وجوب التوكل على الله، والثقة به وحده

بــــــــاب
وجوب التوكل على الله، والثقة به وحده

v قال تعالى آمرا المؤمنين بالتوكل عليه: }إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون{، (آل عمران؛ 3:122).
v وقال تعالى: }وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين{، (المائدة؛ 5:23).
v وقال تعالى: }يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون{، (المائدة؛ 5:11).
v وقال تعالى: }قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون{، (التوبة؛ 9:51).
v وقال تعالى: }وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون{، (يوسف؛ 12:67).
وقال تعالى: }قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم، ولكن الله يمن على من يشاء من عباده، وما كان لنا أن نأتيكم بسلطانٍ إلا بإذن الله، وعلى الله فليتوكل المؤمنون v وما لنآ ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا؟! ولنصبرن على ما آذيتمونا، وعلى الله فليتوكل المتوكلون{، (ابراهيم؛ 14:11ــ12).
v وقال تعالى: }وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا{، (الإسراء؛ 17:2).
v وقال تعالى: }إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون{، (المجادلة؛ 58:10).
v وقال تعالى: }الله لا إله إلا هو وعلى الله فليتوكل المؤمنون{، (التغابن؛ 64:13).
v وقال تعالى آمراً نبيه بالتوكل عليه، وهو أمر لأمته من باب أولى، وهم لذلك أحوج: }فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين v إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكلالمؤمنون{، (آل عمران؛ 3:159-160).
v وقال تعالى: }ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا{، (النساء؛ 4:81).
v وقال تعالى: }وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم{، (الأنفال؛ 8:61).
v وقال تعالى: }ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون{، (هود؛ 11:123).
v قال تعالى: }فتوكل على الله! إنك على الحق المبين{، (النمل؛ 27:91).
v وقال تعالى: }وتوكل على العزيز الرحيم v الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين، إنه هو السميع العليم{، (الشعراء؛ 26:22).
v وقال تعالى: }وتوكل على العزيز الرحيم{، (الشعراء؛ 26:217).
v وقال تعالى: }فتوكل على الله إنك على الحق المبين{، (النمل؛ 27:79).
v وقال تعالى: }وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا{، (الأحزاب؛ 33:3)
v وقال تعالى: }ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا{، (الأحزاب؛ 33:48).
v وقال تعالى: }رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا{، (المزمل؛ 73:9).
v وقال تعالى: }وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا{، (الفرقان؛ 25:58).
ــ لا إسلام، ولا إيمان، لمن لا توكل عنده:
v وقال تعالى جاعلاً الإيمان والتوكل متلازمين، فإذا انتفى الازم انتفى الملزوم: }قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين{، (المائدة؛ 5:23).
v وقال تعالى: }وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا! إن كنتم مسلمين v فقالوا على الله توكلنا، ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين v ونجنا برحمتك من القوم الكافرين{، (يونس؛ 10:84ــ86).
ــ الله هو نعم الوكيل، وهو الكفاية لمن توكل عليه:
v وقال تعالى: }الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل{، (آل عمران؛ 3:173).
v وقال تعالى: }ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا{، (النساء؛ 4:132).
v وقال تعالى: }ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا{، (النساء؛ 4:81).
v وقال تعالى: }ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا{، (النساء؛ 4:171).
v وقال تعالى: }ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل{، (الأنعام؛ 6:102).
v وقال تعالى: }فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل{، (هود؛ 11:12).
v وقال تعالى: }قال لن أرسله معكم حتى تؤتوني موثقا من الله لتأتونني به إلا أن يحاط بكم فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل{، (يوسف؛ 12:65).
v وقال تعالى: }إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا{، (الإسراء؛ 17:65).
v وقال تعالى: }قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل{، (القصص؛ 28:28).
v وقال تعالى: }ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل: حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون{، (الزمر؛ 39:38).
v وقال تعالى: }الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل{، (الزمر؛ 39:73).
v وقال تعالى: }ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا{، (الطلاق؛ 65:3).
فالإيمان والإسلام متلازمان مع التوكل، فمن انعدم عنده التوكل بالكلية، ذهب منه الإيمان بالكلية، وهو مشرك كافر لا محالة، ومن ضعف توكله: ضعف إيمانه، وكلما كمل التوكل وقوي، كان الإيمان أقوى وأرسخ!
ــ والله يثني على النبيين والمؤمنين بتوكلهم:
v قال تعالى: }قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين{، (الأعراف؛ 7:89).
v وقال تعالى: }إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون{، (الأنفال؛ 8:2)
v وقال تعالى: }إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم، ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم{، (الأنفال؛ 8:49).
v وقال تعالى: }فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم{، (التوبة؛ 9:129).
v وقال تعالى: }واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون{، (يونس؛ 10:71).
v وقال تعالى: }فقالوا: على الله توكلنا، ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين{، (يونس؛ 10:85).
v وقال تعالى مخبراً عن قول رسوله هود، صلوات الله وسلامه عليه: }إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم{، (هود؛ 11:56).
v وقال تعالى حاكياً عن نبيه شعيب، صلوات الله وسلامه عليه: }قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب{، (هود؛ 11:88).
v وقال تعالى: }كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمان قل: هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب{، (الرعد؛ 13:30).
v وقال تعالى: }الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون{، (النحل؛ 16:42)
v وقال تعالى: }إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون{، (النحل؛ 9916).
v وقال تعالى: }الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون{، (العنكبوت؛ 29:59).
v وقال تعالى: }وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب{، (الشورى؛ 42:10)
v وقال تعالى: }فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون{، (الشورى؛ 42:36).
v وقال تعالى: }قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير{، (الممتحنة؛ 60:4).
v وقال تعالى: }قل هو الرحمان آمنا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين{، (الملك؛ 67:29).
v وقال، تقدست أسماؤه: }يا أيها النبي، حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين{، (الأنفال؛ 8:64). أي حسبك الله، وهو، أي الله، كذلك حسب من اتبعك من المؤمنين. أما من ظن أن معناها: حسبك الله، وحسبك المؤمنين فقد غلط غلطاً فاحشاً، لعدم ملاحظته ما يماثلها من الآيات، مثل قوله، جل وعز، قبل آيتين من السورة نفسها: }وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله: هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين{، (الأنفال؛ 8:62)، ففرق بين الحسب، فجعله لنفسه العظيمة المقدسة وحدها، وجعل التأييد بالنصر من عنده، والتأييد بعباده المؤمنين بتوفيقه ومنِّه. وكذلك في قوله: }وقالوا حسبنا الله، سيؤتينا الله من فضله، ورسوله، إنا إلى الله راغبون{، (التوبة؛ 9:59)، فجعل الحسب لله وحده، أما الإيتاء فهو من الله ورسوله، ثم كانت الرغبة، قبل ذلك وبعده، إلى الله وحده، لا شريك له، كالحسب، والتوكل، والإنابة، والعبادة، والسجود، وغيره!
v وعن ابن عباس قال: }حسبنا الله ونعم الوكيل{ قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقى في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له: }إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا{. حسبنا الله: يعني يكفينا الله، فلا نتكل إلا عليه، ولا نثق إلا به. قالها الخليلان، إبراهيم ومحمد، صلوات الله وسلامه وتبريكاته عليهما وعلى آلهما، في الأزمات والشدائد، وقالها، وما زال يقولها المؤمنون الصادقون عند كل بأس وشدة.
v قال أحمد: [حدثنا سريج حدثنا هشيم أخبرنا حصين بن عبد الرحمن قال: كنت عند سعيد بن جبير قال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟! قلت: أنا! ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة، ولكني لدغت! قال: وكيف فعلت؟! قلت: استرقيت! قال: وما حملك على ذلك؟! قلت: حديث حدثناه الشعبي عن بريدة الأسلمي أنه قال: لا رقية إلا من عين أو حمة! فقال سعيد (يعني ابن جبير): قد أحسن من انتهى إلى ما سمع. ثم قال: حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عرضت علي الأمم: فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل، والنبي وليس معه أحد. إذ رفع لي سواد عظيم فقلت هذه أمتي؟! فقيل: هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق، فإذا سواد عظيم، ثم قيل انظر إلى هذا الجانب الآخر، فإذا سواد عظيم، فقيل هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب»؛ ثم نهض النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل، فخاض القوم في ذلك فقالوا: (من هؤلاء الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب؟!)، فقال بعضهم: (لعلهم الذين صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم!)، وقال بعضهم: (لعلهم الذين ولدوا في الإسلام، ولم يشركوا بالله شيئا قط!)، وذكروا أشياء، فخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ما هذا الذي كنتم تخوضون فيه؟!»، فأخبروه بمقالتهم، فقال: «هم الذين لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون». فقام عكاشة بن محصن الأسدي فقال: (أنا منهم يا رسول الله؟!)، فقال: «أنت منهم!»، ثم قام الآخر فقال: (أنا منهم يا رسول الله؟!)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبقك بها عكاشة!»؛ وحدثنا شجاع حدثنا هشيم مثله]. هذا حديث صحيح، غاية في الصحة، أخرجه البخاري، والنسائي في «الكبرى»، والترمذي باختصار يسير، وقال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح وفي الباب عن ابن مسعود وأبي هريرة)، وكذلك ابن حبان في صحيحه، وأخرجه مسلم باختصار كبير، كلهم بأسانيد صحاح عن عبد الله بن العباس، رضي الله عنهما.
v وقال أحمد: حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن قتادة عن الحسن عن عمران بن حصين عن ابن مسعود قال أكثرنا الحديث عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ثم غدونا إليه فقال: «عرضت علي الأنبياء الليلة بأممها فجعل النبي يمر ومعه الثلاثة، والنبي ومعه العصابة، والنبي ومعه النفر، والنبي ليس معه أحد، حتى مر علي موسى معه كبكبة من بني إسرائيل فأعجبوني فقلت: من هؤلاء؟! فقيل لي: هذا أخوك موسى معه بنو إسرائيل! قال: قلت: فأين أمتي؟! فقيل لي انظر عن يمينك! فنظرت فإذا الظراب قد سد بوجوه الرجال، ثم قيل لي: انظر عن يسارك! فنظرت فإذا الأفق قد سد بوجوه الرجال، فقيل لي: أرضيت؟! فقلت رضيت يا رب، رضيت يا رب! قال: فقيل لي: إن مع هؤلاء سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب!»؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فدا لكم أبي وأمي: إن استطعتم أن تكونوا من السبعين الألف فافعلوا، فإن قصرتم فكونوا من أهل الظراب، فإن قصرتم فكونوا من أهل الأفق! فإني قد رأيت ثم ناسا يتهاوشون»؛ فقام عكاشة بن محصن فقال: (ادع الله لي يا رسول الله أن يجعلني من السبعين!)، فدعا له، فقام رجل آخر فقال: (ادع الله يا رسول الله أن يجعلني منهم؟!)، فقال: «قد سبقك بها عكاشة»، قال: ثم تحدثنا فقلنا: من ترون هؤلاء السبعون الألف؟! قوم ولدوا في الإسلام لم يشركوا بالله شيئا حتى ماتوا؟! فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون». هذا كذلك حديث صحيح، غاية في الصحة، وأخرجه أحمد كذلك من طرق صحاح وحسان مطولاً ومختصراً عن ابن مسعود، رضي الله عنه، كما أخرجه البخاري في «الأدب المفرد»، وابن حبان في صحيحه، كل بإسناد صحيح. كما أخرجه ابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني»، والحاكم في المستدرك وصححه، ووافقه الذهبي، والطبراني في «الكبير» مطولاً ومختصراً، وفي «الأوسط» مختصراً، وابن حبان في صحيحه، وأبو داود الطيالسي، وأبو يعلى، أكثرهم عن ابن مسعود، وبعضهم عن عمران بن حصين مرفوعاً.
v وأخرج البخاري: بإسانيد صحاح عن ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يتهجد قال: «اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت الحق ووعدك حق وقولك حق ولقاؤك حق والجنة حق والنار حق والساعة حق والنبيون حق ومحمد حق اللهم لك أسلمت وعليك توكلت وبك آمنت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت»، أو «لا إله غيرك»، وأخرج مثله الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وأحمد بأسانيد صحاح.
v وأخرج مسلم بإسناد صحيح عن ابن عباس أن رسول الله صلى اللهم عليه وسلم كان يقول: «اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني أنت الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون»، وأخرج مثله أحمد بإسناد صحيح.
v وأخرج الترمذي بإسناد صحيح عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطيرة من الشرك»، (وما منا، ...، ولكن الله يذهبه بالتوكل). قال أبو عيسى: وفي الباب عن أبي هريرة وحابس التميمي وعائشة وابن عمر وسعد وهذا حديث حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديث سلمة بن كهيل وروى شعبة أيضا عن سلمة هذا الحديث، سمعت محمد بن إسمعيل يقول: كان سليمان بن حرب يقول في هذا الحديث: (وما منا، ...، ولكن الله يذهبه بالتوكل) قال سليمان (بن حرب): هذا عندي قول عبد الله بن مسعود!
وأخرج مثله النسائي، وأبو داود، وابن ماجه، وأحمد بأسانيد غاية في الصحة!
v كما أخرج الترمذي عن المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من اكتوى، أو استرقى فقد برئ من التوكل»، قال أبو عيسى وفي الباب عن ابن مسعود وابن عباس وعمران بن حصين. قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح، وهو كما قال، بل هو في الصحة غاية، وأخرج مثله ابن ماجه وأحمد بأسانيد غاية في الصحة!
v وأخرج الترمذي بإسناد صحيح عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أنكم كنتم توكلون على الله حق توكله لرزقتم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا!»، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وأخرج نحوه ابن ماجه، وأحمد بأسانيد صحاح!
v وروى الترمذي عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن واستمع الإذن متى يؤمر بالنفخ فينفخ»، فكأن ذلك ثقل على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: «قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا». قال أبو عيسى هذا حديث حسن وقد روي من غير وجه هذا الحديث عن عطية عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. وأخرج أحمد مثله بأسانيد لا بأس بها!
v وأخرج الترمذي بإسناد صحيح عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال (يعني إذا خرج من بيته) بسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له كفيت ووقيت وتنحى عنه الشيطان»، قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. ورواه أبو داود بإسناد صحيح بلفظ: «إذا خرج الرجل من بيته فقال بسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله قال يقال حينئذ هديت وكفيت ووقيت فتتنحى له الشياطين فيقول له شيطان آخر كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي؟!».
v كما أخرج الترمذي بإسناد صحيح عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من بيته قال: «بسم الله، توكلت على الله، اللهم إنا نعوذ بك من أن نزل أو نضل أو نظلم أو نظلم أو نجهل أو يجهل علينا!»، قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح، وهو كما قال، وأخرج مثله أحمد، والدارمي بأسانيد صحاح!
v وأخرج النسائي بإسناد صحيح عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع قال: «اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، وعليك توكلت! أنت ربي خشع سمعي وبصري ودمي ولحمي وعظمي وعصبي لله رب العالمين».
v وأخرج أبو داود بإسناد صحيح عن أبي الدرداء، رضي الله عنه، مرفوعاً: «من قال إذا أصبح وإذا أمسى: حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم، سبع مرات، كفاه الله ما أهمه صادقا كان بها أو كاذبا».
v وأخرج أحمد بإسانيد صحاح عن أبي قلابة قال رأيت رجلا بالمدينة وقد طاف الناس به وهو يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال فسمعته وهو يقول: «إن من بعدكم الكذاب المضل، وإن رأسه من بعده حبك حبك حبك (ثلاث مرات)، وإنه سيقول أنا ربكم، فمن قال: لست ربنا! لكن ربنا الله، عليه توكلنا، وإليه أنبنا، نعوذ بالله من شرِّك، لم يكن له عليه سلطان»، الصحابي هو هشام بن عامر، رضي الله عنه، كما جاء من طرق أخرى صحاح، وفي رواية أخرى صحيحة: «فمن قال: أنت ربي افتتن، ومن قال: كذبت، ربي الله، عليه توكلت! فلا يضره، أو قال فلا فتنة عليه».
v وأخرج أبو داود بإسناد حسن عن أبي مالك الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا ولج الرجل بيته فليقل اللهم إني أسألك خير المولج وخير المخرج بسم الله ولجنا، وبسم الله خرجنا، وعلى الله ربنا توكلنا، ثم ليسلم على أهله».
v وعن عمرو بن أمية الضمري قال: قال رجل للنبي، صلى الله عليه وسلم: (أرسل ناقتي وأتوكل؟!)، قال: «اعقلها وتوكل!». هذا حديث صحيح، أخرجه ابن حبان في صحيحه، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» بإسناد حسن، والترمذي من طريق ثانية عن أنس، رضي الله عنه، بنحوه، وقد أثبتنا صحته في الملحق.
وحقيقة التوكل على الله: أن يعلم العبد علمًا يقينيًا أن الأمر كله لله، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه هو وحده النافع الضار المعطى المانع، وأنه لا حول ولا قوة إلا بالله. وهو الذي خلق الكون، ونظمه بنظام معين، وقدره بمقادير مخصوصة. فيعتمد بقلبه على الله في كل شؤونه، ويثق بربه غاية الثقة. وهو مع ذلك يأخذ بالأسباب التي ثبتت بالشرع، أو بالحس والعقل، لأنه يعلم أن الله هو الذي خلقها وقدرها وجعلها أسباباً لا تفعل ولا تؤثر، إلا بعلم الله، وتقديره، وإذنه. كما أنه يعلم أن الأخذ بالأسباب واجب شرعًا وأن تركها إثم لا علاقة له بالتوكل، بل هو معصية، وتواكل، وعجز وتكاسل، نعوذ بالله من العجز والكسل.
u فصل: في الرقي والتمائم
v عن عقبة بن عامر ــ رضى الله عنه ــ أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أقبل إليه رهط فبايع تسعة، وأمسك عن واحد، فقالوا: يا رسول الله بايعت تسعة، وتركت هذا؟! قال : «إن عليه تميمة»، فأدخل يده فقطعها، فبايعه، وقال: «من علق تميمة فقد أشرك» أخرجه أحمد بإسناد صحيح، وله طرق وألفاظ أخرى..
v وعن عباد بن تميم أن أبا بشير قيس بن عبيد الأنصاري رضي الله عنه أخبره أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في بعض أسفاره قال: فأرسل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم رسولاً: «لا تبقينَّ في رقبة بعير قلادة من وتر، أو قلادة إلا قطعت» حديث صحيح، غاية في الصحة، أخرجه البخاري ومسلم، و،أبو داود، وأحمد، ومالك في «الموطأ».
v عن رويفع بن ثابت ــ رضي الله عنه ــ أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «يارويفع: لعل الحياة ستطول بك بعدي، فأخبر الناس أنه من عقّد لحيته، أو تقلَّد وتراً، أو استنجى برجيع دابة أو عظم، فإن محمداً برىء منه» حديث صحيح أخرجه النسائي، وأبو داود، وأحمد. كما أخرج أبو داود مثله بإسناد صحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
v عن عمران بن حصين رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً في يده حلقه من صفر، فقال: «ما هذه؟» قال: (من الواهنة)، فقال: «انزعها! فإنها لا تزيدك إلا وهنا، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً»، حديث صحيح، رواه أحمد بسند لا بأس به. وأخرج الحاكم مثله بإسناد صحيح، ووافقه الذهبي.
v وعن عمران بن حصين، رضي الله عنه، أنه رأى رجلاً في عضده حلقة من صفر، فقال له: ما هذه؟! قال: نعت لي من الواهنة! قال: أما لو مت وهي عليك وكلت إليها! قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن، أو سحر أو سحر له»، حديث صحيح، أخرجه الطبراني بإسناد جيد، والبزار بدون القصة، وله شواحد من حديث ابن عباس، وعلي بن أبي طالب، رضوان الله عليهم، ولصدره شواهد كثيرة، وصححه الألباني.
v ولأحمد عن عقبة بن عامر مرفوعاً: «من تعلق تميمة، فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة، فلا ودع الله له»، وفي رواية: «من تعلق تميمة فقد أشرك»، حديث صحيح، أخرج مثله الحاكم في « المستدرك»، وصححه، ووافقه الذهبي.
v وعن عيسى بن أبي ليلى قال: دخلت على أبي معبد عبد الله بن عُكَيم الجهني، وبه شئ، فقلت: ألا تعلق شيئاً؟ فقال: الموت أقرب من ذلك! قال رسول الله: «من تعلَّق شيئاً وكل إليه!»، أخرجه الترمذي، وأحمد، والحاكم.
v وأخرج ابن أبي حاتم، بإسناد غاية في الصحة، فقال: حدثنا محمد بن الحسين بن إبراهيم بن إشكاب، حدثنا يونس بن محمد، حدثنا حماد بن سلمة، عن عاصم الأحول، عن عروة قال: [دخل حذيفة على مريض فرأي في عضده سيراً (من الحمَّى) فقطعه (أو انتزعه)، وتلا قوله تعالى: }وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون{]
v وعن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الرقى والتمائم والتولة شرك» رواه أحمد وأبو داود، وابن ماجه، وابن حبان، وله طرق متعددة أخرج الحاكم منها عدة طرق لقصة جاء فيها: (دخل عبد الله بن مسعود على امرأة من نسائه فرأى عليها خرزاً من الحمرة، فقطعه قطعاً عنيفاً، ثم قال: إن آل عبد الله عن الشرك أغنياء، وقال: كان مما حفظنا عن النبي: فذكره)، وقال الحاكم: (صحيح الإسناد)، ووافقه الذهبي، وقال الألباني: (هو كما قالا).
v وروى وكيع بإسناده عن سعيد بن جبير قال: «من قطع تميمة من انسان كان كعدل رقبة»، ومثل هذا لا يقال بالاجتهاد على هذا النحو، فلعله بلغ سعيداً عن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
«الرقى»: هى التي تسمى العزائم، وقد رخص رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فيها من العين، والحمة، وغير ذلك، إذا كانت بالقرآن، أو الأدعية المشروعة، فهى إذن لا بأس بها، إذا خلت من الشرك، وذلك في أحاديث صحاح عدة أكثرها في صحيح البخاري، ومنها شئ في مسلم وغيره مثل ما أخرج ابن وهب في «الجامع»، وعنه الإمام مسلم في صحيحه، عن عوف بن مالك الأشجعي قال: كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله! كيف ترى في ذلك؟! فقال: «اعرضوا علي رقاكم! لا بأس بالرقى ما لم تكن شركاً».
«التمائم»: شيء يعلق على الأولاد يتقون به العين، لكن إذا كان المعلق من القرآن فرخص فيه بعض السلف، وبعضهم لم يرخص فيه وجعله من المنهي عنه، ومنهم ابن مسعود رضي الله عنه، وروى وكيع عن ابراهيم النخعي أنه قال: كانوا ــ يعنى أصحاب ابن مسعود ــ يكرهون التمائم كلها من القرآن، وغيرالقرآن، وهذا هو الحق، إذ لو كانت التمائم من القرآن جائزة مستثناة من النهي عن عموم جنسها، حيث قال: «من تعلق تميمة، فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة، فلا ودع الله له»، وقال: «من تعلَّق شيئاً وكل إليه!»، فلو كانت التمائم من القرآن مستثناة من عموم النهي لنص، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، عليها، كما فعل بالرقى، وليس قول أحد بعد رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، حجة!
«التولة»: هى شىء يصنعونه، يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها والرجل إلى امرأته، وأكثره حيل وشعوذة، واستغفالاً للعامة، وأكلاً لأموالهم بالباطل، وأقل القليل قد يكون سحراً بحق، أو مما تعلمه بعض الناس من هاروت وماروت، وهو في الحقيقة يضر ولا ينفع، ولا يحقق المقصود، فضلاً عن كونه جرماً فظيعاً، وإثما كبيراً، يخشى أن يكون محبطاً لعمل فاعله، مؤدياً لخسارة الآخرة، والعياذ بالله تعالى!
يؤخذ من هذه الأحاديث تحريم تعليق الحروز والتمائم وسواء كان تعليقها على إنسان، أو حيوان، أو سيارة، أو بيت، أو دكان، أو شجرة، أو غير ذلك، وسواء كان هذا المعلق عظما، أو قرنا، أو نعلا، أو شعراً، أو حلتيتاً، أو وتراً، أو حديداً، أو صفراً، أو تميمةً، أو حدوة فرسٍ، أو غير ذلك. إذ الكل منافي للتوكل على الله: إذ أنه اعتماد على غير الله، وركون إلى غير الله، واعتقاد في غير الله، والتفات إلى غير الله، ووثوق بغير الله، وهذا شرك بالله! كما في هذا الحديث النبوى الشريف: «من علق تميمة فقد أشرك»، فكل هذه الأعمال شرك عملى، إلا إذا اعتقد حاملها أنها الدافعة الرافعة بذاتها فهذا يكون شركًا اعتقاديا يخرج عن الملة.
أما إذا اعتقد أن الله هو الدافع الرافع وحده لا شريك له، ولكنه اعتبرها سببًا يدفع به البلاء، فقد خرَّف، وكذب على الشرع، وقال على الله بغير علم. فقد ثبت بالحس والعقل أنها ليست سببًا، خلافًا للأدوية والعقاقير مثلاً، فلم يبقى إلا الزعم أن الوحى دل على ذلك، ولكنه في الحقيقة لم يدل على ذلك، بل دل على عكس ذلك: فهذا إذن كذب على الشرع، وقول على الله بغير علم، حرمه الله أشد التحريم!
وهذه الأعمال كلها تستند في جميع الأحوال على الخرافة والوهم، وتنتشر في أجواء الفكر الهابط السخيف الذي لا يليق بالمسلم الذي كرمه الله بالإسلام، وميزه بالعقل والتفكير، والعلم والإيمان، بل ولا يليق بعقلاء البشر من المسلمين، وغيرهم.
u فصل: التطير والتشاؤم والفأل
v قال تعالى: }ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون{، (الأعراف؛ 7:131)
v وقال تعالى: }قالوا طائركم معكم{، (يس؛ 10:19).
v وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: «لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر، وفِرَّ من الجذوم كما تفر من الأسد» أخرجه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم، قال: قال عفان حدثنا سليم بن حيان حدثنا سعيد بن مينا قال سمعت أبا هريرة يقول قال رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فساقه. وإسناد حديث عفان هذا صحيح، لا شك في صحته. وقد سمع البخاري من عفان نفسه شيئاً قليلاً، وروي عنه بواسطة كل من صاعقة (وهو محمد بن عبد الرحيم بن أبي زهير)، وإسحاق بن منصور بن بهرام، والذهلي (وهو محمد بن يحيى بن عبد الله)، وأبي قدامة (وهو عبيد الله بن سعيد بن يحيى) وكلهم أئمة ثقات أثبات، كما علَّق عنه بصيغة الجزم في عدة مواضع، ومتابعات، فالحديث صحيح ولا شك!
v أخرج ابن خزيمة في كتاب «التوكل» من حديث عائشة، مرفوعاً: «لا عدوى، وإذا رأيت المجذوم، ففر منه كما تفر من الأسد».
v وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: «لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر» أخرجاه، وزاد مسلم: «ولا نوء، ولا غول».، وأخرج مثله آبو داود وغيره من أهل السنن والمسانيد.
v وأخرج مسلم، وأحمد بأسانيد صحاح عن جابر بن عبد الله، رضي الله عنه، مرفوعاً: «لا عدوى، ولا طيرة، ولا صفر، ولا غول».
v وعن عبد الله بن عباس مرفوعاً: «لا عدوى، ولا طيرة، ولا صفر، ولا هام»، حديث حسن، أخرجه ابن ماجه، وأحمد، وغيرهما.
v وعن السائب بن يزيد مرفوعاً: «لا عدوى، ولا صفر، ولا هامة»، أخرجه أحمد بإسناد غاية في الصحة.
v كما ثبت مثل ذلك، أي «لا عدوى ولا طيرة»، عن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، مرفوعاً.
v وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لاعدوى، ولا طيرة، ويعجبنى الفأل»، قالوا: وما الفأل؟ قال: «الكلمة الطيبة (أو الحسنة)». وجاء في بعض طرقه بلفظ: «ويعجبني الفأل الصالح»، أو «وأحب الفأل الصالح»، حديث صحيح، أخرجه الشيخان، وأخرجه كذلك أبو داود، والترمذي، وقال: حسن صحيح!
v ولهما عن أبي هريرة قالك سمعت النبي، صلى الله عليه وسلم، يقول: «لا طيرة، وخيرها الفأل». قالوا: وما الفأل؟! قال: «كلمة صالحة، يسمعها أحدكم»، حديث صحيح متفق على صحته، كما أخرجه البخاري في «الأدب المفرد».
v وأخرج مسلم بإسناد غاية في الصحة عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى، ولا هامة، ولا طيرة، وأحب الفأل الصالح».
v ولأبي داود، بسند صحيح، عن عقبة بن عامر قال ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: «أحسنها الفأل، ولا ترد مسلمًا، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولايدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك».
v وله من حديث ابن مسعود مرفوعًا: «الطيرة شرك، الطيرة شرك»، (وما منا إلا ...، ولكن الله يذهبه بالتوكل)، ورواه كذلك الترمذى وصححه، ولكنه جعل آخره مندرجاً من كلام ابن مسعود أي من قوله: (وما منا إلا ..)، وهو الحق الصحيح إن شاء الله تعالى!
v ولأحمد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: «من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك»، قالوا: فما كفارة ذلك؟ قال: «أن تقولوا: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك»، هذا حديث حسن.
v وعن معاوية بن الحكم السلمي ــ رضي الله عنه ــ قال :قلت يا رسول الله! إني حديث عهد بجاهلية، وقد جاء الله بالإسلام، وإن منا رجالاً يأتون الكهان؟! قال: «فلا تأتوا الكهان»، قال: قلت ومنا رجال يطيرون، قال: «ذاك شىء يجدونه في صدورهم، فلا يصدنهم»، وهو جزء من حديث طويل صحيح، غاية في الصحة، أخرجه مسلم، وغيره، وسبق ذكره كاملاً في موضعه من هذه الرسالة.
v وأخرج ابن السني في «عمل اليوم والليلة» بإسناد صحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعاً: «من ردته الطيرة فقد قارف الشرك»، قالوا: (وما كفارة ذلك يا رسول الله؟!)، قال: «يقول أحدهم: اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، رلا إله غيرك». وأخرجه ابن وهب في «الجامع» بأسانيد، بعضها صحيح، مختصراً. كما أخرجه أحمد والطبراني بأسانيد حسان، ذكرنا بعض أافاظها آنفاً.
v وعن فضالة بن عبيد الأنصاري، رضي الله عنه، قال: (من ردته الطيرة فقد قارف الشرك)، هذا أثر صحيح، أخرجه ابن وهب في «الجامع» بأسانيد بعضها صحيح، والحديث السابق حجة قاطعة على أنه من كلام رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أي أنه حديث مرفوع.
v وروى البزار مثله مرفوعاً من طريق رويفع بن ثابت، رضي الله عنه، بإسناد فيه نظر، ومع ذلك حسنه الحافظ، ولكنه حسن صحيح بشواهده السابقة.
v وأخرج البخاري في «الأدب المفرد»، عن حيَّة بن حابس التميمي أن أباه أخبره، أنه سمع النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، يقول: «لا شيء في الهام، وأصدق الطيرة الفأل، والعين حق!». وحيَّة التميمي هذا مجهول، ولكن للحديث شواهد يرتقي بها إلى الحسن، أو حتى الصحيح، لغيره: منها ما أخرج أحمد عن أبي هريرة مرفوعاً: «لا عدوى، ولا طيرة، والعين حق» وحسن سندها الألباني، ومنها ما أخرجه أحمد عن أبي هريرة مرفوعاً: «لا عدوى، ولا هامة، وخير الطير الفأل، والعين حق» وحسن الألباني كذلك سند هذه الرواية.
قلت: وفي النفس من ثبوت جملة: (العين حق) شيء!
v وأخرج البخاري في «الأدب المفرد»، وابن حبان في صحيحه، بإسناد صحيح، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: «عرضت علي الأمم بالموسم، ايام الحج، فأعجبني كثرة أمتي، قد ملؤوا السهل والجبل! قالوا: يا محمد! أرضيت؟! قال: نعم، أي ربِّ! قال: فإن مع هؤلاء سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب: وهم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون». قال عكاشة بن محصن: فادع الله أن يجعلني منهم، قال: «اللهم اجعله منهم»، فقال رجل آخر: ادع الله أن يجعلني منهم! قال: «سبقك بها عكاشة!». وقد أخرج الشيخان مثله عن عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما.
v وعن عمران بن حصين، رضي الله عنه، أنه رأى رجلاً في عضده حلقة من صفر، فقال له: ما هذه؟! قال: نعت لي من الواهنة! قال: أما لو مت وهي عليك وكلت إليها! قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن، أو سحر أو سحر له»، حديث صحيح، أخرجه الطبراني بإسناد جيد، والبزار بدون القصة، وله شواحد من حديث ابن عباس، وعلي بن أبي طالب، رضوان الله عليهم، ولصدره شواهد كثيرة، وصححه الألباني.
v وكانت العرب في الجاهلية تتشائم مما ذكرنا أعلاه، ومن الدار والمرأة والفرس. وقد أخرج البخاري عن ابن عمر قال: ذكروا الشؤم عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: «إن كان الشؤم في شئ، ففي الدار والمرأة والفرس»، وقد جاء بهذا اللفظ ونحوه من طرق عدة في مسلم والبخاري والموطأ والأدب المفرد وابن ماجه والطحاوي وأحمد عن سهل بن سعد، وجابر، رضي الله عنهم. وأخرجه أحمد، بإسناد صحيح على شرط الشيخين، عن عبد الله بن عمر بلفظ: «إن يك من الشؤم شئ حق ففي المرأة والفرس والدار»، وهو صريح في نفي الشؤم والتشاؤم مطلقاً. وقد وهم بعض الرواة فقالوا: «الشؤم في الدار ...إلخ»، أو «الطيرة في الدار ... إلخ»، وهذا غلط فاحش، واختصار مخل رديء، يوهم بأن معتقد أهل الجاهلية في وجود الشؤم في هذه الثلاثة صحيح، خلافاً للحق الثابت بالألفاظ الصحيحة المذكورة أعلاه، وبشواهد عمومات القرآن والسنة، وبراهين الحس والعقل!
نعم: لاشك آن المرأة السيئة، والدار الضيقة، والدابة العاجزة من أسباب نكد العيش، وضيق الصدر، وهذا نوع من النكد والشؤم، ولكن هذا أمر يختلف عن الشؤم والطيرة، بالمعنى الخرافي الذي كان يعتقده أهل الجاهلية، والذي أبطله الإسلام!!
v فقد أخرج أحمد، والطحاوي في «مشكل الآثار» عن قتادة عن أبي حسان قال: (دخل رجلان من بني عامر على عائشة فأخبراها أن أبا هريرة يحدث عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «الطيرة في الدار ... إلخ»، فغضبت عائشة، فطارت شقة منها في السماء، وشقة في الأرض، وقالت: والذي أنزل الفرقان على محمد، ما قالها رسول الله قط، إنما قال: «كان أهل الجاهلية يتطيرون من ذلك»)، وفي رواية أحمد: ولكن نبي الله، صلى الله عليه وسلم، كان يقول: «كان أهل الجاهلية يقولون: الطيرة في الدار، والمرأة، والفرس»، ثم قرأت عائشة: }ما أصاب من مصيبة في الأرض، ولا في أنفسكم، إلا في كتاب ...{). وقد أخرجها الحاكم وقال: (صحيح الإسناد)، ووافقه الذهبي، ووافقهما الألباني وزاد أنه على شرط مسلم! فلله در أم المؤمنين، ما أفقهها، نفعنا الله بعلومها وهديها!
v ولم تنفرد أم المؤمنين، رضوان الله وسلامه عليها، بذلك! فقد أخرج أحمد من طريق هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن الحضرمي بن لاحق، عن سعيد بن المسيب قال: سألت سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنه، عن الطيرة، فانتهرني، وقال: من حدثك؟! فكرهت أن أحدثه من حدثني، فقال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى، ولا طيرة، ولا هام، وإن تكن الطيرة في شئ، ففي الفرس والمرأة والدار، وإذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تهبطوا، وإذا كان بأرض وأنتم بها، فلا تفروا منه!». هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات، رجال الشيخين، سوى الحضرمي بن لاحق، وهو ثقة، وثقه ابن معين فقال: ليس به بأس، وتابعه على ذلك الحافظ في «التقريب». وقد أخرجه أبو داود، والطحاوي من طرق أخرى، بدون ذكر الطاعون.
v بل قد جاء من طريق صحيح، أخرجها ابن ماجة، وصححها الألباني، مرفوعاً: «لا شؤم، وقد يكون اليُمْن في ثلاثة: في المرأة، والفرس، والدار». وهو كذلك صريح في نفي الشؤم، بفهم أهل الجاهلية له، عن هذه الثلاثة! بل لقد عكس القضية، وقلب «المائدة» على رؤوس الخرافيين، فجعلها مظنة اليُمْن والبركة!
v وأخرج أبو داود، وابن حبان، وتمام في «الفوائد»، وأحمد، وابن عساكر من طرق عدة عن هشام عن عبد الله بن بريدة عن أبيه مرفوعاً: «كان لا يتطير من شئ. وكان إذا بعث عاملاً سأل عن اسمه: فإذا أعجبه فرح به، ورؤي بشر ذلك في وجهه، وإن كره اسمه، رؤي كراهية ذلك في وجهه. وإذا دخل قرية سأل عن اسمها: فإن أعجبه اسمها، فرح بها، ورؤي بشر ذلك في وجهه، وإن كره اسمها، رؤي كراهية ذلك في وجهه». وليس عند ابن حبان قضية العامل، ولا عند تمام قضية القرية! قال الألباني: هذا اسناد صحيح علي شرط الشيخين.
v وأخرج الضياء المقدسي في «المختارة» بإسناد صحيح، من طريق ابن حبان، عن جرير بن عبد الحميد، عن عبد الملك بن سعيدبن جبير، عن عكرمة، عن ابن عباس مرفوعاً: «كان يتفاءل، ولا يتطير، ويعجبه الاسم الحسن». كما أخرجه أحمد، وأبو داود الطيالسي بأسانيد أخرى فيها ضعف.
«الطيرة»: هى التشاؤم بالطيور وخصوصًا بالبوم والغراب، والحيوانات وخصوصًا من الكلاب والقطط السوداء، والأسماء، والألفاظ، والأماكن وغيرها. وسميت طيرة لأن العرب كانت تتشائم خاصة من الطير.
وربما مر العربي على طيور جاثمة، فيهيجها، أو يرميها بالحجارة، فإذا طارت في إتجاه اليمين تفائل، وإذا طارت في اتجاه الشمال تشائم!
ثم تطوَّر الحال بظهور أشخاص دهاة ماكرين، يتفننون في خداع العوام والسذج، ويزعمون أن لديهم ملكة خاصة فيقومون بـ «زجر» الطير ثم «تفسير» طيرانها، وذلك، طبعاً، لقاء جعل من المال، يأكلونه من أموال الناس سحتاً!
ومن أمثلة ذلك أن يخرج الإنسان للتجارة فيسمع رجلاَ ينادي أخر: «يا خاسر»، فيتشائم ويرجع إلى بيته.
كل هذه الوساوس والمشاعر والانطباعات قد تنشأ في النفس قسراً، من غير اختيار، فلا يحاسب الإنسان عليها، ولا يعاقب. فاذا استسلم الإنسان لمثل هذا فسد عقله، وهيمنت الخرافة والوساوس عليه، وضعف الإيمان، والتوكل في قلبه، وفاتته مصالح الدنيا والدين، واستحق على ذلك المحاسبة والذم والعقوبة. لذلك يجب على الإنسان المؤمن أن يدفع هذه الوساوس عن نفسه ويمضي بقوة وعزيمة وحرص، وتوكل على الله، وثقة به، لقضاء حوائجه ومصالحه الدينية والدنيوية.
أما «الفأل»: فهو انشراح النفس بما يلائمها، ومثاله أن يخرج الإنسان لتجارة فيسمع رجلاً ينادى ولده باسم «غانم» فتنشرح نفسه، أو يخرج للجهاد والقتال فيلتقى برجل اسمه «منصور»، أو يمر على مدينة «المنصورة»، أو نحو ذلك فينشط ويزداد إقبالاً على قضاء حاجته ومصلحته التى خرج من أجلها. فهذا حسن جميل، كان النبى صلى الله عليه وسلم يحبه.
أما «الهامة»: وجمعها «الهام» هي في الأصل طائر البوم، وكانت العرب تتشائم منه جداً. وقيل «الهامة» روح المقتول، تتحول إلى شكل بومة، وتبقى عند قبره تصيح: اسقوني، اسقوني! حتى يؤخذ بالثأر، (فتسقى بالدم)، فتهدأ وتنصرف! فنفى النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، تلك الخرافات كلها، ونسفها من أساسها!
أما «النوء»: فالمقصود به أحوال جوية، أو ترتيب معين للنجوم، يترتب عليه لا محالة، نزول المطر. لذلك كانوا يقولون: مطرنا بنوء كذا، وكذا. قوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «لا نوء»، هو إبطال هذا الترابط الضروري، أي أن المطر ينزل بفعل الكوكب الإرادي، أو بتسبيبه الضروري، وإن كانت العادة تجري كثيراً بحصول ذلك اتفاقاً! والحق أن نزول المطر هو بفضل الله، ورحمته، مهما تداخلت، وتشابكت، وتعقدت، وتصاعدت الأسباب، وتسلسلت الأسباب حتى تصل إلى أول لحظة في الخلق، ثم إلى مسبب الأسباب، لا إله إلا هو، ولا رب سواه.
أما «صفر»: فكانوا يتشائمون من شهر صفر، بدعوى أن فيه شؤماً ذاتياً! فبين، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أن ذلك وهم، لا وجود له في الواقع، وقيل هو داء في البطن تسببه الجن، وهذا كذلك تخريف لا أساس له!
أما «الغول»: أنواع من الجن، وقيل هي وحوش، أو قرود الجن، أو سحرة الجن، تعترض المسافرين بليل، وتتلون بألوان، وأثواب، وأضواء مختلفة لإضلالهم عن الطريق! وهذه كذلك خرافة لا أساس لها، وإنما تنشأ في مخيلة بعض ضعاف الأعصاب، أو العقول، إذا سافروا في الصحراء «المرعبة» بليل!
u فصل: حقيقة العدوى، وأحكام الوباء، والمبتلين
اختلف أهل العلم في فهم معنى قوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «لا عدوى»، وعلاقة ذلك بنحو قوله: «فِرَّ من الجذوم فرارك من الأسد»، والأحاديث الواردة في الطاعون، وما شابه. أما الأحاديث المتعلقة بالموضوع فهي كثيرة منها:
v وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: «لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر، وفِرَّ من المجذوم كما تفر من الأسد» أخرجه البخاري تعليقاً جازماً بإسناد صحيح، كما أسلفنا، وقد تفرد به البخاري عن أبي هريرة من هذا الوجه، وأخرجه أبو نعيم في الطب من وجه آخر عن أبي هريرة، ولكنه معلول، وعلته لا تضر، كما حرره الإمام الخطيب البغدادي! فقد أطال الخطيب في «التاريخ» الكلام عليه، بعد نقده، بغير حق، لطريق البخاري، فقال: [وقد روى حديث الدراوردي هذا، غير البخاري على الصواب، أخبرناه ....] فساق عدة أسانيد، ثم قال: [فاتفق علي بن المديني، ويحي بن محمد الحارثي، وعبد الرحمن بن سلام الجمحي، وإسماعيل بن إسحاق عن إبراهيم بن حمزة على أن الحديث عن الدراوردي عن محمد بن عبد الله بن بن عمرو بن عثمان - وهو المعروف بالديباج - عن أبي الزناد، وهو الصحيح] والديباج صدوق، صحيح الحديث، وبقية الرجال ثقات أثبات من رجال مسلم، وكفاك بهذا الإسناد صحة وقوة! مع أن طريق البخاري صحيحة كذلك: فعفان إمام ثقة ثبت حفظ شيئاً لم يحفظه غيره، وهم حفظوا طريقاً أخرى لعلها لم تصله، فكل حجة في ما حفظ، ولله الحمد والمنة.
v ويزداد الحديث السابق قوة بما رواه ابن وهب قال: حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال: حدثني رجال أهل رضى وقناعة من أبناء الصحابة، وأولية الناس، أن رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: «لا عدوى، ولا هامة، ولا صفر. واتقوا المجذوم كما يتقى الأسد!». هذا سند حسن، بل هو صحيح لأن سماع ابن وهب من ابن الزناد إنما كان في المدينة، فهو سماع قديم، قبل رحيله إلى العراق، وضعف حفظه هناك، ولكنه مرسل في الظاهر، وإن كان كلام أبي الزناد يؤكد بأنه تلقاه من جمع كبير من الثقات من أبناء الصحابة ومشاهير التلبعين، تلقي التواتر، لذلك لا يضر إرسله «الشكلي» الظاهر، وهو متصل على الحقيقة، إن شاء الله، لأنه رواية ثقة مأمون لتواتر الخبر عند الناس، بل عند فضلائهم وصادقيهم!
v وأخرج مسلم للفقرة الأخيرة: «فِرَّ من المجذوم فرارك من الأسد»، شاهداً من حديث عمرو بن الشريد الثقفي، عن أبيه قال: (كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل إليه النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إنا قد بايعناك، فارجع»).
v كما أخرج ابن عدي في «الكامل» شاهداً لتلك الفقرة من طريق يحيى بن عبد الله بن بكير، حدثنا المغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعاًً. المغيرة بن عبد الرحمن، هو الحزامي المدني، فيه كلام يسير، لا يضر، وبقية رجال الإسناد ثقات، من رجال الشيخين، فهذا الإسناد جيد قوي، تقوم به الحجة بذاته، والحمد لله!
v كما أخرج ابن خزيمة في كتاب «التوكل» شاهدا لذلك من حديث عائشة، مرفوعاً: «لا عدوى، وإذا رأيت المجذوم، ففر منه كما تفر من الأسد».
v وأخرج أحمد شاهداً للفقرة نفسها: حدثنا وكيع قال: حدثنا النهاس عن شيخ بمكة عن أبي هريرة مرفوعاً. هذا إسناد ضعيف لجهالة الشيخ المكي، وضعف النهاس. وفي الأسانيد والشواهد السابقة أكثر من كفاية!
v أما ما جاء عن جابر: «أن النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أخذ بيد مجذوم، فوضعها في القصعة، وقال: ثقة بالله، وتوكلاً عليه»، ففيه نظر، وقد أخرجه الترمذي، وبيَّن الاختلاف فيه، ثم رجح وقفه على عمر، وهو، أي الوقف، هو الصحيح إن شاء الله، والظاهر أن عمر لم تبلغه الأحاديث بتمامها، فرجح جانب التوكل!
v وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: «لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر» أخرجاه، وزاد مسلم: «ولا نوء، ولا غول». وأخرجه كذلك أبو داود، وأحمد، والطحاوي في «شرح المعاني»، وابن ماجه.
v ولهما عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا عدوى، ولا طيرة، ويعجبنى الفأل»، قالوا: وما الفأل؟ قال: «الكلمة الطيبة (أو الحسنة)».
v ولهما عن أبي هريرة مرفوعاً: «لا عدوى، ،لا طيرة، ولا صفر، ولا هامة»، فقال أعرابي: (ما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء، فيخالطها بعير أجرب، فيجربها؟!)، قال، صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «فمن أعدى الأول؟!». كما أخرجه أبو داود، وأحمد، والطحاوي في «شرح المعاني».
v ولكن صح عنه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أنه قال: «لا يورد الممرض على المصح». أخرجه الشيخان، وأبو داود، والطحاوي في «المشكل»، وأحمد. كما أخرج أحمد وابن ماجه متابعات له من طرق أخرى.
v وصح عنه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، في الطاعون: «إذا سمعتم به (أي الطاعون) في أرض، فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا فراراً منه» هذا لفظ البخاري في قصة طويلة حول مقدم عمر إلى الشام، عن عبد الرحمن بن عوف، وقريب منه جداً لفظه عن أسامة بن زيد.
v وقد أخرج أحمد من طريق هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن الحضرمي بن لاحق، عن سعيد بن المسيب قال: سألت سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنه، عن الطيرة، فانتهرني، وقال: من حدثك؟! فكرهت أن أحدثه من حدثني، فقال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى، ولا طيرة، ولا هام، وإن تكن الطيرة في شئ ففي الفرس والمرأة والدار، وإذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تهبطوا، وإذا كان بأرض وأنتم بها، فلا تفروا منه!». هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات، رجال الشيخين، سوى الحضرمي بن لاحق، وثقه ابن معين فقال: ليس به بأس، وتابعه على ذلك الحافظ في «التقريب».
v كما رُوِيَ عنه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ذم الفار من الطاعون، وتشبيهه بالفرار من الزحف. فقد أخرج ابن سعد قال: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا جعفر بن كيسان، حدثتنا عمرة بنت قيس العدوية قالت: دخلت على عائشة فسألتها عن الفرار من الطاعون؟! فقالت: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «الفرار من الطاعون كالفرار من الزحف». وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه. كما أخرجه أحمد قال: حدثنا يحيى بن إسحاق، أخبرني جعفر بن كيسان بمثله، إلا أنه زاد: «المقيم فيه كالشهيد، والفار ....». وهي أسانيد متصلة، رجالها ثقات أثبات، ما عدا عمرة العدوية هذه، فهي غير معروفة، ولكنها تابعية مستورة. ولكن أحمد أخرجه كذلك من طريق جعفر بن كيسان، حدثتنا معاذة بنت عبد الله العدوية، ومعاذة العدوية هذه ثقة من رواة الشيخين! والصحيح أن جعفر بن كيسان، وهو ثقة مأمون، سمعه من الراويتين، وكان كثير من النساء، والرجال، يدخلون على عائشة، رضي الله عنها، يستفتونها في مصيبة الطاعون الذي نزل بالناس، فلا يستغرب تعدد الرواة، بل تستغرب قلة المحفوظ منه في مثل تلك المصيبة العظيمة!
وللحديث شواهد من طرق أخرى، مثل حديث جابر مرفوعاً: «الفار من الطاعون كالفار من الزحف، والصابر فيه كالصابر في الزحف»، أخرجه أحمد، وعبد بن حميد. وفي رواية أخرى لأحمد: «...، والصابر فيه له أجر شهيد» بدل اللفظ الآنف الذكر. وبالجملة فالحديث صالح قطعاً للاحتجاج، ولا ينزل عن مرتبة الحسن بحال من الأحوال، والله أعلم. فالفرار من الطاعون بمثابة الفرار من الزحف، والفرار من الزحف من الكبائر الموبقة، والذنوب المهلكة، التي لا ينفع معها عمل، وإن كثر: عصمنا الله منها بمنه وكرمه!
وبالجملة فقد وردت لفظة: «لا عدوي» من طرق عديدة: عن أبي هريرة، وإن كان هو شك في حفظ نفسه هاهنا!، وعائشة، وابن عمر، وسعد بن أبي وقاص، وجابر وغيرهم بأسانيد صحاح لا شك فيها.
وقد استوعب الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني أكثر الروايات، صحيحها وسقيمها، وجمهور أقوال العلماء، ومنها عجائب مضحكة، وغرائب منكرة، في هذا الخصوص في «الفتح»، عند شرحه لباب (ما يذكر في الطاعون)، من كتاب (الطب)، من الجامع الصحيح للإمام البخاري. ولا شك أن استعراضها ممتع من الناحية التاريخية المحضة، وليس هذا شأننا في هذه الرسالة المختصرة، لا سيما أننا نمتلك في هذا العصر بعض المعارف الطبية اليقينية بخصوص هذا الموضوع، وهي كافية بحمد الله لحسم القضية حسماً نهائياً.
أما قوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «لا عدوي»، فهو مثل قوله: «لا نوء»، وقوله: «لا صفر»؛ أي نفي لمعتقد العرب الجاهلي عن «العدوى»، لا نفياً لوجود العدوى، ولا لخواصها! كذلك «النوء»، وشهر «صفر»، و«الهامة» بمعنى طائر البوم، كل ذلك موجود، ولكن معتقدات العرب حولها ما هي إلا خرافات باطلة، لا وجود لها إلا في أدمغة الخرافيين.
والظاهر أن العرب كانوا يعتقدون بوجود إله مشخص خاص للعدوى، كما هو معتقدهم في القدر، والموت (المنية)، وعلاقته بـ «مناة»، بنتِ الله، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. أو كانو يعتقدون في قوة خارقة روحية غامضة، ذات صفات إلهية، وليست بالضرورة مشخصة، ولكن فيها بعض خواص الأحياء (في مثل ما يسمى في عصرنا الحاضر بالديانات «الأحيائية»، و«الشامانية» البدائية).
لذلك حرص النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، على قلع تلك المعتقدات الفاسدة من جذورها، وتصحيح تلك المفاهيم المغلوطة، فأكد في غير موضع على أنه: «لا عدوى»، مع تقريرة لوجودها حسياً، وتعليمه لأمته كيفية التعامل الصحيح مع الجذام، وغيره من الأمراض المعدية، ومع وضعه لقواعد الحجر «الطبي» الصحيحة للطواعين والأوبئة العامة الخطيرة.
ألا ترى إلى قوله للأعرابي: «فمن أعدى الأول؟!» لافتاً نظره إلى المسبب الأول، الذي خلق الكون وما فيه، والحياة والموت وخواصها، ألا وهو الله العزيز الحكيم، من غير أن ينكر قوله: (ما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء، فيخالطها بعير أجرب، فيجربها؟!)، بل أقره على صحة مشاهدته، وصحة اعتبار ذلك عدوى، بالمعنى الحسي الطبي، ولكنه أنكر عليه الوقوف على ذلك الظاهر فقط، وعدم الانتقال إلى خالق الموت والحياة، ومقدر الصحة والمرض، ،مسبب الأسباب، تباركت أسماؤه!
أما المعارف الطبية البالغ بعضها في زمننا هذا درجة المعلوم علماً يقينياً بأول الحس، وبديهة العقل، فتدل على أن أكثر الأمراض تسببها جراثيم وطفيليات: إما «فيروسات» أشباه حية، أو «بكتيريا» أشباه نباتية، أو «طحالب»، و«فطريات»، وهي نباتات مجهرية، أو «طفيليات» حيوانية، أكثرها مجهري، وأحادي الخلية، وبعضها مرئي كالديدان، وخلافها. وهذه الأمراض تنتقل بالعدوى بشروطها. ومن أهم تلك الشروط:
(1) قابلية المستقبل، وعدم تمتعه بمناعة مناسبة،
(2) نشاط الجرثوم أو الناقل وقدرته على الفعل،
(3) وجود الاتصال والإحتكاك المناسب، وفي بعض الأحوال الوسيط المناسب، كالبعوض بالنسبة لحمى «الملاريا»، وغيرها. فإذا توفرت الشروط، وعدمت الموانع، حصلت العدوى، وظهر المرض، فالعدوى إذن ليست حتمية، وتختلف سرعتها، وسعة انتشارها من مرض إلى مرض، ومن إنسان لآخر، ومن بلد إلى بلد، ومن سلالة بشرية لأخرى: }ذلك تقدير العزيز العليم{!
ورب حامل للمرض، وليس بمريض، ورب مريض، ولكنه في مرحلة لا يعدي فيها، إلى غير ذلك من دقائق المسائل العلمية الطبية. كل ذلك وفق نظام كوني دقيق، بعلم الله، وخلق الله، وتقديره، وإذنه، لا بقوة روحية غامضة، عمياء غير عاقلة، تفعل ما تشاء على وجه الاستقلال عن نظام الكون، أي على وجه الاستقلال عن الله، وقدرته، ومشيئته، أو على وجه الضرورة التي لا تنخرم!
أما الأحكام التي وردت بخصوص الطاعون، وما كان في حكمه، من عدم إتيان البلد الموبوء، والتحريم المغلظ على أهل منطقة الوباء من مغادرتها، فهي من الدلائل القوية على صدق نبوة سيدنا أبي القاسم، محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لأنها هي بعينها القواعد العقلانية التي يفرضها نظام الحجر الطبي القائم على يقينيات المعارف الطبية. وإذا راجعنا ما جمعه الإمام بن حجر في «الفتح» من أقوال «العلماء»، علماء الشريعة والطب على حد سواء، على مدي أكثر من ثمانية قرون بعد وفاته، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وما فيها من تناقضات، واضطراب في فهم حقيقة الطاعون، وحقيقة العدوى، و«علة»، و«حكمة»، أو«مقاصد» الأحكام المختصة ببلد الوباء، وباجتناب المجذوم، ونحوه.
إذا راجعنا ذلك، وهو خيرة ما تفتقت عنه عقول «العلماء»، و«الأطباء»، و«الحكماء»، عبر تلك القرون الثمانية المتطاولة، وبعضه يستحق أن يصنف في باب (المضحكات المبكيات)، علمنا ضرورةً أن محمداً، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهو أمّي من العرب، لا سهم له في «طب»، أو «فلسفة»، ما كان ليأتي بمقولاته تلك من عند نفسه، ولا من معهود بيئته. فلم يبق إلا أنه وحي من الله العليم الخبير: }وما ينطق عن الهوى v إن هو إلا وحي يوحى{!


شروط قبول شهادة التوحيد



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق