لا يــعلــم الـغـيـب أحـد إلا الـلـه

بــاب
لا يــعلــم الـغـيـب أحـد إلا الـلـه

v قال الله تعالى: }وما كان الله ليطلعكم على الغيب ..{، (آل عمران؛ 3:179)
v قال تعالى آمراً نبيه أن يؤكد: }قل: لا أقول لكم: عندي خزائن الله، ولا أعلم الغيب، ولا أقول لكم إني ملك! إن أتبع إلا ما يوحى إلى! قل هل يستوى الأعمى والبصير؟! أفلا تتفكرون{، (الأنعام؛ 6:50).
v وقال تعالى آمراً نبيه أن يبين: }قل: لا أملك لنفسى نفعًا ولا ضراً، إلا ما شاء الله، ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير، وما مسني السوء ..{، (الأعراف؛ 7:188).
v وقال تعالى حكاية لقول نوح عليه الصلاة والسلام: }ولا أقول لكم عندي خزائن الله، ولا أعلم الغيب، ولا أقول أني ملك،...{، (هود؛ 11:31).
v وقال تعالى: }قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله، وما يشعرون أيان يبعثون{، (النمل؛ 27:65)
v وقال تعالى: }فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته، فلما خر تبينت الجن أن لو كانوايعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين{، (سبأ؛ 34:14).
v وقال تعالى: }وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو{، (الأنعام؛ 6:59).
v وقال تعالى: }فقل إنما الغيب لله،...{، (يونس؛ 10:20).
v قال تعالى: }لله غيب السماوات والأرض.{، (هود؛ 11:123).
v قال تعالى: } عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدًا، إلا من ارتضى من رسول، فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً{، (الجن؛ 72:26).
ــ وقال تعالى: }قل الله أعلم بما لبثوا، له غيب السماوات والأرض{، (الكهف؛ 18:26).
v وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله: لا يعلم أحد ما يكون في غده إلا الله، لا يعلم أحد ما يكون في الأرحام إلا الله، ولا تعلم نفس ماذا تكسب غدا، ولا تدري نفس بأي أرض تموت، إن الله علم خبير. ولا يعلم أحد متى يجيء المطر إلا الله، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله» أخرجه البخاري، وأحمد.
وقد برهنا فيما سبق على أن الله بكل شئ عليم، ضرورة بالدليل العقلي، قبل ورود الشرع. وليس عند الله فرق بين غيب أو شهادة، بل كل شئ عنده «شهادة»، وليس عنده غيب مطلقاً. والغيب المذكور في الآيات هو في عرف السامعين من البشر والجن والملائكة ونحوهم. وهو أمر نسبي إضافي: فما هو في البيت المجاور وراء الستور غيب لي، ولكنه شهادة لأهل البيت، وللملائكة الحفظة المرافقين لهم، وهكذا أبداً. وما سيقع في مستقبل الأيام غيب اليوم لكل أحد، حاشا رب العالمين، فإذا وقع أصبح شهادة لمن حضره، وبقي غيباً لمن لم يحضره، وهكذا أبداً.
فصح من هذه الآيات الكريمات، والأحاديث النبوية الشريفة، وتبين بطلان ما عليه الكهان والعرافون والمنجمون من الدجل والتضليل، وأنه لا يعلم الغيب، علماً ذاتياً مستقلاً، من أحد، إلا الله، وحده لا شريك له.
u فصل: التنجيم والكهانة من السحر
v عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «من اقتبس علمًا من النجوم، اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد»، حديث صحيح، أخرجه ابو داود وأبن ماجه وأحمد. والمقصود بعلم النجوم هنا هو ما يدعيه المنجمون من معرفة الغيب، والمستقبل، والحظ، والبخت، ومصائر الأفراد، والدول، والأمم من مواقع النجوم! وليس هو علم الفلك، الذي كان يسمى قديما «علم الهيئة»، الذي هو علم رصدي، يقوم على الملاحظة والتجربة والرصد، ويرس مواقع الأجرام السماوية، وحركاتها، وخواصها، فهذا علم موضوعي من علوم «الدنيا»، التي فوضها الشارع الإسلامي، تباركت أسماؤه، إلينا على لسان نبيه الخاتم إذ قال: «إذا كان شيئا من أمر دنياكم فشأنكم به (وفي رواية: فأنتم أعلم به)، وإذا كان شيئا من أمر دينكم فإلي»، فلا علاقة لهذا لعلم «الهيئة» هذا بوجهة النظر في الحياة، أي لا علاقة له بـ«الدين».
ويتبين من هذا الحديث أن كل منجم ساحر. وأن التنجيم والكهانة فرع من السحر. وأن الشخص كلما زاد في التنجيم، زاد في السحر. نعوذ بالله من المنجمين والسحرة، والمشعوذين الدجاجلة.
ومع وضوح ما أسلفنا وقطعية أدلته فقد زلَّت القدم ببعض السلف فقال خلاف ذلك، فكره الإمام التابعي والمفسر الكبير قتادة بن دعامة السدوسي تعلم منازل القمر، وبالغ الإمام سفيان بن عيينة فمنعه ولم يرخص فيه، غير أن الله فتح على الأئمة أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه فلم يريا به بأساً.
وقال البخاري في الصحيح: قال قتادة: [خلق الله هذه النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يهتدى بها، فمن تأول فيها غير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به]، قلت: وهذه زلة أخري شنعاء، فمن أين لقتادة أنها خلقت لهذه الثلاثة فقط؟! ولكن هكذا تكون الأقوال المرسلة، والمزاعم المتعجلة.
u فصل: هل السحر كفر؟!
v قال الله تعالى: }واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان، وما كفر سليمان، ولكن الشياطين كفروا. يعلمون الناس السحر، وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت، وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر، فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه، وما هم بضارين به من أحد إلا باذن الله، ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم، ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الاخرة من خلاق، ولبئس ما شروا به أنفسهم، لو كانوا يعلمون v ولو أنهم امنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير، لو كانوا يعلمون{، (البقرة؛ 2:102ــ103).
v وجاء في «مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب»، (ج: 1 ص: 212 وما بعدها): [إعلم أن من أعظم نواقض الإسلام عشرة]، فعدها ثم ذكر منها: [السابع: السحر ومنه الصرف والعطف فمن فعله أو رضى به كفر والدليل قوله تعالى: }وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر{]، انتهي نصاً.
وقبل أن نشرع في تحرير هذا، أي: هل السحر كفر؟! يجب التنبيه على أن أغلب ما يحسبه الناس سحراً هو في حقيقة الأمر خفة يد ومهارة، أو استعانة بآلات، ومعدات، ومواد يخفيها المشعبذ، ثم يستعمله بطريقة خفية لا ينتبه إليها الحاضرون. كل ذلك خفة يد ومهارة، لا علاقة له بالسحر، السحر المحرم، أو ما كانوا يتعلمونه من هاروت وماروت في الآية، وإن كان بعض أنواع خفة اليد مكروهاً، لما فيه من إرهاب الناس وإدهاشهم، أو محرماً لما فيه من غش الناس وتضليلهم.
وننبه كذلك أن ما يسمونه بـ«السحر الأسود» الذي يتوصل إليه بالتعاون مع الشياطين والمردة، وذلك بذبح ذبائح يتعمد عند ذبحها ذكر اسم غير الله عليها، أو بإهانة كتب الله بإلقائها في الحشوش، أو كتابة أسماء الله الحسنى وأسماء ملائكته ورسله بالنجاسات، كل ذلك من أفعال الكفر من حيث هو، يكفر فاعله، سحر بذلك أم لم يسحر، جاداً كان الفاعل أو مازحاً، راضياً أو ساخطاً، إلا المكره بإكراه ملجيء، أو الجاهل، ومن قام به مانع معتبر من موانع التكفير، فلا يفعله إلا من كفر بالله ورسله، فخسر سعيه، وضحى بحظه من الآخرة، فبعداً له، ما أتعسه!!
قال المكفرون للساحر أن قوله تعالى: }يعلمون{ جاء بدلاً من قوله: }كفروا{، ولكن هذه دعوى بلا برهان، بل الأولى أن يقال أن الجملة: }واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان، وما كفر سليمان، ولكن الشياطين كفروا{، جاءت صحيحة تامة: نفى تهمة الكفر عن سليمان، صلوات الله عليه، وأثبت الكفر للشياطين، والشياطين كفار بتمردهم على أمر الله، أو لتوليهم إبليس عدو الله، أو لنسبتهم الظلم إلى الله، أو لغير ذلك، سحروا أم لم يسحروا، علموا أحداً السحر، أم لم يعلموا.
ثم بدأ بعد ذلك بكلام جديد، وجملة جديدة: أن هؤلاء الشياطين الكفار }يعلمون الناس السحر{، وهذا نوع آخر من الشر والإثم كانت الشياطين في تلك الأزمنة تتعاطاه، ألا وهو تعليم الناس السحر، ولا شك أن الشياطين لن تعلم الناس خيراً، ولكن من قال أنهم بالضرورة إنما يعلمون الناس ما هو كفر فقط، ومن قال أنهم ليسوا من أهل المكر والمهارة في الخداع والتضليل: فيمزجون خيراً بشر، وفسقاً بكفر، فلعل هذا يروج على بعض الناس، وذاك يروج على بعض آخر، وهكذا.
وها هو أحد الشياطين (سواء كان إنسياً أو جنياً) يعلم أبا هريرة، رضي الله عنه، في القصة المشهورة، ما ينفعه من فوائد آية الكرسي، فيصدق في هذه فقط، وهو في غيرها كذوب، مقابل الانفلات من قبضة أبي هريرة!
وحتى لو صحت دعوى البدل، فلا حجة فيها لأن كون تعليم السحر للناس من أعمال الكفر آنذاك إنما هو شريعة قديمة منسوخة، لا يحل العمل بها. على أن النص إنما جاء، على الأرجح، في حق شياطين الجن، وأحكام الجن ليست هي عينها أحكام الإنس في هذه الشريعة الخاتمة، فقد صح عن النبي، صلى الله عليه وعلى وسلم، أنه أباح لهم الروث والعظام طعاما، والروث حرام عندنا وحلال لهم، فمن باب أولى في الشرائع السابقة.
فظاهر الآية إذاً يحتمل معنيين فلا يجوز من ثم حملها على أحدهما دون الآخر إلا ببرهان، على أن كلا الوجهين لا حجة لهم فيه أصلا!
قوله، تعالى ذكره: }يعلمون الناس السحر، وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت{، يحتمل أن يكون ما أنزل على الملكين:
(2) شيئاً آخر غير السحر، فيكون باقي الآية في غير موضوعنا، ويكون }ما يفرقون به بين المرء وزوجه{ بعض }ما أنزل على الملكين ببابل{، وهو من ثم ليس سحراً، وإن ظنه الناس كذلك،، أو صنفه الناس كذلك ويكون الضمير في }ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الاخرة من خلاق{، عائداً ضرورة لأقرب مرجع وهو: }ما أنزل على الملكين ببابل{، فليس هو في السحر، وهذا خارج موضوعنا!
(2) أو هو نوع من السحر، فيكون المعطوف هنا وهو: (ما أنزل على الملكين ببابل) نوع خاص من المعطوف عليه وهو: (السحر)، من باب عطف الخاص على العام، وهم لا يقولون أن الملكين كفرا بذلك، فهذا برهان على أن تعليم السحر بالنسبة للملكين ليس كفراً، ولعله ليس بحرام أصلاً، بل لعلهما أمرا بذلك فهو واجب في حقهما، لأن الحكم بالنسبة الملائكة غير الحكم بالنسبة للجن. فإن كان كذلك فمن باب أولى يكون حكم الساحر من هذه الأمة مختلفاً عن ذلك كله. ها هنا أيضاً يكون الضمير في }ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الاخرة من خلاق{، عائداً ضرورة لأقرب مرجع وهو: }ما أنزل على الملكين ببابل{. أي لهذا النوع المخصوص من السحر فقط، وليس لكل سحر، ليس لمشتريه خلاق في الآخرة.
على أن جملة: }ما له في الاخرة من خلاق{، ليست قطعية في الكفر، وربما أتت على وجه الذم والوعيد الشديد، في مثل قوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخر»، كما هو في صحيح مسلم، وهذه صيغة حصر: فلا يلبس الحرير إلا من لا خلاق له في الآخرة، ونحن نعلم ضرورة أن بعض من يلبس الحرير هم من عصاة أهل الملة، الذين يأكلون الذبيحة، ويستقبلون القبلة، وليسوا من الكفار الخارجين من الملة.
على أن قول الملكين: }إنما نحن فتنة فلا تكفر{، إنما هو تنبيه بأنهما فتنة عامة، وتحذير ونهي عن الكفر مطلقاً، وليس فيه أن المخاطب يكفر بتعلمه السحر خاصة، هذا قد يكون وقد لا يكون. وربما كان الملكان يعلمان من يأتي إليهم أموراً كثيرة، منها أشياء تؤدي بمن لم يكن حذراً متنبهاً إلى الكفر. وربما كانا يقولان، مثلاً: (بعض ما تطلبه حرام، وإذا تعلمته ربما استحللته، وإذا استحللته كفرت)، أو نحو ذلك، أو لعلهما يعلمان الجدال والمراء في القدر، وهذا على شفا جرف من الكفر، وربما غير ذلك كثير.
ومهما قلَّبت الآية على شتى وجوهها، وهي من أعسر آيات القرآن، وأكثرها غموضاً، لما وجدت للشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب كبير حجة في جعل السحر من نواقض الإسلام. ولو أن الشيخ، سامحه الله، تأنى، وراجع أقوال العلماء، لما زل هذه الزلة القبيحة، لا سيما أن الناس اختلفوا قديماً وحديثاً في السحر، فما كان له أن يتعجل الحكم في هذا الأمر الخطير، الذي قد تضرب فيه الأعناق!
v وقال الإمام أبو محمد علي بن حزم في «المحلى»، (ج: 11 ص: 394): [اختلف الناس في السحر، فقالت طائفة يقتل الساحر ولا يستتاب والسحر كفر وهو قول مالك، وقال أبو حنيفة يقتل الساحر، وقال الشافعي وأصحابنا إن كان الكلام الذي يسحر به كفرا فالساحر مرتد وإن كان ليس كفرا فلا يقتل لأنه ليس كافرا. وذكر عن المتقدمين في ذلك أشياء كما:
ــ نا البغوي نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني عمرو بن دينار قال إن عمر بن الخطاب كتب إلى جزي بن معاوية عم الأحنف بن قيس وكان عاملا لعمر بن الخطاب أن اقتل كل ساحر، (...)، قال بحالة: (فأرسلنا فوجدنا ثلاث سواحر فضربنا أعناقهن)
ــ وبه إلى عبد الرزاق عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن سالم بن أبي الجعد قال إن قيس بن سعد قتل ساحرا
ــ وعن نافع عن ابن عمر أن جارية لحفصة سحرتها فاعترفت بذلك فأمرت بها عبد الرحمن بن زيد فقتلها، فأنكر ذلك عليها عثمان،فقال له ابن عمر: (ما تنكر على أم المؤمنين؟! امرأة سحرت واعترفت!)، فسكت عثمان.
ــ وعن أيوب السختياني عن نافع أن حفصة سحرت فأمرت عبيد الله أخاها فقتل ساحرتين.
ــ وعن العطاف بن خالد المخزومي أبو صفوان قال رأيت سالم بن عبد الله وهو واقف على جدار بيت لبني أخ له يتامى أتاه غلمة أربعة ومعهم غلام هو أشف منهم فقال يا أبا عمر أنظر ما يصنع هذا قال وماذا يصنع قال فسل خيطا من ثوبه فقطعه وسالم ينظر إليه فجمعه بين أصبعين من أصابعه ثم تفل عليه مرتين أو ثلاثا، ثم مده، فإذا هو صحيح ليس به بأس فسمعت سالما يقول لو كان لي من الأمر شيء لصلبته.
ــ وعن يحيى بن سعيد الأنصاري أن خالد بن المهاجر بن خالد قتل نبطيا سحر يعني ذميا.
ــ وعن يحيى بن أبي كثير قال إن غلاما لعمر بن عبد العزيز أخذ ساحرة فألقاها في الماء فطفت فكتب إليه عمر بن عبد العزيز إن الله لم يأمرك أن تلقيها في الماء فإن اعترفت فاقتلها
ــ وعن ابن شهاب قال يقتل ساحر المسلمين ولا يقتل ساحر أهل الكتاب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سحره رجل من اليهود يقال له ابن أعصم، وامرأة من خيبر يقال لها زينب فلم يقتلهما
قال أبو محمد، رحمه الله: فهؤلاء عمر بن الخطاب وحفصة وعبد الله بن ابناه وعبيد الله ابنه وعثمان وقيس بن ربيعة، ومن التابعين سالم بن عبد الله وخالد بن المهاجر وعمر بن عبد العزيز وعبد الرحمن بن زيد بن الخطاب
وأما من خالف:
ــ نا البغوي نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن مالك بن أنس عن محمد بن عبد الرحمن هو أبو الرجال عن عمرة بنت عبد الرحمن أن عائشة أم المؤمنين أعتقت جارية لها عن دبر وأنها سحرتها واعترفت بذلك وقالت أحببت العتق فأمرت بها عائشة ابن أخيها أن يبيعها من الأعراب ممن يسيء ملكتها وقالت ابتع بثمنها رقبة فاعقتها
ــ وبه إلى عبد الرزاق عن سفيان بن عيينة عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن أبي الرجال عن عمرة قالت مرضت عائشة فطال مرضها فذهب بنوا حيها إلى رجل فذكروا له مرضها فقال إنكم لتخبروني خبر امرأة مطبوبة فذهبوا ينظرون فإذا جارية لها قد سحرتها وكانت قد دبرتها فقالت لها ما أردت مني قالت أردت أن تموتي حتى أعتق قالت فإن لله على أن تباع من أشد العرب ملكة فباعتها وأمرت بثمنها أن يجعل في مثلها
ــ وعن ربيعة بن عطاء أن رجلا عبدا سحر جارية عربية وكانت تتبعه فرفع إلى عروة بن محمد وكان عامل عمر بن عبد العزيز فكتب إليه عمر بن عبد العزيز أن يبيعه بغير أرضها وأرضه ثم ادفع ثمنه إليها،
ــ وقد ذكرنا عن عثمان رضي الله عنه إنكار قتل الساحر]، انتهى كلام أبي محمد بحذف يسير رمزنا له بـ(...)، وقد استمر في كلام جيد، فراجعه.
والظاهر مما ذكر الإمام أبو محمد أن عمر بن الخطاب كان يرى قتل الساحر، وأخذت حفصة، وبقية ولده وأهل بيته هذا عنه. وقد خالفه عثمان فأنكر فعل حفصة، ولكنه لم يستطع تغيير ما وقع، أو لم يرد مواجهة ومصادمة لا معنى لها، فلم يفعل شيئاً. أما الرواية عن عمر بن عبد العزيز فهي متناقضة: فتارة أمر بقتل الساحر إذا اعترف، وتارة أمر فقط بإبعاده. وعائشة رضي الله عنها لم تقتل الجارية التي سحرتها، واكتفت ببيعها.
والثابت في الصحاح أن النبي. عليه وعلى آله الصلاة والسلام، لم يقتل لبيد بن الأعصم الذي سحره، بل ولا حتى تجهم في وجهه، أو أشعره أنه عالم بجريمته الشنعاء:
v كما جاءت بأتم سياق في «الجامع الصحيح المختصر» للإمام البخاري: [حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: مكث النبي صلى الله عليه وسلم كذا وكذا يخيل إليه أنه يأتي أهله ولا يأتي، قالت عائشة: فقال لي ذات يوم: «يا عائشة: إن الله أفتاني في أمر استفتيته فيه: أتاني رجلان فجلس أحدهما عند رجلي والآخر عند رأسي، فقال الذي عند رجلي للذي عند رأسي: (ما بال الرجل؟!) قال: (مطبوب!)، ( يعني: مسحوراً)، قال: (ومن طبه؟!)، قال: (لبيد بن أعصم!)، قال: (وفيم؟!)، قال: (في جف طلعة ذكر في مشط ومشاقة تحت رعوفة في بئر ذروان)»، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «هذه البئر التي أريتها كأن رؤوس نخلها رؤوس الشياطين وكأن ماءها نقاعة الحناء!»، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم، فأخرج، قالت عائشة: فقلت: (يا رسول الله: فهلا!)، (تعني: تنشرت!)، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: «أما والله فقد شفاني، وأما أنا فأكره أن أثير على الناس شراً»، قالت: (ولبيد بن أعصم رجل من بني زريق حليف ليهود)]، هذا إسناد في غاية الصحة.
ــ وهو «الجامع الصحيح المختصر»: [حدثني عبد الله بن محمد قال سمعت بن عيينة يقول أول من حدثنا به بن جريج يقول حدثني آل عروة عن عروة فسألت هشاما عنه فحدثنا عن أبيه عن عائشة، رضي الله تعالى عنها، فساقه بنحوه، إلا أنه لم يذكر تعقيب عائشة عن لبيد بن الأعصم]
ــ وهي في «الجامع الصحيح المختصر»: [حدثنا إبراهيم بن موسى أخبرنا عيسى بن يونس عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها بنحوه]، إلا أنه لم يذكر أنه أخرج، وذكر كلام عائشة بلفظ: (يا رسول الله: أفلا استخرجته؟!)، وزاد: (فأمر بها فدفنت)، ولم يذكر تعقيب عائشة عن لبيد بن الأعصم. ثم قال الإمام البخاري: [تابعه أبو أسامة وأبو ضمرة وابن أبي الزناد عن هشام، وقال الليث وابن عيينة عن هشام: في مشط ومشاقة: يقال المشاطة ما يخرج من الشعر إذا مشط والمشاقة من مشاقة الكتان]، وهو أيضاً في «صحيح ابن حبان»
ــ وهي في «الجامع الصحيح المختصر»: [حدثنا عبيد بن إسماعيل حدثنا أبو أسامة عن هشام عن أبيه عن عائشة بنحو حديث إبراهيم بن موسى]، وهو في «صحيح مسلم»، وأيضاً في «مسند الإمام أحمد بن حنبل»، وفي «مسند أبي يعلى».
ــ وهي في «الجامع الصحيح المختصر»: [حدثنا إبراهيم بن منذر حدثنا أنس بن عياض عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها، بنحو حديث إبراهيم بن موسى]، وقال البخاري: (زاد عيسى بن يونس والليث بن سعد عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا ودعا وساق الحديث)، وهو أيضاً في «سنن البيهقي الكبرى»
ــ وهو في «صحيح مسلم»: [حدثنا أبو كريب حدثنا بن نمير عن هشام عن أبيه عن عائشة بنحو حديث إبراهيم بن موسى]، إلا أنه ذكر كلام عائشة بلفظ: (يا رسول الله: أفلا أحرقته؟!). وهو في «سنن ابن ماجه»، وأيضاً في «مسند الإمام أحمد بن حنبل»، وفي «صحيح ابن حبان»
ـ- وهو في «مسند الإمام أحمد بن حنبل»: [حدثنا عفان قال ثنا وهيب ثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة بنحو حديث إبراهيم بن موسى]، إلا أنه ذكر كلام عائشة بلفظ: (يا رسول الله: فأخرجته للناس؟!).
v وجاء حديث آخر في «المجتبى من السنن» للإمام النسائي، وكذلك في «السنن الكبرى» له، من طريق زيد بن أرقم، رضي الله عنه: [أخبرنا هناد بن السري عن أبي معاوية عن الأعمش عن بن حيان يعني يزيد عن زيد بن أرقم قال: (سحر النبي صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود، فاشتكى لذلك أياما، فأتاه جبريل عليه السلام فقال: ( إن رجلا من اليهود سحرك: عقد لك عقدا في بئر كذا وكذا)، فأرسل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فاستخرجوها، فجيء بها، فقام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كأنما نشط من عقال. فما ذكر ذلك لذلك اليهودي، ولا رآه في وجهه قط!)]، هذا إسناد صحيح، وقال الألباني: (صحيح الإسناد)،
ــ وهو في «مسند الإمام أحمد بن حنبل»: [حدثنا أبو معاوية ثنا الأعمش عن يزيد بن حيان عن زيد بن أرقم به]
ــ وهو في «المعجم الكبير»: [حدثنا عبيد بن غنام ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا أبو معاوية عن الأعمش عن يزيد بن حيان عن زيد بن أرقم به]
ــ وهو في «مسند عبد بن حميد»: [حدثني أحمد بن يونس ثنا أبو معاوية عن الأعمش عن يزيد بن حيان عن زيد بن أرقم به]
لذلك قال الإمام الزهري: (يقتل ساحر المسلمين ولا يقتل ساحر أهل الكتاب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سحره رجل من اليهود يقال له ابن أعصم، وامرأة من خيبر يقال لها زينب فلم يقتلهما)، كما جاء في نص الإمام الحجة أبي محمد علي بن حزم آنفاً. فقول الزهري: (لا يقتل ساحر أهل الكتاب) صحيح موافق للحق، أو لبعض الحق، كما فعله محمد، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أما قوله: (يقتل ساحر المسلمين) فهو رأي مجرد له، لم يأت عليه ببرهان.
v بل قد جاء في «فتح الباري شرح صحيح البخاري»: [ووقع في رواية عبد الله بن نمير عن هشام بن عروة عند مسلم سحر النبي، صلى الله عليه وسلم: (يهودي من يهود بني زريق)، ووقع في رواية بن عيينة الآتية قريبا: (رجل من بني زريق حليف اليهود، وكان منافقا)، ويجمع بينهما بأن من أطلق أنه يهودي نظر إلى ما في نفس الأمر ومن أطلق عليه منافقا نظر إلى ظاهر أمره، وقال بن الجوزي هذا يدل على أنه كان أسلم نفاقا وهو واضح، وقد حكى عياض في الشفاء أنه كان أسلم ويحتمل أن يكون قيل له يهودي لكونه كان من حلفائهم لا أنه كان على دينهم وبنو زريق بطن من الأنصار مشهور من الخزرج وكان بين كثير من الأنصار وبين كثير من اليهود قبل الإسلام حلف وإخاء وود فلما جاء الإسلام ودخل الأنصار فيه تبرءوا منهم]
إذاً قد تعددت الروايات الصحيحة عن الذي سحر النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (رجل من بني زريق حليف اليهود وكان منافقا)، وجاء في روايات أخرى صحيحة، كالتي اعتمدها الإمام الزهري: (أنه رجل من اليهود). والرواية الأولى، وهي صحيحة، أنه من بني زريق، حلفاء اليهود، وأنه كان منافقاً، فيها زيادة لفظ ومعنى، عن الرواية الثانية التي تقول: (أنه رجل من اليهود) فقط، وهي زيادة ثقة، لا بد من قبولها، ولا يحل إهمالها، فيكون الرجل، وهو لبيد بن الأعصم، إما:
(1) من بني زريق، وهم بطن معروف من الأنصار العرب، من حلفاء اليهود، فهو من اليهود حلفاً وليس نسباً، وكان يظهر الإسلام، أو
(2) من اليهود، حلفاء بني زريق، وهم بطن معروف من الأنصار العرب، فهو من اليهود نسباً ومن بني زريق حلفاً، وكان يظهر الإسلام،
فالرجل إذا ينتسب على كل حال إلى الإسلام ظاهراً، فسقط كلام الزهري كله، وظهر أن الحديث الذي استشهد به حجة عليه، فلا يقتل الساحر أصلاً، ومن المحال الممتنع أن يعصي محمد، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ربه، ولا يقيم حداً من حدوده.
وحادثة سحره، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، كانت فيما يظهر بعد الحديبية، في السنة السابعة، بعد سنوات طويلة من نزول آية السحر في سورة البقرة، وهي من أول السور نزولاً في المدينة، ولعل الآية نزلت في السنة الثانية أو قبلها، فرواية قصة لبيد بن الأعصم هي المبينة لما تشابه أو غمض أو عسر من أحكام تلك الآية المدهشة.
v كما جاء في «فتح الباري شرح صحيح البخاري»: [وقد بين الواقدي السنة التي وقع فيها السحر أخرجه عنه بن سعد بسند له إلى عمر بن الحكم مرسل قال لما رجع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من الحديبية في ذي الحجة ودخل المحرم من سنة سبع جاءت رؤساء اليهود إلى لبيد بن الأعصم وكان حليفا في بني زريق وكان ساحرا فقالوا له يا أبا الأعصم أنت أسحرنا وقد سحرنا محمدا فلم نصنع شيئا ونحن نجعل لك جعلا على أن تسحره لنا سحرا ينكؤه فجعلوا له ثلاثة دنانير]
وهذ الثابت في الصحاح يبطل الحديث المكذوب الساقط: «حد الساحر ضربة بالسيف» كما جاء في «سنن الترمذي»: [حدثنا أحمد بن منيع حدثنا أبو معاوية عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن جندب قال قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «حد الساحر ضربة بالسيف»]، وقال الإمام أبو عيسى الترمذي: (هذا حديث لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه، وإسماعيل بن مسلم المكي يضعف في الحديث)، ثم قال: (والصحيح عن جندب موقوفاً، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، وغيرهم وهو قول مالك بن أنس وقال الشافعي إنما يقتل الساحر إذا كان يعمل في سحره ما يبلغ به الكفر فإذا عمل عملا دون الكفر فلم نر عليه قتلا)، وقال الألباني: ضعيف.
ــ وهو في «مصنف عبد الرزاق»: [أخبرنا عبد الرزاق عن ابن عيينة عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن به]
ــ وهو في «المعجم الكبير»: [حدثنا علي بن المبارك الصنعاني ثنا زيد بن المبارك ثنا مروان بن معاوية عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن جندب به]
ــ وهو في «سنن الدارقطني»: [نا محمد بن أحمد بن صالح الأزدي الوكيل نا أحمد بن بديل نا أبو معاوية نا إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن جندب الخير به]
ــ وهو في «سنن البيهقي الكبرى»: [أخبرنا أبو سعد أحمد بن محمد بن الخليل الماليني أنبأ أبو أحمد بن عدي الحافظ ثنا عمران بن موسى ثنا أبو معمر ثنا أبو معاوية عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن جندب به]، ثم عقَّب الإمام البيهقي قائلاً: (إسماعيل بن مسلم ضعيف)
قلت: هذا حديث ساقط مرفوعاً، والصحيح أنه موقوف من كلام جندب، هذا إذا كان الحسن البصري سمعه منه. والصحيح أنه إنما أخذه من واسطة غير ثقة، فظنه عن جندب، بل وربما ظنه مرفوعاً، كما سيظهر من تتبع روايات قصة قتل جندب للساحر، على أن الإمام الحسن البصري يدلس ويرسل، فعنعنته «مخيفة».
ومع ذلك اغتر به الحاكم فأخرجه في «المستدرك على الصحيحين»، ولم يحالفه التوفيق إذ قال: (هذا حديث صحيح الإسناد، وإن كان الشيخان تركا حديث إسماعيل بن مسلم فإنه غريب صحيح وله شاهد صحيح على شرطهما جميعا في ضد هذا!)، وزلَّت القدم أيضاً بالذهبي في التلخيص فقال: صحيح غريب.
v وأما ما جاء أيضاً في «المعجم الكبير»: [حدثنا محمد بن يوسف التركي ثنا محمد بن الحسن بن سيار ثنا خالد العبد عن حسن عن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم قاله]، فهذا إسناد شر من سابقه، وهو في غاية السقوط، لأن خالد العبد هذا كان كذاباً يسرق الحديث، وهو قطعاً لم يسمع من الحسن شيئاً!
v أما ما جاء في «مصنف عبد الرزاق»، (ج: 10 ص: 181 وما بعدها): [أخبرنا عبد الرزاق عن إبراهيم عن عبد الله بن أبي بكر عن يزيد بن رومان أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بساحر فقال: «احبسوه: فإن مات صاحبه»]، فهذا مرسل، لا يحل الاحتجاج به، كما أن إبراهيم هذا لا يدري من هو لأن للإمام عبد الرزاق شيوخ عدة بهذا الإسم: فقد يكون إبراهيم بن عمر بن كيسان الصنعاني، وهذا صدوق لا بأس به أخرج له أحمد، أو إبراهيم بن ميمون الصنعاني وهذا ثقة أخرج له الترمذي، أو إبراهيم بن يزيد الأموي، أبو إسماعيل الخوزي، فهذا ساقط متروك، لا يحل الاستشهاد به، أو، وهو الأرجح، إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي، مختلف فيه أشد الاختلاف، وثقه الشافعي وابن الأصبهاني، وتحمَّله ابن عدي، وتركه أكثر المحدثين، والأرجح أنه متروك ساقط، فصار من المحتمل أن يكون إبراهيم هذا هو أحد الساقطين المتروكين، فيسقط الحديث كلية!
ولو صح فهو فقط في القصاص لأن الساحر المزعوم في القصة أمرض بسحره إنساناً حتى شارف الموت. فهذا في القصاص من القاتل، ولكن لم يمت المجني عليه بعد، فيحبس المعتدي الجاني حتى يموت المجني عليه أو يشفى، فينظر حينئذ في حاله بحسب النتيجة، ولعل هذا هو المقصود من جملة: «فإن مات صاحبه»، يعني: اقتدنا منه، وهذا ينطبق كذلك على من اعتدى بسيف، فما علاقة هذا بالسحر من حيث هو سحر محض؟!
وربما استدل المكفرون للساحر أيضاً بما روي عنه، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، أنه قال: «من تعلم شيئا من السحر قليلا أو كثيرا كان آخر عهده من الله»:
v كما جاء في «مصنف عبد الرزاق»، (ج: 10 ص: 181 وما بعدها): [أخبرنا عبد الرزاق عن إبراهيم عن صفوان بن سليم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تعلم شيئا من السحر قليلا أو كثيرا كان آخر عهده من الله»]
ولكن هذا إسناد مرسل منقطع لا يصح، فهو ساقط لا يحل الاستشهاد به، كما أن إبراهيم هذا من المحتمل، كما أسلفنا، أن يكون هو أحد الساقطين المتروكين، فيسقط الحديث كلية!
نعم: لو صح هذا لكان نصاً في المسألة، لأن لفظة: (كان آخر عهده من الله)، تعني تمام انقطاع الصلة بالله، وهذا لا يكون إلا بالكفر، لأن الفاسق الملي له بقية صلة بالله لوجود أصل الإيمان وإسم الإسلام!
ولا حجة لمكفري الساحر أو القائلين بقتله في قصة جندب الخير المشهورة التي يتداولها الناس:
v كما جاءت في «التاريخ الكبير» للإمام البخاري في ترجمة (جندب بن كعب، قاتل الساحر): [قال الأعمش عن إبراهيم أراه عن عبد الرحمن بن يزيد أن جندبا قتل الساحر زمن الوليد بن عقبة
ــ حدثنا إسحاق حدثنا خالد الواسطي عن خالد الحذاء عن أبي عثمان كان عند الوليد رجل يلعب فذبح إنسانا وأبان رأسه فعجبنا فأعاد رأسه فجاء جندب الأزدي فقتله
ــ حدثني عمرو بن محمد حدثنا هشيم عن خالد عن أبي عثمان عن جندب البجلي أنه قتله
ــ حدثنا موسى قال ثنا عبد الواحد عن عاصم عن أبي عثمان قتله جندب بن كعب]،
قلت: هذه كلها أسانيد صحاح، وكلام أبي عثمان النهدي يدل صراحة على أنه حضر الواقعة وشهدها، فلا شك أن جندب بن كعب الأزدي قتل الساحر زمن الوليد بن عقبة، وكان ذلك الساحر، فيما يرى الناس، يذبح إنساناً، ويفصل رأسه عن جسده، ثم يعيد الرأس مكانه!
v وجاءت القصة بمزيد تفاصيل في «مصنف عبد الرزاق»، (ج: 10 ص: 181 وما بعدها): [أخبرنا عبد الرزاق عن ابن جريج عن عمرو بن دينار قال سمعت بجالة التميمي قال: وأما شأن أبي بستان فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجندب جندب وما جندب يضرب ضربة يفرق بها بين الحق والباطل فإذا أبو بستان يلعب في أسفل الحصن ثم الوليد بن عقبة وهو أمير الكوفة والناس يحسبون أنه على سور القصر يعني وسط القصر فقال جندب: (ويلكم أيها الناس أما يلعب بكم، والله إنه لفي اسفل القصر، إنما هو في أسفل القصر!)، ثم انطلق واشتمل على السيف، ثم ضربه، فمنهم من يقول قتله، ومنهم من يقول لم يقتله، وذهب عنه السحر، فقال أبو بستان: (قد نفعني الله بضربتك!)، وسجنه الوليد بن عقبة وتنقص ابن أخيه أثية، وكان فارس العرب، حتى حمل على صاحب السجن فقتله وأخرجه، فذلك قوله:
أفي مضرب السحار يسجن جندب ويقتل أصحاب النبي الأوائل
فإن يك ظني بابن سلمى ورهطه هو الحق يطلق جندب أو يقاتل
فنال من عثمان في قصيدته هذه، فانطلق إلى أرض الروم، فلم يزل بها يقاتل حتى مات لعشر سنوات مضين من خلافة معاوية وكان معاوية يقول ما أحد بأعز علي من أثية نفاه عثمان فلا أستطيع أؤمنه ولا أرده]، وقال عبد الرزاق معقباً: (وأثية الذي قال الشعر وضرب أبا بستان)
قلت: إسناد عبد الرزاق إلى بجالة التميمي جيد (وإن كان ثمة خوف من عنعنة ابن جريج)، ولكن رواية بجالة التميمي لكلام النبي، صلى الله عليه وعلى اله وسلم عن جندب: «جندب وما جندب: يضرب ضربة يفرق بها بين الحق والباطل»، لا تصح لأنها مرسلة، وبجالة التميمي قطعاً ليست له صحبة، فلا يدرى من أين أخذه، والظاهر أنها كانت مما شاع على السنة الناس من الأقاصيص والروايات. وكذلك بقية القصة ليس فيها ما يدل على حضوره إياها، بل الأرجح أنه ما كان حاضراً، وإلا لعلم يقيناً هل مات الساحر من الضربة أم بقي بعدها فمثل هذا لا يتصور أن يخفى على من حضرها. وكذلك قصة خروج جندب من السجن تختلف جذرياً عن غيرها من الروايات، كما سيأتي قريباً.
v وجاءت القصة بسياق آخر في «الإصابة في تمييز الصحابة» خلال ترجمة (جندب الخير، وهو قاتل الساحر): [روى البيهقي في الدلائل من طريق بن وهب عن بن لهيعة عن أبي الأسود أن الوليد بن عقبة كان أميرا بالعراق وكان بين يديه ساحر يلعب فكان يضرب رأس الرجل ثم يصيح به فيقوم خارجا فيرتد فيه رأسه فقال الناس: (سبحان الله يحيي الموتى!)، ورآه رجل صالح من المهاجرين فنظر إليه فلما كان من الغد اشتمل على سيفه فذهب يلعب لعبه ذلك فاخترط الرجل سيفه فضرب عنقه وقال إن كان صادقا فليحي نفسه فأمر به الوليد فسجن وكان صاحب السجن يسمى دينارا وكان صالحا فأعجبه نحو الرجل فقال له انطلق لا يسألني الله عنك أبدا وسيأتي في ترجمة زيد بن صوحان له طريق أخرى من حديث بريدة وقال بن الكلبي اسم الساحر المذكور بستاني وفي الاستيعاب أبو بستان وقال صاعد اللغوي في الفصوص اسمه بطرونا]
قلت: وهذه قصة لا تثبت هكذا بكل تفاصيلها فأبي الأسود، محمد بن عبد الرحمن بن نوفل بن الأسود الأسدي القرشي، يتيم عروة، لم يعاصر تلك الأحداث، فالأرجح أنه أخذها من عروة بن الزبير، وحتى عروة كان طفلاً صغيراً عند وقوع الحادثة لأنه إنما ولد في أواخر أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وروايته عن علي بن أبي طالب، ومن مات قبله من الصحابة مرسلة، ولم يرحل إلى العراق في شبابه أصلاً. وعلى كل حال فعروة معروف بالتحقيق والتثبت. وإن صحت هذه القصة فهي تدل على أن الرجل الساحر كان يدعي إحياء الموتى، وبدأ الناس في تصديقه، فاجتهد جندب في إبطال ذلك المعتقد الخطير، لذلك قال: (إن كان صادقا فليحي نفسه)، فليست القضية ذات السحر، وإنما هو شيء آخر، لعله أفظع وأخطر!
v وقال أبو محمد في «المحلى»، (ج: 11 ص: 394 وما بعدها): [حدثنا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود نا أحمد بن جهيم نا إبراهيم بن حماد نا إسماعيل بن إسحاق نا الحجاج بن المنهال نا حماد بن سلمة عن سعيد الجريري عن أبي العلاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جانب عقبة ذات ليلة فنزل فجعل يرتجز ويقول: «جندب وما جندب، والأقطع الخبر الخبر»، فلما أصبح قال أصحابه يا رسول الله ما رأينا راجزا أحسن رجزا منك الليلة فما جندب والأقطع، قال: «أما جندب فرجل من أمتي يضرب ضربة يبعث بها أمة وحده يوم القيامة، وأما الأقطع فرجل تقطع يده فتدخل الجنة قبل جسده ببرهة من الدهر»، (فزعموا) أن الأقطع زيد بن صوحان قطعت يده يوم اليرموك قبل يوم الجمل مع علي، وأما جندب فهو الذي قتل الساحر؛
ــ وقال نا حماد بن سلمة نا أبو عمران هو الجوني أن ساحرا كان ثم الوليد بن عقبة فجعل يدخل في بقرة ثم يخرج منها فرآه جندب فذهب إلى بيته فالتفع على سيفه فلما دخل الساحر جوف البقرة ضربهما وقال: }أفتأتون السحر وأنتم تبصرون{، فاندفع الناس وتفرقوا وقالوا حروري فسجنه الوليد وكتب به إلى عثمان بن عفان فكان يفتح له بالليل فيذهب إلى أهله فإذا أصبح رجع إلى السجن، قال فيرون أن جندبا صاحب الضربة]، انتهى كلام أبي محمد.
قلت: الرواية الأولى عن أبي العلاء، وهو حيان بن عمير القيسي الجريري، مرسلة، لا يثبت بها أنه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ارتجز بالكلام المذكور: «جندب وما جندب، والأقطع الخبر الخبر». ولفظة (فزعموا) ليست في الأصل وإنما أضفناها حتى يستقيم الكلام، ولا ندري من القائل: أهو أبو العلاء أو من هو دونه.
وأما الرواية الثانية عن أبي عمران عبد الملك بن حبيب الجوني الأزدي فهي أشنع انقطاعاً، ومتنها منكر مخالف للروايات الصحيحة في نوع السحر، كما أن رائحة الكذب والوضع تفوح منها إذ أن لفظة «حروري» لم توجد في العالم، ولم يستخدمها أحد للتعبير عن الخوارج، كما هو المراد ها هنا، إلا في أواخر أيام علي بن أبي طالب، سلام الله عليه، بعد حادثة قتل جندب للساحر بسنوات طويلة!
v وكما هي في «الإصابة في تمييز الصحابة» خلال ترجمة (جندب الخير، وهو قاتل الساحر): [روى بن السكن من طريق يحيى بن كثير صاحب البصري حدثني أبي حدثنا الجريري عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال ساق رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بأصحابه فجعل يقول: «جندب، وما جندب!»، حتى أصبح فقال أصحابه لأبي بكر: (لقد لقظ بكلمتين ما ندري ما هما؟!)، فسأله، فقال: «يضرب ضربة فيكون أمة وحده». قال: فلما ولي عثمان ولي الوليد بن عقبة الكوفة فأجلس رجلا يسحر يريهم أنه يحيي ويميت فذكر قصة جندب في قتله وأن أمره رفع إلى عثمان فقال له: (أشهرت سيفا في الإسلام؟! لولا ما سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فيك لضربتك بأجود سيف بالمدينة وأمر به إلى جبل الدخان]
قلت: وهذه أيضاً لا تثبت على نحو تقوم به الحجة لأن يحيى بن كثير صاحب البصري، كالمجمع على ضعفه، وأبوه مجهول، فلا تصح الألفاظ المنسوبة إلى رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ويظهر فيها الكذب والتلفيق، فلو كان عثمان، رضي الله عنه، سمع مقالة النبي المزعومة في جندب لما وبخه أو نفاه. والظاهر أن أصل هذه الرواية هي رواية الجريري، كما هي عند ابن حزم، فسرقها يحيى بن كثير صاحب البصري، أو سرقها أبوه، وجعلها مرفوعة من طريق عبد الله بن بريدة عن أبيه.
فأنت ترى أن قصة قتل الساحر على يد جندب بن كعب الأزدي، سامحه الله، وهو نفسه في الأرجح ليس من الصحابة، لا يثبت منها إلا ما روى البخاري في التاريخ وهو: أنه قتل الساحر زمن الوليد بن عقبة، وكان ذلك الساحر، فيما يرى الناس، يذبح إنساناً، ويفصل رأسه عن جسده، ثم يعيد الرأس مكانه. ويحتمل أن الساحر كان يدعي أنه يحيي الموتى، أي أنه يقتل الناس حقيقة ثم يحييهم، فاستعظم جندب ذلك فقتله لإبطال هذا المعتقد الخطير، لا لمجرد السحر. ولعلك لاحظت أيضاً أن جميع الروايات للقصة، على عجرها وبجرها، لا تنسب إلى جندب تلك المقولة: (حد الساحر ضربة بالسيف).
ومهما بحثت ونقَّبت فإنك لن تجد للقائلين بكفر الساحر، ولا للقائلين بوجوب قتله، أو حتى جواز قتله حجة معتبرة.
أما مسألة كفر الساحر فقد حسمها أبو القاسم محمد بن عبد الله، رسول الله وخاتم النبيين، عليه وعلى اله صلوات وتسليمات وتبريكات من الله، عندما صنَّف السحر من الموبقات: «الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات» كما:
v أخرجه الإمام البخاري بأصح إسناد في «الجامع الصحيح المختصر»: [حدثنا عبد العزيز بن عبد الله قال حدثني سليمان بن بلال عن ثور بن زيد المدني عن أبي الغيث عن أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: «اجتنبوا السبع الموبقات!»، قالوا: (يا رسول الله: وما هن؟!)، قال: «الشرك بالله،والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات»]، وهو في «صحيح مسلم»، وفي «صحيح ابن حبان»، و«سنن أبي داود»، و«السنن الكبرى للنسائي»، و«سنن البيهقي الكبرى» من عدة طرق صحاح.
فثبت بدون شك ولا ريب أن السحر، وإن كان كبيرة موبقة، إلا أنه غير الشرك، تماماً كما أن أكل الربا غير الشرك. فسقط زعم القائلين بكفر الساحر من كل وجه، وانتهى أمره، وفرغ منه.
كما أن الأحاديث الصحيحة السابقة عن لبيد بن الأعصم، وكذلك المناقشة السابقة، أظهرت بدون إشكال أن قتل الساحر لا يجوز، لا حداً ولا تعزيراً. فسقط هذا أيضاً سقوطاً مدوياً. ولا ينفع القائلين به الاحتجاج بالساقط من القول، الذين يريدون به نصر تقليدهم المذهبي فيما صادم النصوص الشرعية، مثل قول القرطبي، سامحه الله: (لا حجة على مالك من هذه القصة لأن ترك قتل لبيد بن الأعصم كان لخشية أن يثير بسبب قتله فتنة أو لئلا ينفر الناس عن الدخول في الإسلام وهو من جنس ما راعاه النبي، صلى الله عليه وسلم، من منع قتل المنافقين حيث قال لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه).
فنقول:
أولاً: معاذ الله أن يمتنع نبي الله الخاتم عن قتل من يستحق القتل خوفاً من الفتنة، ولو سلمنا بهذا الهراء جدلاً فنحن أولى منه، وهو الذي عصمه الله من الناس، بخشية الفتنة أيضاً. على أنه، عليه وعلى اله صلوات وتسليمات وتبريكات من الله، إنما قال: «أما والله فقد شفاني، وأما أنا فأكره أن أثير على الناس شراً» رداً على مطالبة عائشة: (يا رسول الله: فهلا تنشرت!)، ونحن لا نعرف كيفية «النشرة» المعروفة عند العرب على وجه متيقن، ولكن الظاهر أنها تتضمن إظهار السحر للناس، وإتلافه أو حرقه أمامهم، وربما فضح الساحر علناً، وليس في الأحاديث الصحاح المذكورة ولا حرف واحد يفهم منها أن «النشرة» تتضمن قتل الساحر.
وثانياً: احتجاج «هواة القتل»، وهو احتجاج دائم مغلوط، بأن امتناع النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، عن قتل المنافقين إنما هو بعلة: (لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحاب، وأن ذلك ينفر الناس عن الدخول في الإسلام)، ونحوه، احتجاج باطل، لأن هذه حكمة وليست مناطاً أو علةً، والأحكام لا تدور مع حكمها وجوداً وعدماً. وحتى لو كانت علة فهي عليهم لا لهم، لأنها باقية إلى قيام الساعة بنحو من صورتها الأصلية: (لا يتحدث الناس أن أتباع محمد يقتل بعضهم بعضاً، وأن ذلك ينفر الناس عن الدخول في الإسلام).
والصحيح أن المنافقين لا يجوز قتلهم، وكذلك عموم الكافرين، وإنما القتل يكون فقط للكفار الحربيين، وللمحاربين من أهل الإسلام المفارقين للجماعة، والقتل قوداً، والزاني المحصن، لا غير. ولكن محل دراسة هذا في غير هذا المكان، وهو موضوع يحتاج إلى دراسة في غاية التمحيص والتدقيق، لا سيما لفظاعة ما تراكم عبر القرون من زلات العلماء المجتهدين، وأخطاء المتفقهين المقلدين، وتجاوزات الحكام الفجرة، وصنائعهم من فقهاء السلاطين. ولنا دراسة حول هذا الموضوع بعنوان: «حد الردة» نعالجها منذ سنوات، وقد قاربت على الانتهاء، ولكننا ما زلنا نراجع، وندقق حتى لا يفوتنا شيء مهما صغر، إن شاء الله تعالى.
u فصل: تحريم إتيان الكهان والعرافين والسحرة
v أخرج البخاري عن عائشة، رضي الله عنها، زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الملائكة تنزل في العنان (وهو السحاب) فتذكر الأمر قضي في السماء، فتسترق الشياطين السمع فتسمعه فتوحيه إلى الكهان فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم».
v وأخرج ابن ماجه بإسناد صحيح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قضى الله أمراً في السماء ضربت الملائكة أجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان فـ}إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير{ فيسمعها مسترقو السمع، بعضهم فوق بعض، فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها إلى الذي تحته، فيلقيها على لسان الكاهن أو الساحر، فربما لم يدرك حتى يلقيها، فيكذب معها مائة كذبة، فتصدق تلك الكلمة التي سمعت من السماء».
v وأخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناس عن الكهان، فقال: «ليسوا بشيء»، فقالوا: (يا رسول الله! إنهم يحدثونا أحيانا بشيء فيكون حقا؟!)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تلك الكلمة من الحق يخطفها من الجني فيقرها (أو: يقرقرها) في أذن وليه، قر (أو: قرقرة) الدجاجة، فيخلطون معها (أكثر من) مائة كذبة»، حديث صحيح، غاية في الصحة. وأخرج مثله مسلم، وأحمد، من طرق عدة، بأسانيد صحاح وحسان.
v وأخرج البخاري عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن). حديث صحيح أخرجه كذلك مسلم، وأحمد، والنسائي، وأبو داود، وابن ماجه، ومالك في الموطأ، والدارمي، والترمذي وقال: (وفي الباب عن رافع بن خديج، وأبي جحيفة، وأبي هريرة، وابن عباس. قال أبو عيسى: حديث أبي مسعود حديث حسن صحيح).
v كما أخرج النسائي، وأبو داود من طريق معروف بن سويد الجذامي أن علي بن رباح اللخمي حدثه أنه سمع أبا هريرة يقول قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يحل ثمن الكلب، ولا حلوان الكاهن، ولا مهر البغي»، معروف بن سويد الجذامي مقبول فقط، وليس بحجة إذا انفرد، ولكن يصح حديثه، ويصبح حجة، لاعتضاده بشهادة الحديث السابق، الذي هو بمعناه بالضبط!
v وتعاطي الكهانة من الكبائر على كل حال، كما أخرج أحمد عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة صاحب خمس: مدمن خمر، ولا مؤمن بسحر، ولا قاطع رحم، ولا كاهن، ولا منان»، فيه عطية بن سعد العوفي صدوق كثير الخطأ، ولكنه يعتضد بشواهده الكثيرة من الكتاب والسنة، لذلك أمنا غلط عطية!!
v وأخرج مسلم بأسانيد غاية في الصحة عن معاوية بن الحكم السلمي، رضي الله عنه، قال: [بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله! فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمّياه! ما شأنكم تنظرون إلي؟! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فلما رأيتهم يصمتونني، لكني سكت؛ فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه! فوالله ما كهرني، ولا ضربني، ولا شتمني، قال: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن»، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قلت: «يا رسول الله إني حديث عهد بجاهلية وقد جاء الله بالإسلام وإن منا رجالاً يأتون الكهان؟! قال: «فلا تأتهم!»، قال: ومنا رجال يتطيرون؟! قال: «ذاك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدنهم»، قال: قلت: ومنا رجال يخطُّون؟! قال: «كان نبي من الأنبياء يخط، فمن وافق خطه فذاك!»]. [قال: وكانت لي جارية ترعى غنما لي قِبَل أحد، والجوانية، فاطلعت ذات يوم فإذا الذيب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون، لكني صككتها صكة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظَّم ذلك علي، قلت: يا رسول الله، أفلا أعتقها؟! قال: «ائتني بها!»، فأتيته بها فقال لها: «أين الله؟!»، قالت: في السماء! قال: «من أنا؟!»، قالت: أنت رسول الله! قال: «أعتقها فإنها مؤمنة!»]. وأخرج مثله أحمد والنسائي وأبو داود بطوله ومختصراً بأسانيد غاية في الصحة.
v وعن عمران بن حصين، رضي الله عنه، أنه رأى رجلاً في عضده حلقة من صفر، فقال له: ما هذه؟! قال: نعت لي من الواهنة! قال: أما لو مت وهي عليك وكلت إليها! قال رسول الله: «ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن، أو سحر أو سحر له»، حديث صحيح، أخرجه الطبراني بإسناد جيد، والبزار بدون القصة، وله شواحد من حديث ابن عباس، وعلي بن أبي طالب، رضوان الله عليهم، ولصدره شواهد كثيرة، وصححه الألباني.
v وعن أبي الدرداء مرفوعا: «لن يلج الدرجات العلى من تكهَّن، أو تُكهِِّّن له، أو رجع من سفره تطيراً»، رواه تمام في الفوائد بإسناد جيد، والطبراني بإسنادين، رواة أحدهما ثقات، وصححه الألباني.
v وأخرج مسلم، وأحمد بأسانيد غاية في الصحة عن بعض أزواج النبي، صلى الله عليه وسلم، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: «من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة». هذه العقوبة الجسيمة على مجرد الإتيان، حتى ولو كان من باب الفضول، وحب الاستطلاع، أما تصديقهم فهو أشنع وأغلظ، كما سيأتي:
v عن أبي هريرة، رضي الله عنه قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم،: «من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه فيما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد (صلى الله عليه وعلى آله وسلم)». أخرجه ابن ماجه والدارمي بإسناد ضعيف، وكذلك أحمد بأسانيد ضعاف، يشد بعضها بعضاً، وبإسناد صحيح عن الحسن البصري مرسلاً. ولكن العمدة ما أخرجه الإمام الحاكم، وقال: (هذا حديث صحيح على شرطهما جميعاً من حديث ابن سيرين ولم يخرجاه)، ووافقه الذهبي، وهو كذلك بلا شك!
قوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «فقد كفر بما أنزل على محمد»، هو على ظاهره يعني الكفر الأكبر المخرج من الملة، فلا يتصور من مسلم أن يصدقهم، بعد أن بلغته الحجة والبينة، أنهم كذابون أفاكون، لا يتصور ذلك إلا بالكفر بما أنزل على محمد، صلى الله عليه وعلى آله وسلم،! بل الواجب على المسلم أن يتدين بتكذيبهم، وذمهم، والسخرية منهم، والتشنيع عليهم، وشجب من يأتيهم حتى ولو صدقوا مرة واحدة في المائة!
الكاهن: هو الذي يخبر الناس عن أشياء غيبية لم تقع بعد، وكذا الذين يخبرون عما في الضمير، وما في نفوس الناس؛
والعراف: هو الذي يعرف الناس بموضع الضالة، أو السرقة وغيرهما مما قد وقع وخفي على الناس أمره، فيأتون إلى هذا العراف فيخبرهم بموضع السحر أو الضالة أو السرقة أو اسم السارق أو الساحر أو غير ذلك من الأمور التي قد وقعت وخفيت عليهم!
وقد علمنا أن أكثر ما يدعيه الصنفان كذب وتدجيل، لأكل أموال الناس بالباطل. فهم لا يصيبون الحق إلا نادراً (مرة واحدة في المائة مرة تقريباً، أو حتى أقل)، فالصدفة المحضة، والبخت، والقرعة أصدق من ذلك!
ولكنهم يستغلون جهل العامة، وحاجتهم، لأكل أموالهم بالباطل. فإتيانهم قبيح عقلاً، وكذلك جاء الشرع بتحريم إتيانهم، وأن الله لا يقبل ممن أتاهم ليسألهم عن أي شيء صلاة أربعين ليلة، عقوبة ما اقترفه من جريمة إتيانه الكهان أو العرافين، وأما تصديقهم فهو أقبح وأشنع، نعوذ بالله من سخف العقل، ومن التخريف، ومن الضلال بعد الهدى.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق