطوا حول الفراش خطاً، ثم احتمله علي والعباس وأهله، ووقع القوم في الحفر، يحفرون حيث كان الفراش].
ولكن هذا منقطع، لا تقوم به الحجة أصلاً، مع كون عمر مولى غفرة ضعيف كالمتفق على ضعفه لكثرة إرساله، فليس هو في ذاته بالساقط، ولا هو بالحافظ الحجة أيضاً. وبعض المتن مع هذا مخالف لصحاح الروايات. ولكن العجب هو من قول الألباني: (ومثل قول عائشة هذا ما روي عن أبيها)، فأين قول عائشة: (فلوا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً)، من القول المنسوب إلى أبيها: (إنا نكره أن يخرج قبر رسول الله، صلي الله عليه وسلم، إلى البقيع، فيعوذ به من الناس من لله عليه حق، وحق الله فوق حق رسول الله، فإن أجرناه، ضيعنا حق الله، وإن أخفرناه، أخفرنا قبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم)، وهل بين القولين أدنى مشابهة؟! وليس هناك خوف من أن يتخذ مسجداً، وإنما هي الخشية أن يعوذ به من عليه حد أو حق لله، فيقع المسلمون في الحرج. ثم كان القرار النهائي بناءً على القول المنسوب إلى النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «ما قبض الله نبياً قط إلا دفن حيث قبض روحه»، وهذا أيضاً خلاف ما ظنته عائشة، رضي الله عنها، الدافع الرئيس لدفنه في بيته.
v وسبق ذكر قول الألباني في كتيبه المسمَّى: «تحذير الساجد»: [عن أمهات المؤمنين أن أصحاب رسول الله، صلي الله عليه وسلم، قالوا: كيف نبني قبر رسول الله، صلي الله عليه وسلم؟! أنجعله مسجداً؟! فقال أبو بكر الصديق: سمعت رسول الله، صلي الله عليه وسلم، يقول: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد] ، ثم همَّش قائلاً: [رواه ابن زنجويه في «فضائل الصديق» كما في «الجامع الكبير» (3/147/1)]، ولم يتكلم الألباني عن الإسناد، ولا عقب بتصحيح أو تضعيف. وليس فيه إلا أنهم فكروا أولاً في جعله مسجداً، وليس فيه ذكر إبراز القبر، أو دفنه في بيته.
v وجاء في «مسند إسحاق بن راهويه»: [أخبرنا وهب بن جرير أخبرنا أبي قال سمعت الحسن يقول كان المسلمون اختلفوا في دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم أين يدفن فقالت طائفة منهم يدفن في البقيع حيث اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم لولده وللمسلمين، قال فقالوا أتبرزون قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما أحدث أحد حدثا عاذ به، قال وقال طائفة ندفنه في المسجد فقالت عائشة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم غشي عليه فلما أفاق قال قاتل الله أقواما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد فعرفوا أن ذلك نهيا منه، فقالوا يدفن حيث اختار الله أن يقبض روحه فيه فحفر له في بيت عائشة]،
v وأخرجه ابن سعد في «الطبقات الكبرى»، (ج: 2 ص: 241): [أخبرنا عبد الوهاب بن عطاء قال أخبرنا عوف عن الحسن بنحوه مختصراً]
قلت: هذا الإسناد، كما هو في «مسند إسحاق بن راهويه»، على شرط مسلم، وهو في غاية الصحة إلى الحسن، ولكن مراسيل الحسن معروفة بالضعف والسقوط. والمعنى يشبه رواية ابن زنجويه، غير أن المعترض ها هنا عائشة، وليس أبو بكر. وهذا أبعد عن منطوق الحديث الصحيح حيث تقول عائشة: (فلوا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً)، ولا ذكر ها هنا أنها حاضرة في شيء من الائتمار والمشاورة، أو أنها أعلمت الحاضرين ببعض مسموعاتها عن النبي، صلي الله عليه وعلى آله وسلم، ولكنها فقط ذكرت القرار النهائي، ودوافعه حسب معتقدها.
وجاءت روايات ضعيفة تزعم أنه، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، قال: ««ما قبض نبي إلا دفن حيث يقبض»، أونحو ذلك، ومنها:
v ما جاء في «سنن ابن ماجه»: [حدثنا نصر بن علي الجهضمي أنبأنا وهب بن جرير حدثنا أبي عن محمد بن إسحاق حدثني حسين بن عبد الله عن عكرمة عن بن عباس قال لما أرادوا أن يحفروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعثوا إلى أبي عبيدة بن الجراح وكان يضرح كضريح أهل مكة وبعثوا إلى أبي طلحة وكان هو الذي يحفر لأهل المدينة وكان يلحد فبعثوا إليهما رسولين فقالوا اللهم خر لرسولك فوجدوا أبا طلحة فجيء به ولم يوجد أبو عبيدة فلحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال فلما فرغوا من جهازه يوم الثلاثاء وضع على سريره في بيته ثم دخل الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالا يصلون عليه حتى إذا فرغوا أدخلوا النساء حتى إذا فرغوا أدخلوا الصبيان ولم يؤم الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد. لقد اختلف المسلمون في المكان الذي يحفر له، فقال قائلون: (يدفن في مسجده)، وقال قائلون: (يدفن مع أصحابه)، فقال أبو بكر: (إني سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: «ما قبض نبي إلا دفن حيث يقبض»)، قال فرفعوا فراش رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الذي توفي عليه فحفروا له ثم دفن صلى الله عليه وسلم وسط الليل من ليلة الأربعاء ونزل في حفرته علي بن أبي طالب والفضل بن العباس وقثم أخوه وشقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أوس بن خولى وهو أبو ليلى لعلي بن أبي طالب أنشدك الله وحظنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له علي انزل وكان شقران مولاه أخذ قطيفة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسها فدفنها في القبر وقال والله لا يلبسها أحد بعدك أبدا فدفنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم]، وقال الألباني: (ضعيف، لكن قصة الشقاق واللحد ثابتة)، قلت: أصاب الألباني ها هنا لأن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس ضعيف متروك، متفق على ضعفه.
v وجاء في «مسند أبي يعلى»: [حدثنا جعفر بن مهران السباك حدثنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى السامي عن محمد بن إسحاق قال حدثني حسين بن عبد الله عن عكرمة عن بن عباس بنحوه إلى قوله (ليلة الأربعاء)]، وآفة هذا الإسناد هي حسين بن عبد الله المذكور آنفاً.
v وجاد في «سنن الترمذي»: [حدثنا أبو كريب حدثنا أبو معاوية عن عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبي مليكة عن عائشة قالت لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في دفنه فقال أبو بكر سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ما نسيته قال: «ما قبض الله نبيا إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه»، ادفنوه في موضع فراشه]، وقال الإمام أبو عيسى الترمذي: (هذا حديث غريب، وعبد الرحمن بن أبي بكر المليكي يضعف من حفظه، وقد روي هذا الحديث من غير هذا الوجه فرواه بن عباس عن أبي بكر الصديق عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضا)، قلت: أصاب الإمام الترمذي لأن عبد الرحمن بن أبي بكر ضعيف، لا شك في ضعفه، ومع ذلك قال الألباني: (صحيح)، فلا أدري علي أي أساس صححه؟! فلعله للحديث السابق، ولكن الطريقين المستقلتين إنما تبين أن له أصلاً صحيحاً، أما ما هو الأصل فليس ببين من الطريقين لضعفهما، ولكن سنعرفه قريباً إن شاء الله!
ولكن الحجة القاطعة هي:
v في ما جاء في «السنن الكبرى» للإمام النسائي: [أنبأ قتيبة بن سعيد قال حدثنا حميد بن عبد الرحمن عن سلمة بن نبيط عن نعيم عن نبيط عن سالم بن عبيد قال، وكان من أصحاب الصفة، قال أغمي على النبي، صلى الله عليه وسلم، في مرضه فأفاق فقال: «أحضرت الصلاة؟!»، قالوا: (نعم )، قال: «مروا بلال فليؤذن ومروا أبا بكر فليصل بالناس»، ثم أغمي عليه فأفاق فقال: «أحضرت الصلاة؟!»، فقلن: (نعم)، فقال: «مروا بلالا فليؤذن، ومروا أبا بكر فليصل بالناس!»، قالت عائشة: (إن أبي رجل أسيف!)، فقال: «إنكن صواحبات يوسف: مروا بلالا فليؤذن، ومروا أبا بكر فليصل بالناس!»، فأمرن بلالا أن يؤذن، وأمرن أبا بكر أن يصلي بالناس، فلما أقيمت الصلاة قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أقيمت الصلاة؟!»، قلن: (نعم)، قال: «ادعوا لي إنسانا أعتمد عليه»، فجاءت بريرة وآخر معها فاعتمد عليها، فجاء أبو بكر فصلى، فجلس إلى جنبه فذهب أبو بكر يتأخر، فحبسه حتى فرغ من الصلاة. فلما توفي النبي، صلى الله عليه وسلم، قال عمر: (لا يتكلم أحد بموته إلا ضربته بسيفي هذا!)، فسكتوا، وكانوا قوما أميين، لم يكن فيهم نبي قبله، قالوا: (يا سالم: اذهب إلى صاحب النبي، صلى الله عليه وسلم، فادعه!)، قال: فخرجت فوجدت أبا بكر قائما في المسجد، قال أبو بكر: (مات رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!)، قلت: إن عمر يقول: (لا يتكلم أحد بموته إلا ضربته بسيفي هذا!)، فوضع يده على ساعدي، ثم أقبل يمشي ،حتى دخل، قال فوسعوا له، حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأكب عليه حتى كاد أن يمس وجهه وجه النبي، صلى الله عليه وسلم، حتى استبان له أنه قد مات فقال أبو بكر: (إنك ميت وإنهم ميتون)، قالوا: (يا صاحب رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أمات رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!)، قال: (نعم)، قال فعلموا أنه كما قال قالوا: (يا صاحب النبي صلى الله عليه وسلم: هل يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم؟!)، قال: (نعم)، قالوا: (وكيف يصلى عليه؟!)، قال: (يدخل قوم فيكبرون، ويدعون، ويجيء آخرون!)، قالوا: (يا صاحب النبي صلى الله عليه وسلم: هل يدفن النبي صلى الله عليه وسلم؟!)، قال: (نعم)، قالوا: (وأين يدفن؟!)، قال: (في المكان التي قبض الله فيها روحه فإنه لم يقبض روحه إلا في مكان طيبة)، قال فعلموا أنه كما قال، ثم قال أبو بكر: (عندكم صاحبكم!)، وخرج أبو بكر واجتمع المهاجرون فجعلوا يتشاورون بينهم ثم قالوا: (انطلقو إلى إخواننا من الأنصار، فإن لهم من هذا الحق نصيبا!)، فأتوا الأنصار فقال الأنصار: (منا أمير، ومنكم أمير!)، فقال عمر: (سيفان في غمد واحد؟! إذا لا يصلحان!)، ثم أخذ بيد أبي بكر فقال: (من له هذه الثلاث: إذ يقول لصاحبه من صاحبه؟! إذ هما في الغار من هما؟! لا تحزن إن الله معنا مع من؟!)، ثم بايعه، ثم قال: (بايعوا!)، فبايع الناس أحسن بيعة وأجملها]
هذا إسناد في غاية الصحة، وهو متصل مجود، كما برهنا عليه في الملحق، والمتن هو أتم المتون أو من أتمها، لذا أخترنا هذه الرواية وقدمناها علي غيرها.
v وجاء في «المعجم الكبير»: [حدثنا معاذ بن المثنى حدثنا مسدد حدثنا عبد الله بن داود حدثنا سلمة بن نبيط عن نعيم بن أبي هند عن نبيط بن شريط عن سالم بن عبيد به بنحوه مع اختلاف طفيف في الألفاظ كما هو بطوله في الملحق]، وهذا إسناد في غاية الصحة أيضاً.
v وجاء في «مسند عبد بن حميد»: [حدثني محمد بن الفضل حدثنا عبد الله بن داود قال ذكر سلمة بن نبيط عن نعيم بن أبي هند عن نبيط بن شريط عن سالم بن عبيد به بنحوه مع اختلاف طفيف في الألفاظ كما هو بطوله في الملحق]، وهذا إسناد في غاية الصحة، وهو متصل مجود أيضاً.
v وهو في «الآحاد والمثاني»: [قال أبو عمرو نصر بن علي الحداني أخبرنا عبد الله بن داود قال سلمة بن نبيط أخبرنا عن نعيم بن أبي هند عن نبيط بن شريط عن سالم بن عبيد، رضي الله تعالى عنه، بنحوه مع اختلاف طفيف في الألفاظ كما هو بطوله في الملحق]، وهذا إسناد في غاية الصحة، وهو متصل مجود أيضاً.
v وأخرج الإمام ابن ماجه صدر رواية «الآحاد والمثاني»، فقال: [حدثنا نصر بن علي الجهضمي أنبأنا عبد الله بن داود من كتابه في بيته قال سلمة بن نبيط أنبأنا عن نعيم بن أبي هند عن نبيط بن شريط عن سالم بن عبيد به إلى قوله: ثم إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قبض].
v وجاء بعضه في «سنن البيهقي الكبرى» من طريق ثالثة إلي سلمة بن نبيط: [أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو قالا حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا أحمد بن عبد الجبار العطاردي حدثنا يونس بن بكير عن سلمة بن نبيط عن أبيه نبيط بن شريط الأشجعي عن سالم بن عبيد، وكان من أصحاب الصفة، قال: دخل أبو بكر، رضي الله تعالى عنه، على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حين مات، ثم خرج، فقيل له: (توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!)، فقال: (نعم)، فعلموا أنه كما قال قيل: (ويصلى عليه، وكيف يصلى عليه؟!)، قال: (يجيئون عصبا عصبا فيصلون)، فعلموا أنه كما قال، فقالوا: (هل يدفن، وأين؟!)، فقال: (حيث قبض الله روحه فإنه لم يقبض الله روحه إلا في مكان طيب!)، فعلموا أنه كما قال]
v وجاء بعضه في «سنن البيهقي الكبرى» من طريق رابعة إلي سلمة بن نبيط: [أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أنبأ أبو أحمد حمزة بن العباس بن الفضل بن الحارث العقبي حدثنا عبد الله بن روح المدايني حدثنا سوادة بن سلمة بن نبيط عن أبيه سلمة بن نبيط عن نبيط بن شريط عن سالم بن عبيد الأشجعي قال لما مات رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان من أجزع الناس كلهم عليه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فذكر الحديث إلى أن قال فقالوا يعني لأبي بكر رضي الله تعالى عنه يا صاحب رسول الله أمات رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم من يغسله قال رجال أهل بيته الأدنى فالأدنى قالوا يا صاحب رسول الله فأين تدفنه قال ادفنوه في البقعة التي قبضه الله فيها لم يقبضه إلا في أحب البقاع إليه]
هذه الروايات الصحيحة تحسم الموضوع وتبين أن دفنه في منزله كان باجتهاد من أبي بكر بأن يدفن (في المكان التي قبض الله فيها روحه، فإنه لم يقبض روحه إلا في مكان طيبة). وسالم بن عبيد، رضي الله عنه، وهو من أهل الصفة، كان شاهد عيان للواقعة، وحكى جوهر أحداثها. فمن المعقول جداً أن يكون هناك حوار ومشاورة بين الصحابة في شتى نواحي الموضوع. ومن المستبعد جداً أن لا يكونوا قد تشاوروا في موضوع مكان الدفن، حتى حسم أبو بكر الموضوع بمقالته آنفة الذكر. وبلغ بعض الكلام إلى أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، فظنت أنهم لم يبرزوا قبره فقط خشية أن يتخذ مسجداً، وغابت عنها الاعتبارات الأخرى. وبلغت مقولة أبي بكر بعض ضعفاء الرواة فظن أن لها أصلاً مرفوعاً إلى النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فورد من قبلهم اللفظ: «ما قبض نبي إلا دفن حيث يقبض»، وما شاكله.
فدفن نبي الله، عليه وعلى آله صلوات وتسليمات وتبريكات من الله، في بيته كان في المقام الأول لاعتقاد أبي بكر أنها أطيب بقاع الأرض، وأولاها بأن تضم الجسد الطاهر النبيل، لأن روحه الشريفة قبضت فيها، وربما كانت هناك اعتبارات ثانوية أخرى، مثل:
(1) خافوا أن يبرزوه في البقيع، أو غيره، فيتخذه الجهلة مسجداً،
(2) خافوا أن يبرزوه في البقيع، أو غيره، فيعوذ به من لله عليه حق، فيقع المسلمون في حرج شديد،
(3) فكروا بدفنه في المسجد، ولكنهم ذكروا بالنهي عن ذلك،
(4) فكروا في دفنه في المحراب، ولكن خشوا أن يظهر كأنه وثن يعبد، وربما عبد فعلاً مع تطاول الأزمنة،
وقد يكون التشاور شمل غير هذا، والله أعلم وأحكم.
u فصل: النهي عن اتخاذ قبره، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، عيداً
v أخرج أبو داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم»، وأخرج مثله أحمد بإسناد فيه ضعف، وهو حديث صحيح على كل حال بإسناد أبي داود، تقوم به الحجة، ويجب التدين به، ولا تجوز مخالفته مطلقاً.
v وعن على، زين العابدين، بن الحسين رضوان الله وسلامه عليهما: أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعو ، فنهاه، وقال: «الا احدثك حديثاً سمعته من أبي عن جدى عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «لا تتخذوا قبري عيدًا، ولا بيوتكم قبورا، فإن تسليمكم ليبلغنى أين كنتم» رواه الضياء المقدسي في «المختارة» بإسناد حسن قوي، تقوم به الحجة.
v وجاءت القصة أيضاً في «مصنف ابن أبي شيبة»، (ج: 2 ص: 150) : [حدثنا زيد بن حباب حدثنا جعفر بن إبراهيم من ولد ذي الجناحين قال حدثني علي بن عمر عن أبيه عن علي بن حسين أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت ثم قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعو فدعاه فقال ألا أحدثك بحديث سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم]، وأخرجه البخاري في «التاريخ الكبير» من طريق ابن أبي شيبة هذه، وأخرجه أبو يعلى من نفس الطريق، وهو إسناد جيد، رجاله ثقات كما قاله الهيثمي:
v في «مجمع الزوائد»، (ج: 4 ص: 2): [وعن علي بن الحسين أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت ثم قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعو فنهاه فقال ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا فان تسليمكم يبلغني أينما كنت رواه أبو يعلي وفيه جعفر بن ابراهيم الجعفري ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحا، وبقية رجاله ثقات].
قلت: جعفر بن إبراهيم هذا هو: جعفر بن إبراهيم بن محمد بن على بن عبد الله بن جعفر بن أبى طالب (وهو جعفر بن أبى طالب، الطيار، ذو الجناحين)، رضي الله تعالى عنهم. ذكره البخاري في «التاريخ الكبير»، وأبو حاتم في «الجرح والتعديل»، ولم يذكرا جرحاً، وقال ابن حبان: (يعتبر بحديثه من غير روايته عن أبيه)، وتجد تمام دراسة الإسناد في الملحق.
v وأخرج سعيد بن منصور في «سننه»: حدثنا عبد العزيز بن محمد، أخبرني سهيل بن سهل، قال: [رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، رضوان الله وسلامه عليهم، عند القبر، فناداني، وهو في بيت فاطمة، رضوان الله وسلامه عليها، يتعشى، فقال: هلمَّ إلى العشاء، فقلت: لا أريده، فقال: مالي رأيتك عند القبر؟! فقلت: سلّمت على النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال: إذا دخلت المسجد فسلم. ثم قال: إن رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: «لا تتخذوا قبري عيدًا، ولا بيوتكم مقابر، وصلوا عليه فإن صلاتكم تبلغنى حيثما كنتم، لعن الله اليهود والنصارى: اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»، (ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء)]. سهيل بن سهل لم أعرفه، إلا أن يكون هو سهيل بن أبي سهيل العابد، بل هو هو: لأنه معروف بالرواية عن الحسن بن الحسن، ليس بمشهور، روى عنه محمد بن عجلان والثوري، وعبد العزيز بن محمد الدراوردي، ووثقه ابن حبان، فهذا المرسل يشهد لسابقه، ويعتضد به، والأرجح أنه متصل من طريق أمير المؤمنين الحسن بن علي بن أبي طالب، رضوان الله وسلامه عليهما، كما هو:
v وهو في «مصنف ابن أبي شيبة»، (ج: 3 ص: 30)، مختصراً: [حدثنا أبو خالد الأحمر عن ابن عجلان عن سهيل عن حسن بن حسن بن علي عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا وصلوا علي حيث ما كنتم فإن صلاتكم تبلغني»]
v كما أخرج سعيد بن منصور أيضاً، فقال: [حدثنا حبان بن علي، حدثنا محمد بن عجلان، عن أبي سعيد مولى المهري، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «لا تتخذوا قبري عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني»]، حبان بن علي فقيه صالح دِّين، ولكنه لين الحديث، ولكن هذا المرسل يعتضد بشواهده.
v وأخرج ابن ماجه بإسناد في غاية الصحة عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تتخذوا بيوتكم قبوراً». وقد فسر النبي، صلى الله عليه وسلم، قوله: «لا تتخذوا بيوتكم قبوراً»، بقوله: «صلوا فيها»، كما في الصحيحين عن عبد الله بن عمر بن الخطاب، مرفوعاً: «اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تتخذوها قبوراً»، وكما أخرج أحمد بإسناد صحيح عن زيد بن خالد الجهني، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تتخذوا بيوتكم قبوراً: صلوا فيها؛ ومن فطر صائما كتب له مثل أجر الصائم لا ينقص من أجر الصائم شيء؛ ومن جهز غازيا في سبيل الله، أو خلفه في أهله، كتب له مثل أجر الغازي في أنه لا ينقص من أجر الغازي شيء»، وعند مسلم عن عبد الله بن عمر بن الخطاب مرفوعاً: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر! فإن الشيطان ينفر من البيت الذي يسمع سورة البقرة تقرأ فيه».
وقد اختلط النهي عن «اتخاذ القبور مساجد» بقوله، عليه وعلى آله الصلاة والسلام: «لا تتخذوا بيوتكم قبوراً» في أذهان بعض الضعفاء من الرواة، فتولدت متون منكرة، من مثل:
v ما أخرجه ابن سعد في «الطبقات الكبرى»، (ج: 2 ص: 241): [أخبرنا أحمد بن عبد الله بن يونس أخبرنا أبو بكر بن عياش عن أبي المهلب عن عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة عن كعب بن مالك قال إن أحدث عهدي بنبيكم صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بخمس فسمعته يقول: «إنه من كان قبلكم اتخذوا بيوتهم قبورا ألا وإني أنهاكم عن ذلك ألا هل بلغت اللهم اشهد اللهم اشهد»]،
قلت: هذا باطل سنداً لأن أبا المهلب مطرح بن زيد الأسدي الكناني الكوفي ثم الشامي ضعيف، وكذلك علي بن يزيد بن أبي هلال الألهاني الدمشقي الشامي ضعيف، بل لعله أسوأ حالاً من أبي المهلب، والواسطة بينهما هو عبيد الله بن زحْر الأفريقي ليس بالقوي وضعفه جماعة منهم أبو حاتم بن حبان على تساهله، بل قد قال ابن حبان: (إذا اجتمع هؤلاء الثلاثة: علي بن يزيد، وعبيد الله بن زحْر، والقاسم بن عبد الرحمن فهو مما عملته أيديهم)، فلعل أصل الحديث كحديث الحارث النجراني، رضي الله عنه، سمعه كعب بن مالك في نفس المناسبة، ثم أفسده علي بن يزيد أو أبو المهلب، أو اشتركا في إفساده، هذا إن لم يكن مخترعاً موضوعاً من أساسه.
أما متناً فهو باطل أيضاً لأن المحفوظ هو حديث الحارث النجراني، ولأن كعب بن مالك كان حاضراً كما هو في نص الحديث، وهو من أكابر الصحابة عقبي شجري، شهد المشاهد كلها إلا بدر وتبوك، فلو كانت جملة: «إنه من كان قبلكم اتخذوا بيوتهم قبورا ألا وإني أنهاكم عن ذلك ألا هل بلغت اللهم اشهد اللهم اشهد»، محفوظة، وكان الحديث السابق ثابتاً، لأخبر به كعب بن مالك الصحابة أثناء تداولهم وتشاورهم حول موضوع الدفن، ولامتنعوا عن دفن النبي، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، في بيته.
والنهي عن اتخاذ قبره الشريف عيداً ليس هو نهياً عن كثرة الزيارة فلا بأس من إكثار الزيارة وتكرارها ليل نهار حسب ما تيسر، وكلما سنحت فرصة لذلك، وإنما هو نهي عن:
(1) ترتيبها على نحو ملزم فيزور الإنسان، مثلاً، بعد صلاة الجمعة، ويمتنع عن الزيارة فيما سوى ذلك، وهكذا أبداً: أي أن يجعلها الإنسان أمراً راتباً كأنه صلاة مكتوبة،
(2) أن يكون على وجه الاحتفال، كالاحتفال بعيد أضحى أو عيد فطر، فليس خروج الرجل صباح كل يوم إلى عمله عيداً، بالرغم من التكرار والرتابة،
هذا هو معنى العيد في اللسان العربي الذي خوطبنا به: فالأضحى عيد مع كونه مرة واحدة في السنة فقط، ولكن تناول طعام الفطور صباح كل يوم عند طلوع الشمس ليس عيداً لأن الإنسان قد يصبح قلساً فلا يفطر، ويطول به نوم فيجعل فطوره غداءً مع الظهر، ويصوم فريضة أو تطوعاً فلا يأكل إلا بعد غروب الشمس، وتارة يأكل على نضد مع أهله، وحيناً يتناول شطيرة على عجل منفرداً قبل خروجه لعمله، كل ذلك يجري عادة بدون احتفال، وهكذا.
وبعض من نعرف من فضلاء ساكني أطراف المدينة النبوية الشريفة يحرص على شهود الجمعة في المسجد النبوي الشريف ثم زيارة القبر الشريف والتسليم على رسول الله بعد ذلك، فليس هذا عيداً، بل هو موافقة لظروف سكنه وعمله، لأنه لا يألوا جهداً إذا نزل إلى وسط البلدة أن يزور ويسلم كلما تيسر، وهكذا أبداً.
فالمنهي عنه أن تحاط الزيارة باحتفالات وطقوس ومراسم وجداول زمنية وإجراءات روتينية متكررة كالأعياد: هذا من فضل الله على هذه الأمة وإلا لنشأت طبقة كهنوتية لتنظيم الزيارة، ولوجد من يفرض لها الرسوم والمكوس، ويبيع لها أصنافاً من الشموع والعطور، لا تعجبن وتقول: هذا بعيد جداً، ولكن انظر ما يفعل آل سعود، قاتلهم الله، بالحجاج اليوم، وكيف انحرفوا بشريعة الحج المقدسة حتى أصبحت أضحوكة العالمين، وذلك بما ابتدعوه من تأشيرات، وتراخيص، وإلزام بـ«مطوف»، وتحديد مواعيد ابتداء وانتهاء للتقدم بالطلبات، وغير ذلك من الطغيان، والصد عن سبيل الله والمسجد الحرام، الذي تفوح منه رائحة الكفر والزندقة، أي رائحة تبديل الشرائع، الذي هو بدعة مكفرة.
وهذا كذلك من تكرمة الله لنبيه وقبر نبيه: فهو يزار ليل نهار، في كل الأوقات، فلا ينقطع أنسه، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، بالمحبين والمشتاقين من أمته أبداً، من غير أن يتحول قبره إلى ما يشبه الأسواق، أو النصب والأوثان. فلك الحمد اللهم على هذا الدين الشامل الكامل، والنبي النبيل الموقَّر الفاضل.
وإذا تأملت في الأحاديث المذكورة أعلاه في الفصول السباقة، وتحررت من التقليد والهوى، ظهر لك جلياً أن النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لم يستخدم فيها ألفاظ الشرك أو الكفر، أو أي الفاظ لها علاقة بذلك، وإن غلَّظ الوعيد في بعض المواضع، إلا في قوله: «اللهم لا تجعل قبري وثناً!». ولولا هذا النص اليتيم لما كان لهذا الموضوع بكامله موقع في كتابنا هذ «كتاب التوحيد» الذي خصصناه لدراسة «أصل الإسلام وحقيقة التوحيد»، ولكان من مباحث أبواب الجنائز، وأحكام المقابر في كتب الفقه والأدب.
غير أن بعض المجتهدين غلا في المسألة غلوَّاً شديداً حتى أصبحت عنده، وعند من قلَّده، من أصول المسائل، وأمهات القضايا، في الإسلام والتوحيد والإيمان، تُسل من أجلها السيوف، وتضرب الأعناق، وهي ليست كذلك بيقين، ولعلهم اجتهدوا فغلطوا للشبهات التالية:
الشبهة الأولى: ما رواه البخاري ابن عباس في تفسير قوله تعالى: }ولا تذرن ودَّاً ولا سواعاً، ولا يغوث ويعوق ونسراً{، حيث قال: [صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد. أما ودّ: كانت لكلب بدومة الجندل. وأما سواع: كانت لهذيل. وأما يغوث: فكانت لمراد، ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ. وأما يعوق: فكانت لهمدان. وأما نسر: فكانت لحمير لآل ذي الكلاع. وهي أسماء رجال صالحين من قوم نوح. فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً، وسمُّوها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تعبد. حتى إذا هلك أولئك، وتنسَّخ العلم، عبدت]، وروى عكرمة، والضحاك، وابن إسحاق نحو هذا. وأخرج الطبري بسنده عن محمد بن قيس، قال: [أن يغوث ويعوق ونسراً كانوا قوماً صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدرن بهم، فلما ماتوا، قال أصحابهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة! فصوروهم، فلما ماتوا، وجاء آخرون دبّ إليهم إبليس، فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم كانوا يسقون المطر! فعبدوهم].
وهذا على فرض ثبوته إلى منتهاه، لا تقوم به حجة. نعم: كانت تلك أسماء آلهة لقوم نوح، وذلك بنص القرآن القاطع، أي قبل ما يزيد على أربعة آلاف عام قبل البعثة المحمدية، أو ربما أكثر من ذلك بكثير. وتوارثها العرب، وغيرهم من الشعوب الساميَّة، حتى انتهت إلى القبائل المذكورة، وأكثرها قبائل يمانية، في أثر ابن عباس، وربما إلى غيرها، كما هو معلوم من صحاح الحديث، والسير، وبالضرورة من علم التاريخ. ولكن كيف نشأت تلك المعتقدات في ذلك الزمن السحيق، هذا محال أن يعرف إلا بالنقل الصحيح، وما ثمة نقل صحيح، أو يعرف بالوحي، وما ثمة وحي، وأثر ابن عباس ليس بمرفوع حتى يقال أنه من الوحي، وما هي إلا إسرائيليات، أو أساطير عربية، أو خرافات شعبية، ونحوها.
والحق أن الأثر الأول لا يثبت حتى عن ابن عباس، لانقطاعه في موضعين، فقد أخرجه البخاري فقال: حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام عن ابن جريج، وقال عطاء عن ابن عباس، رضي الله عنهما. وأخرج عبد الرزاق هذا الأثر في تفسيره بسنده عن ابن جريج قال: أخبرنا عطاء الخراساني عن ابن عباس. عطاء الخراساني لم يسمع من ابن عباس، وابن جريج لم يسمع التفسير من عطاء الخراساني، وإنما أخذ كتابه من ابنه عثمان بن عطاء فنظر فيه، وكان ابن جريج لا يرى بأساً أن يقول: أخبرنا في في المناولة والكتابة. وذكر صالح بن أحمد بن حنبل في «العلل» عن علي بن المديني قال: سألت يحي بن سعيد القطان عن حديث ابن جريج عن عطاء الخراساني، فقال ضعيف، فقلت: إنه يقول: أخبرنا، قال: لا شيء، إنما هو كتاب دفعه إليه! قلت: بل هو شر من ذلك، وإنما دفعه ابنه عثمان بن عطاء إليه، وهذا الابن ضعيف، وليس بثقة، وما ندري هل عبث في كتاب أبيه، وما نعلم درجة كتاب عطاء من القيد والشكل والتنقيط، وهو نفسه، أي عطاء بن أبي مسلم الخراساني، مع ذلك كثير الوهم، يرسل ويدلس!
على أن الحفريات والآثار والنقوش الحميرية دلت مؤخراً على أن حمير كانت تعرف (وداً) كذلك، وتربط بينه وبين إله القمر! فهذه الآلهة أكثر ارتباطاً بالكواكب والأفلاك منها برجال صالحين، وإذا ثبت أن نوحاً، عليه الصلاة والسلام كان في شمال العراق (وهو أمر راجح، ولكنه لم يتيقن بعد) فأهل العراق القديم كانوا عبدة نجوم وأفلاك وأرواح علوية، والله أعلم، وهناك قول أن نوحاً إنما ارسل إلى شعب يقطن على الساحل الجنوبي من البحر الأسود أيام كان بحيرة عذبة، معزولة عن بحار العالم، قبل نحو ستة آلاف عام من البعثة النبوية الشريفة. فالقضية كلها غارقة في ظلمات التاريخ، ومطويات الغيب.
على أن القصة حتى لو ثبتت لا علاقة لها بموضوع «اتخاذ القبور مساجد»، وإنما هي تتعلق باتخاذ الأنصاب والتماثيل لأولئك المعظمين، وكان ذلك في مجالسهم، وليس على قبورهم، ولا كان هو في مساجدهم، فلا علاقة له بموضوعنا أصلاً، وإنما هي في الغلو في تعظيم الصالحين ومحبتهم، وخطورة ذلك على التوحيد. لاحظ قوله: (ولم تعبد. حتى إذا هلك أولئك، وتنسَّخ العلم، عبدت)، وبيان الرواية التالية لذلك: (دبّ إليهم إبليس، فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم كانوا يسقون المطر! فعبدوهم)، فأول الأمر تعظيم ومحبة غالية مفرطة، ثم اعتقاد فاسد أنه بهم يستسقى المطر، فتم الارتفاع بهم إلى مراتب الألوهية، ثم الشرك بعبادتهم.
وقد أسلفنا نقالش هذا الموضوع في فصل مستقل، هو: (كيف ترك البشر التوحيد الأول؟!)، حيث ذكرنا مزيداً من القصص الخرافية المتناقضة، فراجعها هناك!
الشبهة الثانية: ما أخرجه ابن جرير بسنده عن مجاهد في تفسير قوله تعالى: }أفرأيتم الات والعزى{، (النجم؛ 53:19) أنه قال: [كان يلتّ لهم السويق فمات، فعكفوا على قبره]، وأخرج البخاري بإسناد غاية في الصحة عن ابن عباس قال: [كان اللات رجلاً يلتّ السويق للحاج]، وأخرج ابن أبي حاتم عنه بلفظ: [كان يلت السويق على الحجر، فلا يشرب منه أحد إلا سمن، فعبدوه]، وأخرج سعيد بن منصور لفظاً آخر هو: [كان يلت لهم السويق، فيطعم من يمر من الناس، فلما مات عبدوه، وقالوا: هو اللات]، وغيرها من الروايات لا تخرج عن هذا المعنى، وكلها موقوفة، ليس منها حرف واحد مرفوع، فليست هي من الوحي، ولا حجة فيها، بل ما هي إلا خرافات عربية، وأساطير شعبية،
وهي مخالفة لنصوص القرآن القطعية الدالة على كون اللات، والعزى، ومناة ثلاثة آلهة إناث، كانت العرب تعتقد أنها كلها ملائكة، وأنها بنات الله، سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيرا، أو تعتقد أن اللات إلاهة أنثى من أصل جني، وهي صاحبة الله، تعالى الله عن ذلك، والعزى ومناة إلاهتان، بنتان لله، ذات طبيعة ملائكية، سبحان الله عما يصفون. فكيف تحولت «صاحبة الله»، أو أحد «بنات الله»، وهي أنثى، تعالى الله عن ذلك، إلى رجل، ذكر، كان يلت السويق للحجاج، وأي سويق هذا الذي يشربه الحجاج فيسمنون منه، بعد حسوات قليلة أو شرب أيام يسيرة، وهل في التخريف والشطح أوغل من ذلك؟!
ووردت روايات أن اللات صخرة طويلة بيضاء منقوشة كانت في الطائف. هذا نصب وثني، يرمز إلى الإلهة «اللات»، وليس فيه ذكر قبر ولا غيره، وروي غير ذلك كثير عن بيوت وستور وأنصاب وأشجار وصخور لها علاقة بـ«اللات» هذه، ولم يرد ذكر قبر قط!
وكذلك دلت الأبحاث الحديثة في علوم التاريخ والآثار والنقوش والكتابات التاريخية على أنها كانت معروفة عند كثير من الشعوب السامية بإسمائها تلك، أو قريباً جداً من ذلك، قبل أن تخلق قبيلة ثقيف أصلاً، إلا «العزى» التي يرجح أنه تعريب لـ«عشتروت» إلاهة الخصب، والإنجاب والحب عند الساميين الشماليين. والظاهر أن هذه القصص وضعت تشنيعاً على «ثقيف» التي كانت مختصة باللات، معظمة لها!
ويشبه ذلك تشنيع قبائل العرب، وبخاصة القبائل المضرية النجدية على قريش عبادة «أساف»، و«نائلة»، وهما تمثالان في غاية الجمال والإتقان، لعلها ترمز لآلهة شامية أو رومانية، يظهر أنها استوردت من الشام أو من بلاد الرومان واليونان في قديم الزمن لأن العرب ما كانت تحسن فنون التصوير والنحت على ذلك المستوى الرفيع، ووضع أحدهما على الصفا والآخر على المروة. فقالت العرب أنهما عاشقان زنيا في الكعبة، فمسخا تماثيل نصبت على الصفا والمروة عبرة وتخويفاً من مغبة المعصية في الحرم، وفظيع إثم الاستخفاف به، ثم طال الأمد فعبدتها قريش (طبعاً: لسخف عقلها، وعدم أهليتها للقيادة، كما تؤكد القبائل الأخرى المنافسة لها في القيادة والسيطرة على بلاد العرب!!).
ولو قرأ من احتج بمثل تلك الأساطير قوله تعالى: }أفرأيتم اللات والعزى v ومناة الثالثة الأخرى v ألكم الذكر وله الأنثى{، إلى قوله: }إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمّون الملائكة تسمية الأنثى{، في سياقها الصحيح بدقة وعناية، وحضور ذهن وبال، لما قبل بمثل ذلك اللغو والهراء!
بل إن الصحيح، وهو الحق اليقيني، الذي لا ريب فيه: ما ثبت عنه، صلوات الله وسلامه وتبريكاته عليه وعلى آله، أنه قال: «رأيت عمرو بن عامر يجر قصبه في النار، وكان أول من سيَّب السائبة، وبحَّر البحيرة»، حديث صحيح، غاية في الصحة، أخرجه أحمد، والبخاري، ومسلم، وابن أبي عاصم في «الأوائل»، وأبو عوانة، وابن حبان، والطبراني، والبيهقي في «الكبرى»، بأسانيد صحاح، كلهم عن أبي هريرة، وهو عند بعضهم بدون لفظة: «بحَّر البحيرة»، وعند بعضهم بزيادة: «وهو أول من غيَّر دين إسماعيل»، أو «وهو أول من غير عهد إبراهيم».
v وهو في «المستدرك على الصحيحين» مطولاً، حيث قال الحاكم: أخبرني عبد الرحمن بن أبي الوزير حدثنا أبو حاتم الرازي حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «عرضت علي النار فرأيت فيها عمرو بن لحي بن قمعه بن خندف أبو عمرو وهو يجر قصبه في النار وهو أول من سيب السوائب وغير عهد إبراهيم عليه السلام وأشبه من رأيت به أكثم بن أبي الجون!»، قال: فقال أكثم: (يا رسول الله يضرني شبهه؟!)، قال: «لا، إنك مسلم وإنه كافر!». وقال الحاكم: (هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه). وقال الذهبي في التلخيص: (على شرط مسلم). ونسبه الحافظ في «الفتح» إلى أحمد، ولم أجده.
v وقد ورد هذا مطولاً بإسناد قوي جيد، تقوم به الحجة، في «السيرة النبوية» لابن هشام، قال: قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التميمي، أن أبا صالح السمان حدثه أنه سمع أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول لأكثم بن الجون الخزاعي: «يا أكثم! رأيت عمرو بن لحىِّ بن قمعة بن خندف يجر قصبه في النار، فما رأيت رجلاً أشبه برجل منك به، ولا بك منه!»، فقال أكثم: (عسى أن يضرني شبهه يا رسول الله؟!)، قال: «لا، إنك مؤمن وهو كافر! إنه كان أول من غير دين إسماعيل، فنصب الأوثان، وبحَّر البحيرة، وسيَّب السائبة، ووصل الوصيلة، وحمى الحامي»، وأخرج مثله ابن أبي عاصم في «الأولئل»، وابن أبي عروبة، وابن مندة من طريق بن إسحاق، ونسبه الحافظ في «الفتح» إلى «السيرة الكبرى» لابن إسحاق بهذا اللفظ.
v وأخرج البخاري ومسلم حديث الخسوف الطويل الصحيح عن عائشة، وفيه مرفوعاً: «رأيت جهنم يحطم بعضها بعضا ورأيت فيها عمراً يجر قصبه في النار، وهو الذي سيَّب السوائب».
v وفي «المستدرك على الصحيحين»: أخبرنا عبد الرحمن بن حمدان الجلاب بهمدان حدثنا هلال بن العلاء الرقي حدثنا أبي حدثنا عبيد الله بن عمرو عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه، رضي الله تعالى عنه ، قال: [بينا نحن مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في صلاة الظهر والناس في الصفوف خلف رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فرأينا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يتناول شيئا، فجعل يتناوله فتأخر، وتأخر الناس، ثم تأخر الثانية فتأخر الناس، فقلت: (يا رسول الله: رأيناك صنعت اليوم شيئا ما كنت تصنعه في الصلاة؟!)، فقال: «إنه عرضت علي الجنة بما فيها من الزهرة والنضرة فتناولت قطفا من عنبها ولو أخذته لأكل منه من بين السماء والأرض لا ينقصونه، فحيل بيني وبينه؛ وعرضت علي النار فلما وجدت سفعتها تأخرت عنها، وأكثر من رأيت فيها من النساء: إن ائتمن أفشين، وأن سألن ألحفن، وإذا سئلن بخلن، وإذا أعطين لم يشكرن؛ ورأيت فيها عمرو بن لحي يجر قصبه في النار وأشبه من رأيت به معبد بن أكثم الخزاعي فقال معبد: (يا رسول الله! أتخشى علي من شبهه، فإنه والدي؟!)، فقال: «لا، أنت مؤمن، وهو كافر، وهو أول من حمل العرب على عبادة الأصنام!»، وقال الحاكم: (هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه)، وقال الذهبي في التلخيص: صحيح. قلت: هكذا جاء هنا: معبد بن أكثم الخزاعي، فلعله انقلب على بعض الرواة والأصح: أكثم بن أبي الجون، وأبو الجون هو: معبد الخزاعي.
فالقصة ثابتة بأصح الأسانيد عن أبي هريرة، وعائشة، وأبي بن كعب، رضوان الله عليهم، وهي مروية من طرق أخرى أسلفنا بعضها في الفصل المسمَّى: (كيف ترك العرب دين إسماعيل؟!).
فالقصة، كما ترى، ثابتة يقيناً بالتواتر، وهي مشهورة عند العلماء، ويذكرها بعضهم بصيغة الجزم من غير إسناد، كما هو في ترجمة الإمام الشهيد أحمد بن نصر الخزاعي في «تاريخ بغداد»، وفي «تهذيب الكمال».
الشبهة الثالثة: تعظيم النصارى لصالحيهم، وبناء الكنائس على قبورهم، كما هو معلوم ثابت قادهم إلى الغلو فيهم إلى مرتبة الألوهية أو الربوبية، فذمهم الله تعالى بقوله: }اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح بن مريم{.
وهذا كذلك ليس بصحيح قطعاً، فقد فسر النبي، صلوات الله وسلامه وتبريكاته عليه وعلى آله، ذلك بالطاعة في التحريم والتحليل، أي الطاعة في التشريع، على وجه الحصر، عندما اعترض عدي بن حاتم قائلاً: (ما عبدناهم)، وتبعه في ذلك حذيفة رضي الله عنه، ونفى صراحة أن يكونوا «يصلون لهم»، ونفى غيره أنهم كانوا: «يسجدون لهم»، كما هو مفصل في موضعه. فالأحبار والرهبان الذين اتخذوا أرباباً من دون الله بطاعتهم في التشريع منهم من كان له قبر معظم، اتخذه الناس عيداً ومسجداً، ومنهم من لم يكن كذلك، ومنهم أموات، ومنهم كذلك أحياء يطاعون في التشريع حال حياتهم، وهذا معلوم بالضرورة من التاريخ، ومن الحاضر المحسوس المشاهد، فكل أولئك اتخذوا أرباباً من دون الله بطاعتهم في التشريع، بغض النظر عن حياتهم، وموتهم، وتعظيم قبورهم من عدمه، فلا علاقة لهذا النوع من الشرك بالقبور والمقابر مطلقاً.
وأما المسيح عيسى بن مريم، صلوات الله وسلامه عليه وعلى والدته، إنما أصبح رباً لاعتقادهم فيه أنه الله، أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة، وهو عندهم، على كل حال، إله حق أزلي، مساوي لأبيه في الجوهر الإلاهي، وهذا من شرك الذات الذي تكلمنا عنه في أول هذا الكتاب، فرن كان هناك قبر يزار ويعظم فلذلك المعتقد، فلا علاقة لذلك أيضاً بالقبور والمقابر من حيث هي مطلقاً.
كما أنه معلوم بالاضطرار من التاريخ أن تعظيم الصالحين وبناء المعابد عليهم كان شائعاً قبل الرسالة المحمدية، كما هو في قصة أهل الكهف، وانتشار ذلك في جميع الأقطار النصرانية، كما هو متواتر، معلوم بالضطرار في تواريخهم وكتبهم، وكما رأته أم سلمة وأم حبيبة في أرض الحبشة، فجاء النهي المغلظ، واللعنة لفاعل ذلك، وتصنيفه من شرار الخلق.
نعم: جاء لعن من فعل ذلك، مما يدل على الحرمة المغلظة، تماماً كما جاء لعن آكل الربا وموكله، وكاتبه وشاهديه، ولعن من غير منار الأرض، ولعن من لعن والديه، ولعن الذين يرمون المحصنات، ولعن عشرة في الخمر، وغير ذلك كثير، ولم يجيء حرف واحد بوصف ذلك بالشرك أو الكفر، إلا في قوله: «اللهم لا تجعل قبري وثناً!»،وقد بينا معنى الوثن آنفاً.
ولكنه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لم يقل قط أن من اتخذ القبر مسجداً، أو بنى عليه بناءً، فقد أشرك، أو عبد ذلك المقبور، أو جعله لله نداً، مع قوله في ما هو أيسر من ذلك بكثير من الشرك اللفظي: «من حلف بغير الله فقد أشرك»، وقوله: «أجعلتني لله نداً، بل ما شاء الله وحده!» لمن قال له: (ما شاء الله وشئت!).
وعلى كل حال فالظاهر أن اتخاذ القبور مساجد كان شريعة سابقة، ثم نسخ ذلك في شرعنا، فقد أخرج ابن سعد في «الطبقات الكبرى» من طرق أن إسماعيل دفن هاجر في داخل الكعبة من جهة الشمال (المسمّى الآن حجر ٌسماعيل، وهو خارج بناء الكعبة اليوم)، ثم دفنه أبناؤه بجوارها عندما قبض، صلوات الله وسلامه عليه وعلى والديه، وقيل أنه الآن تحت الميزاب. كما ذكر الإمام ابن حبان البستي في «الثقات» في ترجمة سعيد بن حرب العبدي، قال: [سمعت ابن الزبير وهو يقلع قواعد البيت فأتى على تربة صفراء عند الحطيم، فقال: واروها، فإن هذا قبر إسماعيل]، فالله أعلم بصحة هذا كله. كما قيل: أن في الحطيم بين الحجر الأسود وزمزم قبر سبعين نبياً، وهذا أبعد عن وقائع التاريخ الثابتة.
وقبر إسماعيل، صلوات الله عليه، قد اندرس وذهب، ولم يعد معروف العين فوجوده وعدمه سواء، على أنه على التحقيق خارج «المسجد الحرام» المبني المخصوص، لأن «المسجد الحرام» المبني المخصوص هو «الكعبة» فقط، لا غير، قال تباركت أسماؤه: }جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ{، (المائدة؛ 5:97). وكذلك قبور الأنبياء السبعين المزعومة، على فرض وجودها، قد اندرست، وهي خارج الكعبة، في الحطيم بين الحجر الأسود وزمزم، كما تزعم القصة، فحالها كحال قبر إسماعيل، صلوات الله عليه.
وجاءت روايات تزعم أن سبعين نبياً «قبر» في المكان الذي بني عليه مسجد الخيف، وهذا كسابقه: قبور في مقبرة قد اندرست، ولم تعد لها أعيان تعرف، فموقع مسجد الخيف إذاً أرض فضاء، ولا نبالي أصحت الروايات بذلك، أو لم تصح، والأرجح أنها ليست بصحيحة، وأن الأنبياء إنما صلوا هناك، ولم يقبر أحد منهم في ذلك الموضع، هذا إذا كان الموضوع برمته له أصل، وفي النفس من ذلك شيء، بل أشياء: سبعون في الخيف، وسبعون في الحطيم، هذه أعداد ومزاعم تثير الريبة والشكوك؟!
وكذلك قصة أهل الكهف بغض النظر عن تفاصيلها، ومن الذي أمر باتخاذ المسجد عليهم، شريعة منسوخة، كحال جميع الشرائع، بمجرد مجيء الوحي إلى نبينا محمد، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، نسخاً نهائياً كاملاً مطلقاً. وحتى لو سلمنا جدلاً بالباطل المتيقن بطلانه، وهو أن شرائع من قبلنا ما زالت سارية، وأن اتخاذ القبور مساجد لم يكن محرماً في تلك الشرائع السابقة، بأن كان مكروهاً فقط، أو مباحاً، أو مندوباً، أو واجباً، حتى لو سلمنا جدلاً بذلك الباطل فإن الأحاديث المحرمة لذلك في شريعتنا هي قطعاً، وبلا شك الناسخة لكل ذلك، لا سيما وأنها متأخرة جداً، فهي قبيل وفاة نبي الله، عليه وعلى آله صلوات وتسليمات وتبريكات من الله. وقد طوَّل الألباني جدا في مناقشة هذا من غير كبير محصول، بل لعله أربك المسألة بدلاً من إيضاحها، وذلك في كتابه آنف الذكر: (تحذير الساجد).
وكذلك ما روي أن أبا جندل بنى مسجداً على قبر أبي بصير، رضي الله عنه، بعد وفاته، وقبيل ذهابه، وعصابته المجاهدة المشهور، التي دوَّخت قريش، إلى المدينة. فهذا لا يثبت، وإنما هي في أحسن أحوالها من مراسيل الزهري، وهي في غاية السقوط: «شبه الريح»، كما قال الأئمة. مع اضطراب الروايات حيث قال بعضها: (وجعل عند قبره مسجداً)، وهذا لا بأس به، كما هو عند ابن عساكر. فكل هذا لا يثبت، وإن ثبت فهو منسوخ قطعاً لأن ذلك كان زمان الحديبية، قبل الفتح المكي، وأحاديثنا المحرمة لذلك متأخرة عليه جداً، فهي قطعاً الناسخة الحاكمة.
فسقطت على كل حال احتجاجات «القبوريين الخرافيين» بأي شيء من هذا على جواز «اتخاذ القبور مساجد»: }كبرت كلمة تخرج من أفواههم، إن يقولون إلا كذباً{.
وفي الجانب المقابل فإن من الغريب حقاً أن نجد قوما سمعوا كل ذلك وعلموا أن الدين قد كمُل، وأنه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، هو «الماحي» الذي محى الله به الشرك والكفر، ومع ذلك يستجيزون التقديم بين يدي الله ورسوله، فيسمون عبادة، وشركاً، ما لم يسمِّه الله ورسوله عبادة أو شركاً، بل ويجعلونه أعظم خطراً، وأولى بالاهتمام مما سماه الله ورسوله شركاً وكفراً. ويجوب رؤوس هؤلاء أقطار الدنيا محذرين من «شرك القبور»، وهو خرافة لا وجود لها، بل هو« بدعة» نكراء، هم الذين افتروها وأحدثوها، ساخرين من «توحيد الحاكمية»، الذي قامت عليه مئات النصوص اليقينية المتضافرة من الكتاب، والسنة، والإجماع، بل والعقل (كما هو مفصل في كتابنا هذا، وكما هو مشبع بحثاً وبرهنة في كتاب مستقل بذاته هو كتابنا المسمَّى: «الحاكمية وسيادة الشرع»)، مدافعين عن بعض الحكام الذين يبدلون الشرائع، ولا يحكمون بما أنزل الله، ويرخصون للبنوك الربوية، ويقاتلون تحت لواء الكفار ويتولونهم، بدعوى أنهم مسلمون موحدون، عقيدتهم سليمة: ولم لا؟! أليست بلادهم خالية من القبور المبنية، ومزارات الأولياء!! إلى غير ذلك من قلب الحقائق، كل ذلك وهم في غاية النهاية من القناعة بحسن عملهم، وصواب صنيعهم، وسلامة عقيدتهم، فما أعظم تلبيس إبليس: هؤلاء هم «القبوريون المهووسون».
فهناك إذاً صنفان من «القبوريين»:
الصنف الأول: جعل بناء القبور وزخرفتها والتمسح بها من القربات، بل من شعائر الدين، وعلامات اليقين، فعصى الله ورسوله، وأوغل في التخريف والأساطير، وأضاع الأعمار في رواية أساطير الأولياء وكراماتهم المكذوبة. هؤلاء هم «القبوريون الخرافيون». والغالب على هؤلاء الجهل، وقلة المعرفة. وغاية التحقيق عندهم شتم الإمام ابن تيمية أو تكفيره: هذا جهل مركب، وتفريط شنيع!
والصنف الثاني: غلا في الاتجاه المعاكس فافترى «شرك القبور» الذي لا وجود له في العالم، حتى أن أحدهم ليقفز فزعاً، كأن حية لدغته، إذا رأى من يتمسح بقبر أبي القاسم، محمد رسول الله، عليه وعلى آله صلوات وتسليمات وتبريكات من الله، متبركاً به. وترتب على ذلك تكفير المسلمين، وسل السف عليهم وقتالهم، تماماً كالخوارج الحرورية: يقتلون أهل الإسلام، ويذرون أهل الأوثان. فلنسم هؤلاء: «القبوريون المهوسون». والغالب على هؤلاء سطحية الفكر وتفاهته، والعجب بالنفس وتزكيتها: فهم، فقط، أهل العقيدة الصحيحة، بزعمهم، وهم وحدهم الفرقة الناجية، وهم الطائفة المنصورة، وغيرهم مشرك كافر، أو على التقدير البعيد، والتساهل الشديد: مبتدع ضال هالك.
وهم في الشر كالصنف الأول، بل الحق أنهم في الشر أشد، لأنهم غلاة مارقون، كسلفهم من الخوارج الحرورية.وهذا غلو وإفراط، والإفراط والغلو، عامة، أشد شراً وإثماً من التفريط، كما سلف في صدر هذا الكتاب.
ودين الله الحق طريق مطهرة مرفوعة، وسط معصومة، حنيفية سهلة سمحة: لا هو تفريط المفرطين الكسالى الفاسقين، ولا غلو المهووسين المارقين، ولا جهالات العوام المقلدين، ولا شطحات المتصوفة المخرفين.
بقيت مسألة واحدة، آلا وهي: ما هي علة الحكم بالحرمة المغلظة لاتخاذ القبور مساجد، وكذلك حرمة اتخاذ قبره، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، عيداً؟!
والحواب: إن كان المقصود بالعلة: «الباعث على الحم»، أو «المناط» الذي ربط به التشريع، أو «المعنى»، أو «الاسم»، أو «العنوان»، أو «الوصف»، المنضبط الذي يدور معه الحكم وجوداً وعدماً مثل الإسكار الذي هو «علة» تحريم الخمر: فيحرم كل ما أسكر، فإذا تخلل، أو تحلل، أو عولج بحرق أو طبخ أو نحوه فلم يعد مسكراً عاد إلى الحل، الذي هو الحكم الأصلي على الأشياء. إن كان هذا هو المقصود، فلا سبيل إلى معرفة «المناط»، أو «العلة» لحكم شرعي إلا بدليل شرعي لأن الربط بين الأثنين أمر وضعي يقتصر الحق فيه على «صاحب السيادة»، المتفرد بالحكم، والخلق والأمر، تباركت أسماؤه، لا شريك له، فهو يحكم لا معقب لحكمه، لا رب غيره، ولا إله سواه. وليس في النصوص الآنفة، ولا في غيرها حسب علمنا، علة شرعية وجودية بالمعنى المحرر أعلاه.
وإن كان المقصود بالعلة «العلة الغائية»، أي ما يترتب على تطبيق الحكم من مآلات، فالعادة والغالب من الأحوال، وهو ما يسمّى أحياناً بـ«حكمة التشريع» أو «مقصد التشريع» كما هو الحال في تحريم الخمر والميسر المؤدي إلى حفظ العقل، وتقليل العداوة والبغضاء والشجار بين الناس، وتخفيف الانشغال عن ذكر الله، التي تكثر عند شرب الخمر، وغير ذلك من المقاصد الجميلة التي جاء بها النص، وغيرها مما قد يستنبطه العقلاء، مثل: حفظ المال لما هو أهم من المصارف ... إلخ. إن كان هذا المقصود، فيجب أن يعلم يقيناً على كل حال أن الحكم الشرعي إنما ثبت بالنص الشرعي، لا غير، بغض النظر:
(1) عن وجود مقاصد من عدمها،
(2) وبغض النظر عن معرفتنا لتلك المقاصد أو جهلنا لها، إن كانت موجودة،
(3) وبصرف النظر عن تحقق المقاصد أو عدم تحققها إن كانت معلومة،
أي أن الحكم الشرعي لا يدور، مطلقاً، مع مقاصده وجوداً ولا عدما، بل: الالتزام بالحكم الشرعي، وفق النص الشرعي لا غير، هو حقيقة العبودية وجوهرها: فالعبودية هي طاعة أمر الله، والخضوع لأمره، والاستسلام لحكمه، مع تمام المحبة والتعظيم له، جل ذكره، بغض النظر عن أي اعتبار آخر مطلقاً، وليست هي ذات الركوع والسجود، والطواف، والسعي، وايقاد السرج والشموع، وإطلاق البخور، وغسل أعضاء الوضوء، ولا حتى دفع الزكاة، والامتناع عن الزنا، وترك الربا، و تجنب بيوع الغرر، والوفاء بالكيل والميران، وإيصال الحقوق إلى أهلها، والإحسان إلى الناس، بل إلى عامة الخلق، ليست العبودية هي عين ذلك، وإنما هي: «الطاعة للأمر بذلك»!
فإذا علم أن الحكم الشرعي لا يدور مع «الحكمة» أو «المقصد» وجوداً ولا عدماً، فقد أمنا معصية أمر الله بزعم أن كذا وكذا من «الحكمة»، وتحصيل «المصالح»، ودرء «المفاسد»، وغير ذلك من الدجل والهراء. ولا بأس من إعمال العقول في دراسة «الحكم» و«المقاصد» بشرط أن لا تنسب إلى الشرع إلا بدليل شرعي، وأن لا يقال على الله بغير علم، ولعل الأولى ترك ذلك. ولكن الناس لا يقتنعون بذلك: }وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً{!!
وعليه فيحتمل أن تكون الحكمة من حرمة «اتخاذ القبور مساجد» هي:
(1) سد أبواب الشرك، وذرائعه كما يقال، وهو رأي لا تنكر وجاهته، وهو على أي حال مجرد رأي، لا دليل من الوحي عليه، ولا يسعفه، بل يضعفه أن ذلك كان على الأرجح مقبولاً في شرائع بعض الأنبياء السابقين، قبل النسخ، وأن الشرك كان في أزمنتهم أقوى وأظهر وأخطر، فما باله لم يحرم حينئذ، وحرم في دين النبي الخاتم، الذي محا الله به الكفر والشرك، وقطع دابر عصور الجهل والخرافة والظلام؟!
غير أنه يمكن أن يعارض هذا بإن النبوة والرسالة قد ختمت، فليس بعد أبي القاسم نبي ولا رسول، فلزم الآن سد أبواب الشرك وذرائعه، خلافاً للعصور الأولى فقد كانت الأنبياء والرسل تتوالى فيصلح التالي ما فسد في ما سبقه من الأزمنة، ويكمل الاحق ما ما تركه السابق، بأمر الله ووحيه وهكذا أبداً.
ومع هذا الاعتراض فتبقى إشكالية أن الموضوع ليس بالخطورة والأهمية التي يتصوره «القبوريون المهووسون». فلو كان ثمة ما يسمونه بـ«شرك القبور»، وكان من الخطورة المخيفة التي يزعمون، وأن كل شرك في العالم إنما نشأ كذلك، لكان سد بابه من أيسر الأمور، وذلك مثلاً بتشريع حرق جثث الموتى حتي تستحيل رماداً، ثم سحقها، ثم ذروها في البحار الواسعة، فإن لم يتيسر ففي المياه الجارية، فإن لم يكن شيء من تلك البحار والأنهار قريباً، ففي الأراضي الفضاء خارج المدن مع الحرص على المبالغة في ذروها في أوسع مساحة ممكنة، ولا يستثنى من ذلك إلا الدفن في البحر لمن كان في أعالي البحار ونحوه. هذا تشريع سهل ميسور،قد جربته أمم وشعوب، ومحاسنه تساوي أو تفوق محاسن الدفن: فلا تبقى مقبرة ولا قبور، ولا خوف من «بعبع» شرك القبور المشهور.
فإن قال قائل: حرق الميت، ثم طحن رماده، ثم ذروه في الرياح إهانة له، فنقول: وهل تركة يتفسخ، ويتعفن، فيتقيح وينقلب صديداً ترعى فيه الدود، والأرضة، والجراثيم كرامة له؟!
وإن قال قائل: تكلفة الحطب والوقود اللازمة للحرق التام مرتفعة، فنقول: وهل كلفة قطعة الأرض المحجوزة لمئات، وربما آلاف السنين، أقل من ذلك؟! وماذا عن كلفة الحفر ومشقته؟! فحتى لو كانت تلك الكلفة أكبر، فخطر «شرك القبور» المزعوم أعظم، ويمكن معالجة الأمر بجعل تكاليف «الحرق» على العاقلة، أو فريضة علي الكفاية، أوعلي بيت المال!
فإذ لم يشرع هذا أو نحوه في هذا الدين الخاتم، علي سهولته ويسره بل وتميزه على البدائل الأخرى، علمنا أن وساوس القوم مبالغ فيها، وإنما هي فرضيات خيالية، وإسقاطات وهواجس نفسية.
بل لعلنا نقترح على القوم أن يستبدلوا الدفن بما أسلفنا، فما ورد قط نهي صريح عن مثل هذا. نعم: وردت نصوص كثيرة تأمر بالدفن، ولكن هذه لا إشكال فيها، فالقوم أهل «نظر سديد»، و«قياس وتعليل»، ومراعاة لـ«جلب المصالح ودفع المفاسد»، وأساطين في فن «سد الذرائع، والنظر في المآلات» فلهم أن يزعموا أن الحكمة من الدفن هي: (التخلص من أجساد الموتي، وحماية الناس من تحللها وروائحها، مع تكريم الميت وعدم انتقاص ذكراه لو ترك على سطح الأرض على تلك الحالة الشنيعة)، أو بلفظ آخر: الأمر بالدفن ليس هو لذات الدفن من حيث هو عملية دفن ومواراة في التراب، وإنما هو لمواراة الجثة، والتخلص منه بطريقة راقية مهذبة، وما الدفن إلا واحدة منها. فالحرق إذاً أولى وأحسن، كما أسلفنا، لا سيما في هذا الزمان حيث رخصت أسعار الوقود، وارتفعت أكلاف القبور والحفر، ولا سيما مع مراعاة «سد الذرائع، والنظر في المآلات»، التي يزعم القوم أنهم أساطينه!
والقوم قد استباحوا أكثر المحرمات بدعوى «الضرورة»، ولم يروا بأساً باستدعاء أكثر من نصف مليون جندي أمريكي كافر لتدمير العراق، وذبح مئات الألوف من أبنائه، بدعوي الضرورة» لحماية أهل الكويت من بطش صدام حسين المرعب. فحماية الناس من «شرك القبور»، الأكثر «إرعاباً» بل هو على مذهبهم الكاسد: من الشرك الأكبر المهلك، المردي في النار الأبدية، واللعنة السرمدية، أولى وأوجب: نحن في انتظار إصدارهم لهذه الفتوى «البديعة» على أحر من الجمر!
ومما يشكك في صحة هذا «التعليل» أن «الصلاة إلى القبر»، أقرب في صورته إلى الشرك، وأولى بفتح أبوابه، من «اتخاذ القبور مساجد»، لا سيما إذا كان القبر تحت قدمي المصلي، أو في مؤخرة المسجد، كما هو الغالب في كنائس النصارى حيث رأينا بأنفسنا رأي العين. قبوراً تحت أرجل المصلين. ومع ذلك فإن «الصلاة إلى القبر» محرم فقط، في حين أن «اتخاذ القبور مساجد» كبيرة من كبائر الذنوب، كما أسلفنا!
(2) ولكن يحتمل أن تكون الحكمة من حرمة «اتخاذ القبور مساجد» هي: هي حماية حرمة الموتى وعدم أذيتهم بعقد دروس العلم، وجلسات القضاء، والمناظرات، بل وتنظيم الجيوش وعقد ألويتها، وغير ذلك من أنشطة المساجد وفعالياتها، وبالتجمع والجلوس والمشي فوقهم، كما هو في كنائس النصارى حيث رأينا ذلك رأي العين.
(3) ويحتمل كذلك أن تكون الحكمة من حرمة «اتخاذ القبور مساجد» هي: ربط المسجد في أذهان المؤمنين بالحياة والنشاط والحركة، لا بالموت والفناء والبلى، أي أن الدين، وعموده الصلاة، إنما هو نظام للحياة، وطراز للعيش، وبالعيش وفقه تكون الحياة الطيبة، والموت الطيب، والمبعث الطيب، وليس العكس. بخلاف كنائس النصارى الكئيبة، التي تبنى على المقابر، وتتوسط المقابر، ويشعر الإنسان إذا دخلها أنه بمعزل عن الدنيا وأنشطتها، بل يشعر أنه قد مات وأن الدين إنما هو للأموات، وليس للأحياء فيه نصيب. لذلك لا يتذكر النصراني دينه وكنيسته إلا ساعة الموت، وفي لحظات قليلة أخرى: فديننا دين حياة وحركة ونشاط، وبناء أمصار، وإنشاء مدنيات، وصناعات وتقنيات، وليس هو كالنصرانية المحرفة: دين موت وعزلة ورهبانية، وخلوات وفلوات!
(4) ويحتمل أن أن تكون الحكمة من حرمة «اتخاذ القبور مساجد» هي: إبقاء المقابر كما هي مقابر، دار الموتى، فلا تتشابه مع دور الأحياء، ولا تضعف قابليتها في التذكير بالموت والفناء والبلى، لا غير. ولعل هذا هو أوجه الأقوال لأن النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، حينما نسخ النهي عن زيارة القبور فرخص في زيارتها حث على ذلك لحكمة أنها: «فإن في زيارتها تذكرة»، «فإنها تذكر الموت»، «فإن فيها عبرة»، «فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة»، كما جاء في النصوص المعصومة الصحيحة، على ما سيأتي قريباً، بإذن الله.
(5) ويحتمل أن أن تكون الحكمة من حرمة «اتخاذ القبور مساجد» هي: عدم التشبه بأهل الكتاب، والحرص على مخالفتهم من كل وجه، وهو من مقاصد الشريعة المهمة الذي جاءت به العشرات، بل المئات من النصوص. وهذه المخالفة مطلوبة في صغير الأمور وكبيرها، كما يظهر من الأمثلة الآتية:
v حيث جاء في «مسند الإمام أحمد بن حنبل» : [حدثنا يحيى بن إسحاق حدثنا أبو عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اعفوا اللحى وخذوا الشوارب وغيروا شيبكم ولا تشبهوا باليهود والنصارى»]، هذا إسناده جيد، وهو صحيح بشواهده!
v وجاء في «مسند الإمام أحمد بن حنبل» حديث آخر: [حدثنا زيد بن يحيى حدثنا عبد الله بن العلاء بن زبر حدثني القاسم قال سمعت أبا أمامة يقول خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على مشيخة من الأنصار بيض لحاهم فقال: «يا معشر الأنصار حمّروا، وصفّروا، وخالفوا أهل الكتاب!» قال: فقلت: (يا رسول الله: إن أهل الكتاب يتسرولون ولا يأتزرون؟!)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تسرولوا، وائتزروا، وخالفوا أهل الكتاب!»، قال: فقلت: (يا رسول الله: إن أهل الكتاب يتخففون، ولا ينتعلون؟!)، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فتخففوا، وانتعلوا، وخالفوا أهل الكتاب!»، قال: فقلنا: (يا رسول الله: إن أهل الكتاب يقصون عثانينهم، ويوفرون سبالهم؟!)، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قصوا سبالكم، ووفروا عثانينكم، وخالفوا أهل الكتاب!»]، قلت: القاسم بن عبد الرحمن صدوق يغرب كثيرا، وهذا إسناده حسن، وهو صحيح بشواهده.
ولعل غيرنا يجد حكماً معقولة أخرى، ومقاصد وجيهة، ولكننا نبرأ إلى الله من أن ننسبها إلى الله، إلا ببرهان من الوحي، ولا نقول، إن شاء الله، على الله بغير علم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، عليه نتوكل، وبه نتأيد، وإليه ننيب.
u فصل: الترغيب في زيارة القبور واتباع الجنائز للرجال والنساء
حرم رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أوّل الأمر زيارة القبور، ولعله غلظ الوعيد فيها للنساء خاصة، ثم نسخ ذلك كله، للرجال والنساء على حد سواء، بعد ذلك:
v كما أخرج الترمذي بإسناد صحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زوارات القبور. قال: (وفي الباب عن ابن عباس، وحسان بن ثابت، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وقد رأى بعض أهل العلم أن هذا كان قبل أن يرخص النبي صلى الله عليه وسلم في زيارة القبور، فلما رخص دخل في رخصته الرجال والنساء، وقال بعضهم: إنما كره زيارة القبور للنساء لقلة صبرهن وكثرة جزعهن). وأخرجه أحمد بإسناد حسن، كما أخرجه ابن ماجه بإسناد فيه مجهول.
v وأخرج ابن ماجه بإسناد حسن عن حسان بن ثابت قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور)
v وأخرج النسائي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: [لعن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج]، كما أخرجه في سننه الكبرى، وأخرجه الترمذي، وأبو داود، والحاكم، والطبراني، والخطيب في تاريخ بغداد، وأحمد من طرق، وأحمد من طريق أخرى، وفيها زيادة فائدة: (قال محمد بن جحادة: سمعت أبا صالح، يحدث بعد ما كان قد كبر، عن ابن عباس إلى آخره)، وأخرجه البيهقي في «الكبرى»، والطيالسي، وابن الجعد بنفس الفائدة، ووهم ابن حبان فقال: (أبو صالح هذا ميزان بصري ثقة، وليس صاحب الكلبي، ذاك باذام)، وعليه صحح الحديث، وهو غلط فاحش!
أبو صالح هذا فالصحيح أنه باذام، مولى أم هانيء، كما صرح محمد بن جحادة به في رواية شعيب عنه؛ وهو، أي أبو صالح باذام، ضعيف، مجمع على ضعفه من كافة أئمة هذا الشأن، بل هو متهم، كما أنه يدلس ويرسل، وحدث بذلك على كبر وشيخوخة، وهي لا تزيدنا، معشر بني آدم، إلا ضعفاً، ولم يثبت سماعه من ابن عباس أصلاً.
ومن طريق أبي صالح باذام، مولى أم هانئ، أيضاً أخرج ابن ماجه صدر الحديث! وهو موافق للأحاديث الصحيح في ما يتعلق بزائرات القبور، قبل النسخ، واتخاذ المساجد عليها، ولكن لا تقوم به حجة فيما يتعلق بتحريم اتخاذ «السرج» على القبور، فليلاحظ، إلا أن يأتي من طريق أخرى تصلح للاعتضاد بها، ولم يقع لنا في ذلك شيء بعد، فوجب القطع ببطلانها، ولم يجز الأخذ بها، ولا التدين بموجبها، إذ ما كان الله ليحرم اتخاذ السرج على المقابر، ثم لا يأذن بنقل ذلك إلا من طريق راوية ضعيف ساقط، كالمجمع على ضعفه، حال كبره وشيخوخته، وهي مع هذا طريق منقطعة، ولا ترد عن ثقة حافظ قط! حاشا لله، ثم حاشاه، وهو القائل: }إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون{.
ومع ذلك فإن الشيخ عبد القادر الأرناؤوط في تحقيقه لـ«فتح المجيد: شرح كتاب التوحيد»، بعد أن أقر بضعف أبي صالح باذام يقول: (وعلى كل حال فإن إيقاد السرج على القبور وثنية لا يرضاها الإسلام)!
سبحان الله: هل أصبح الدين يؤخذ بأمزجة الرجال وأهوائهم؟! ولو أن الشيخ زعم أن إيقاد السرج على القبور لا يعجبه هو، ويذكره هو بالوثنية، أو كلاماً نحواً من هذا، لما كان لنا معه كلام. أما أن ينسب ذلك إلى الإسلام، فلا، وألف لا!
ولو قال قائل: (بل إن إيقاد السرج على القبور مدنية، وارتقاء في الذوق، تبعد به الوحشة عن المقابر، وتطرد عنها الكلاب المتوحشة التي استوطنت في مقابر بعض البلاد التي تدعي «التوحيد»، زوراً وبهتاناً: فلم يعد أحد يجسر على المرور بها بليل إلا وهو مدجج بالسلاح، بالإضافة إلى تجوالها جيئة وذهاباً، وإيذائها الأموات والأحياء بنجاستها ونباحها)، لو قال قائل ذلك لما كان أقرب ولا أبعد عن الإسلام من الشيخ عبد القادر، بل لعله أقرب. وما هي إلا آراء، وأمزجة وأهواء، ليس شئ منه من عند الله، يبطل بعضها بعضاً، ويدفع بعضها بعضاً، وينقض بعضها بعضاً: }ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً{!
ولكن الشيخ عبد القادر الأرناؤوط من أكابر أتباع الدعوة «الوهابية»، فهو إذاً متورط منذ لحظته الأولى في «الهوس القبوري»، لا يستطيع منه فكاكاً، وهو يظن أنه في ذلك على الحق المبين، وها نحن أثبتنا أنها في هذه المسألة على الخطأ المؤكد اليقيني، فلننظر هل يستطيع القوم التحرر من تقليدهم، أو يبقوا متمادين على خطئهم؟!
v وقال ابن ماجه: [حدثنا محمد بن المصفى الحمصي حدثنا أحمد بن خالد حدثنا إسرائيل عن إسمعيل بن سلمان عن دينار أبي عمر عن ابن الحنفية عن علي قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا نسوة جلوس قال: «ما يجلسكن؟!»، قلن: ننتظر الجنازة، قال: «هل تغسلن؟!»، قلن: لا، قال: «هل تحملن؟!»، قلن: لا، قال: «هل تدلين فيمن يدلي؟!»، قلن: لا، قال: «فارجعن مأزورات غير مأجورات»]، وقال الألباني: ضعيف.
ــ وهو بنحوه في «سنن البيهقي الكبرى»: [أخبرنا أبو علي الروذباري أنبأ الحسين بن الحسن بن أيوب الطوسي حدثنا أبو حاتم الرازي حدثنا عبد الله بن رجاء أنبأ إسرائيل (ح) وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو صادق بن أبي الفوارس حدثنا أبو العباس هو الأصم حدثنا العباس بن محمد حدثنا أسود بن عامر حدثنا إسرائيل عن إسماعيل بن سلمان عن دينار أبي عمر عن محمد بن الحنفية عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، خرج في جنازة فرأى نسوة جلوسا فقال ما يجلسكن فقلن الجنازة فقال أتحملن فيمن يحمل قلن لا قال أفتدلين فيمن يدلي قلن لا قال أفتغسلن فيمن يغسل قلن لا قال فارجعن مأزورات غير مأجورات]، وفي حديث الروذباري: «موزورات».
ــ وهو في «الثقات» لابن حبان أثناء ترجمة (دينار أبو عمر الأسدي البزار مولى بشر بن غالب من أهل الكوفة): [حدثنا عمرو بن محمد الهمداني قال حدثنا محمد بن اشكيب قال حدثنا إسحاق بن منصور السلولي قال حدثنا إسرائيل عن إسماعيل بن سلمان عن دينار أبى عمر عن بن الحنفية عن على قال رأى النبي، صلى الله عليه وسلم، نسوة في جنازة فقال تحملن فيمن يحمل قلن لا قال فتدلين فيمن يدلى قلن لا قال فتحثين فيمن يحثو قلن لا قال فارجعن مأزورات غير مأجورات]
قلت: قول الألباني ضعيف عن حديث ابن ماجه تساهل منه، بل هو في غاية الضعف والسقوط، يشبه أن يكون موضوعاً أو مسروقاً، لأن إسماعيل بن سلمان بن أبي المغيرة الأزرق التميمي الكوفي الرازي، متروك الحديث متفق على ضعفه، لا يحل الاحتجاج به بحال من الأحوال. قال النسائي: (متروك الحديث)؛ وقال يحيى بن معين: (ليس حديثه بشيء)؛ وقال أبو زرعة: (ضعيف الحديث، واهي الحديث)؛ وقال أبو حاتم: (ضعيف الحديث)؛ وقال محمد بن عبد الله بن نمير والنسائي: (متروك الحديث)، وقال الدارقطني: (ضعيف)؛ وذكره العقيلي في الضعفاء؛ وسئل عنه أبو داود فقال ضعيف؛ وذكره الفسوي في باب من يرغب من الراوية عنهم؛ وقال الساجي ضعيف؛ وقال أبو أحمد بن عدي: (روى حديث الطير، وغيره من الأحاديث، البلاء فيها منه!)، وتساهل ابن حبان فقال: (صدوق يخطئ)، وعابوا على وكيع أنه حدَّث عنه، ولخص حاله الحافظ في «تقريب التهذيب»، فتساهل إذ قال: (إسماعيل بن سلمان بن أبي المغيرة الأزرق التميمي الكوفي ضعيف من الخامسة).
v وجاء في «مصنف عبد الرزاق»، (ج 3 ص 456): [عن الثوري عن رجل عن مؤرق العجلي قال خرج النبي في جنازة فرأى النساء فقال: «أتحملنه فيمن يحمله؟!»، قلن: (لا!)، قال: «أفتدخلنه فيمن يدخله؟!»، قلن: (لا!)، قال: «أفتحثين التراب فيمن يحثو؟!»، قلن: (لا!)، قال: (فارجعن مأزورات غير مأجورات)]، قلت: هذا إسناد من أسقط ما يكون: فيه رجل مجهول، وهو مع هذا مرسل!
v وجاء مثل أيضاً عن عنر في «مصنف عبد الرزاق»، (ج 3 ص 457): [عن معمر أن عمر رأى نساء مع جنازة فقال: (إرجعن مأزورات غير مأجورات: فوالله ما تحملن، ولا تدفن يا مؤذيات الاموات، ومفتنات الاحياء)] ، قلت: وهذا شر من سابقه، منقطع معضل فبين معمر بن راشد وعمر بن الخطاب رجلان على أقل تقدير، وهو موقوف على عمر، رضي الله عنه.
قلت: فلعل هذا هو أصل الحديث فهو، في أحسن أحواله موقوف من كلام نسب إلى عمر، تداوله الناس، ووافق هوى الكثيرين منهم، وجعله بعض الضغفاء مرفوعاً، وسرقه المتروكون والكذابون، وربما زادوا فيه فقرات مكذوبة، كما مضى وسيأتي.
v و في «مسند أبي يعلى» حديث آخر عن أنس: [حدثنا أبو الأشعث أحمد بن المقدام العجلي حدثنا محمد بن حمران حدثنا الحارث بن زياد عن أنس بن مالك قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة فرأى نسوة فقال أتحملنه قلن لا قال تدفنه قلن لا قال فارجعن مأزورات غير مأجورات]، وقال الشيخ حسين أسد: (إسناده ضعيف)، قلت: لعله شر من ذلك: محمد بن حمران بن عبد العزيز ليس بالقوي، والحارث بن زياد الشامي مجمع على ضعفه، وقد تفرد بـ«بمناقب» مكذوبة لمعاوية بن أبي سفيان يسبق إلى القلب أنه هو الذي افتراها!
v وفي «تاريخ بغداد» أثناء ترجمة (إبراهيم بن هدبة أبو هدبة الفارسي كان بالبصرة ثم خرج الى أصبهان والرى ووافى بغداد وحدث بها عن أنس بن مالك بالأباطيل): [أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق أخبرنا أبو جعفر محمد بن عمرو البخترى الرزاز املاء حدثنا محمد بن عبيد الله المنادى حدثنا أبو هدبة عن أنس بن مالك ان النبي، صلى الله عليه وسلم، تبع جنازة فإذا هو بنسوة خلف الجنازة قال فنظر اليهن وهو يقول: «ارجعن مأزورات غير مأجورات: مفتنات الاحياء، مؤذيات الأموات»]، وربما ذكره البعض بلفظ آخر: (فإنكن تفتن الحي، وتؤذين الميت)، كما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو حديث مكذوب باطل، لا يحل الاحتجاج به على أي حال لأن أبو هدبة إبراهيم بن هدبة الفارسي، كذاب خبيث، أساء فيه الأئمة القول، كما هو في ترجمته بتاريخ بغداد، قال الإمام أحمد بن حنبل: (إبراهيم بن هدبة لا شيء، روى أحاديث مناكير)؛ وقال يحيى بن معين: (كذاب خبيث)؛ وكان محمد بن بلال (راوية عمران القطان) ينكر ان يحدث أبو هدبة عن أنس، ويقول: (أبو هدبة عدو الله، وكان عندنا هاهنا يحفل الغنم فيبيعها)؛ وقال عبد الله بن الإمام على بن عبد الله المديني: [سمعت أبى يقول: (كان أبو هدبة يقول حدثني أنس بن مالك؟!)، قيل لأبي: (كان يصدق؟!)، قال: (من أين؟!)، وضعفه جداً] ؛ وقال على بن ثابت: (هو أكذب من حمارى هذا)، وكان هشيم يستنكر زعمه السماع من أنس، ويقول: (قد طلبنا أصحاب أنس منذ عشرين سنة، فلم نقدر عليهم)، واتهموه بشرب الخمر، وغير ذلك.
v وجاء في «تاريخ بغداد» أثناء ترجمة (سعيد بن عبد الله بن أبي رجاء أبو عثمان الأنباري المعروف بابن عجب) أكذوبة أخرى: [أخبرنا محمد بن أبي القاسم الأزرق أخبرنا أحمد بن كامل القاضى أخبرنا سعيد بن عبد الله بن عجب الأنباري حدثنا عمرو بن النضر حدثنا إبراهيم بن هراسة عن سفيان عن عاصم عن مورق عن أنس قال أبصر النبي، صلى الله عليه وسلم، نسوة مع جنازة فقال لهن: «اتحملن؟! أتدفن؟! أتحثين؟! أرجعن مأزورات غير مأجورات»]،
قلت: إبراهيم بن هراسة، لا شئ، متروك كذاب، كما قله يحيى بن معين، وكان أبو عبيد يطلق عليه الكذب، ونقل أبو العرب في الضعفاء عن الإمام أحمد بن عبيد الله بن صالح العجلي أنه قال: (إبراهيم بن هراسة متروك كذاب)، وقال الآجري: (سمعت أبا داود يطلق فيه الكذب)، وقال أبو حاتم بن حبان: (غلب عليه التقشف والعبادة وغفل عن تعاهد حفظ الحديث حتى صار كأنه يكذب)، وقال البخاري: (متروك الحديث)، وقال أبو داود: (ترك الناس حديثه)، وقال أبو حاتم الرازي: (ضعيف متروك الحديث)، وقال النسائي في التمييز: (ليس بثقة، ولا يكتب حديثه)، وقال ابن عدي: (قد ضعفه الناس، والضعف على رواياته بين)، وتساهل أبو زرعة الرازي فقال: (شيخ كوفى وليس بقوي).
v وأخرج النسائي، وهذا لفظه، وأبو داود، وأحمد، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: [بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ بصر بامرأة، لا تظن أنه عرفها، فلما توسط الطريق وقف حتى انتهت إليه، فإذا فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لها: «ما أخرجك من بيتك يا فاطمة؟!»، قالت: أتيت أهل هذا الميت فترحمت إليهم، وعزيتهم بميتهم، قال: «لعلك بلغت معهم الكدى؟!»، قالت: معاذ الله أن أكون بلغتها وقد سمعتك تذكر في ذلك ما تذكر! فقال لها: «لو بلغتها معهم ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك!»] قال أبو عبد الرحمن النسائي: ربيعة ضعيف، هكذا قال الإمام النسائي عن ربيعة بن سيف بن ماتع المعافري، وقال ابن حبان: (يخطئ كثيراً)، وقال البخاري: (عنده مناكير)، لكن الحافظ قال: «صدوق له مناكير!»، والظاهر أن ابن حبان تحمله، بالرغم من كثرة خطئه، لذلك أخرج هذا الحديث في صحيحه، وكذلك الحاكم، وقال: (صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه)، وهو وهم فاحش، فليس المعافري من رجالهما، ولا يبلغ تلك المرتبة، حتى يلج الجمل في سم الخياط!
وفي متن الحديث بعض نكارة، إذ ليس فيه إنكار بيِّن على أهل الميت لذهابهم إلى القبور أو على اتباعهم الجنازة، وقصر الإنكار على فاطمة، صلوات الله عليها، إلا أن يقال أنه من خصوصياتها، وقد أخرج أبو يعلى الحديث وزاد فيه: (فسألت ربيعة: ما الكدى؟! فقال: أحسبها المقابر، قال: فلما رأيت ربيعة شك، لقيت يزيد بن أبي حبيب فأخبرته بحديث ربيعة، وسألته: الكدى؟! فقال: هي المقابر). ولو صح هذا الحديث، وهو لا يصح ولا تقوم به حجة، ولا يحل التدين به، فهو موافق، في الجملة، للوعيد الشديد لزائرات القبور، حتى جاء النسخ، كما سيأتي قريباً.
v أخرج مسلم بأسانيد صحاح عن أبي هريرة قال زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى، وأبكى من حوله، فقال: «استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت»، وأخرج مثله النسائي، وأبو داود، وأحمد، وأخرج ابن ماجه عجزه بإسناد حسن.
v كما أخرج مسلم بأسانيد صحاح عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها؛ ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم؛ ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء فاشربوا في الأسقية كلها ولا تشربوا مسكراً»، وأخرج مثله النسائي بإسانيد في غاية الصحة، وفي لفظ للنسائي بإسناد صحيح: «نهيتكم عن زيارة القبور فمن أراد أن يزور فليزر، ولا تقولوا هجراً»،، وكذلك أبو داود بطوله، ومختصراً، وجاء من طرق صحاح وحسان حكمة ذلك: «فإن في زيارتها تذكرة»، «فإنها تذكر الموت»، «فإن فيها عبرة»، «فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة». وأخرجه الترمذي مختصراً من طرق أخرى، بأسانيد صحاح، زاد في بعضها: «فقد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه، فزوروها فإنها تذكر الآخرة»، وقال: (وفي الباب عن أبي سعيد، وابن مسعود، وأنس، وأبي هريرة، وأم سلمة، قال أبو عيسى: حديث بريدة حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم لا يرون بزيارة القبور بأسا وهو قول ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحق). وقد جاء حديث بريدة من طرق كثيرة صحاح وحسان في بعضها: أنه كان بعد استئذانه ربه في زيارة قبر أمه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وكان ذلك في زمن فتح مكة، في رمضان من العام الثامن من الهجرة، وهو القوي الراجح، أو زمن تبوك في العام التاسع، ولكنه قطعاً بعد خيبر، وقبل ذهاب أبي هريرة للبحرين على كل حال، لأنه شهد زيارته، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، ورواها، كما سلف قبل أسطر.
v وأخرج ابن ماجه بإسناد حسن قوي عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها! فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة».
v وأخرج أحمد بإسناد حسن عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها! فإن فيها عبرة، ونهيتكم عن النبيذ فاشربوا! ولا أحل مسكراً! ونهيتكم عن الأضاحي فكلوا».
v وأخرج البخاري، ومسلم، وابن ماجه، وأحمد بأسانيد غاية في الصحة عن أم عطية، رضوان الله عليها، قالت: (كنا ننهى عن اتباع الجنائز، ولم يعزم علينا)، بل هو كالمتواتر عنها، رواه الأئمة الأثبات الثقات: محمد بن سيرين، وحفصة بنت سيرين، وغيرهما. فإن كان النهي من النبي، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، فبها ونعمت، وهو نهي كراهيه، وليس نهي تحريم كما هو ظاهر من النص. وإن كان النهي من غيره، من بعض الصحابة مثلاً، فالحديث حينئذ مجرد رواية لرأي بعض الصحابة، ولا تقوم حجة بأحد دون رسول الله، عليه وعلى آله صلوات وسلام من الله، ولكن الصحيح المرفوع قطعاً هو التالي:
v في «مسند الإمام أحمد بن حنبل»: [حدثنا سليمان بن داود أخبرنا إسماعيل أخبرني محمد بن عمرو بن حلحلة عن محمد بن عمرو بن عطاء بن علقمة انه كان جالسا مع بن عمر بالسوق ومعه سلمة بن الأزرق إلى جنبه فمر بجنازة يتبعها بكاء فقال عبد الله بن عمر: (لو ترك أهل هذا الميت البكاء لكان خيرا لميتهم)، فقال سلمة بن الأزرق: (تقول ذلك يا أبا عبد الرحمن؟!)، قال: (نعم أقوله!)، قال: (أنى سمعت أبا هريرة، ومات ميت من أهل مروان فاجتمع النساء يبكين عليه، فقال مروان: (قم يا عبد الملك فإنهن أن يبكين)، فقال أبو هريرة: (دعهن فإنه مات ميت من آل النبي، صلى الله عليه وسلم، فاجتمع النساء يبكين عليه فقام عمر بن الخطاب ينهاهن ويطردهن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعهن يا بن الخطاب فإن العين دامعة والفؤاد مصاب وان العهد حديث»)، فقال بن عمر: (أنت سمعت هذا من أبي هريرة؟!)، قال: (نعم!)، قال: (يأثره عن النبي صلى الله عليه وسلم؟!)، قال: (نعم!)، قال: (فالله ورسوله أعلم).
v وهو في «مسند الإمام أحمد بن حنبل» من طريق ثانية: حدثنا عبد الرزاق أخبرنا بن جريج أخبرني هشام بن عروة عن وهب بن كيسان عن محمد بن عمرو انه أخبره ان سلمة بن الأزرق كان جالسا مع عبد الله بن عمر بالسوق فمر بجنازة يبكى عليها فعاب ذلك عبد الله بن عمر فانتهرهن فقال له سلمة بن الأزرق: (لا تقل ذلك، فأشهد على أبي هريرة لسمعته يقول، وتوفيت امرأة من كنائن مروان، وشهدها، وأمر مروان بالنساء التي يبكين فجعل يطردن، فقال أبو هريرة: دعهن يا أبا عبد الملك فإنه مر على النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة يبكى عليها وأنا معه ومعه عمر بن الخطاب فانتهر عمر اللاتي يبكين مع الجنازة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعهن يا بن الخطاب: فإن النفس مصابة، وإن العين دامعة، وإن العهد حديث»)، قال: (أنت سمعته؟!)، قال: (نعم) قال: (فالله ورسوله أعلم!)
هذه أسانيد مليحة حسان قوية، تقوم بها الحجة، كما هو مبرهن عليه في الملحق، وأخرج النسائي وابن ماجه بعضه، كما أخرجه أحمد وغيره من طرق أخرى. وهذا الميت هو على الأرجح أم كلثوم بنت محمد، أو زينب بنت محمد، سيد البشر، عليهما وعلى والدهما وعلى آله الصلاة والسلام.
والأمر باتباع الجنائز، قياماً بحق المسلم، ولتذكر الآخرة جاء مؤكداً، لا فرق بين الرجال والنساء:
v كما هو في «الجامع الصحيح المختصر» للإمام البخاري: حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة عن الأشعث قال سمعت معاوية بن سويد بن مقرن عن البراء، رضي الله تعالى عنه، قال: (أمرنا النبي، صلى الله عليه وسلم، بسبع ونهانا عن سبع: أمرنا باتباع الجنائز، وعيادة المريض، وإجابة الداعي، ونصر المظلوم، وإبرار القسم، ورد السلام، وتشميت العاطس؛ ونهانا عن آنية الفضة وخاتم الذهب والحرير والديباج والقسي والإستبرق). ثم أخرجه البخاري بنحوه عن عدد من شيوخه، فقال: حدثنا سعيد بن الربيع حدثنا شعبه، وحدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة، وحدثنا آدم حدثنا شعبة، وحدثنا قبيصة حدثنا سفيان عن أشعث، وحدثنا قتيبة حدثنا جرير عن الشيباني عن أشعث. وهو في «المجتبى من السنن» للنسائي: أخبرنا سليمان بن منصور البلخي قال حدثنا أبو الأحوص (ح) وأنبأنا هناد بن السري في حديثه عن أبي الأحوص عن أشعث عن معاوية بن سعد، قال هناد قال البراء بن عازب، وقال سليمان عن البراء بن عازب به بطوله. وفي «المجتبى من السنن» أيضاً: أخبرنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار عن محمد قال حدثنا شعبة بنحوه. وهو في «صحيح ابن حبان»: أخبرنا حامد بن محمد بن شعيب البلخي ببغداد حدثنا منصور بن أبي مزاحم حدثنا أبو الأحوص عن أشعث بنحوه إلى منتهاه.
وقد يعترض بعضهم بأن بعض هذه النواهي إنما هي للرجال فقط، كخاتم الذهب، والحرير، وهي حلال للنساء. فنقول نعم، ولم نأخذ هذا من هذا الحديث، ولو لم يأت إلا هذا لكان الذهب والحرير حراماً على الجميع، الرجال والنساء على حد سواء، ولكن جاء حل ذلك للنساء في نصوص ثابتة أخرى أخرى، فاستثنينا ما استثناه الله ورسوله، وخصصنا أو قيدنا كما جاء عن الله ورسوله، ويبقى ما سواه على عمومه، وإطلاقه، وشموله للنساء والرجال، بل وللإنس والجن، حتى يأتينا برهان من الله بخلاف ذلك، أما بالزعم المجرد، أو الهوى الفاسد، أو التقليد البليد، فلا، وألف لا!
v وفي «الجامع الصحيح المختصر» أيضاً: [حدثنا محمد حدثنا عمرو بن أبي سلمة عن الأوزاعي قال أخبرني بن شهاب قال أخبرني سعيد بن المسيب أن أبا هريرة، رضي الله تعالى عنه، قال سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: «حق المسلم على المسلم خمس: «رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس»]، وعقب البخاري قائلاً: (تابعه عبد الرزاق قال أخبرنا معمر ورواه سلامة عن عقيل).
ــ وهو في «صحيح مسلم»: حدثني حرملة بن يحيى أخبرنا بن وهب أخبرني يونس عن بن شهاب عن بن المسيب أن أبا هريرة قال نحوه.
ــ وفي «صحيح ابن حبان»: أخبرنا عبد الله بن محمد بن سلم حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا الأوزاعي به إلى منتهاه.
ــ وفي «السنن الكبرى»: أخبرني عمرو بن عثمان قال حدثنا بقية عن الأوزاعي به.
v وفي «صحيح ابن حبان»: أخبرنا عمران بن موسى بن مجاشع قال حدثنا هدبة بن خالد قال حدثنا همام بن يحيى عن قتادة عن أبي عيسى الأسواري عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «عودوا المرضى، واتبعوا الجنائز تذكركم الآخرة». وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده قوي، رجاله ثقات رجال الشيخين غير أبي عيسى الأسواري. قلت: أبو عيسى الأسواري، لا بأس به، من رجال مسلم، والحديث صحيح، تقوم به الحجة قطعاً.
هذه نصوص قطعية الدلالة يظهر منه أن النهي، من غير عزيمة، في حديث أم عطية هو على الأرجح من بعض الصحابة، كعمر أو غيره، وليس من نبي الله، عليه وعلى آله صلوات وتسليمات وتبريكات من الله، أو هو الأمر الأول القديم، الذي نسخ بعد ذلك، لأن أبا هريرة متأخر الإسلام، وقد صرح بسماعه مباشرة من نبي الله، عليه وعلى آله صلوات وتبريكات وتسليمات من الله.
v وأخرج الإمام مالك في الموطأ عن علقمة بن أبي علقمة عن أمه أنها قالت سمعت عائشة زوج النبي، صلى الله عليه وسلم، تقول: [قام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ذات ليلة فلبس ثيابه ثم خرج قالت فأمرت جاريتي بريرة تتبعه حتى جاء البقيع فوقف في أدناه ما شاء الله أن يقف ثم انصرف فسبقته بريرة فأخبرتني، فلم أذكر له شيئا حتى أصبح، ثم ذكرت ذلك له، فقال: «إني بعثت إلى أهل البقيع لأصلي عليهم»]. هذا إسناد قوي جيد. وأخرجه الدارمي، وإسحاق بن راهويه في «المسند»، والحاكم وصححه، والبيهقي، من طريق مالك، وأخرجه أحمد، والبخاري في «قرة العينين برفع اليدين» من طريق قتيبة عن عبد العزيز بن محمد عن علقمة بن أبي علقمة بمثله، إلا أنهما زادا: (ثم رفع يديه، ثم انصرف).
v وقال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا عبد الرحمن وحدثنا أبو عامر قالا: حدثنا زهير بن محمد عن شريك بن (أبي) نمر عن عطاء بن يسار أن عائشة قالت: [كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يخرج إذا كانت ليلة عائشة إذا ذهب ثلث الليل إلى البقيع فيقول: السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين، فإنا وإياكم وما توعدون غدا مؤجلون (قال أبو عامر تؤجلون)، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون»]، وهو كذلك في مسند إسحاق بن راهويه، وهو إسناد جيد لا بأس به.
v وقال الإمام أحمد بن حنبل في «المسند»: حدثنا يعقوب قال: حدثنا أبي قال: عن محمد بن أسحق، قال: حدثني عبد الله بن عمر العبلي قال حدثني عبيد بن جبير مولى الحكم بن أبي العاص عن عبد الله بن عمرو عن أبي مويهبة مولى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: [بعثني رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من جوف الليل فقال: «يا أبا مويهبة! إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع، فأنطلق معي!»، فانطلقت معه، فلما وقف بين أظهرهم قال: «السلام عليكم يا أهل المقابر! ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح فيه الناس! لو تعلمون ما نجاكم الله منه؟! أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع أولها آخرها: الآخرة شر من الأولى»]، قال: [ثم أقبل علي فقال: «يا أبا مويهبة! إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، وخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي، عز وجل، والجنة!»]، قال: [قلت: بأبي وأمي! فخذ مفاتيح الدنيا والخلد فيها ثم الجنة! قال: «لا، والله يا أبا مويهبة! لقد اخترت لقاء ربي والجنة»، ثم أستغفر لأهل البقيع، ثم انصرف فبدئ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في وجعه الذي قبضه الله، عز وجل، فيه حين أصبح]، وأخرجه الدارمي بنحوه.
v وتابعه الطبراني في «المعجم الكبير»: حدثنا أسلم بن سهل الواسطي حدثنا محمد بن أبان الواسطي حدثنا الحكم بن فضيل عن يعلى بن عطاء عن عبيد بن جبير عن أبي مويهبة مولى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: [أمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يصلي على أهل البقيع فصلى عليهم في ليلته ثلاث مرات فلما كانت الثالثة قال: «يا أبا مويهبة أسرج لي دابتي!»، فأسرجت، فركب، فسار إلى أهل البقيع، ثم نزل فأمسكت دابته، فوقف عليهم فقال: «ليهنكم ما أنتم فيه مما في الناس! أتت فتن كقطع الليل المظلم، يركب بعضها بعضا، الأخرى أشد من الأولى، فليهنكم ما أنتم فيه!»، ثم جاء رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: «يا أبا مويهبة! إني أعطيت (أو قال: خيرت) مفاتيح ما يفتح الله على أمتي من بعدي والجنة؛ أو لقاء ربي»، قلت: بأبي وأمي يا رسول الله اخترنا! قال: «اخترت لقاء ربي!»، فما مكث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلا سبع أو ثمان حتى قبض، صلى الله عليه وسلم]، وأخرج أحمد مثله من طريق يعلى بن عطاء. ويعلى بن عطاء ثقة من رجال مسلم في «الصحيح»، وهو أقوى وأتقن من عبد الله بن عمر بن علي بن عدي العبلي.
v ولكن الحاكم قال في «المستدرك على الصحيحين»: حدثنا أبو أحمد بكر بن محمد بن همدان الصيرفي بمرو من أصل كتابه: حدثنا أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل الترمذي، حدثنا عمر بن عبد الوهاب الرياحي أبو حفص، حدثنا إبراهيم بن سعد بن إبراهيم الزهري عن محمد بن إسحاق قال حدثني عبيد الله بن عمر بن حفص عن عبيد بن حنين مولى الحكم بن أبي العاص عن عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله تعالى عنهما، عن أبي مويهبة؛ وساق الحديث بنحو سياق أحمد. ثم قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، إلا أن الحاكم قد أظهر تعجبه من ذلك الإسناد، ولم يلهمه الله، ولا الذهبي، التنبه إلى أنه إسناده مصحف: تصحف فيه عبد الله بن عمر العبلي، إلى عبيد الله بن عمر (بن حفص) العمري، الإمام الثقة الثبت المشهور؛ وكذلك عبيد بن جبير، مولى الحكم ابن أبي العاص، إلى عبيد بن حنين (وهو مولى آل زيد بن الخطاب، وليس مولى الحكم بن أبي العاص، كما جاء مصرحاً به في الإسناد!!)، وهو ثقة من رجال الشيخين، فأصبح هذا الإسناد المصحف العجيب على شرط مسلم!
ولكن هذا لا يضر كثيرا، بحمد الله، لأن الحديث بمجموع طرق أحمد والطبراني، ليس فيه من يحتاج إلى نظر سوى: عبيد بن جبير، مولى الحكم ابن أبي العاص، هذا. وهو تابعي قليل الحديث جداً، مترجم له في «التاريخ الكبير»، وكذلك في «الجرح والتعديل»، ولم يذكر فيه الأئمة أي جرح مطلقاً، ولم يصرحوا بتوثيق، إلا ابن حبان ذكره في الثقات. وهو على كل حال على العدالة الأصلية، وثناء النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، على الصحابة والتابعين بالعدالة وحسن الرواية. كما أن متن حديثه هذا مستقيم، تشهد لكل فقرة منه نصوص الكتاب والسنة، فالإسناد حسن، وهو صحيح على شرط ابن حبان، والحديث، على كل حال، صحيح بشواهده، والله أعلم.
v وأخرج مسلم، وكذلك النسائي، بإسناد صحيح، قال: أخبرنا يوسف بن سعيد قال حدثنا حجاج عن ابن جريج قال أخبرني عبد الله ابن أبي مليكة أنه سمع محمد بن قيس بن مخرمة يقول سمعت عائشة تحدث قالت: (ألا أحدثكم عني وعن النبي صلى الله عليه وسلم؟!)، قلنا: (بلى)، قالت: [لما كانت ليلتي التي هو عندي (تعني النبي صلى الله عليه وسلم) انقلب فوضع نعليه عند رجليه، وبسط طرف إزاره على فراشه، فلم يلبث إلا ريثما ظن أني قد رقدت، ثم انتعل رويداً، وأخذ رداءه رويداً، ثم فتح الباب رويداً، وخرج رويداً، وجعلت درعي في رأسي واختمرت وتقنعت إزاري، وانطلقت في إثره، حتى جاء البقيع فرفع يديه ثلاث مرات، فأطال، ثم انحرف، فانحرفت، فأسرع، فأسرعت، فهرول، فهرولت، فأحضر، فأحضرت، وسبقته فدخلت، فليس إلا أن اضطجعت، فدخل فقال: «ما لك يا عائشة حشيا رابية؟!»، قالت: (لا!)، قال: «لتخبرني أو ليخبرني اللطيف الخبير؟!»، قلت: (يا رسول الله، بأبي أنت وأمي)، فأخبرته الخبر. قال: «فأنت السواد الذي رأيت أمامي؟!»، قالت: (نعم!)، فلهزني في صدري لهزة أوجعتني، ثم قال: «أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله؟!»، قلت: (مهما يكتم الناس فقد علمه الله!)، قال: «فإن جبريل أتاني حين رأيت ولم يدخل علي، وقد وضعت ثيابك، فناداني فأخفى منك، فأجبته فأخفيته منك، فظننت أن قد رقدت، وكرهت أن أوقظك، وخشيت أن تستوحشي»، فأمرني أن آتي البقيع فأستغفر لهم، قلت: (كيف أقول لهم يا رسول الله؟!)، قال: «قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون»]. وقد أخرجه ابن حبان وصححه، وصححه الشيخ شعيب الأرناؤوط في تعليقاته، وقد أخرج النسائي، والبيهقي في «الكبرى»، مثله، بإسانيد جياد لا بأس بها، ومن طرق أخري، مطولاً ومختصراً.
وهذا أيضاً حجة قاطعة على نسخ تحريم زيارة القبور على النساء، لأن النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أمر عائشة أن تأتي البقيع فتستغفر للموتى، وعلَّمها ما تقول في الزيارة، ولو لم تكن الزيارة مستحبة أو واجبة لما أمرها أو علّمها حرفاً. لاحظ أن آخر فقرات الحديث تقول نصاً: [فأمرني أن آتي البقيع فأستغفر لهم، قلت: (كيف أقول لهم يا رسول الله؟!)، قال: «قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون»]، فجملة: (فأمرني أن آتي البقيع فأستغفر لهم) هي من كلام عائشة تروي ما أمرها به بدليل الجملة التالية، حيث تسأله أن يعلمها ماذا تقول في الزيارة.
ومعلوم من السيرة، وجمهرة من الأحاديث الصحيحة، أنه ما كان يزور البقيع، إلا متأخراً، قبيل وفاته، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بأمر من ربه، ولم يكن يزور القبور قبل ذلك، بل كان ممنوعاً منها، كأمته سواءً بسواء، كما سبق أعلاه، في مثل حديث أبي مويهبة، رضي الله عنه: أنه زارهم مودعاً، بأمر من ربه، ثم بدأ به مرضه الذي توفي منه، صلوات الله وسلامه وتبريكاته عليه وعلى آله. بل إن الأرجح أن القصة المذكورة في حديث عائشة متأخرة جداً قبيل وفاته، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، لأنه أذن له أولا في زيارة القبور قبل وفاته بنحو سنتين، وما أمر بزيارة البقيع خاصة داعياً ومودعاً إلا قبيل وفاته بأيام قليلة، فحديث عائشة هو قطعاً الناسخ لكل ما قبله.
v وأخرج الأثرم بإسناد لم يقع لنا ولعله مطابق للآتي، وكذلك البيهقي في «الكبرى» من طريق الحاكم، والحاكم في «المستدرك»، قال الحاكم: حدثنا أبو بكر أحمد بن إسحاق الفقيه، أنبأ أبو المثنى معاذ بن المثنى، حدثنا محمد بن المنهال الضرير، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا بسطام بن مسلم، عن أبي التياح يزيد بن حميد عن عبد الله بن أبي مليكة: [أن عائشة، رضي الله عنها، أقبلت ذات يوم من المقابر. فقلت لها: يا أم المؤمنين! أليس نهى رسول الله عن زيارة القبور؟! قالت: نعم، نهى عن زيارة القبور، ثم أمر بزيارتها!]. هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات أثبات حفّاظ مشاهير، إلا بِسطام بن مسلم البصري، وهو ثقة مأمون بإجماعهم، وقال عنه ابن نمير: شيخ قديم، رفيع القدر جداً.
v وأخرج ابن ماجه بإسناد صحيح عن عائشة أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم (رخص في زيارة القبور). وهو اختصار للحديث السابق، ومن نفس طريق بسطام بن مسلم البصري، رحمه الله.
v وأخرج الترمذي بإسناد صحيح، قال: حدثنا الحسين بن حريث حدثنا عيسى بن يونس عن ابن جريج عن عبد الله بن أبي مليكة قال: [توفي عبد الرحمن بن أبي بكر بحبشي، قال: فحمل إلى مكة فدفن فيها. فلما قدمت عائشة أتت قبر عبد الرحمن بن أبي بكر فقالت:
وكنا كندماني جذيمة حقبة من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكــــا لطـــول اجتماع لم نبت ليلة معا
ثم قالت: والله لو حضرتك ما دفنت إلا حيث مت، ولو شهدتك ما زرتك!]، وهذه قصة مغايرة للسابقة، وموضوع آخر.
v وأخرج البخاري بإسناد صحيح، غاية في الصحة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال لامرأة من أهله: (تعرفين فلانة؟!)، قالت: نعم، قال فإن النبي، صلى الله عليه وسلم، مر بها وهي تبكي عند قبر، فقال: «اتقي الله واصبري!»، فقالت: (إليك عني، فإنك خلو من مصيبتي!)، قال: فجاوزها، ومضي، فمر بها رجل فقال: ما قال لك رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟! قالت: ما عرفته! قال: إنه لرسول الله، صلى الله عليه وسلم! قال: فجاءت إلى بابه، فلم تجد عليه بواباً، فقالت: يا رسول الله! والله ما عرفتك، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: «إن الصبر عند أول صدمة»]، وأخرجه أحمد مختصراً. فلم يقل لها، عليه وعلى آله صلوات من الله، أنا رسول الله، ولا يحل لك زيارة المقبرة، أو كلاماً نحو هذا، وإنما أمرها بالصبر وبتقوى الله لا غير. فدل هذا قطعاً على قولنا، إلا أن يكون خان، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أمانة الرسالة، حاشا لله، ثم حاشا لله.
v وفي «مسند الإمام أحمد بن حنبل»: [حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا عبد الصمد وحسن بن موسى قالا حدثنا حماد عن علي بن زيد قال أبي حدثناه عفان حدثنا بن سلمة أخبرنا على بن زيد عن يوسف بن مهران عن بن عباس قال: [لما مات عثمان بن مظعون قالت امرأته هنيأ لك يا بن مظعون بالجنة قال فنظر إليها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، نظرة غضب فقال لها: «ما يدريك؟! فوالله اني لرسول الله وما أدري ما يفعل بي!»، (قال عفان: ولا به)، قالت: يا رسول الله! فارسك وصاحبك؟! فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حين قال ذلك لعثمان، وكان من خيارهم، حتى ماتت رقية (!) ابنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: «الحقي بسلفنا الخير عثمان بن مظعون!»، قال وبكت النساء فجعل عمر يضربهن بسوطه، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم، لعمر: «دعهن يبكين! وإياكن ونعيق الشيطان!»، ثم قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «مهما يكون من القلب والعين فمن الله والرحمة ومهما كان من اليد واللسان فمن الشيطان»، وقعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على شفير القبر وفاطمة إلى جنبه تبكي فجعل النبي، صلى الله عليه وسلم، يمسح عين فاطمة بثوبه رحمة لها]، ليس هذا الإسناد بالقوي، مع أن الحاكم صححه، وقال الذهبي: صالح. وقوله رقية وهم، فما كان رسول الله ، صلى الله عليه وسلم، حاضراً، ولا عمر، لأنهم كانو ببدر حينئذ، ولم يرجعوا إلا وقد فرغ من دفن رقية بنت محمد، صلى الله عليهما وسلم، ولم ينسخ النهي عن زيارة القبور إلا أخيراً فسمعه أبو هريرة وحضره، وإنما هي أم كلثوم بنت محمد أو زينب بنت محمد، سيد البشر، عليهما وعليه وعلى سائر آله الصلاة والسلام.
v وفي «المستدرك على الصحيحين»: حدثنا أبو حميد أحمد بن محمد بن حامد العدل بالطابران حدثنا تميم بن محمد حدثنا أبو مصعب الزهري حدثني محمد بن إسماعيل بن أبي فديك أخبرني سليمان بن داود عن أبيه عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن الحسين عن أبيه: [أن فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم، كانت تزور قبر عمها حمزة كل جمعة فتصلي وتبكي عنده]، قال الحاكم: هذا الحديث رواته عن آخرهم ثقات. (في الأصل: سليمان بن داود عن جعفر؛ سقط منه عن أبيه، ولكنه هكذا صحيحاً في الطريق التالية).
v وفي «المستدرك على الصحيحين»: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا القرشي حدثني علي بن شعيب حدثنا بن أبي فديك أخبرني سليمان بن داود عن أبيه عن جعفر بن محمد عن أبيه أن أباه علي بن الحسين حدثه عن أبيه: [أن فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم كانت تزور قبر عمها حمزة بن عبد المطلب في الأيام فتصلي وتبكي عنده]، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ولكن قال الذهبي في التلخيص: سليمان بن داود مدني تكلم فيه. قلت: نعم، ولكنه كلام غير مفسر، وهو لا يضر، كما هو مبين في الملحق.
ومعلوم أن الحسين، عليه السلام، كان صغيراً، ولعله لم يبلغ السابعة أو الثامنة، عند وفاة فاطمة، عليها السلام، فدل هذا على أنه شهد ذلك قبيل وفاتها بقليل، أي بعد النسخ.
لاحظ أنها، سلام الله عليها، إنما كانت تصلي عنده، وليس فوقه، فليس هذا من الصلاة في المقبرة، لأنه قبر منفرد في الفضاء هو ذاته المقبرة، ولا من «اتخاذ القبور مساجد» من صدر ولا ورد.
فهذه الأدلة بمجموعها لا تدع مجالاً للشك في أن النهي عن زيارة القبور، الذي كان مغلظاً مقروناً باللعن للنساء، قد نسخ كله، فعاد مباحاً، بل مستحباً بقرينة قوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «فزوروها! فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة»، وتذكر الآخرة، والزهد في الدنيا من المطالب المستحبة المشروعة للرجال والنساء على حد سواء. هذا هو الحق الذي نسبه الترمذي إلى طائفة من أهل العلم، حين قال: (وقد رأى بعض أهل العلم أن هذا كان قبل أن يرخص النبي صلى الله عليه وسلم في زيارة القبور، فلما رخص دخل في رخصته الرجال والنساء، وقال بعضهم: إنما كره زيارة القبور للنساء لقلة صبرهن وكثرة جزعهن).
وقال الحافظ في «فتح الباري شرح صحيح البخاري» عند الكلام عن اتباع الجنائز للنساء: [ومال مالك إلى الجواز وهو قول أهل المدينة ويدل على الجواز ما رواه بن أبي شيبة من طريق محمد بن عمرو بن عطاء عن أبي هريرة أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان في جنازة فرأى عمر امرأة فصاح بها فقال دعها يا عمر الحديث وأخرجه بن ماجة والنسائي من هذا الوجه ومن طريق أخرى عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سلمة بن الأزرق عن أبي هريرة، ورجاله ثقات].
وهذا هو الحق الذي لا يجوز أن تكون فيه شبهة. أما ما قال بعضهم: (إنما كره زيارة القبور للنساء لقلة صبرهن وكثرة جزعهن)، فهو تعليل غير شرعي، أي أنه رجم قبيح بالغيب، وقول على الله بغير علم، يبطله أنه لم يحرم على النساء اتباع الجنائز، وإنما كرهه لهن فقط في أول الأمر، كما هو ثابت يقيناً من حديث أم عطية، رضي الله عنها، وبغيره من الصحاح التي أوردنا آنفاً، إن كان ذلك كله مرفوعاِ إلى نبي الله. ومعلوم من الحس والتجربة أن جزع النساء، وقلة صبرهن، بل ونياحتهن تكون في أشدها عند الموت، وتشييع الجنازة، أي حال اتباعها، وعند الدفن وتيقن الفراق عياناً، وليس عند زيارة القبر بعد ذلك، لا سيما بعد تطاول الزمن، وتكرار الزيارة، عندما تذهب الصدمة الأولى، ويخف الألم، ويلتئم الجرح، فأين عقولكم، يا أهل العقول: أفلا تستحون من التقديم بين يدي الله ورسوله؟! ولكن هكذا تكون الأقوال الساقطة، والتعليلات السخيفة!
ثم هم متناقضون في تطبيق هذه العلة الساقطة، إذ يلزمهم أن يقولوا بكراهية أو حرمة زيارة القبور لمن استشعر من نفسه الجزع، وكذلك بوجوب أو استحباب إبعاد من يظهر عليه الجزع في المقبرة لأنه أتى مكروهاً أو منكراً، وهم لا يقولون بشئ من ذلك، فتبين أنهم متناقضون متلاعبون، وأنهم أصحاب هوى أو تقليد يٌحْتَج له بكل شئ أو شبهة، لا فرق بين حق أو باطل.
هذا ما ثبت في الصحاح، أما الرواية التي تقول: «فارجعن مأزورات غير مأجورات»، فلا حجة فيه لأن إسمعيل بن سلمان بن أبي المغيرة ضعيف ساقط، فلا يعارض به حديث أم عطية الصحيح، بل الذي هو في الصحة غاية، ولا حديث سلمة بن الأزرق عن أبي هريرة.
وحتي لو ثبت لم يكن فيه حجة لأن الحديث بطوله هو: قال: «ما يجلسكن؟!»، قلن: ننتظر الجنازة، قال: «هل تغسلن؟!»، قلن: لا، قال: «هل تحملن؟!»، قلن: لا، قال: «هل تدلين فيمن يدلي؟!»، قلن: لا، قال: «فارجعن مأزورات غير مأجورات»، فهؤلاء نسوة متطفلات، لا مشاركة لهن في الصلاة على الجنازة، أو غسلها، أو حملها، أو إدلائها في قبرها، فلعلهن ما أتين إلا للنياحة، ونتف الشعور، وخمش الوجوه، وضرب الصدور، وشق الثياب: على عوائد نساء العرب القبيحة. فلو ثبت لكان حجة على جواز تشييع النساء للجنازة إذا كان لهن مشاركة في غسل، أو حمل، أو إدلاء، أو دفن أو نحوه، مع الامتناع عن النياحة المحرمة على كل حال، وهذا أقرب إلى معنى حديث أم عطية، وليس العكس، كما كان الأمر الأول قبل النسخ. وأما جملة (مفتنات الاحياء، مؤذيات الأموات) أو: (فإنكن تفتن الحي، وتؤذين الميت)، كما ذكرها، للأسف الشديد، شيخ الإسلام ابن تيمية، حتى ولو كان ذكرها عرضاً، فهي مكذوبة باطلة.
والترخيص بل استحباب الزيارة للنساء والرجال على حد سواء لم نعتمد فيه على زيارة عائشة، رضي الله عنها، لأخيها، ولا للمقابر بعامة، كما ثبت في الأحاديث أعلاه، فليس شيء من ذلك حجة، وإنما الحجة في كلام الله ورسوله، لا غير. وفعل عائشة جاء هنا موافقاً للنص الشرعي، فهو صحيح، ولكن ليس هو الحجة، ما عدا قولها: (ولو شهدتك ما زرتك)، الذي جاء خلاف الدليل، فلا يعتد به.
وقد احتج بعضهم بقول عائشة: (ولو شهدتك ما زرتك) على أن زيارة القبور ليست مستحبة للنساء كما هي للرجال.
سبحان الله: لقد أصبح كلام عائشة، وهو محض اختيار لها، لعله لبعد مكان القبر، ومشقة الذهاب إليه، أو لاعتبارات أخري خاصَّة بها، رأتها هي وجيهة، وكل ذلك لا يعنينا، ولا حجة فيه عندنا، وهو على كل حال عارٍ من الدليل، حجة تقدم على قول المعصوم صلوات الله وسلامه عليه، إذ قال: «فزوروها! فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة»، وتذكر الآخرة، والزهد في الدنيا من المطالب المستحبة المشروعة للرجال والنساء على حد سواء.
والغريب أن هؤلاء القوم يعللون أحكاماً شرعية بعلل غير شرعية، مثل: سد الذرائع، وخشية «الفتنة»، وجلب المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها، وإسكات الرعاع، وتسكين الدهماء، وغير ذلك من السخف والهراء، بل الفضائح والمخازي، فإذا جاءت النصوص الشرعية المعصومة، المطهرة المرفوعة، بعلل أو حكم ومقاصد شرعية متيقنة لم يرفعوا بها رأساً: }فالحكم لله العلي الكبير{!
والحق أن ترخيصه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بزيارة القبور، الذي نسخ به التحريم، وكذلك حثه على زيارتها، بقوله: «زوروها»، كل ذلك عام يشمل الرجال والنساء، ولم يرد ما يخصصه، وكذلك حثه على «اتباع الجنائز»، وجعله حقاً للمسلم على المسلم، كما ثبت أن النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، علم عائشة ما تقول في الزيارة، وأقر المرأة التي كانت تبكي عند القبر، فلم يأمرها بشيء قط سوى تقوى الله والصبر، وإقراره لجلوس فاطمة، عليها السلام، على حافة القبر وبكائها هناك، كل ذلك نسخ متيقن لتحريم سابق. ولم يكن النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ليلحق بالرفيق الأعلى، من غير كمال البيان عن الله، فما الذي منعه، عندما نسخ تحريم زيارة القبور، فحض على زيارتها، ورغب في ذلك، ما الذي منعه من بيان استثناء النساء من ذلك؟! أليس هو الذي قال في الذهب والحرير: «هذان حلال لإناث أمتي، حرام على ذكورها»، أو كما قال؟! ولا يجوز أن يحفظ الله المنسوخ، ويترك الناسخ يضيع، بعد أن تعهد بحفظ الذكر، حيث قال:}إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون{، كما أسلفنا بيانه. هذا هو الحق الذي لا يجوز اعتقاد سواه، أو العمل بغيره!
لاحظ كذلك دقة بيان أفصح خلق الله، المعصوم بعصمة الله، عليه صلوات وسلام وتبريكات من الله، عندما قال: «إني نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها! فإن فيها عبرة، ونهيتكم عن النبيذ فاشربوا! ولا أحل مسكراً! ونهيتكم عن الأضاحي فكلوا» فرخص بكافة الأسقية والظروف والأوعية، ناسخاً بذلك النهي عن الانتباذ في الدباء، والنقير، والمحنتم، وظروف أخرى، كما في حديث وفد عبد القيس، كيف احتاط، وزاد البيان بحرمة كل مسكر فقال موكداً: «ولا أحل مسكراً!»، مع أن المسكر في العربية هو الخمر فقط، أما النبيذ فليس بمسكر، في أصل كلام العرب، الذي نزل القرآن بلسانهم (ولا عبرة في اصطلاح المولَّدين ممن جاء بعدهم، الذين ربما سمَّوا الأشياء بغير أسمائها، وقد حذر النبي، صلى الله عليه وسلم، من استحلالهم الخمر بتسميتها بغير اسمها!). ومع ذلك يوجد من المسلمين، بل من علمائهم وكبارهم، من يقول أن قوله: «زوروها» خاص بالرجال، خلافاً لكلام العرب، ولضرورات الحس والعقل الموجبة لكون هذا الخطاب لكل من هو أهل له من المخاطبين: الرجال والنساء، والعرب والعجم، والأحرار والعبيد، والسود والبيض، بل والإنس والجن، كما تقرر يقيناً في علم أصول الفقه! لم يبق إلا القول أنه فاته، صلى الله عليه وسلم، أن ينبه على بقاء حرمة زيارة القبور للنساء، وهذا هو الكفر بعينه، فما أقبح الهوى، وأشنع التقليد!
ولقد جانب الصواب شيخ الإسلام ابن تيمية في تعقيبه على رواية الأثرم: [ولا حجة في حديث عائشة؛ فإن المحتج عليها احتج بالنهي العام، فدفعت ذلك بأن النهي منسوخ، ولم يذكر لها المحتج النهي الخاص بالنساء الذي فيه لعنهن على على الزيارة... إلخ]. وهي زلة قدم شنيعة منه، رحمه الله، فالترخيص بزيارة القبور للرجال مشهور عند الصحابة والتابعين، معلوم بالتواتر، لا يخفي على مثل الإمام الحجة ابن أبي مليكة، رحمه الله، فسؤاله كان عن النهي للنساء، وهو النهي المغلظ، المقرون باللعنة لزائرات القبور من النساء، بقرينة أنه كان حال رجوعها، وهي امرأة، من المقابر، وجواب عائشة، رضي الله عنها، هو في هذا الخصوص. وابن أبي مليكة كان سائلاً مستفتياً، وليس معترضاً مناظراً، وهو أكثر فقهاً، وأعظم أدباً مع أم المؤمنين، من أن يكون كذلك. كما أن القوم لم يكونوا يعقدون جلسات المناظرات، وولم يكونوا أهل تقعر وتفريع في الجدليات.
وعلى كل حال فكل من سيدة نساء العالمين، فاطمة بنت محمد، عليهما الصلاة والسلام، وأم المؤمنين، عائشة، رضوان الله وسلامه عليها، أفقه، وأعلم، بأمر رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، وبكيفية تطبيق النص القاطع الذي روته عائشة، من جميع من جاء بعدهما من المتأخرين، وهما الصدِّيقتان العالمتان الراسختان، وهما من عترته، أهل بيته، صلوات الله وسلامه وتبريكاته عليه وعلى آله، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، فمن كان ملغياً عقله، ومن كان ولا بد مقلداً، فليقلدهما!
ثم استدركنا أن حديث مسلم والنسائي الذي جاء فيه: [فأمرني أن آتي البقيع فأستغفر لهم، قلت: (كيف أقول لهم يا رسول الله؟!)، قال: «قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون»]، وهو صحيح تقوم به الحجة، صريح في أنه، عليه وعلى اله الصلاة والسلام، أمرها أن تأتي البقيع فتستغفر لأهله، والأمر ها هنا هو للوجوب قطعاً، لأنه لم يأت أمراً بعد نهي، أي بعد تحريم، أو لبيان نسخ لحكم سابق، لأن هذه الواقعة كانت قبيل وفاته، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، ببضعة أيام، أي بعد النسخ بسنوات.
والنسخ قد صرحت به الأحاديث آنفة الذكر في أول هذا الفصل، فربما ساغ آنذاك أن يقال أن ذلك قرينة صارفة للأمر عن كونه للوجوب إلى كونه لمجرد الإباحة فقط عند مجيء الوحي بها، وتلفظه، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، بمضمونها. أما حديثنا هذا، حديث مسلم والنسائي، فهو تشريع جديد متأخر، لا محيص من حمل الأمر فيه على الوجوب.
لذلك يجب على كل مسلم ومسلمة، إذا بلغ سن التكليف، أن يزور القبور ولو مرة واحدة في العمر، ثم تستحب بعد ذلك زيارتها كلما تيسر، ويتأكد ذلك لمن خشي أن تطغى عليه الدنيا، ومن شعر بحاجة إلى التذكير بالموت والفناء والآخرة، نسأل الله أن يجعلنا ممن استحيى من الله حق الحيا، فذكر الموت والبلى، وعمل للآخرة ولم ينخدع أو يفتتن بالحياة في هذه الدار الأولى.
u فصل: فضل زيارة القبر النبوي الشريف ، وشد الرحال إليه.
وليست تلك الزلة التي ذكرنا قريباً هي الزلة الوحيدة للإمام شيخ الإسلام أبي العباس أحمد بن تيمية في هذا الباب، بل له غيرها في «مسألة شد الرحال». وهذا لا يضر: فلكل جواد كبوة، ولكل صارم نبوة. وإنما يضر بحق الإصرار على الخطأ، وركوب الرأس، الذي نراه في أيامنا هذه ليل نهار عند «القبوريين» بشتى أصنافهم: «القبوريون الخرافيون»، أو «القبوريون المهوسون».
وزيارة القبور المندوب إليها، بل الواجبة ولو مرة واحدة في العمر، كما أسلفنا، ليست فقط لتذكر الموت، والخروج من الغفلة، وهو مطلب عظيم تشتد حاجتنا إليه في دوَّامة الحياة الدنيا، المنسية المطغية، بل هي كذلك لبر الموتى من المسلمين عامة، ومن ذوي القربى والأصدقاء والأحبة خاصة: للسلام عليهم، والأنس بتذكرهم، والدعاء لهم. والموتى يبلغهم ذلك، بتبليغ الله لهم.
وأولى من يزار، وأحق من يبر ويحب ويوقَّر: سيدي وحبيبي أبو القاسم محمد، رسول الله وخاتم النبيين، بأبي هو وأمِّي،، لا فرق في ذلك لأهل المدينة أو غيرهم، ولا من جاء ماشياً من قريب، أو شد الرحال من أقصى الدنيا، لعموم الأدلة السابقة، وقيام البراهين القاطعة، على علو مرتبته، وعظيم حقه، عليه وعلى آله الصلاة والسلام.
نعم: لقد زلت القدم بالإمام شيخ الإسلام ابن تيمية فقال بحرمة ذلك مستنداً لما صح عنه، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، أنه قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى»، ولم ينفرد، رحمه الله بذلك، بل قاله قبله نفر قليل من العلماء مثل: أبو محمد الجويني، وأختاره القاضي حسين، والقاضي عياض وطائفة، فما أحسنوا، ولا وفقوا.
قلت: هذا خطأ شنيع سنبينه فيما يلي، مستعينين بالله، جل وعلا، مبتدئين أولا بتحرير طرق الحديث وألفاظه:
v فقد أخرج البخاري في «الجامع الصحيح المختصر»: حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة قال أخبرني عبد الملك عن قزعة قال سمعت أبا سعيد رضي الله تعالى عنه أربعا قال قال سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم (وكان غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثنتي عشرة غزوة) (ح) حدثنا علي حدثنا سفيان عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ومسجد الأقصى». وهنا جمع البخاري حديثي أبا هريرة وأبا سعيد الخدري في نسق واحد مختصراً، على مذهبه في الاختصار.
v وفي صحيح مسلم حديث أبي هريرة منفرداً: حدثني عمرو الناقد وزهير بن حرب جميعا عن بن عيينة (قال عمرو حدثنا سفيان) عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا ومسجد الحرام ومسجد الأقصى».
ــ وهو في «سنن أبي داود»: حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن الزهري بنحوه.
ــ وفي «المجتبى من السنن» للنسائي: أخبرنا محمد بن منصور قال حدثنا سفيان عن الزهري به، وقال الألباني: صحيح.
ــ وفي «سنن ابن ماجه»: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الأعلى عن معمر عن الزهري به، وقال الألباني: صحيح.
ــ وفي «مسند الإمام أحمد بن حنبل» عدة طرق: حدثنا عبد الأعلى عن معمر عن الزهري به، وحدثنا سفيان عن الزهري به، وحدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري به.
ــ وهو في «صحيح ابن حبان»: أخبرنا محمد بن الحسن بن قتيبة حدثنا محمد بن أبي السري قال حدثنا عبد الرزاق قال حدثنا معمر عن الزهري به.
ــ وفي «سنن الدارمي» من غير طريق الزهري: أخبرنا يزيد بن هارون حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة به،
ــ هو كذلك في «المسند»، قال أحمد: حدثنا يزيد به، قلت: هذا إسناد صحيح على شرط مسلم.
v وفي «موطأ الإمام مالك» مطولاً جداً: [وحدثني عن مالك عن يزيد بن عبد الله بن الهاد عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة أنه قال: (خرجت إلى الطور فلقيت كعب الأحبار فجلست معه فحدثني عن التوراة وحدثته عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فكان فيما حدثته أن قلت قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أهبط من الجنة وفيه تيب عليه وفيه مات وفيه تقوم الساعة وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقا من الساعة إلا الجن والإنس وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه قال كعب: ذلك في كل سنة يوم، فقلت: بل في كل جمعة؛ فقرأ كعب التوراة فقال صدق رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال أبو هريرة فلقيت بصرة بن أبي بصرة الغفاري فقال من أين أقبلت فقلت من الطور فقال لو أدركتك قبل أن تخرج إليه ما خرجت سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: «لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد إلى المسجد الحرام وإلى مسجدي هذا وإلى مسجد إيلياء (أو بيت المقدس يشك)»، قال أبو هريرة ثم لقيت عبد الله بن سلام فحدثته بمجلسي مع كعب الأحبار وما حدثته به في يوم الجمعة فقلت قال كعب ذلك في كل سنة يوم قال قال عبد الله بن سلام: كذب كعب، فقلت ثم قرأ كعب التوراة فقال بل هي في كل جمعة فقال عبد الله بن سلام صدق كعب ثم قال عبد الله بن سلام قد علمت أية ساعة هي قال أبو هريرة فقلت له أخبرني بها ولا تضن علي فقال عبد الله بن سلام هي آخر ساعة في يوم الجمعة قال أبو هريرة فقلت وكيف تكون آخر ساعة في يوم الجمعة وقد قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي»، وتلك الساعة ساعة لا يصلى فيها؟! فقال عبد الله بن سلام ألم يقل رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «من جلس مجلسا ينتظر الصلاة فهو في صلاة حتى يصلي»، قال أبو هريرة: فقلت: بلى، قال فهو ذلك)]. وفي صحيح ابن حبان: أخبرنا الحسين بن إدريس الأنصاري أخبرنا أحمد بن أبي بكر عن مالك به بطوله، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط : إسناد صحيح على شرط الشيخين. قلت: هو كذلك في الصحة غاية النهاية، من الصحاح العتاق في موطأ مالك. أول جامع للصحاح.
v وفي «مسند الحميدي»: حدثنا سفيان قال حدثنا الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد إلى المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى»
v وفي «مسند الحميدي»: حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم قال ثنى يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد عن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال أخبرني بصرة بن أبي بصرة الغفاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد إلى المسجد الحرام ومسجدي هذا ومسجد بيت المقدس»
v وفي «المنتقى من السنن المسندة» لابن الجارود: حدثنا بن المقرئ ومحمود بن آدم قالا حدثنا سفيان عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم وقال محمود إن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا».
v وفي «مسند الإمام أحمد بن حنبل» لفظ مقارب عن أبي هريرة: [قرأت على عبد الرحمن: مالك عن يزيد بن عبد الله بن الهاد عن محمد بن إبراهيم بن الحرث التيمي عن أبى سلمة بن عبد الرحمن عن أبى هريرة فذكر الحديث قال أبو هريرة فلقيت بصرة بن أبى بصرة الغفاري قال من أين أقبلت فقلت من الطور فقال أما لو أدركتك قبل أن تخرج إليه ما خرجت إليه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: « لا تعمل المطي الا إلى ثلاثة مساجد إلى المسجد الحرام والى مسجدي والى مسجد إيلياء (أو بيت المقدس يشك)». هذا إسناد في غاية الجودة والصحة.
v وفي «صحيح مسلم» بلفظ آخر: وحدثناه أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الأعلى عن معمر عن الزهري بهذا الإسناد غير أنه قال: «تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد». بهذا الإسناد يعني: (الزهري عن سعيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم).
v وفي «صحيح ابن حبان» ما يدل على أن الزهري أخذه كذلك من أبي سلمة، بلفظ آخر: أخبرنا محمد بن عبيد الله بن الفضل الكلاعي بحمص قال حدثنا كثير بن عبيد قال حدثنا محمد بن حرب عن الزبيدي عن الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة أن أبا هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما الرحلة إلى ثلاثة مساجد إلى مسجد الحرام ومسجدكم هذا وإيلياء». قال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح.
v وفي «صحيح مسلم» من غير طريق الزهري عن أبي هريرة وبلفظ آخر: وحدثنا هارون بن سعيد الأيلي حدثنا بن وهب حدثني عبد الحميد بن جعفر أن عمران بن أبي أنس حدثه أن سلمان الأغر حدثه أنه سمع أبا هريرة يخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد مسجد الكعبة ومسجدي ومسجد إيلياء».
v وفي «سند الإمام أحمد بن حنبل» كامل القصة من طريق أبي بصرة الغفاري: حدثنا عبد الله حدثني أبى حدثنا حسين بن محمد حدثنا شيبان عن عبد الملك عن عمر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام انه قال لقي أبو بصرة الغفاري أبا هريرة وهو جاء من الطور فقال من أين أقبلت قال من الطور صليت فيه قال أما لو أدركتك قبل أن ترحل إليه ما رحلت انى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تشد الرحال الا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى».
v والقصة في «المعجم الكبير» من طريق آخر: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد حدثني أبي عن بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن مرثد بن عبد الله اليزني عن أبي بصرة الغفاري قال لقيت أبا هريرة فقلت إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تشد المطي إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي ومسجد الحرام ومسجد الأقصى»
v وفي «مسند أبي يعلى» رواية نادرة: [حدثنا محمد بن المنهال حدثنا يزيد بن زريع حدثنا روح عن زيد بن أسلم عن سعيد بن أبي سعيد المقبري أن أبا بصرة حميل بن بصرة لقي أبا هريرة وهو مقبل الطور فقال لو لقيتك قبل أن تأتيه لم تأته إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: « تضرب أكباد المطي إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى»]. قال الشيخ حسين أسد: إسناده صحيح.
ــ وهي في «المعجم الكبير»: [حدثنا إبراهيم بن هاشم البغوي حدثنا أمية بن بسطام حدثنا يزيد بن زريع عن روح بن القاسم به]
v وفي «مسند أبي داود الطيالسي»: حدثنا أبو عوانة عن عبد الله بن عمير عن عمرو أو عمر بن عبد الرحمن (قال أبو داود: أحدهما) ان أبا بصرة الغفاري لقي أبا هريرة وهو جاء فقال من أين أقبلت قال أقبلت من الطور صليت فيه قال اما اني لو ادركتك لم تذهب اني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تشد الرحال الى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى»
v أما حديث أبي سعيد فقد جاء في «مسند الإمام أحمد بن حنبل» مع كامل القصة مسلسلاً مصرحاً فيه بالتحديث: [حدثنا يحيى بن آدم حدثنا زهير حدثنا عبد الملك بن عمير حدثني قزعة انه سمع أبا سعيد الخدري يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فأعجبني فدنوت منه وكان في نفسي حتى أتيته فقلت أنت سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قال، فغضب غضبا شديدا، قال: (فأحدث عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ما لم أسمعه!! نعم: سمعت، رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى»، وسمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «يقول لا تسافر المرأة الا مع زوجها أو ذي محرم منها»، وسمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: «لا صيام في يومين يوم الأضحى ويوم الفطر من رمضان»، وسمعته يقول: « لا صلاة بعد صلاتين صلاة الفجر حتى تطلع الشمس وصلاة العصر حتى تغرب الشمس»)]، هذا صحيح كإسناد البخاري، بل لعله أصح. وهو في «مسند الإمام أحمد بن حنبل»: حدثنا بهز حدثنا همام أخبرنا قتادة عن قزعة عن أبي سعيد الخدري بنحوه باختصار طفيف.
v وفي «مسند الإمام أحمد بن حنبل» لفظ آخر: [حدثنا محمد بن جعفر حدثنا سعيد وعبد الوهاب عن سعيد عن قتادة عن قزعة عن أبي سعيد الخدري ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد مسجد إبراهيم ومسجد محمد صلى الله عليه وسلم وبيت المقدس»، قال ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة في ساعتين بعد الغداة وقال عبد الوهاب بعد الفجر حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغيب الشمس ونهى عن صيام يومين الفطر والنحر ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ان تسافر المرأة فوق ثلاثة أيام أو ثلاث ليال الا مع ذي محرم]
v وهو في «سنن الترمذي» مختصراً: حدثنا بن أبي عمر حدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن قزعة عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام ومسجدي هذا ومسجد الأقصى». قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح. وقال الألباني: صحيح.
ــ وهو في «مسند الإمام أحمد بن حنبل»: حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن بن إسحاق حدثنا أبان بن صالح عن قسيم مولى عمارة عن قزعة عن أبي سعيد الخدري بنحوه.
ــ وهو في «مسند أبي يعلى»: حدثنا أبو خيثمة حدثنا جرير حدثنا عبد الملك بن عمير عن قزعة عن أبي سعيد به، وقال الشيخ حسين أسد: إسناده صحيح؛ ثم قال أبو يعلى: وعن أبي سعيد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجد الحرام ومسجد المدينة ومسجد الأقصى»، وقال الشيخ حسين أسد: إسناده صحيح
v وفي «صحيح ابن حبان» مسلسلاً بالثقات المصرحين بالتحديث: أخبرنا الفضل بن الحباب الجمحي حدثنا إبراهيم بن بشار الرمادي حدثنا سفيان حدثنا عبد الملك بن عمير قال سمعت قزعة يقول سمعت أبا سعيد الخدري يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا». وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح.
v وجاء في «سنن ابن ماجه» عن أبي سعيد وعبد الله بن عمرو بن العاص كليهما: [حدثنا هشام بن عمار حدثنا محمد بن شعيب حدثنا يزيد بن أبي مريم عن قزعة عن أبي سعيد وعبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: إلى المسجد الحرام وإلى المسجد الأقصى وإلى مسجدي هذا»]، وقال الألباني: صحيح.
v وهو في «مسند الشاميين» أطول منه: [حدثنا أبو زرعة الدمشقي حدثنا محمد بن المبارك الصوري حدثنا صدقة بن خالد (ح) وحدثنا محمد بن أبي زرعة حدثنا هشام بن عمار حدثنا محمد بن شعيب قالا: حدثنا يزيد بن أبي مريم عن قزعة عن عبد الله بن عمرو بن العاص وأبي سعيد الخدري قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد إلى المسجد الحرام وإلى المسجد الأقصى وإلى مسجدي، هذا ولا تسافر امرأة مسيرة يومين إلا مع زوجها أو ذي محرم»].
v وفي «مسند الحميدي»: [حدثنا سفيان قال: حدثنا عبد الملك بن عمير قال أخبرني قزعة عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا ومسجد إيليا» وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسافر امرأة فوق ثلاث إلا ومعها ذو محرم ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس وعن صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ونهى عن صيام يومين يوم الأضحى ويوم الفطر]
v ولكن جاء في «صحيح مسلم»: حدثنا قتيبة بن سعيد وعثمان بن أبي شيبة جميعا عن جرير قال قتيبة حدثنا جرير عن عبد الملك وهو بن عمير عن قزعة عن أبي سعيد قال سمعت منه حديثا فأعجبني فقلت له أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قال: فأقول على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ما لم أسمع!! قال: سمعته يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى؛ وسمعته يقول لا تسافر المرأة يومين من الدهر إلا ومعها ذو محرم منها أو زوجها».
v وجاء نحوه في «مصنف ابن أبي شيبة»، (ج: 2 ص: 150): [حدثنا يحيى بن يعلى عن عبد الملك بن عمير عن قزعة عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاث مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى].
v غير أن عبد الله بن أحمد أخرج في «المسند»: حدثني أبي حدثنا عثمان بن محمد (وقال عبد الله: وسمعته أنا من عثمان بن محمد بن أبي شيبة) حدثنا جرير عن مغيرة عن إبراهيم بن سهل عن قزعة عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا صوم يوم عيد، ولا تسافر امرأة ثلاثا الا مع ذي محرم، ولا تشد الرحال الا إلى ثلاثة مساجد مسجد الحرام ومسجد المدينة والمسجد الأقصى» قال وودع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا فقال له أين تريد قال أريد بيت المقدس فقال له النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة في هذا المسجد أفضل يعني من ألف صلاة في غيره الا المسجد الحرام.
وجاء الحديث كذلك عن أبي الجعد الضمري، رضي الله عنه:
v كما هو في «المعجم الكبير»: حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي حدثنا سعيد بن عمر الأشعثي حدثنا عبثر بن القاسم عن محمد بن عمرو عن عبيدة بن سفيان عن أبي الجعد الضمري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى: المسجد الحرام ومسجدي هذا ومسجد الأقصى». قلت: هذا إسناد جيد قوي على شرط مسلم
v ولكن جاء في «الآحاد والمثاني»: حدثنا محمد بن أبي غالب أخبرنا سعيد بن عمرو أخبرنا عبثر عن محمد بن عمرو عن عبيدة بن سفيان عن أبي الجعد الضمري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا ومسجد الأقصى»، وهذا كذلك جيد قوي كسابقه، بل هو عين سابقه.
واعتنى الإمام البيهقي بهذا الحديث فتتبع كثيراً من طرقه ولخصها تلخيصاً جيداً، كما جاء:
v في «سنن البيهقي الكبرى»: أنبأ أبو طاهر الفقيه أنبأ أبو طاهر محمد بن الحسن المحمد آباذي حدثنا العباس بن محمد الدوري حدثنا روح بن عبادة حدثنا سعيد بن أبي عروبة وهشام بن أبي عبد الله عن قتادة عن قزعة عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد مسجد إبراهيم ومسجد محمد وبيت المقدس»، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة في ساعتين بعد العصر حتى تغرب الشمس وبعد الغداة حتى تشرق الشمس وعن صوم يومين يوم الفطر ويوم الأضحى ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسافر المرأة فوق ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم أخرجه مسلم في الصحيح من حديث بن أبي عروبة وهشام وأخرجه البخاري من حديث شعبة عن قتادة وأخرجاه من حديث عطاء بن يزيد الليثي ويحيى بن عمارة المازني عن أبي سعيد في النهى عن هاتين الصلاتين.
v وفي «سنن البيهقي الكبرى» أيضاً: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرني أبو النضر الفقيه حدثنا إبراهيم بن إسماعيل العنبري حدثنا هارون بن سعيد الأيلي حدثنا بن وهب حدثني عبد الحميد بن جعفر أن عمران بن أبي أنس حدثهم أن سلمان الأغر حدثه أنه سمع أبا هريرة يخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد مسجد الكعبة ومسجدي ومسجد إيلياء، والصلاة في مسجدي أحب إلي من ألف صلاة في غيره إلا مسجد الكعبة»، رواه مسلم في الصحيح عن هارون بن سعيد الأيلي وثبت في ذلك عن أبي سعيد الخدري وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم
v وفي «سنن البيهقي الكبرى»: أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان ببغداد أنبأ أبو سهل بن زياد القطان حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي حدثنا مسدد وعلي بن عبد الله قالا حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجد رسول الله والمسجد الأقصى»، قال بن المديني هكذا حدثنا به سفيان هذه المرة على هذا اللفظ وأكثر لفظه: «تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد»، رواه البخاري في الصحيح عن علي بن المديني ورواه مسلم عن عمرو الناقد عن سفيان.
وجاء نحوه كذلك عن جابر بن عبد الله الأنصاري، رضي الله عنه:
v كما هو في «صحيح ابن حبان»: أخبرنا عمر بن محمد الهمداني حدثنا عيسى بن حماد أخبرنا الليث بن سعد حدثني أبو الزبير عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن خير ما ركبت إليه الرواحل مسجدي هذا والبيت العتيق». وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم. كما جاء في «مسند الإمام أحمد بن حنبل»: حدثنا حجين ويونس قالا حدثنا الليث بن سعد به. وقال أحمد: حدثنا حسن حدثنا بن لهيعة حدثنا أبو الزبير عن جابر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خير ما ركبت إليه الرواحل مسجد إبراهيم عليه السلام ومسجدي».
ــ وفي «السنن الكبرى» قال النسائى: أخبرنا قتيبة بن سعيد أخبرنا الليث به.
ــ وفي «مسند أبي يعلى»: حدثنا كامل حدثنا ليث حدثنا أبو الزبير به. قال الشيخ حسين أسد: الحديث صحيح. وفي «مسند عبد بن حميد»: حدثني أحمد بن يونس حدثنا ليث بن سعد عن أبي الزبير به..
ــ وفي «المعجم الأوسط»: حدثنا أحمد قال حدثنا العلاء بن موسى بن عطية أبو الجهم الباهلي قال حدثنا الليث بن سعد به، ثم وهم الطبراني فقال: (لم يرو هذا الحديث عن الليث إلا العلاء بن موسى)، قلت: كيف، وقد رواه عيسى بن حماد، وحجين، ويونس، وأحمد بن يونس؟!
وجاء هذا، ونحوه، وقريباً منه بأسانيد دون ما سبق، لن ندرسها إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك، وهي موافقة لما سلف إلا من خلاف طفيف في الألفاظ، نذكرها قطعاً للطريق على من أراد الكذب أو المراء، فمنها:
v ما جاء في «مسند الإمام أحمد بن حنبل»: حدثناهاشم حدثنا عبد الحميد حدثني شهر قال سمعت أبا سعيد الخدري وذكرت عنده صلاة في الطور فقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ينبغي للمطي ان تشد رحاله إلى مسجد ينبغي فيه الصلاة غير المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا، ولا ينبغي لامرأة دخلت الإسلام ان تخرج من بيتها مسافرة الا مع بعل أو مع ذي محرم منها، ولا ينبغي الصلاة في ساعتين من النهار من بعد صلاة الفجر إلى أن ترحل الشمس ولا بعد صلاة العصر إلى ان تغرب الشمس ولا ينبغي الصوم في يومين من الدهر يوم الفطر من رمضان ويوم النحر»
v وفي «مسند الإمام أحمد بن حنبل»: [حدثنا أبو معاوية حدثنا ليث عن شهر قال لقينا أبا سعيد ونحن نريد الطور فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تشد المطي الا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجد المدينة وبيت المقدس»]
v وهو في «مسند أبي يعلى» مع كامل القصة: [حدثنا زهير حدثنا جرير عن ليث عن شهر قال أقبلت أنا ورجال في عمرة فمررنا بأبي سعيد الخدري فدخلنا عليه فقال أين تريدون قلت نريد الطور قال وما الطور سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول لا تشد رحال المطي إلى مسجد يذكر الله فيه إلا إلى ثلاثة مساجد مسجد الحرام ومسجد المدينة وبيت المقدس، ولا تصلح الصلاة في ساعتين من النهار بعد الفجر حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغيب الشمس ولا يصلح الصوم في يومين من السنة يوم الفطر من رمضان ويوم الأضحى من ذي الحجة ولا تسافر المرأة سفرا في الإسلام إلا مع بعل أو ذي محرم. وقال الشيخ حسين أسد: إسناده ضعيف، قلت: ليس هو بشديد الضعف، ولا هو بالذي تقوم به الحجة.
v وفي «المعجم الصغير»: [حدثنا سلمة بن إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن سلمة بن كهيل الحضرمي الكوفي حدثني أبي عن أبيه عن جدده سلمة بن كهيل الحضرمي عن حجية بن عدي عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى، ولا تسافر المرأة فوق يومين إلا ومعها زوجها أو ذو محرم، ولا يصام يومان في السنة الفطر والأضحى، ولا صلاة بعد صلاتين بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب الشمس»]، لم يروه عن سلمة إلا ابنه يحيى تفرد به ولده عنه. قلت: ابراهيم بن اسماعيل بن يحيى الكهيلي ضعيف.
v وفي «المعجم الأوسط»: [حدثنا أحمد بن يحيى الحلواني قال حدثنا سعيد بن سليمان عن محمد بن عبد الرحمن بن مجير عن زيد بن أسلم عن سعيد المقبري عن أبي هريرة عن حميل الغفاري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تضرب المطايا إلا إلى ثلاث مساجد: مسجد الحرام ومسجدي هذا ومسجد بيت المقدس». وقال الطبراني: ( لم يرو هذا الحديث عن زيد عن المقبري عن أبي هريرة إلا بن مجبر ورواه روح بن القاسم وغيره عن زيد عن سعيد المقبري عن أبي بصرة حميل بن بصرة)، وهو كذلك في «المعجم الكبير».
v وفي «المعجم الكبير»: [حدثنا الحسين بن إسحاق التستري حدثنا يحيى الحماني حدثنا عوانة عن عبد الملك بن عمير عن عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أبي بصرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجد الرسول ومسجد الأقصى»]
v وفي «المعجم الكبير»: [حدثنا أحمد بن رشدين حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن نافع حدثني عبد الله بن عمر عن وهب بن كيسان عن بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تشد الرجال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجد الحرام ومسجد المدينة ومسجد بيت المقدس»]
v وفي «مسند الشاميين»: [حدثنا محمد بن الليث الجوهري حدثنا الفضل بن سهل الأعرج حدثنا علي بن يونس البلخي حدثنا هشام بن الغاز عن نافع عن بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تشد المطي إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى»]
v وفي «مسند الشاميين»: [حدثنا عمرو بن إسحاق بن إبراهيم بن العلاء الحمصي حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش حدثني أبي عن ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن قزعة عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى»، هذا إسناد ضعيف، محمد بن إسماعيل بن عياش لا شئ]
إذن هذه هي ألفاظ الحديث بعد البحث والتقصي الشديد:
اللفظ الأول، وهو المعتمد: «لا تُشَد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ومسجد الأقصى»، أي بصيغة النفي، والفعل مبني للمجهول. هذا هو لفظ الجمهور من الأحاديث بأصح الأسانيد. وفي حكم هذه الصيغة الألفاظ المماثلة مثل: «لا تُعْمَل المطي»، أو «لا تُشَد المطي». والمعنى واحد، كما أنه لا عبرة بالتغاير في ترتيب المساجد، ولا فرق بين قوله: المسجد الأقصى، أو مسجد بيت المقدس، أو مسجد إيليا فهي أسماء متباينة لمسجد واحد؛ تماماً كقوله: الكعبة، أو المسجد الحرام، أو مسجد إبراهيم كل ذلك مسجد واحد.
اللفظ الثاني: «إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد مسجد الكعبة ومسجدي ومسجد إيلياء»، عند الإمام مسلم، بصيغة الحصر: «إنما»، والخبر، وما كان في حكمه مثل: «إنما الرحلة إلى ثلاثة مساجد: ...»، كما هو بإسناد صحيح عند ابن حبان، «إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد: مسجد إبراهيم ومسجد محمد صلى الله عليه وسلم وبيت المقدس»، كما هو في المسند.
اللفظ الثالث: صيغة الخبر بدون حصر في مثل: «تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد»، كما هو عند مسلم، وهو أغلب لفظ سفيان بن عيينة عن الزهري، كما شهد بذلك الإمام علي بن المديني، وليس هو قصرا على سفيان، بل قد جاء عن غيره، ومثلها: « تضرب أكباد المطي إلى ثلاثة مساجد: ..»،
اللفظ الرابع: «لا ينبغي للمطي ان تشد رحاله إلى مسجد ينبغي فيه الصلاة غير المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا»، كما هي في مسند أحمد إلا أن إسنادها ليس بذاك.
اللفظ الخامس: بصيغة النهي هكذا: «لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، ..»، وهي رواية مسلم قال: حدثنا قتيبة بن سعيد وعثمان بن أبي شيبة جميعا عن جرير عن عبد الملك بن عمير عن قزعة عن أبي سعيد، وقد توبع كل من قتيبة بن سعيد وعثمان بن أبي شيبة، تابعهما أبو المحياة يحيى بن يعلى عند أبي شيبة. هذا إسناد رجاله ثقات، إلا أن عبد الملك بن عمير بن سويد تغير حفظه قليلاً بآخرة، فالحجة في سماع المتقدمين من أمثال شعبة والثوري وأبي عوانة، أما سماع أبي المحياة يحيى بن يعلى، وجرير بن عبد الحميد فهما متأخران عن أولئك فالأرجح أنها من تغير حفظ عبد الملك بن عمير بن سويد كما أسلفنا، أو تصحيفاً من بعض النساخ أو الرواة. ومهما كان الأمر فهي ساقطة لا يجوز أخذها، ولا التدين بها. إذ لا يعقل أن تكون هي عين اللفظ النبوي الشريف، ثم لا تأتي إلا من طريق شاذة تخالف نقل التواتر في الكتب وعند العلماء، وإلا كان وعد الله بحفظ الذكر، قرآناً وسنة، خائساً، عندما قال: }إنا نحن نزلنا الذكر، وإنا له لحافظون{، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
اللفظ السادس: «لا تشد الرحال إلا إلى: المسجد الحرام ومسجدي هذا ومسجد الأقصى»، أي بحذف لفظة: «ثلاثة مساجد»، كما جاء في «المعجم الكبير» من حديث أبي الجعد الضمري، ولكنه جاء مصححاً من نفس الطريق في «الآحاد والمثاني». وهذه كذلك من تصحيفات النساخ، أو سبق قلم أو ذهب لبعض الرواة، لا يعتد بها، ولا يجوز أخذها. وهذه ساقطة كذلك كسابقتها، ولنفس الأسباب.
قلنا أن اللفظ الأول هو المعتمد، وعليه أغلب الطرق والروايات، وهو الأشبه بكلام النبي، والأليق بفصاحته، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله. وهو، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، أفصح من نطق بالضاد، مع ما خصه الله به من جوامع الكلم، واختصار الكلام اختصاراً، فالنفس مطمئنة أنه هو عين اللفظ النبوي الشريف.
هذا اللفظ مخصوص بالمساجد، ولا كلام فيه مطلقاً عن غيرها، وذلك بغض النظر عن كونه نهياً أو نفياً للأفضلية والأحقية، أي أن معناه أحد اثنين لا ثالث لهما:
الأول: لا تشدوا الرحال، أي لا تسافروا، إلى مسجد، أي إلى مكان يصلى فيه أو تبغى فيه الصلاة، إلا إلى هذه المساجد الثلاثة. أي: إني أنهاكم عن ذلك.
الثاني: ليس شيئاً من المساجد، أو المواضع التي يصلى فيها أو تبتغى فيها الصلة، يستحق مشقة السفر ونفقته، وأن تشد له الرحال، وتضرب أكباد الإبل، إلا هذه المساجد الثلاثة، لعظيم مكانتها، وارتفاع مرتبتها عند الله، تبارك وتعالى. فالأولى بالإنسان أن يصرف النفقة على الفقراء والمساكين في جيرته، ويكتفي بمسجد بلدته.
وسنبرهن على أن الثاني هو الصحيح إن شاء الله بعد قليل، ولكن ما الدليل على أن الكلام عن المساجد فقط، ولا علاقة له بغيرها، فلا تعلق له بالسفر للتجارة، أو النزهة، أو التقدم لخطبة امرأة حسناء جميلة، أو طلب العلم، أو السياحة في الأرض والنظر كيف بدأ الخلق، أو التقلب في البلاد للتعرف على مصارع المجرمين، أو زيارة الأقارب والأحبة أحياءً وأمواتاً، أو زيارة قبر النبي، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، أو غير ذلك مطلقاً؟!
الدليل هو نفس اللفظ النبوي الشريف، لأنه، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، إنما قال: «لا تُشَد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ومسجد الأقصى»، ولو أراد كل شد رحال وكل سفر لقال: «لا تُشَد الرحال إلا إلى ثلاثة: المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ومسجد الأقصى»، بحذف لفظة «مساجد»، إذ لا حاجة إليها حينئذ، بل هي حينئذ فضول وتطويل، والكلام حينئذ في غاية الوضوح والفصاحة، فلا يليق بسيد الفصحاء أن يعدل عنه إلى لفظ مطول، لا فائدة منه، بل قد يحدث عند السامع وهماً، أو لقال: «لا تُشَد الرحال إلا إلى: المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ومسجد الأقصى»، بحذف لفظة «ثلاثة مساجد»، هذا هو الائق بسيد الفصحاء الذي أوتي جوامع الكلم واختصر له الكلام اختصاراً، في مثل قولّ: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه مالاً .. إلخ».
ولو كانت جميع المواقع والأمكنة مقصودة لوجب أن يكون اللفظ الشريف: «لا تُشَد الرحال إلا إلى ثلاثة أماكن (أو: مواضع): المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ومسجد الأقصى»، لأن هذا هو اللائق بمن بعث بالرسالة الخاتمة، والبيان التام الشافي، وإلا لكان وعد الله، جل جلاله، خائساً: }ثم إن علينا بيانه{، حاشا لله، ثم حاشا لله.
أما كون المقصود هو بيان أفضلية المساجد الثلاثة المذكورة واستحقاقها أن تنفق على السفر إليها الأموال، وأن يتحمل في السفر إليها المشاق، أما غيرها من المساجد فليس فيها من الفضل ما يبرر النفقة الكبيرة والمشقة البالغة في السفر، بل الأولى أن ينفق الإنسان على محاويج بلده، ما دام قد فاز بالصلاة في مساجدها. أي النفي هنا ليس نهياً، ولا يراد به النهي، فدليله النقل المتواتر، والإجماع المتيقن لعلماء الأمة قاطبة على أن السفر للتجارة وطلب الرزق الحلال مباح، لا بأس به، مع أن المسافر يشد رحله، ويغادر أهله وأحبته متجهاً إلى الأسواق، مع كونها أبغض بلاد الدنيا إلى رب العزة، تبارك وتعالى، كما صح عنه، عليه وعلى آله الصلاة والسلام:
v كما جاء في «صحيح مسلم»: وحدثنا هارون بن معروف وإسحاق بن موسى الأنصاري قالا حدثنا أنس بن عياض حدثني بن أبي ذباب في رواية هارون (وفي حديث الأنصاري حدثني الحارث) عن عبد الرحمن بن مهران مولى أبي هريرة عن أبي هريرة أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: «أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها».
ــ وهو في «صحيح ابن خزيمة»: أخبرنا أبو طاهر أخبرنا أبو بكر أخبرنا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم البرقي حدثني بن أبي مريم أخبرنا عثمان بن مكتل وأنس بن عياض قالا حدثنا الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذباب بعينه.
ــ وفي «صحيح ابن حبان»: أخبرنا الحسن بن سفيان حدثنا هارون بن سعيد بن الهيثم حدثنا أنس بن عياض حدثنا الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذباب بعينه، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.
ــ وفي «سنن البيهقي الكبرى»: أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ أنبأ أبو الفضل بن إبراهيم حدثنا أحمد بن سلمة حدثنا إسحاق بن موسى الأنصاري حدثنا أنس بن عياض حدثني الحارث يعني بن عبد الرحمن بعينه، وقال البيهقي: رواه مسلم في الصحيح عن هارون بن معروف وإسحاق بن موسى الأنصاري.
v وفي «مسند الشهاب» شطره الأول فقط: أخبرنا أبو الحسن محمد بن عبد الله بن دوست حدثنا محمد بن الحسين السلمي حدثنا الحسن بن سليمان ببغداد حدثنا إبراهيم بن جعفر حدثنا محمد بن مهدي بن بلال الأسدي حدثنا أبي مهدي عن محمد بن زياد عن بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أحب البقاع إلى الله المساجد».
فكيف يعقل أن يكون شد الرحال إلى المساجد التي هي أحب بقاع الدنيا إلى الله، تباركت أسماؤه، منهياً عنه نهي كراهية أو نهي تحريم؟! هذا لا يكون، ولا يتشكل في عقل، فلا بد إذاً لا مناص من استبعاد القول الأول واطراحه.
يؤيد تقريرنا هذا ويقويه أن لفظ الرواية الثاني، وهو جيد ثابت قد جاء من طرق صحاح، وهو: «إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد: ...»، عند الإمام مسلم، بصيغة الحصر والخبر، وما كان في حكمه مثل: «إنما الرحلة إلى ثلاثة مساجد: ...»، كما هو بإسناد صحيح عند ابن حبان، «إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد: مسجد إبراهيم ومسجد محمد صلى الله عليه وسلم وبيت المقدس»، كما هو في المسند. وكذلك خصوصاً اللفظ الثالث: صيغة الخبر بدون حصر في مثل: «تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد»، كما هو عند مسلم، وهو أغلب لفظ سفيان بن عيينة عن الزهري، كما شهد بذلك الإمام علي بن المديني، ومثلها: « تضرب أكباد المطي إلى ثلاثة مساجد: ..»، وكذلك حديث جابر: «إن خير ما ركبت إليه الرواحل مسجدي هذا والبيت العتيق»، لايمكن فهمه إلا على ما وصفنا أنه:
أولاً: مخصوص بالمساجد، لا علاقة له بغيرها، وأنه
ثانياً: تقرير لأفضلية المساجد الثلاث وعظم قدرها، واستحقاقها أن يسافر لها، وليس فيه تحريم أو كراهية السفر إلى غيرها من المساجد أصلاً. فإن كانت تلك الألفاظ محفوظة بعينها عن أبي القاسم، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، فبها ونعمت، وإن كانت رواية بالمعنى، فقد فهم الرواة المعنى صحيحاً وعبروا عنه تعبيراً سليماً، وهم عرب فصحاء أقحاح، فلله الحمد والمنة. أما اللفظ الرابع فلا يخرج كثيراً عن سوابقه، على أن إسناده ليس بذاك، أما الخامس والسادس فقد برهنا على سقوطها وبطلانها، فلله الحمد والمنة على ما فتح من تحرير هذه المسألة، ونسأله مزيداً من فضله، لا إله إلا هو، ولا رب سواه، عليه نتوكل، وبه نتإيد.
بقيت مسألة وهي أن أبي بصرة الغفاري، رضي الله عنه، حمل معنى الحديث، فيما يظهر من كلامه، على النهي، فأنكر على أبي هريرة رحلته إلى الطور، ووافقه أبو هريرة، رضي الله عنهما.
قلت: فكان ماذا؟! مجتهد فهم كلام الله ورسوله فهماً معيناً: إن أصاب أدرك الأجرين، وإن أخطأ نال أجر الاجتهاد. والحجة في كلام الله ورسوله، وليس في فهم الراوية له. وأبو بصرة الغفاري ليس من فقهاء الصحابة ولا مشاهيرهم، أما أبو هريرة فهو بالرواية والحفظ معروف لا بالفقه وعميق الاستنباط.
وقد جمع الحافظ في «فتح الباري» أكثر أقوال العلماء في هذه المسألة فطول جداً من غير كبير محصول إذ قال: [قوله لا تشد الرحال بضم أوله بلفظ النفي والمراد النهي عن السفر إلى غيرها قال الطيبي هو أبلغ من صريح النهي كأنه قال لا يستقيم أن يقصد بالزياره الا هذه البقاع لاختصاصها بما اختصت به والرحال بالمهمله جمع رحل وهو للبعير كالسرج للفرس وكنى بشد الرحال عن السفر لأنه لازمه وخرج ذكرها مخرج الغالب في ركوب المسافر وإلا فلا فرق بين ركوب الرواحل والخيل والبغال والحمير والمشي في المعنى المذكور ويدل عليه قوله في بعض طرقه إنما يسافر أخرجه مسلم من طريق عمران بن أبي أنس عن سليمان الأغر عن أبي هريرة قوله إلا الاستثناء مفرغ والتقدير لا تشد الرحال إلى موضع ولارمه منع السفر إلى كل موضع غيرها لأن المستثنى منه في المفرغ مقدر باعم العام لكن يمكن أن يكون المراد بالعموم هنا الموضع المخصوص وهو المسجد كما سيأتي قوله المسجد الحرام أي المحرم وهو كقولهم الكتاب بمعنى المكتوب والمسجد بالخفض على البدليه ويجوز الرفع على الاستئناف والمراد به جميع الحرم وقيل يختص بالموضع الذي يصلي فيه دون البيوت وغيرها من أجزاء الحرم قال الطبري ويتايد بقوله مسجدي هذا لأن الإشارة فيه إلى مسجد الجماعة فينبغي أن يكون المستثنى كذلك وقيل المراد به الكعبة حكاه المحب الطبري وذكر أنه يتأيد بما رواه النسائي بلفظ الا الكعبة وفيه نظر لأن الذي عند النسائي الا مسجد الكعبة حتى ولو سقطت لفظة مسجد لكانت مرادة ويؤيد الأول ما رواه الطيالسي من طريق عطاء أنه قيل له هذا الفضل في المسجد وحده أو في الحرم قال بل في الحرم لأنه كله مسجد قوله ومسجد الرسول أي محمد صلى الله عليه وسلم وفي العدول عن مسجدي إشارة إلى التعظيم ويحتمل أن يكون ذلك من تصرف الرواة ويؤيده قوله في حديث أبي سعيد الاتي قريبا ومسجدي قوله ومسجد الأقصى أي بيت المقدس وهو من إضافة الموصوف إلى الصفة ...] إلى أن قال: [واختلف في شد الرحال إلى غيرها كالذهاب إلى زيارة الصالحين أحياء وأمواتا وإلى المواضع الفاضلة لقصد التبرك بها والصلاة فيها فقال الشيخ أبو محمد الجويني يحرم شد الرحال إلى غيرها عملا بظاهر هذا الحديث وأشار القاضي حسين إلى اختياره وبه قال عياض وطائفة ويدل عليه ما رواه أصحاب السنن من إنكار بصرة الغفاري على أبي هريرة خروجه إلى الطور وقال له لو ادركتك قبل أن تخرج ما خرجت واستدل بهذا الحديث فدل على أنه يرى حمل الحديث على عمومه ووافقه أبو هريرة والصحيح عند إمام الحرمين وغيره من الشافعية أنه لا يحرم وأجابوا عن الحديث باجوبه منها أن المراد أن الفضيلة التامه إنما هي في شد الرحال إلى هذه المساجد بخلاف غيرها فإنه جائز وقد وقع في رواية لأحمد سيأتي ذكرها بلفظ لا ينبغي للمطي أن تعمل وهو لفظ ظاهر في غير التحريم ومنها أن النهي مخصوص بمن نذر على نفسه الصلاة في مسجد من سائر المساجد غير الثلاثه فإنه لا يجب الوفاء به قاله بن بطال وقال الخطابي اللفظ لفظ الخبر ومعناه الإيجاب فيما ينذره الإنسان من الصلاة في البقاع التي يتبرك بها أي لا يلزم الوفاء بشيء من ذلك غير هذه المساجد الثلاثه ومنها أن المراد حكم المساجد فقظ وأنه لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد للصلاة فيه غير هذه الثلاثه وأما قصد غير المساجد لزيارة صالح أو قريب أو صاحب أو طلب علم أو تجارة أو نزهة فلا يدخل في النهي ويؤيده ما روى أحمد من طريق شهر بن حوشب قال سمعت أبا سعيد وذكرت عنده الصلاة في الطور فقال قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: لا ينبغي للمصلي أن يشد رحاله إلى مسجد تبتغى فيه الصلاة غير المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي وشهر حسن الحديث وأن كان فيه بعض الضعف ومنها أن المراد قصدها بالاعتكاف فيما حكاه الخطابي عن بعض السلف أنه قال لا يعتكف في غيرها وهو أخص من الذي قبله ولم أر عليه دليلا واستدل به على أن من نذر إتيان أحد هذه المساجد لزمه ذلك وبه قال مالك وأحمد والشافعي والبويطي واختاره أبو إسحاق المروزي وقال أبو حنيفة لا يجب مطلقا وقال الشافعي في الأم يجب في المسجد الحرام لتعلق النسك به بخلاف المسجدين الاخيرين وهذا هو المنصور لأصحاب الشافعي وقال بن المنذر يجب إلى الحرمين وأما الأقصى فلا واستأنس بحديث جابر أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم إني نذرت أن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس قال صل ههنا وقال بن التين الحجة على الشافعي أن أعمال المطي إلى مسجد المدينة والمسجد الأقصى والصلاة فيهما قربة فوجب أن يلزم بالنذر كالمسجد الحرام انتهى وفيما يلزم من نذر إتيان هذه المساجد تفصيل وخلاف يطول ذكره محله كتب الفروع واستدل به على أن من نذر إتيان غير هذه المساجد الثلاثة لصلاة أو غيرها لم يلزمه غيرها لأنها لا فضل لبعضها على بعض فتكفي صلاته في أي مسجد كان قال النووي لا اختلاف في ذلك الا ما روى عن الليث أنه قال يجب الوفاء به وعن الحنابله رواية يلزمه كفارة يمين ولا ينعقد نذره وعن المالكية رواية أن تعقلت به عبادة تختص به كرباط لزم وإلا فلا وذكر عن محمد بن مسلمة المالكي أنه يلزم في مسجد قباء لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتيه كل سبت كما سيأتي قال الكرماني وقع في هذه المساله في عصرنا في البلاد الشاميه مناظرات كثيرة وصنف فيها رسائل من الطرفين قلت يشير إلى ما رد به الشيخ تقي الدين السبكي وغيره على الشيخ تقي الدين بن تيميه وما انتصر به الحافظ شمس الدين بن عبد الهادي وغيره لابن تيميه وهي مشهوره في بلادنا والحاصل إنهم الزموا بن تيميه بتحريم شد الرحل إلى زيارة قبر سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وانكرنا صورة ذلك، وفي شرح ذلك من الطرفين طول، وهي من ابشع المسائل المنقوله عن بن تيميه، ومن جملة ما استدل به على دفع ما ادعاه غيره من الإجماع على مشروعية زيارة قبر النبي، صلى الله عليه وسلم، ما نقل عن مالك أنه كره أن يقول زرت قبر النبي، صلى الله عليه وسلم، وقد أجاب عنه المحققون من أصحابه بأنه كره اللفظ ادبا لا أصل الزيارة فإنها من أفضل الأعمال واجل القربات الموصلة إلى ذي الجلال وأن مشروعيتها محل إجماع بلا نزاع والله الهادي إلى الصواب قال بعض المحققين قوله الا إلى ثلاثة مساجد المستثنى منه محذوف فأما أن يقدر عاما فيصير لا تشد الرحال إلى مكان في أي أمر كان الا إلى الثلاثه أو أخص من ذلك لا سبيل إلى الأول لافضائه إلى سد باب السفر للتجاره وصلة الرحم وطلب العلم وغيرها فتعين الثاني والأولى أن يقدر ما هو أكثر مناسبة وهو لا تشد الرحال إلى مسجد للصلاة فيه الا إلى الثلاثه فيبطل بذلك قول من منع شد الرحال إلى زيارة القبر الشريف وغيره من قبور الصالحين والله أعلم وقال السبكي الكبير ليس في الأرض بقعه لها فضل لذاتها حتى تشد الرحال إليها غير البلاد الثلاثه ومرادى بالفضل ما شهد الشرع باعتباره ورتب عليه حكما شرعيا وأما غيرها من البلاد فلا تشد إليها لذاتها بل لزيارة أو جهاد أو علم أو نحو ذلك من المندوبات أو المباحات قال وقد التبس ذلك على بعضهم فزعم أن شد الرحال إلى الزيارة لمن في غير الثلاثه داخل في المنع وهو خطا لأن الاستثناء إنما يكون من جنس المستثنى منه فمعنى الحديث لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد أو إلى مكان من الامكنه لأجل ذلك المكان الا إلى الثلاثه المذكورة وشد الرحال إلى زيارة أو طلب علم ليس إلى المكان بل إلى من في ذلك المكان والله أعلم]
وعقب ابن باز على إلزام ابن تيمية بتحريم شد الرحال لزيارة القبر الشريف، وأُدخل تعقيبه في الكتاب المطبوع، كما أقحمه مقلدوه ومعظموه في داخل النص المبرمج في الحاسوب: [ قال العلامة بن باز حفظه الله: هذا اللازم لا بأس به وقد التزمه الشيخ وليس في ذلك بشاعة بحمد الله عند من عرف السنة ومواردها ومصادرها والأحاديث المروية في فضل زيادة قبر النبي، صلى الله عليه وسلم، كلها ضعيفة بل موضوعة كما حقق ذلك أبو العباس في منسكه وغيره ولو صحت لم يكن فيها حجة على جواز شد الرحال إلى زيادة قبره عليه الصلاة والسلام من دونه قصد المسجد بل تكون عامة مطلقة وأحاديث النهي عن شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة يخصها وبقيدها والشيخ لم ينكر زيادة قبر النبي، صلى الله عليه وسلم، من دون شد الرحال وإنما أنكر شد الرحل من أجلها مجردا عن قصد المسجد فتنبه، وافهم، والله أعلم].
قلت:
أولا: لم أذكر كلام ابن باز للتعقيب عليه. فمن يصف الدولة السعودية التي بدلت الشرائع، وأظهرت الكفر البواح، وتحالفت مع الكفار وجلبت جيوشهم العرمة لاحتلال جزيرة العرب، مهد الإسلام، وحصار العراق لقتل أهله وتدميرهم، بل وإبادتهم، ثم احتلال العراق بعد ذلك، وما زالت تمارس تلك الجريمة الشنعاء حتى هذه الساعة، من يصف هذه الدولة بأنها: (دولة مباركة نصر الله بها الحق وأهله) فليس أهلاً أن يرد عليه، ولكن ذكرته نموذجاً للهوس «القبوري» وكيف تشطح الأهواء الفاسدة بأهلها، وكيف يعمي الغلو أصحابه.
وثانياً: لبيان بطلان هذا الإلزام البشع، وبطلان ما يترتب عليه من التزام أبشع. فحتى لو سلمنا أن جميع الأحاديث الواردة في زيارة قبره، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، ضعيفة أو موضوعة، ولو سلمنا جدلاً وعلى سبيل التنازل، بأن حديث «لا تشد الرحال» يقتضي ضرورة تحريم شد الرحال مطلقاً إلا إلى المساجد الثلاثة المذكورة، أو ما جاء نص صحيح آخر باستثنائه، وهو خلاف الحق كما بيناه آنفاً، لو سلمنا بذلك كله لم يلزم أن يكون شد الرحال إلى قبره، عليه وعلى آله أزكى الصلاة وأتم التسليم، حراماً. فقبره النبوي الشريف هو بجوار مسجده المدني الشريف، وليس هو في الصين أو المغرب الأقصى، بل أصبح الآن في داخل المسجد المبني، معزولاً عن المسجد الذي يحيط به إحاطة السوار بالمعصم، أدخل لضرورة توسعة المسجد في سالف الأزمنة: فشد الرحال إلى المسجد المدني الشريف، هو شد رحال إلى قبره الشريف لا محالة، وإعمال المطي إلى قبره الشريف، هو شدها لا محالة إلى مسجده الشريف، ويستحيل التفريق بين هذا وهذا، لأنهما في بلد واحد، بل هما في بقعة واحدة.
فإن قال قائل: إنما هي النية المعتبرة ها هنا فلا بد أن يفرد المسجد النبوي بنية السفر.
قلنا له: كذبت، فإن شد الرحال لأداء فريضة الحج، وهو ركن من أركان الإسلام، لا يضر في نيته اقترانها بنية المرور على الأسواق في الطريق أثناء الرحلة، وغشيان الأسواق في مواسم الحج بعد الوصول إلى البقاع المقدسة، طلباً للربح الحلال، وابتغاءً من فضل ربنا، بنص القرآن القاطع، فكيف تضر نية زيارة القبر الشريف إذا اقترنت بنية زيارة المسجد الشريف فكان شد الرحال لكليهما؟!
ثم هل وجد في العالم مسلم قط يشد رحله إلى المسجد النبوي الشريف، ثم يتعمد تولية ظهره للقبر الشريف، فلا يسلم ولا يزور؟! ما هذا إلا حمار بليد، بل هو كافر عنيد.
وهل وجد في العالم مسلم قط يشد رحله إلى القبر الشريف فسلم وزار ثم ولَّى ظهره المسجد الشريف، فلم يصل فيه؟! هل وجد هذا في العالم قط؟! بل إننا نرى بعض عوام المسلمين يتكلفون مشقة الإقامة ومصروفاتها ويجاورون الحرم النبوي الشريف، بل ربما ناموا في الشوارع والطرقات قريباً منه متحملين أشد التعب، حتى يصلوا فيه أربعين صلاة مكتوبة متتالية، لاعتقادهم، مخطئين أو مصيبين، أن الفضيلة لا تتم إلا بذلك، أو لذلك فضيلة خاصة أو براءة من النار.
وعوام المسلمين يدعوا بعضهم لبعض بأن يمن الله عليهم بزيارة «النبي»، وتارة بزيارة «المدينة»، لا فرق عنده بين اللفظين: فزيارة المدينة تعني زيارة المسجد وزيارة النبي، وزيارة النبي تعني: زيارة بلدته بمسجدها وقبره الشريف، وهكذا اندمج ذلك كله ببعضه البعض فصار شيئاً واحداً لا تتميز أجزاؤه.
على أننا إذا سلمنا جدلاً، تنازلاً مع أهل الهوس والتنطع والتقعر والغلو، بأنه يمكن في العالم لإنسان أن يفرق بين النيتين المتلازمتين هكذا فلا بأس أيضاً: إذا ينوي الإنسان قبل سفره شد الرحال إلى المسجد الشريف وينوي أنه بعد وصوله يزور القبر الشريف، يعني أن يحدث نفسه قائلاً، على سبيل المثال: (أسافر إلى مسجد النبي ثم بعد الوصول اتشرف بزيارته، عليه وعلى آله الصلاة والسلام)، فإن كان انفصام النيتين ممكن هكذا على هذا النحو، فهذا مشروع ولا بأس به، ولا غبار عليه مطلقاً، ولا يتعارض مع تحريم شد الرحال المكذوب المزعوم، وإن كان فصل النيتين مستحيلاً فهذا كذلك، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها. وعلى كل حال: «هلك المتنطعون»، «هلك المتنطعون»، «هلك المتنطعون».
فثبت يقيناً أن شد الرحال إلى المسجد النبوي الشريف هو ضرورة شد رحال إلى القبر الشريف، سواء بنية واحدة لا يمكن انفكاكها، أو بنيتين صحيحتين مشروعتين لا حرج فيهما. والذي نعتقده أن شد الرحال إلى القبر الشريف هو ضرورة شد رحال إلى المسجد الشريف: مكان واحد ونية واحدة لا انفكاك بينهما: قضاء تكويني من عند الله، منذ الأزل، قبل خلق السماوات والأرض، ولو رغمت أنوف «القبوريين المهووسين»، ولكن قاتل الله المراء والجدل والهوى، و«هلك المتنطعون».
والقوم يدعون أنهم سلفيون غير مبتدعين فهلا جاءوا بنص واحد عن السلف فيه تحريم شد الرحال لزيارة القبر الشريف؟! بل قد جاء عكس ذلك تماما، وهو:
v ما جاء في «مصنف ابن أبي شيبة»، (ج: 2 ص: 150): [حدثنا ابن فضيل عن الحسن بن عبيد الله عن إبراهيم قال: (لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد في الصلاة، ثم قبر النبي صلى الله عليه وسلم وإتيانه)]، قلت هذا إسناد صحيح: محمد بن فضيل بن غزوان ثقة من رجال الشيخين والجماعة، والحسن بن عبيد الله بن عروة النخعي ثقة من رجال مسلم والجماعة، وإبراهيم، وهو أبو عمران إبراهيم بن يزيد بن الأسود النخعي، الإمام الفقيه الورع المشهور، كان يدخل على عائشة، رضي الله عنها، وهو صغير، ورأى غيرها من الصحابة.
ثالثاً: كراهية الإمام مالك للفظة: «زيارة قبر النبي» هي في الأرجح أدب ونفور من نسبة القبر إليه، فكأنه أراد الناس أن يقولوا: «زرنا النبي»، لأنه، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، حي بحياة برزخية سامية. والزيارة في الحقيقة قطعاً له، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، وليست للقبر، أو الجدران أو البقعة، أو التراب والأحجار. هذا هو المحمل الجميل الذي يجب أن يحمل عليه قول الإمام الحجة القدوة أبي عبد الله، إمام دار الهجرة، مالك بن أنس، رضي الله عنه، وهو الذي كان يستحي أن يركب الدواب في المدينة لكيلا يطأ تربة فيها جسد رسول الله. قلت: هذا أدب جميل، حبذا الالتزام به، وهو بحمد الله الذي فشا على ألسنة العوام، فهم يقولون: «زرنا النبي»، ولا نكاد نسمعهم يقولون غير ذلك، فلله الحمد والمنة. وهذا هو أدب الصحابة كذلك، كما جاء:
v في «المستدرك على الصحيحين»: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا العباس بن محمد بن حاتم الدوري حدثنا أبو عامر عبد الملك بن عمر العقدي حدثنا كثير بن زيد عن داود بن أبي صالح قال: [أقبل مروان يوما فوجد رجلا واضعا وجهه على القبر، فأخذ برقبته، وقال: (أتدري ما تصنع؟!)، قال: (نعم)، فأقبل عليه، فإذا هو أبو أيوب الأنصاري، رضي الله تعالى عنه، فقال: (جئت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولم آت الحجر، سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: «لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله»). وقال الحاكم: (هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه)، وقال الذهبي في التلخيص: صحيح. قلت: هو صحيح كما قالا، وكما بيناه في الملحق، وهو أيضاً في «مسند الإمام أحمد بن حنبل»، وفي «تاريخ دمشق» لابن عساكر من طريق أخرى.
وهذا الحديث برهان قاطع على أن «سلف» القبوريين المهووسين هو مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، اللعين بن اللعين، الوزغ بن الوزغ: فهنيئاً لهم هذا «السلف» الصالح!
u فصل: حرمة المسلم ميتاً، كحرمته حياً
وعلى المسلم حين زيارة قبور المسلمين معاملة أهلها بنفس الأدب الذي يعامل به الأحياء. فلا يجوز لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يؤذي أخاه المسلم حيًا كان أو ميتًا:
v عن أبي هريرة ــ رضي الله عنه ــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه، فتخلص إلى جلده، خير له من أن يجلس على قبر (أو: يطأ على قبر)»، حديث حسن قوي أخرجه مسلم، وأحمد. وقد صح عنه، عليه الصلاة والسلام، أنه قال: «حرمة المسلم ميتًا كحرمته حيًا».
v وأخرج مسلم عن جابر قال: [نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه]، هذا حديث في غاية الصحة، أخرج مثله النسائي، وأحمد.
v وأخرج مسلم بأسانيد صحاح عن أبي مرثد الغنوي قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها»، وأخرج مثله النسائي، وأبو داود، وأحمد، والترمذي، وقال: (وفي الباب عن أبي هريرة وعمرو بن حزم وبشير ابن الخصاصية).
v ولكن النسائي وأبو داود أخرجا بإسناد صحيح عن بشير ابن الخصاصية قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر على قبور المسلمين، فقال: «لقد سبق هؤلاء شرا كثيراً»، ثم مر على قبور المشركين، فقال: «لقد سبق هؤلاء خيراً كثيراً»، فحانت منه التفاتة فرأى رجلاً يمشي بين القبور في نعليه، فقال: «يا صاحب السبتيتين، ألقهما»، وأخرج مثله أبو داود بإسناد صحيح، إلا أنه قال: («ويحك ألق سبتيتيك»، فنظر الرجل فلما عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم خلعهما فرمى بهما)، وأخرج أحمد مثله مختصراً بإسناد قوي.
v وأخرج ابن ماجه بإسناد حسن عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأن أمشي على جمرة، أو سيف، أو أخصف نعلي برجلي، أحب إلي من أن أمشي على قبر مسلم؛ وما أبالي أوسط القبور قضيت حاجتي أو وسط السوق!».
v وعن عمرو بن حزم قال: رآني رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على قبر فقال: «انزل عن القبر، لا تؤذِ صاحب القبر». صححه الألباني لذاته في «السلسلة الصحيحة»، وعزاه لابن عساكر في «تاريخ دمشق»، وابن الأثير في «أسد الغابة»، وأبو نعيم في «معرفة الصحابة»، وأحمد في «أطراف المسند»، (وليس في المطبوعة!) من طرق متعددة عن عبد الله بن وهب: حدثني عمرو بن الحارث، عن بكر بن سوادة أن زياد بن ربيعة بن نعيم الحضرمي حدثه أن عمرو بن حزم قال: (فذكره).
v كما أخرج النسائي عن النضر بن عبد الله السلمي عن عمرو بن حزم عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: «لا تقعدوا على القبور»، والنضر بن عبد الله السلمي مجهول، ولكن هذه الرواية تعتضد بسابقتها، ويظهر أن عمرو بن حزم كان جالساً على القبر، كما في الحديث السابق، فأمره النبي، صلى الله عليه وسلم، بالنزول، والتحول عنه، وبهذا تنسجم الروايات ويؤيد بعضها بعضاً، والله أعلم وأحكم.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق