أنواع من الادب مع الله

بــــــــــاب
أنواع من الادب مع الله

u فصل لا يقال: (عبدي وأمتي)
v قال تقدست أسماؤه: }إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً{، (مريم؛ 19:93).
v وأخرج البخاري، ومسلم، وأحمد بإسناد صحيح عن همام بن منبه أنه سمع أبا هريرة، رضي الله عنه، يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وضئ ربك، اسق ربك، وليقل: سيدي، مولاي؛ ولا يقل أحدكم: عبدي، أمتي، وليقل: فتاي، وفتاتي، وغلامي».
v وفي الصحيحين عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يقولن أحدكم: عبدي وأمتي، ولا يقولن المملوك: ربي، وربتي، وليقل فتاي، وفتاتي، وسيدي، وسيدتي، كلكم مملوك، والرب الله عز وجل»، كما أخرجه البخاري في «الأدب المفرد».
v وفي «صحيح مسلم»، وكذا في «الأدب المفرد»، عن أبي هريرة مرفوعاً: «لا يقل أحدكم: عبدي، أمتي، كلكم عبيد الله، وكل نسائكم إماء الله، وليقل: جاريتي، وفتاي، وفتاتي».
v وعن مُطَرِّف بن عبدالله بن الشخِّير قال، قال أبي: انطلقت في وفد بني عامر إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فقالوا: (أنت سيدنا)، قال: «السيد الله»، قالوا: (وأفضلنا فضلاً، وأعظمنا طولاً)، فقال: «قولوا بقولكم، ولا يستجرينكم الشيطان!». حديث صحيح أخرجه أبو داود، والبخاري في «الأدب المفرد»، وهذا لفظه.
وهذا كذلك كسابقه على وجه الإستحباب، وذلك بأن يعدل المسلم عن قول عبدي وأمتي إلى فتاي وفتاتي. تحفظًا عن اللفظ الذي فيه إيهام، أو محذور، ولو على وجه بعيد، وليس حراماً، وإنما الأدب كمال التحفظ بالألفاظ الطيبة التى لا توهم محذورًا بوجه، فإن الادب في الألفاظ دليل على كمال الإخلاص، وصدق التوقير لله، سيد السادة، ملك الملوك، ورب الأرباب.
u فصل: احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم لأجل ذلك
v عن شريح بن هانيء بن يزيد، قال حدثني أبي (هو: هانيء بن يزيد): أنه كان يكني أبا الحكم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أن الله هو الحَكَم، وإليه الحُكْم! فلم تكنيت بأبي الحكم؟!»، فقال: (لا، ولكن قومي اذا اختلفوا في شىء أتوني فحكمت بينهم، فرضي كلا الفريقين)، فقال: «ما أحسن هذا، فما لك من الولد» قلت: (شريح، ومسلم، وعبدالله، بنو هانيء)، قال:«فمن أكبرهم» قلت: (شريح)، قال: «فأنت أبو شريح». وسمع النبي صلى الله عليه وسلم قوماً يسمون رجلاً منهم (عبد الحجر)! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما اسمك؟!»، قال: (عبد الحجر)، قال: «لا، أنت عبد الله!». قال شريح: وإن هانئاً لما حضر رجوعه إلى بلاده أتى النبي فقال: (أخبرني بأي شيء يوجب لي الجنة؟!)، قال: «عليك بحسن الكلام، وبذل الطعام». حديث صحيح رواه أبو داود، والنسائي، والبخاري في «الأدب المفرد».
هذا الحديث الجميل الجليل مملوء بالهدى والحكم، وجوامع الكلم، وفيه كذلك عدة آداب، منه الندب إلى احترام صفات الله وأسماء الله، والامتناع عن التسمي بها إن أوهم الشرك أو الندية، وتغيير الاسم لأجل ذلك؛ وكذلك تغيير الأسماء القبيحة والمكروهة عموماً.
v وعن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: «إن أخنع الأسماء عند الله يوم القيامة رجل تسمى ملك الأملاك (شاهانشاه)»، حديث صحيح أخرجه الشيخان، وأبو داود، والترمذي وقال: حسن صحيح، والحاكم، من طرق أخرى صحيحة. وفي رواية صحيحة عند مسلم، وأحمد، وغيرهما: «أغيظ رجل على الله يوم القيامة، وأخبثه، وأغيظه عليه، رجل كان يسمّى: ملك الأملاك، لا ملك إلا الله».
v وأخرج الحاكم في «المستدرك» عن أبي هريرة أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: «اشتد غضب الله على رجل قتله رسول الله! واشتد غضب الله على رجل تسمى ملك الأملاك، لا ملك إلا الله عز وجل»، حديث صحيح، صححه الحاكم، وقال على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.
u فصل: لا ملك إلا الله
v عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: «إن أخنع الأسماء عند الله يوم القيامة رجل تسمى ملك الأملاك (شاهانشاه)»، حديث صحيح أخرجه الشيخان، وأبو داود، والترمذي وقال: حسن صحيح، والحاكم، من طرق أخرى صحيحة. وفي رواية صحيحة عند مسلم، وأحمد، وغيرهما: «أغيظ رجل على الله يوم القيامة، وأخبثه، وأغيظه عليه، رجل كان يسمّى: ملك الأملاك، لا ملك إلا الله».
v وأخرج الحاكم في «المستدرك» عن أبي هريرة أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: «اشتد غضب الله على رجل قتله رسول الله! واشتد غضب الله على رجل تسمى ملك الأملاك، لا ملك إلا الله عز وجل»، حديث صحيح، صححه الحاكم، وقال على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.
قلت: الزيادة (لا ملك إلا الله) ثابتة قطعاً بأصح الأسانيد عند الإمامين مسلم والحاكم تقوم بها الحجة، لاحظ أنه، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، لم يقل: «ملك الأملاك هو الله» أو «لا ملك أملاك إلا الله»، أو نحو ذلك، بل قال فقط: «لا ملك إلا الله». وهذه الزيادة جاءت على وجه التعليل فيترتب على ذلك قبح وخبث وحرمة التسمي بلفظة: «ملك» بمفردها، وإن كانت لفظة: (ملك الأملاك) في القبح والخبث والشر أوغل وأشد.
أما عن كون بعض الأنياء السابقين ملوكاً، خاصة داود وسليمان، فتلك شريعة سابقة كانت لبني إسرائيل. ولم تكن عند بني إسرائيل أول أمرهم هذه الملوكية الخبيثة الملعونة، ولكنهم طالبوا بها وألحوا، وما زالوا يترددون على نبيهم، نبي الله صموئيل، حتى شرعت لهم، ونصب عليهم طالوت ملكاً، ثم جاء بعده داود، بعد نزاع وشر، وخلفه سليمان بخير وملك عادل عريض، ثم انقسمت مملكتهم بعد سليمان إلي مملكة «إسرائيل» الشمالية، ومملكة «يهودا» الجنوبية. فأما مملكة «إسرائيل» فلم يملك فيها إلا كل جبار عنيد، ومشرك مرتد، حتى محاها الأشوريون من الوجود، وأخذوا أكثر سكانها إلى الأسر الأشوري، فبادوا وانقرضوا ولم يعد لهم أثر في التاريخ، وأما مملكة يهودا فلم تكن أحسن حالاً إلا بقليل فقد كان عامة ملوكها، باستثناء اثنين منهم أو ثلاثة، جبابرة ظلمة أو مرتدون كفرة، حتى غلب عليها ملك بابل نبوخذ نصر، وهدم بيت الله المقدس واقتاد الأعيان من بني إسرائيل إلى الأسر البابلي، أذلاء مهانين، فمكثوا هنالك نحواً من نصف قرن حتى حررهم ملك فارس وأذن لهم بالعودة إلي فلسطين.
فتشريع الملوكية لبني إسرائيل كان إذاً لعنة وعقوبة، وهو من الآصار والأغلال التي كانت عليهم. هذا التشريع المهلك هو أحد مصاديق قول أبي القاسم، خاتم أنبياء الله، عليه وعلى آله صلوات وتسليمات وتبريكات من الله: «إنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم»:
v كما جاء في «الجامع الصحيح المختصر» للإمام البخاري: حدثنا إسماعيل حدثني مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: «دعوني ما تركتكم: إنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم». هذا إسناد صحيح كالشمس، بل هو «السلسلة الذهبية» من أسانيد أبي هريرة!
v وهو في «صحيح مسلم» بلفظ: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم» .
v في «صحيح مسلم» بلفظ آخر: «ذروني ما تركتكم، (وفي حديث همام: ما تركتم) فإنما هلك من كان قبلكم ...»،
v وهو في أكثر الصحاح، والسنن والمعاجم والمسانيد بأصح الأسانيد كما هو مفصل في الملحق. وقد أسلفنا مناقشة هذا الموضوع في بابه، فليراجع.
وقد أسلفنا إيضاح معنى قوله، عليه وعلى آله الصلاة والسلام: «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج»، وأزلنا، بحمد الله ومنته، الكثير من الإشكاليات التي دارت حوله. فلا بأس إذاً من تدبر تاريخهم، وأخذ العبرة مما أصابهم، والنظر في مروياتهم نظرة الناقد المنصف، من غير تكذيب أو تصديق.
ومن هذا المنطلق إليك قصة مقدمات تنصيب طالوت على بني إسرائيل ملكاً، وملابسات ذلك وما دار حوله من نقاش ونزاع، كما جاءت في العهد القديم في «الترجمة الرسمية» للكتاب المقدس، سفر صموئيل الأول، الإصحاح الثامن:
[v مطالبة بني إسرائيل بملك:
1- وَلَمَّا طَعَنَ صَمُوئِيلُ فِي السِّنِّ نَصَّبَ ابْنَيْهِ قَاضِيَيْنِ لإِسْرَائِيلَ.
2- وَكَان اسْمُ ابْنِهِ الْبِكْرِ يُوئِيلَ، وَاسْمُ الثَّانِي أَبِيَّا، وَكَانَ مَقَرُّ قَضَائِهِمَا فِي بِئْرِ سَبْعَ.
3- غَيْرَ أَنَّهُمَا لَمْ يَسْلُكَا فِي طَرِيقِهِ، بَلْ غَوَيَا وَرَاءَ الْمَكْسَبِ وَقَبِلاَ الرِّشْوَةَ وَحَابَيَا فِي الْقَضَاءِ.
4- فَاجْتَمَعَ شُيُوخُ إِسْرَائِيلَ وَجَاءُوا إِلَى صَمُوئِيلَ فِي الرَّامَةِ،
5- وَقَالُوا لَهُ: «هَا أَنْتَ قَدْ شِخْتَ، وَلَمْ يَسْلُكِ ابْنَاكَ فِي طَرِيقِكَ، فَنَصِّبْ عَلَيْنَا مَلِكاً يَحْكُمُ عَلَيْنَا كَبَقِيَّةِ الشُّعُوبِ».
6- فَاسْتَاءَ صَمُوئِيلُ مِنْ طَلَبِهِمْ تَنْصِيبَ مَلِكٍ عَلَيْهِمْ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، وَصَلَّى إِلَى الرَّبِّ،
7- فَقَالَ الرَّبُّ لَهُ: «لَبِّ لِلشَّعْبِ طَلَبَهُ وَانْزِلْ عِنْدَ رَغْبَتِهِمْ، لأَنَّهُمْ لَمْ يَرْفُضُوكَ أَنْتَ بَلْ إِيَّايَ رَفَضُوا، لِكَيْ لاَ أَمْلِكَ عَلَيْهِمْ.
8- وَهُمْ يُعَامِلُونَكَ الآنَ كَمَا عَامَلُونِي مُنْذُ أَنْ أَصْعَدْتُهُمْ مِنْ دِيَارِ مِصْرَ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ، إِذْ تَرَكُونِي وَعَبَدُوا آلِهَةً أُخْرَى.
9- وَالآنَ لَبِّ طَلَبَهُمْ، إِنَّمَا أَشْهِدْ عَلَيْهِمْ وَحَذِّرْهُمْ مِمَّا يُجْرِيهِ الْمَلِكُ الْمُتَسَلِّطُ عَلَيْهِمْ مِنْ قَضَاءٍ».
v رسالة الله لبني إسرائيل:
10- وَأَبْلَغَ صَمُوئِيلُ الشَّعْبَ بِكُلِّ مَا قَالَهُ الرَّبُّ،
11- وَقَالَ: «اسْمَعُوا، هَذَا مَا يَقْضِي بِهِ المَلِكُ الَّذِي سَيَحْكُمُ عَلَيْكُمْ: يُجَنِّدُ أَبْنَاءَكُمْ وَيَجْعَلُهُمْ فُرْسَاناً وَخُدَّاماً وَجُنُوداً يَرْكُضُونَ أَمَامَ مَرْكَبَاتِهِ
12- وَيُعَيِّنُ بَعْضَهُمْ قَادَةَ أُلُوفٍ وَقَادَةَ خَمَاسِينَ، يَحْرُثُونَ حُقُولَهُ وَيَحْصُدُونَ غَلاَّتِهِ، وَيَصْنَعُونَ أَسْلِحَتَهُ وَمَرْكَبَاتِهِ الْحَرْبِيَّةَ.
13- وَيَأْخُذُ مِنْ بَنَاتِكُمْ لِيَجْعَلَ مِنْهُنَّ طَبَّاخَاتٍ وَخَبَّازَاتٍ وَصَانِعَاتِ عُطُورٍ،
14- وَيَسْتَوْلِي عَلَى أَجْوَدِ حُقُولِكُمْ وَكُرُومِكُمْ وَزَيْتُونِكُمْ وَيَهَبُهَا لِعَبِيدِهِ.
15- وَيَجْنِي عُشْرَ مَحَاصِيلِكُمْ لِيُوَزِّعَهَا عَلَى أَصْدِقَائِهِ وَحَاشِيَتِهِ
16- وَيُسَخِّرُ عَبِيدَكُمْ وَجَوَارِيَكُمْ وَخِيرَةَ شُبَّانِكُمْ وَحَمِيرَكُمْ فِي أَعْمَالِهِ.
17- وَيَسْتَوْلِي عَلَى عُشْرِ غَنَمِكُمْ وَيَسْتَعْبِدُكُمْ.
18- فَتَسْتَغِيثُونَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ جَوْرِ مَلِكِكُمُ، الَّذِي اخْتَرْتُمُوهُ لأَنْفُسِكُمْ، فَلاَ يَسْتَجِيبُ لَكُمُ الرَّبُّ».
v إصرار الشعب على تنصيب ملك:
19- وَلَكِنَّ الشَّعْبَ أَبَى أَنْ يَسْتَمِعَ لِتَحْذِيرَاتِ صَمُوئِيلَ، وَأَصَرَّ قَائِلاً: «لاَ بَلْ نَصِّبْ عَلَيْنَا مَلِكاً،
20- فَنَكُونَ كَسَائِرِ الشُّعُوبِ، لَنَا مَلِكٌ يَقْضِي بَيْنَنَا وَيقُودُنَا وَيُحَارِبُ مَعَارِكَنَا».
21- فَسَمِعَ صَمُوئِيلُ لِكَلاَمِ الشَّعْبِ، وَرَدَّدَهُ أَمَامَ الرَّبِّ،
22- فَقَالَ الرَّبُّ لِصَمُوئِيلَ: «لَبِّ طَلَبَهُمْ وَنَصِّبْ عَلَيْهِمْ مَلِكاً». فَقَالَ صَمُوئِيلُ لِرِجَالِ إِسْرَائِيلَ: «لِيَنْصَرِفْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ إِلَى مَدِينَتِهِ».]انتهى النص بعينه، وجاءت بعد ذلك تفاصيل تنصيب طالوت.
هكذا جاءت القصة في الإصحاح الثامن من سفر صموئيل الأول، فالله أعلم بصحة ذلك كله، وهي قصة مؤثرة ممتعة على كل حال!
إلا أن القرائن على صحة القصة كثيرة، والدوافع إلى الكذب فيها على هذا النحو بعيدة، بل هي ذم صريح لبني إسرائيل، وكشف لعنادهم وغباوتهم، واستبدالهم الذي هو أدنى بالذي هو خير: بدلاً من العزة والكرامة والشورى وسياسة الأنبياء، الذلة والمهانة وسياسة الملوك المتسلطين. وبالرغم من التحذير الإلهي من جور الملوك، والتخويف لهم بأن دعائهم لن يستجاب إذا اشتكوا إليه ذلك الجور، بالرغم من ذلك كله أبى القوم إلا محاكاة الشعوب الأخرى محاكاة القردة.
والذي يهمنا هنا هو القول المنسوب إلى الله، جل جلاله: (لأَنَّهُمْ لَمْ يَرْفُضُوكَ أَنْتَ بَلْ إِيَّايَ رَفَضُوا، لِكَيْ لاَ أَمْلِكَ عَلَيْهِمْ)، فبغض النظر عن ثبوته هكذا، إلا أنه الحق المقطوع به: لا يرضي بالملكية الوراثية الخبيثة الملعونة إلا من رغب عن الله، تباركت أسماؤه، وتعالى ذكره، وجل جلاله، ملكاً وسيداً ورباً وإلهاً.
نعم: بهذا نقول، وبهذا يجب أن يقول كل من يؤمن بالله واليوم الآخر، ومن كفر فإن الله غني عن العالمين.
وبغض النظر عن معنى كون بعض الأنبياء ملوكاً في نفس الوقت، فتلك شرائع منسوخة على كل حال: نسخ موضوعها ومحتواها، ونسخ لفظها ومسمَّاها، فعادت «الملوكية»، أي «الملكية الوراثية» نظام كفر يتناقض مع نظام الحكم في الإسلام كل المناقضة كما دلت على ذلك النصوص المتضافرة المتواترة، وإجماع الأمة القطعي المتيقن: إن الإمامة تكون بالبيعة من الأمة، كما هو قول أهل السنة، وهم جمهور أهل الإسلام، أو بالنص والتنصيب الإلهي على رجل أو رجال بأعينهم كما هو قول أقلية من أهل الإسلام من شتى فرق الشيعة الإمامية، وليس لأهل الإسلام مقولة غير هذه مطلقاً، وما روي أن بعض الأئمة جوز إمامة المتغلب فليس هو، على كونه خطأً، من هذا الباب لأنهم برروا ذلك بالضرورة الملجئة المبيحة للحرام، وليس هذا هو موضوع هذه الرسالة، ومحله إنشاء الله تعالى في كتابنا: «سلطان الأمة»، وسيصدر قريباً، فليراجع.
وقد كتب النبي، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، إلى من حوله من الملوك والجبابرة، كما هو مروي ومشهور في كتب الحديث والسير والتواريخ، فما خاطبهم بلقب «الملك» قط، مع ما في ذلك من مصادمة للعرف الجاري، وقواعد «الدبلوماسية» الدولية آنذاك، وإنما استخدم لفظة «عظيم» مضافة إلى القوم أو البلد، فقال: «عظيم الروم»، و«عظيم القبط»، و«عظيم فارس»، ... إلخ،
v كما جاء ، على سبيل المثال، مختصراً في البخاري، وأطول منه في مسلم: «بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد، عبد الله ورسوله، إلى هرقل، عظيم الروم، السلام على من اتبع الهدى، أما بعد:»، وساق مسلم بقية الكتاب النبوي الشريف، إلا أن الإمام مسلم قال: «من محمد رسول الله»، وأخرج ابن حبان في صحيحه مثل لفظ مسلم بطوله، وكذلك النسائي، والإمام أحمد في مسنده، والبيهقي في سننه الكبرى متقصياً الطرق كعادته، وهو كذلك مختصراً عند أبي داود والترمذي، وقال الترمذي: «حسن صحيح»، وهو كذلك عند غيرهمومعلوم أن «العظيم» من أسماء الله الحسنى، كـ«الملك» سواء بسواء مما يجعلنا نقطع بأن ذم التسمى بـ«الملك»، وشر منه «ملك الأملاك»، جاء هكذا لهذا اللفظ بذاته، غير معلل، ولو كان معللاً لوجب أن تقاس عليه كل الأسماء الحسنى، وهو ما تبطله النصوص الأخرى، كما سلف.
وقد ارتبط التسمِّي أو التلقب بلقب «ملك»، عند غير الرب، الملك القدوس، جل جلاله، في أذهان الصحابة بالعسف والجور، والتكبر والطغيان، فمن ذلك:
v اما جاء في «سنن الترمذي»: [حدثنا أحمد بن منيع حدثنا شريج بن النعمان حدثنا حشرج بن نباتة عن سعيد بن جمهان قال حدثني سفينة قال قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ثم ملك بعد ذلك»، ثم قال لي سفينة: (أمسك: خلافة أبي بكر وخلافة عمر وخلافة عثمان ثم قال لي أمسك خلافة علي) قال فوجدناها ثلاثين سنة قال سعيد: (فقلت له إن بني أمية يزعمون أن الخلافة فيهم!)، قال: (كذبوا بنو الزرقاء: بل هم ملوك من شر الملوك!)، قال أبو عيسى: (وهذا حديث حسن، قد رواه غير واحد عن سعيد بن جمهان ولا نعرفه إلا من حديث سعيد بن جمهان) ، وقال الألباني: صحيح. قلت: وقد أصاب الألباني في هذه فسعيد بن جمهان ثقة صحيح الحديث، لم يتكلم فيه أحد بحجة.
v وهو في «صحيح ابن حبان»: [أخبرنا أبو يعلى حدثنا علي بن الجعد الجوهري أخبرنا حماد بن سلمة عن سعيد بن جمهان عن سفينة قال سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: «الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكا»، قال أمسك خلافة أبي بكر، رضي الله تعالى عنه: سنتين، وعمر، رضي الله تعالى عنه: عشرا وعثمان، رضي الله تعالى عنه: اثنتي عشرة وعلي، رضي الله تعالى عنه: ستا قال علي بن الجعد قلت لحماد بن سلمة سفينة القائل أمسك قال نعم].، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: (إسناده حسن)، قلت: بل هو صحيح كما أسلفنا.
v وهو في «السنن الكبرى» للنسائي مختصراً: [أخبرنا أحمد بن سليمان قال أخبرنا يزيد قال أخبرنا العوام قال حدثني سعيد بن جهمان عن سفينة مولى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ثم ملكا بعد ذلك»، قال فحسبنا فوجدنا أبا بكر وعمر وعثمان وعليا]
v كما هو في «مسند الإمام أحمد بن حنبل»: [حدثنا بهز حدثنا حماد بن سلمة حدثنا سعيد بن جمهان (ح) وعبد الصمد حدثني سعيد بن جمهان عن سفينة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الخلافة ثلاثون عاما ثم يكون بعد ذلك الملك»، قال سفينة أمسك خلافة أبى بكر رضي الله تعالى عنه سنتين وخلافة عمر رضي الله تعالى عنه عشر سنين وخلافة عثمان رضي الله تعالى عنه أثنى عشر سنة وخلافة علي رضي الله تعالى عنه ست سنين رضي الله تعالى عنهم]. وهو في المسند من طريق ثانية: [حدثنا زيد بن الحباب حدثني حماد يعنى بن سلمة عن سعيد بن جمهان حدثني سفينة أبو عبد الرحمن قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «الخلافة ثلاثون عاما ثم الملك»، فذكره]
v وهو في «مسند الإمام أحمد بن حنبل» مطولاً: [حدثنا أبو النضر حدثنا حشرج بن نباتة العبسي كوفي حدثنا سعيد بن جمهان حدثني سفينة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ثم ملكا بعد ذلك»، ثم قال لي سفينة أمسك خلافة أبى بكر وخلافة عمر وخلافة عثمان وأمسك خلافة على رضي الله تعالى عنهم قال فوجدناها ثلاثين سنة ثم نظرت بعد ذلك في الخلفاء فلم أجده يتفق لهم ثلاثون فقلت لسعيد أين لقيت سفينة قال لقيته ببطن نخل في زمن الحجاج فأقمت عنده ثمان ليال أسأله عن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قلت له ما اسمك قال ما أنا بمخبرك سماني رسول الله صلى الله عليه وسلم سفينة قلت ولم سماك سفينة قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه أصحابه فثقل عليهم متاعهم فقال لي ابسط كساءك فبسطته فجعلوا فيه متاعهم ثم حملوه على فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، احمل فإنما أنت سفينة فلو حملت يومئذ وقر بعير أو بعيرين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو ستة أو سبعة ما ثقل على الا أن يجفوا]
v كما أنه في «الآحاد والمثاني»: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة نا يزيد بن هارون نا العوام بن حوشب نا سعيد بن جمهان عن سفينة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الخلافة في أمتي ثلاثون سنة»، قال فحسبنا فوجدنا أبا بكر سنتين وعمر وعثمان رضي الله تعالى عنهم قال فقيل له إن عليا لا يعد من الحلفاء فقال أمر بني الزرقاء فهو يعد من ذلك؟!]
v ومن طريق ثانية في «الآحاد والمثاني»: [حدثنا هدبة حدثنا حماد بن سلمة عن سعيد بن جمهان عن سفينة قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «الخلافة ثلاثون سنة ثم يكون بعد ذلك ملكا»، قال سفينة فخذ سنتين أبو بكر وعشرا عمر وعثمان ثنتي عشرة وعلي ستا قال وكان أبيض وإنما تغير لونه عام الرمادة حلف أن لا يأكل إداما حتى ينكشف عن الناس فلذلك تغير لونه، رضي الله تعالى عنه]
v كما أنه في «مسند ابن الجعد»: حدثنا علي أخبرني حماد عن سعيد بن جمهان عن سفينة قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «الخلافة ثلاثون سنة ثم تكون ملكا»، ثم قال أمسك خلافة أبي بكر سنتين وعمر عشرا وعثمان ثنتي عشرة وعلي ستا قال علي قلت لحماد سفينة القائل لسعيد أمسك قال نعم]
v وهو في «المعجم الكبير» من طرق: [حدثنا علي بن عبد العزيز حدثنا حجاج بن المنهال (ح) وحدثنا المقدم حدثنا أسد بن موسى قالا: حدثنا حماد بن سلمة عن سعيد بن جمهان عن سفينة مولى النبي، صلى الله عليه وسلم، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: «الخلافة ثلاثون سنة ثم يكون ملكا»، قال امسك ثنتين أبو بكر وعشرا عمر واثنتي عشرة عثمان وستا علي، رضي الله تعالى عنهم]
v وجاء في «مسند أبي يعلى» حديث آخر: [حدثنا أبو خيثمة حدثنا جرير عن ليث عن عبد الرحمن بن سابط عن أبي ثعلبة الخشني قال كان أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل يتناجيان بينهما بحديث فقلت لهما ما حفظتما وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، بي قال وكان أوصاهما بي قالا ما أردنا أن ننتجي بشيء دونك إنما ذكرنا حديثا حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلا يتذاكرانه قالا: «إنه بدأ هذا الأمر نبوة ورحمة، ثم كائن خلافة ورحمة، ثم كائن ملكا عضوضا، ثم كائن عتوا وجبرية وفسادا في الأمة يستحلون الحرير والخمور والفروج والفساد في الأمة، ينصرون على ذلك ويرزقون أبدا حتى يلقوا الله»، وقال الشيخ حسين أسد: (إسناده ضعيف)، فأصاب بذلك لأن ليث بن أبي سليم كالمجمع على ضعفه، مع إجماعهم على أنه يكتب حديثه للاعتبار، وأن ضعفه من جهة حفظه، لا من جهة صدقه، لذلك يتقوى هذا إذا جاء من طريق أخرى مستقلة، كما سيأتي قريباً.
v وفي «مسند أبي داود الطيالسي»: [حدثنا جرير بن حازم عن ليث عن عبد الرحمن بن سابط عن أبي ثعلبة الخشني عن أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله عز وجل بدأ هذا الأمر نبوة ورحمة وكائنا خلافة ورحمة وكائنا ملكا عضوضا وكائنا عنوة وجبرية وفسادا في الأرض يستحلون الفروج والخمور والحرير، وينصرون على ذلك ويرزقون أبدا حتى يلقوا الله»]
v وهو في «المعجم الكبير»: [حدثنا علي بن عبد العزيز حدثنا أحمد بن يونس حدثنا الفضيل بن عياض عن ليث عن عبد الرحمن بن سابط عن أبي ثعلبة الخشني عن معاذ وأبي عبيدة قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هذا الأمر بدأ رحمة ونبوة ثم يكون رحمة وخلافة ثم كائن ملكا عضوضا ثم كائن عتوا وجبرية وفسادا في الأرض يستحلون الحرير والفروج والخمور يرزقون على ذلك وينصرون حتى يلقوا الله عز وجل] ،
v وهو في «المعجم الكبير» بنحوه قال: [حدثنا علي بن عبد العزيز والعباس بن الفضل الأسفاطي قالا حدثنا أحمد بن يونس حدثنا فضيل بن عياض عن ليث عن عبد الرحمن بن سابط عن أبي ثعلبة الخشني عن معاذ وأبي عبيدة قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن هذا الآمر بدأ رحمة ونبوة ثم تكون رحمة وخلافة ثم كائنا ملكا عضوضا ثم كائنا عتوا وجبرية وفسادا في الأرض يستحلون الحرير والفروج والخمر ويرزقون على ذلك حتى يلقون الله]
v وهو في «المعجم الكبير» من طريق أخرى، قال: [حدثنا معاذ بن المثنى حدثنا محمد بن المنهال أخو حجاج حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا ليث بن أبي سليم عن عبد الرحمن بن سابط عن أبي ثعلبة الخشني عن معاذ بن جبل وأبي عبيدة قالا سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن هذا الأمر بدأ رحمة ونبوة ثم خلافة ورحمة ثم كائنا ملكا عضوضا وجبرية وفسادا في الأرض يستحلون الفروج والحرير والخمور وينصرون على ذلك ويرزقون حتى يلقوا الله تبارك وتعالى]
v وفي «سنن البيهقي الكبرى»: [حدثنا أبو بكر بن فورك أنبأ عبد الله بن جعفر حدثنا يونس بن حبيب حدثنا أبو داود حدثنا جرير بن حازم عن ليث عن عبد الرحمن بن سابط عن أبي ثعلبة الخشني عن أبي عبيدة بن الجارح ومعاذ بن جبل رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله بدأ هذا الأمر نبوة ورحمة وكائنا خلافة ورحمة وكائنا ملكا عضوضا وكائنا عتوة وجبرية وفسادا في الأمة يستحلون الفروج والخمور والحرير وينصرون على ذلك ويرزقون أبدا حتى يلقوا الله عز وجل]
فهؤلاء ثلاثة من الأئمة الثقات الأثبات المشاهير: أبو النضر جرير بن حازم الأزدي البصري، والإمام القدوة، شيخ الإسلام أبو علي الفضيل بن عياض التميمي اليربوعي، وأبو بشر عبد الواحد بن زياد العبدي كلهم يحدث بنفس الحديث عن ليث بن أبي سليم، فالحديث كله، أو بعضه، يثبت بأي متابعة محتملة لليث، وهذه المتابعة موجودة بحمد الله، وإليك إياها:
v كما جاءت في «المعجم الكبير»: حدثنا بكر بن سهل حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا يحيى بن حمزة عن أبي وهب عن مكحول عن أبي ثعلبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أن دينكم نبوة ورحمة ثم خلافة ورحمة ثم ملكا وجبرية ثم ملكا عضوضا يستحل فيه الحر والحرير»
v ومن طريق ثانية في «مسند الشاميين»: حدثنا محمد بن يزيد بن عبد الصمد حدثنا هشام بن عمار حدثنا يحيى بن حمزة عن أبي وهب عن محكول عن أبي ثعلبة الخشني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أول دينكم نبوة ورحمة ثم خلافة ورحمة ثم ملك وجبرية يستحل فيها الحر والحرير»
v ومن طريق ثالثة في «سنن الدارمي»: [أخبرنا مروان بن محمد حدثنا يحيى بن حمزة حدثني بن وهب عن مكحول عن أبي ثعلبة الخشني عن أبي عبيدة بن الجراح قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول دينكم نبوة ورحمة ثم ملك ورحمة ثم ملك أعفر ثم ملك وجبروت يستحل فيها الخمر والحرير»، قال أبو محمد سئل عن أعفر فقال يشبهه بالتراب وليس فيه خير]، ورود (بن وهب) في الإسناد وهم أو خطأ نساخ، وإنما هو أبو وهب، وكذلك قوله ها هنا:(ملك ورحمة) بعد خلافة النبوة مباشرة، من أوهام الرواة أو النساخ قطعاً، فالطرق الأخرى كلها على ترتيب: «نبوة ورحمة، ثم خلافة ورحمة، ثم ملك عضوض (أو أعفر)، ثم ملك وجبروت»، وحتى لو ثبت هذا هكذا عن مروان بن محمد فهي رواية شاذة، والشذوذ هو مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه، ومروان بن محمد لا يسامي عبد الله بن يوسف، لا سيما إذا توبع عبد الله بن يوسف، حيث تابعه ها هنا هشام بن عمار. وقد اعتمد بعض «الحمقى» هذا النص الشاذ الساقط، وتركوا النصوص الأخرى المتضافرة لموافقته هواهم فطبقوه على معاوية بن أبي سفيان زاعمين أن أيامه هي أيام «ملك ورحمة»، فنقول: كذبتم، معاذ الله، فليس في العالم إلا الملك العضوض الأعفر الأغبر، تحت معاوية أو غيره، أو ماهو شرمنه: الملك المتجبر!
والمتابعة هذه مقبولة فليس في أسانيدها من يحتاج أن ينظر إليه إلا أبا وهب هذا وهو أبو وهب الطائي أو الكلاعي اسمه الحارث حمصي، كما جاء في «لسان الميزان» ولم يزد على ذلك، وجاء في «تهذيب التهذيب»: [أبو وهب الكلاعي روى عن عبد الله بن عمرو وعنه عبد الرحمن بن مرزوق ذكره البخاري في الكنى المجردة وقال بن يونس في تاريخ مصر فيه نظر]، قلت: وروى عنه يحيى بن حمزة، وهو من الأئمة الثقات المجمع على وثاقتهم، مخرج له في الصحيحين والسنن، وكافة المسانيد والمعاجم. أما ذكر العقيلي له في «الضعفاء الكبير» فلأنه متهم بالقدر، كما أن العقيلي أدرج الإمام الحجة علي بن المديني هناك كذلك فاستحق أن يوبخه الذهبي قائلاً: (أين عقلك يا عقيلي؟!)، وللعقيلي شناعات أخرى مماثلة، ونحن نقول هنا أيضاً في خصوص الإمام يحيى بن حمزة، قاضي دمشق: (أين عقلك يا عقيلي؟!)، والعقيلي، على كل حال ليس ممن يعتد بانفراداته في الجرح والتعديل، وإنما نستأنس به استئناساً فقط!
v وثم متابعه ثالثة في «المعجم الكبير»: [حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي حدثنا أبو كريب حدثنا فردوس الأشعري حدثنا مسعود بن سليمان عن حبيب بن أبي ثابت عن رجل من قريش عن أبي ثعلبة قال: لقيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقلت: (يا رسول الله ادفعني إلى رجل حسن التعليم)، فدفعني إلى أبي عبيدة بن الجراح ثم قال قد دفعتك إلى رجل يحسن تعليمك وأدبك فأتيت أبا عبيدة بن الجراح وهو وبشير بن سعد أبو النعمان بن بشير يتحدثان فلما رأياني سكتا فقلت يا أبا عبيدة والله ما هكذا حدثني رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: (إنك جئت ونحن نتحدث حديثا سمعناه من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فاجلس حتى نحدثك فقال قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «إن فيكم النبوة ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ثم يكون ملكا وجبرية»]. نعم: فيه رجل مجهول من قريش، وهو بالقطع غير مكحول، فهذا إسناد مستقل عن المتابعة السابقة.
بهذا، وبالشواهد السابقة والاحقة تصح الفقرة المهمة من حديث ليث، ألا وهي: «إنه بدأ هذا الأمر نبوة ورحمة، ثم كائن خلافة ورحمة، ثم كائن ملكا عضوضا، ثم كائن عتوا وجبرية وفسادا في الأمة يستحلون الحرير والخمور والفروج والفساد في الأمة»، ولكن الفقرة الأخيرة وهي: (ينصرون على ذلك ويرزقون أبدا حتى يلقوا الله) لم تأت من طريق أخرى فيها خير قط، فلا تجوز نسبتها إلى النبي، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، ولا يجوز من ثم اعتقادها أو التدين بها. والأرجح أنها مندرجة من كلام أحد الرواة يتعجب فيها من تمتع هؤلاء الجبابرة الفجرة بالنصر والتمكين، ولو إلى حين، مع سوء حالهم المنكرة تلك!
ولحديث ليث بن أبي سليم السابق شواهد منها حديث سعيد بن جمهان عن سفينة الآنف الذكر، وهو حديث صحيح كما أسلفنا، والحديث الآتي المشهور على ألسنة الناس، وهو صحيح أيضاً، والحمد لله:
v كما جاء في «مسند الإمام أحمد بن حنبل»: [حدثنا سليمان بن داود الطيالسي حدثني داود بن إبراهيم الواسطي حدثني حبيب بن سالم عن النعمان بن بشير قال: كنا قعودا في مسجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكان بشير رجلا يكف حديثه فجاء أبو ثعلبة الخشني فقال يا بشير بن سعد أتحفظ حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الأمراء فقال حذيفة: (أنا أحفظ خطبته!)، فجلس أبو ثعلبة فقال حذيفة: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «تكون النبوة فيكم ما شاء الله ان تكون ثم يرفعها إذا شاء ان يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله ان تكون ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها ثم تكون ملكا عاضا فيكون ما شاء الله ان يكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون ملكا جبرية فتكون ما شاء الله ان تكون ثم يرفعها إذا شاء ان يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة»، ثم سكت قال حبيب فلما قام عمر بن عبد العزيز وكان يزيد بن النعمان بن بشير في صحابته كتبت إليه بهذا الحديث أذكره إياه فقلت له انى أرجو ان يكون أمير المؤمنين يعنى عمر بعد الملك العاض والجبرية فادخل كتابي على عمر بن عبد العزيز فسر به وأعجبه]
v وهو نفسه في «مسند أبي داود الطيالسي» مسلسلاً بصريح التحديث: [حدثنا داود الواسطي وكان ثقة قال سمعت حبيب بن سالم قال سمعت النعمان بن بشير بن سعد بنحوه]، مع زيادة فائدة في توثيق الإمام أبي دواد الطيالسي لداود بن إبراهيم الواسطي.
قلت: فهذا إسناد صحيح تقوم به الحجة، وحبيب بن أبي سالم الأنصاري أخرج له مسلم والجماعة، إلا أن البخاري تفرد بعدم قبوله، وقد وثقه أبو حاتم، مع تشدده وتعنته، ولخص الحافظ حاله فقال في «التقريب»: (حبيب بن سالم الأنصاري، مولى النعمان بن بشير وكاتبه «لا بأس به» من الثالثة).
وهناك أحاديث وآثار أخرى، منها:
v ما جاء في «مسند أبي داود الطيالسي»: [حدثنا حماد بن سلمة قال حدثنا علي بن زيد عن عبد الرحمن بن أبي بكرة قال وفدنا إلى معاوية مع زياد ومعنا أبو بكرة فدخلنا عليه فقال له معاوية حدثنا حديثا سمعته من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عسى الله أن ينفعنا به قال: (نعم: كان نبي الله، صلى الله عليه وسلم، يعجبه الرؤيا الصالحة ويسأل عنها، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ذات يوم: «أيكم رأى رؤيا؟!»، فقال رجل: أنا يا رسول الله: إني رأيت رؤيا رأيت كأن ميزانا دلي من السماء فوزنت أنت وأبو بكر فرجحت بأبي بكر ثم وزن أبو بكر بعمر فرجح أبو بكر بعمر ثم وزن عمر بعثمان فرجح عمر بعثمان ثم رفع الميزان، فاستاء لها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثم قال: «خلافة نبوة، ثم يؤتي الله الملك من يشاء»)، فغضب معاوية فزخ في إقفائنا وأخرجنا. فقال زياد لأبي بكرة أما وجدت من حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حديثا تحدثه غير هذا قال: (والله لا أحدثه إلا به حتى أفارقه)، قال: فلم يزل زياد يطلب الإذن حتى أذن لنا فأدخلنا فقال معاوية يا أبا بكرة حدثنا بحديث عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لعل الله أن ينفعنا به قال فحدثه أيضا بمثل حديثه الأول فقال له معاوية: (لا أبا لك: تخبرنا أنا ملوك فقد رضينا أن نكون ملوكا!). قلت: علي بن زيد بن جدعان ليس بالحجة، وليس هو بالساقط كلية، فقد أكثر عنه أحمد، وصحح له الحاكم، وقال الذهبي: (صالح)، فحديثه يصلح للاستئناس والاعتبار على أقل تقدير.
ولم ينفرد أبو بكرة، رضي الله عنه، بهذا الفهم، فقد تبلور ذوق الصحابة، رضي اله عنهم، على هذا الفهم، أي على ذم «الملكية» وربطها بالجبروت والغلبة، حتى معاوية، أدرك هذا، وغضب، وأمر بطرد أبي بكرة، وحاول، عبثاً، الفرار من هذه المذمة، ثم استسلم ولم يستطع الإفلات، كما هو ظاهر من الخبر السابق. وكذلك هذا هو ذوق سفينة، رضي الله عنه، عندما قال عن بني أمية: (كذبوا بنو الزرقاء: بل هم ملوك من شر الملوك!)
وقد جاء غير هذ كثير طيب، منه ما ثبت عن ثمامة بن عدي القرشي، أمير صنعاء من قبل عثمان بن عفان، رضي الله عنه:
v كما جاء في «المعجم الكبير»: [حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي حدثنا محمد بن يوسف الأنباري حدثنا داود بن المحبر حدثنا أبو قحذم عن أبي قلابة عن أبي الأشعث الصنعاني قال كان أمير على صنعاء قال أبو قحذم يقال له ثمامة بن عدي وكانت له صحبة فلما جاء نعي فلان بكى بكاء شديدا فلما أفاق قال: (هذا حين انتزعت خلافة النبوة وصار ملكا وجبرية من غلب على شيء ملكه)]
v ومن طريق ثانية مرسلة في «المعجم الكبير»: [حدثنا إسحاق بن إبراهيم الدبري أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن أيوب عن أبي قلابة: أن رجلا من قريش يقال له ثمامة كان على صنعاء فلما قتل عثمان، رضي الله تعالى عنه، خطب فبكى بكاء شديدا فلما أفاق واستفاق قال: (اليوم انتزعت خلافة النبوة من أمة محمد، صلى الله عليه وسلم، وصارت ملكا وجبرية من أخذ شيئا غلب عليه)]
v وهي في «الطبقات الكبرى» من طريق أيوب عن أبي قلابة، قال الإمام محمد بن سعد: [أخبرنا عارم بن الفضل قال أخبرنا حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة قال لما بلغ ثمامة بن عدي قتل عثمان وكان أميرا على صنعاء وكانت له صحبة بكى فطال بكاؤه ثم قال: (هذا حين أنزعت خلافة النبوة من أمة محمد وصار ملكا وجبرية من غلب على شيء أكله)]. هذا مرسل، ولكننا نعرف الرجل الذي أسقطه أبو قلابة، وهو أبو الأشعث الصنعاني، كما سلف، وكما هو أيضاً مصرحاً به في الطريق التالية:
v في «الطبقات الكبرى» ، قال الإمام محمد بن سعد، بعد الحديث السابق: [وأخبرنا أحمد بن إسحاق الحضرمي قال أخبرنا وهيب بن خالد عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي الأشعث الصنعاني عن ثمامة بن عدي بمثله سواء، قال: وكان من قريش].
قلت: هذه أسانيد كالشمس إلى أبي قلابة، أما أبو الأشعث الصنعاني، نزل الشام بعد ذلك، فهو ثقة مقل، من رجال الإمام مسلم، وذكره ابن حبان في الثقات، أكثر عنه أبو قلابة، وروى عنه الثقات: عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، ويحيى بن الحارث، وحسان بن عطية، وغيرهم، فالأثر صحيح، لا شك في صحته.
وجاء كذلك عن عمر بن الخطاب، وسلمان، كما هو:
v في «الطبقات الكبرى» ،حيث أخرج الإمام محمد بن سعد، قال: [أخبرنا محمد بن عمر قال حدثني قيس بن الربيع عن عطاء بن السائب عن زادان عن سلمان أن عمر قال له: (أملك أنا أم خليفة؟!)، فقال له سلمان: (إن أنت جبيت من أرض المسلمين درهما أو أقل أو أكثر ثم وضعته حقه، فأنت خليفة!)، فاستعبر عمر].
v وأخرج أيضاً في «الطبقات الكبرى» : [أخبرنا محمد بن عمر قال حدثني عبد الله بن الحارث عن أبيه عن سفيان بن أبي العوجاء قال قال عمر بن الخطاب: ( والله ما أدري أخليفة أنا أم ملك: فإن كنت ملكا فهذا أمر عظيم!)، قال قائل: (يا أمير المؤمنين: إن بينهما فرقا!)، قال: (ما هو؟!)، قال: (الخليفة لا يأخذ إلا حقا ولا يضعه إلا في حق، فأنت بحمد الله كذلك، والملك يعسف الناس فيأخذ من هذا ويعطي هذا)، فسكت عمر.]، قلت: هذا يشبه أن يكون رواية بالمعنى لسابقه، إلا أن تكون واقعة أخرى!
ليس في هذه الأسانيد ما يضر إلا الكلام المعروف في محمد بن عمر الواقدي، حيث صنفه أكثر المحدثين مع المتروكين. قلت: وقد ظلم الرجل في هذا ظلما فادحاً، ولعلنا نرفع عنه الظلم في غير هذا الموضع، لأنه بحث متشابك طويل. وعلى كل حال فليس قول عمر أو سلمان أو غيرهما من الصحابة حجة، وإنما ذكرناه هنا للاستئناس، ولمثل هذا تكفي هذه الأسانيد، والحمد لله رب العالمين.
فهذه هي أذواق الصحابة: الملوكية عسف وظلم، والخلافة نقيض ذلك، ولا جرم فهكذا ذوق من تخرج من مدرسة سيدي أبي القاسم، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، رحمة الله للعالمين، حامل لواء الحمد يوم القيامة، سيد الرفعة والمجد.
طبعاً ليست هذه هي أذواق أدعياء «السلفية» هذه الأيام، فأكثرهم يصرح بأن في عنقه بيعة لفهد بن عبد العزيز، الملك الكذاب، الخنزير القذر، الأشيمط الزاني بمحارمه، ولي أمريكا وعميلها بل عبدها المخلص. ولم لا: أليس لديهم فتاوى الأئمة، بقية السلف الصالح: عبد العزيز بن باز الذي جعل الدولة السعودية (دولة مباركة نصر الله بها الحق وأهله)، وناصر الدين الألباني الذي سماها: (دولة التوحيد)؟!
فأين من هذا الطواغيت المتلقبين بأسماء الملوك في بلاد المسلمين اليوم، وليتهم كانوا «ملوكاً» جبابرة بحق، بل هم عبيد أذلة، وخدم سفلة مطيعون لأسيادهم من دول الاستكبار والاستعمار الكبرى!
u فصل: لا يقال: السلام على الله
v في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا إذا كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة قلنا: (السلام على الله من عباده، السلام على جبريل، السلام على ميكائيل، السلام على إسرافيل، السلام على فلان وفلان)، فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «لا تقولوا السلام على الله، فإن الله هو السلام». أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي، وأحمد بإسانيد غاية في الصحة. وجاء في بعض الروايات المطولة ذكر صيغة التشهد المشهورة: «ولكن قولوا: التحيات لله، والصلوات، والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين (فإنكم إذا قاتم ذلك أصاب كل عبد صالح في السماء والأرض)، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محداً عبده ورسوله، ... إلخ».
وقد بين صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بقوله: «فإن الله هو السلام» فهو تعالى السلام، السالم من كل عيب ونقص، وعن مماثله أحد من خلقه له، وهو المسلِّم لعباده من الآفات والبليات، فالعباد لن يبلغوا ضره فيضروه، ولن يبلغوا نفعه فينفعوه، بل هم الفقراء إليه، المحتاجون اليه في جميع أحوالهم، وهو الغني الحميد. وتسليم المخلوق على المخلوق هو، في أصل اللفظ، تأمين له، فكأنه يقول: (أنت آمن من قبلي، لا يأتيك مني شر، ،لا تخشى مني حرباً)، ونحو ذلك من المعاني. كل ذلك لا يرد في حق الله، تباركت أسماؤه، البته! لذلك حسن ترك ذلك التعبير الموهم، والاستعاضة عنه بما لا محذور فيه مطلقاً مثل: (التحيات لله)؛ (الصلوات لله)؛ (الزاكيات لله)؛ (اللهم أنت السلام، ومنك السلام)
u فصل: لا يرد من سأل بالله
v عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سأل بالله فأعطوه، ومن استعاذ بالله فأعيذوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن صنع إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا ماتكافئوه، فادعوا له حتى تروا (وفي رواية: حتى تعلموا) أنكم كافأتموه» رواه أبو داود، والنسائي، وأحمد بسند صحيح، وأخرجه ابن حبان في صحيحه، وكذا الحاكم.
u فصل: الإعتراف بفضل الله تعالى
v قال تباركت أسماؤه مؤكدا أن النعم جميعها منه، وأن الفضل كله له، وحده لا شريك له: }وما بكم من نعمة فمن الله، ثم إذا مسَّكم الضر فإليه تجأرون{، (النحل؛ 16:53)
v وقال تعالى: }ولئن أذقناه رحمة منا، من بعد ضراء مسته، ليقولن: هذا لى{ (فصلت؛ 41:50). أي أن بعض عباد الله لا يعترف بفضل الله ومنته، فينسب ما يصيبه من رحمة الله إلى مهارته، أو إلى استحقاقه بالوراثة، أو لارتفاع نسبه، أو لغير ذلك من الاعتبارات. قال مجاهد في تفسيرها: هذا بعملي، وأنا محقوق به، وقال ابن عباس: يريد من عندي.
v وقوله: }قال إنما أوتيته على علم عندي{ (القصص؛ 28:78). على علم منى بوجوه المكاسب، وقال آخرون: على علم من الله أني له أهل. وهذا معنى قول مجاهد: أوتيته على شرف.
v وقال تباركت أسماؤه: }يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها، وأكثرهم الكافرون{، (النحل؛ 16:83).
قال الإمام مجاهد، إمام المفسرين، هو قول الرجل: هذا مالي، ورثته عن آبائي.
وقال أبو عبد الله عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي الزاهد: يقولون: لولا فلان لم يكن كذا.
وقال ابن قتيبة: يقولون: هذا بشفاعة آلهتنا!
وقال بعض السلف: هو كقولهم: كانت الريح طيبة، والملاح حاذقاً، ونحو ذلك مما هو جار على ألسنة الناس.
v وقال ابن عباس، رضي الله عنهما، في تفسير قوله تعالى: }فلا تجعلوا لله أنداداص وأنتم تعلمون{، (البقرة؛ 2:22): (الأنداد هو الشرك، أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن تقول: والله وحياتك يا فلان وحياتي، وتقول: لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص، ولولا البط في الدار لأتي اللصوص، وقول الرجل: لولا الله وفلان. لا تجعل فيها فلانا، هذا كله شرك) رواه إبن أبي حاتم، واستشهد به ابن كثير في التفسير.
v عن زيد بن خالد الجهني أنه قال: صلّى لنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، صلاة الصبح بالحديبية؛ على إثر سماء كانت بالليل، فلما انصرف النبي، صلى الله عليه وسلم، أقبل على الناس فقال: «هل تدرون ماذا قال ربكم؟!»، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر! فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي، كافر بالكوكب؛ وأما من قال: بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي، مؤمن بالكوكب». حديث صحيح، متفق على صحته، وأخرجه البخاري كذلك في «الأدب المفرد»، وكذلك النسائي، وأبو داود، وأحمد، ومالك في الموطأ. وفي هذا الموضوع أحاديث كثيرة تأتي في فصلها.
v وعن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أن ثلاث من بني اسرائيل: أبرص وأقرع وأعمى، فأراد الله أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكاً، فأتى الأبرص فقال: أى شىء أحب إليك؟ قال: لون حسن، وجلد حسن، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به، قال: فمسحه، فذهب عنه قذره، فأعطى لوناً حسناً، وجلداً حسناً، قال: فأي المال احب اليك؟ قال: الإبل ــ أو البقر، شك اسحاق ــ فأعطي ناقة عشراء، فقال: بارك الله لك فيها. قال: فأتى الأقرع، فقال:أي شىء أحب اليك؟ قال: شعر حسن، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به، فمسحه فذهب عنه، وأعطى شعرًا حسنًا فقال: أي المال أحب اليك؟ قال: البقر (أو الإبل، شك الراوي)، فأعطى بقرة حاملاً قال: بارك الله لك فيها. قال فأتى الأعمى فقال أي شيء أحب إليك؟ قال: أن يرد الله إلى بصري، فأبصر به الناس، فمسحه فرد الله بصره قال: فأي المال أحب إليك؟ قال:الغنم، فأعطى شاة والدًا! فانتج هذان، وولد هذا، فكان لهذا واد من الإبل، ولهذا واد من البقر، ولهذا واد من الغنم.
قال: ثم إنه (أي الملك) أتى الأبرص في صورته وهيئته فقال: رجل مسكين! قد انقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن، والجلد الحسن، والمال الحسن، بعيرًا أتبلغ به سفري، فقال: الحقوق كثيرة! فقال له: كأني أعرفك! ألم تكن أبرصاً يقذرك الناس، فقيرًا فاعطاك الله، عز وجل، المال؟ فقال: إنما ورثت هذا المال كابرًا عن كابر، فقال: إن كنت كاذبًا فصيرك الله الى ما كنت!
قال:وأتى الأقرع في صورته، فقال له مثل ما قال لهذا، ورد عليه مثل مارد عليه هذا، فقال: إن كنت كاذبًا فصيرك الله إلى ما كنت!
قال: وأتى الأعمى في صورته فقال: رجل مسكين، وابن سبيل، قد انقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري، فقال :قد كنت أعمى فرد الله إلي بصري، فخذ ما شئت ودع ما شئت، فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله، فقال: أمسك مالك، فإنما ابتليتم، فقد رضي الله عنك، وسخط على صاحبيك». هذا حديث صحيح، جميل جليل، متفق على صحته، يستحق أن يقرأ ثم يتدبر، ثم يقرأ ويعاد تدبره، في كل حين، ليل نهار!
u فصل: لا يقول: مطرنا بنوء كذا وكذا، ولكن: مطرنا بفضل الله ورحمته
v عن زيد بن خالد الجهني أنه قال: صلّى لنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، صلاة الصبح بالحديبية؛ على إثر سماء كانت بالليل، فلما انصرف النبي، صلى الله عليه وسلم، أقبل على الناس فقال: «هل تدرون ماذا قال ربكم؟!»، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر! فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي، كافر بالكوكب؛ وأما من قال: بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي، مؤمن بالكوكب». حديث صحيح، متفق على صحته، وأخرجه البخاري كذلك في «الأدب المفرد»، وكذلك النسائي، وأبو داود، وأحمد، ومالك في الموطأ.
v كما أخرج الترمذي عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: }وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون{، قال: «شكركم، تقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا، وبنجم كذا وكذا»، قال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب صحيح، وأخرجه أحمد من طرق عدة، كلها صحاح، وكذلك الطبري، وابن أبي حاتم، والضياء المقدسي في «المختارة».
v وأخرج أحمد بإسناد صحيح عن معاوية الليثي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يكون الناس مجدبين، فينزل الله، تبارك وتعالى، عليهم رزقا من رزقه، فيصبحونمشركين!»، فقيل له: (وكيف ذاك يا رسول الله؟!)، قال: «يقولون مطرنا بنوء كذا وكذا».
v وأخرج مسلم بإسناد صحيح عن ابن عباس قال مطر الناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: «أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر؛ قالوا: هذه رحمة الله؛ وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا»، قال: فنزلت هذه الآية: }فلا أقسم بمواقع النجوم{، حتى بلغ: }وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون{.
v كما أخرج مسلم بإسناد صحيح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما أنزل الله من السماء من بركة إلا أصبح فريق من الناس بها كافرين: ينزل الله الغيث فيقولون بكوكب كذا وكذا».
v وأخرج البخاري بإسناد غاية في الصحة عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: (خلال من خلال الجاهلية الطعن في الأنساب، والنياحة، ..)، ونسي أحد الرواة الثالثة؛ قال سفيان: ويقولون: إنها الاستسقاء بالأنواء.
v وأخرج مسلم بإسناد صحيح عن أبي مالك الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة»، وقال: «النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب». أبو مالك هو الحارث بن الحارث الشامي.
v كما أخرج أحمد بإسناد صحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث من عمل أهل الجاهلية لا يتركهن أهل الإسلام: النياحة، والاستسقاء بالأنواء، وكذا»، قلت لسعيد: وما هو؟! قال: دعوى الجاهلية: يا آل فلان يا آل فلان يا آل فلان.
v وأخرج الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربع في أمتي من أمر الجاهلية لن يدعهن الناس: النياحة، والطعن في الأحساب، والعدوى: أجرب بعير فأجرب مائة بعير، من أجرب البعير الأول؟! والأنواء: مطرنا بنوء كذا وكذا»، قال أبو عيسى هذا حديث حسن، وهو كما قال، وأخرجه كذلك الإمام أحمد.
v وقال أحمد: حدثنا عبد الله بن محمد (يقول عبد الله بن أحمد: وسمعته أنا منه) حدثنا محمد بن القاسم الأسدي حدثنا فطر عن أبي خالد الوالبي عن جابر بن سمرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ثلاث أخاف على أمتي: الاستسقاء بالأنواء، وحيف السلطان، وتكذيب بالقدر»، محمد بن القاسم الأسدي فيه خلاف شديد فمنهم من وثقه، ومنهم من اتهمه بالكذب! ولكن يشهد لهذا الحديث ما رواه ابن عساكر عن أبي محجن الثقفي، رضي الله عنه، مرفوعاً: «أخاف على أمتي ثلاثاً: حيف الأئمة، وإيماناً بالنجوم، وتكذيباً بالقدر»، وحسنه السيوطي، كما صححه عبد القادر الأرنائوط، ويشهد له كذلك الحديث المرسل الذي أخرجه عبد بن حميد في مسنده، بإسناد صحيح إلى رجاء بن حيوة عن النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: «إن مما أخاف على أمتي: التصديق بالنجوم، والتكذيب بالقدر، وحيف الأئمة»، وكذلك الشواهد الواردة أعلاه.
v وأخرج مسلم بإسناد جيد، لا بأس به، عن ابن عباس قال: [مطر الناس على عهد النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: «أصبح من الناس شاكر، ومنهم كافر: قالوا هذه رحمة الله، وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا»، قال: فنزلت هذه الآية: }فلا أقسم بمواقع النجوم{، حتى: }وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون{].
فنسبة المطر إلى الأنواء، والظروف الجوية المناسبة، ومواقع النجوم التي تعرف بها الأوقات المطيرة عادة، حتى ولو كان بعض ذلك حقاً في نفسه، يعتبر من قلة الأدب مع الله، ومن عدم الاعتراف بفضله، وهو كفر به، كفر نعمة، لأنه هو خالق الأكوان ومدبرها، وواضع السباب ومسببها، وجاعل الأنواء ومصرفها. فالكفر هنا يكون «كفر نعمة»، أو كفراً لفظياً، لا يخرج من الملة.
أما من اعتقد أن الأنواء بذاتها تفعل وتتصرف، أو أن ذلك ليس بعلم الله، وإذنه، وتقديره، فهذا مشرك شركَ كفر، يخرج من الملة، ويحبط العمل كله، أوله وآخره، نعوذ بالله من النار، دار البوار!
u فصل: لا يقول اللهم اغفر لي إن شئت
v في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دعى أحدكم فلا يقول: اللهم أغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت! وليعزم المسألة فإن الله لا مكره له». ولمسلم: «وليعظم الرغبة، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه». أخرجه كذلك أبو داود، والبخاري في «الأدب المفرد».
v وعندهم جميعاً كذلك عن أنس قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم: « إذا دعى أحدكم فليعزم في الدعاء، ولا يقل: (وفي رواية: إذا دعوتم الله فاعزموا في الدعاء، ولا يقولن أحدكم:) اللهم إن شئت فاعطني! فإن الله لا مستكره له»
فالأمور كلها وإن كانت بمشيئة الله وارادته، فالمطالب الدينية كسؤال الرحمة والمغفرة، والمطالب الدنيوية المعينة على الدين كسؤال العافية والرزق وتوابع ذلك، قد أمر العبد أن يسألها من ربه طالبًا ملحًا جازمًا، وهذا الطلب عين العبودية ومخها. ولا يتم ذلك إلا بالطلب الجازم الذي ليس فيه تعليق بالمشيئة لأنه مأمور به، وهو خير محض لا ضرر فيه، والله تعالى على كل شيء قدير، لا يتعاظمه شىء، ملكه دائم، وغناه مطلق: }إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن: فيكون{، (يس؛ 36:82).
كل ما في الوجود خلقه، وكل نعمة من عنده: }وما بكم من نعمة فمن الله، ثم إذا مسَّكم الضر فإليه تجأرون{، (النحل؛ 16:53)، وقد ثبت ذلك في الحديث الصحيح الصريح: «إن يمين الله ملأى، لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار؛ أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض؟! فإنه لم يغض ما في يمينه، وعرشه على الماء، وفي يده الأخرى الفيض (أو القبض، أو القسط، أو الميزان) يرفع ويخفض». والحق أن ما عند الله لا نهايه له أبداً: }ما عندكم ينفد، وما عند الله باق{، فلا يمكن أن يتناهى أو ينفد، وأنى للمحدود النهائي الفاني أن يستهلك المطلق اللانهائي الباقي؟! فسبحان من لا يقدر الخلق قدره، ما أعظم شأنه، لا رب غيره، ولا إله سواه!
u فصل: النهي عن سب الريح
v أخرج مسلم عن عائشة، زوج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال: «اللهم إني أسألك خيرها، وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها، وشر ما فيها، وشر ما أرسلت به»، قالت: وإذا تخيلت السماء، تغير لونه، وخرج ودخل، وأقبل وأدبر، فإذا مطرت سري عنه، فعرفت ذلك في وجهه، قالت عائشة: فسألته، فقال: «لعله يا عائشة كما قال قوم عاد: }فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا{؟!»، هذا حديث صحيح.
v وعن أنس قال: كان النبي الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إذا هاجت ريح شديدة يقول: «اللهم إني أسألك من خير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شر ما أرسلت به»، أخرجه البخاري بإسناد صحيح في «الأدب المفرد»، وأخرج مسلم في صحيحه مثله عن عائشة.
v وعن سلمة بن الأكوع قال: كان (أي النبي الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم) إذا اشتدت الريح يقول: «اللهم لاقحاً، لا عقيماً»، حديث صحيح، أخرجه البخاري في الأدب المفرد بإسناد صحيح، وكذلك الحاكم في «المستدرك»، وقال: (صحيح على شرط الشيخين)، ووافقه الذهبي.
v وأخرج الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى الريح قال: «اللهم إني أسألك من خيرها، وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها، وشر ما فيها، وشر ما أرسلت به» وفي الباب عن أبي بن كعب، رضي الله عنه. قال أبو عيسى: وهذا حديث حسن، وهو كذلك حسن بذاته عند الترمذي، صحيح بشواهده، ومنها الحديث في صحيح مسلم.
v وأخرج الترمذي عن ابن عباس أن رجلا لعن الريح عند النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: «لا تلعن الريح فإنها مأمورة، وإنه من لعن شيئا ليس له بأهل رجعت اللعنة عليه»، قال أبو عيسى: (هذا حديث غريب لا نعلم أحدا أسنده غير بشر بن عمر). قلت: أبو محمد بشر بن عمر بن الحكم الزهراني ثقة مأمون، مجمع على وثاقته، روى عنه الأئمة من أمثال: إسحاق بن راهويه، والخلال، والفلاس، والذهلي، وغيرهم، واحتج به البخاري ومسلم، والجماعة، وقال المنذري: (لا أعلم فيه جرحاً). كما أخرجه الطبراني في «الكبير»، والبيهقي في «الشعب»، والضياء المقدسي في المختارة، فالحديث صحيح قطعاً، تقوم به الحجة. وقد جاء كذلك من غير طريق بشر بن عمر، وهو التالي، فاستغراب الإمام أبي عيسى محمد بن سورة الترمذي، رضي الله عنه، لا وجه له مطلقاً:
v أخرج أبو داود عن ابن عباس أن رجلا نازعته الريح رداءه على عهد النبي، صلى الله عليه وسلم، فلعنها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تلعنها فإنها مأمورة، وإنه من لعن شيئا ليس له بأهل رجعت اللعنة عليه»، وهذا إسناد صحيح، بل هو أصح من سابقه، لأنه من طريق أبي عمرو مسلم بن إبراهيم الأزدي الفراهيدي الشحام، وهو ثقة ثبت مأمون، وهو أحفظ وأثبت من بشر، وهو من شيوخ البخاري ومسلم والجماعة، وقد أخرج له البخاري بضع وثمانين حديثاً، وأكثر عنه أبو داود!!
v وأخرج الترمذي عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «لا تسبوا الريح! (وفي رواية لأبي داود: فإنها من روح الله تبارك وتعالى)، فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح، وخير ما فيها، وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح، وشر ما فيها، وشر ما أمرت به»، قال الترمذي: وفي الباب عن عائشة وأبي هريرة وعثمان بن أبي العاص وأنس وابن عباس وجابر. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. قلت: وهو حديث صحيح كما قال الإمام الترمذي، أخرجه كذلك أبو داود، والبخاري في«الأدب المفرد»، وأخرج مثله الحاكم في «المستدرك»، وصححه، ووافقه الذهبي.
v وأخرج أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «لا تسبوا الريح، فإنها من روح الله: تأتي بالرحمة والعذاب، ولكن سلوا الله من خيرها وتعوذوا بالله من شرها»، أخرجه من طرق عدة كل واحد منها صحيح، فالحديث صحيح، بل غاية في الصحة، وأخرجه كذلك ابن ماجه، والبخاري في «الأدب المفرد».
v كما أخرج أبو داود عن أبي هريرة، مطولاً، قال: أخذت الناس ريح بطريق مكة، وعمر بن الخطاب حاج، فاشتدت عليهم، فقال عمر لمن حوله: من يحدثنا عن الريح؟! فلم يرجعوا إليه شيئا، فبلغني الذي سأل عنه عمر من ذلك، فاستحثثت راحلتي حتى أدركته، فقلت: يا أمير المؤمنين أخبرت أنك سألت عن الريح؟! وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: «الريح من روح الله، تأتي بالرحمة، وتأتي بالعذاب، فإذا رأيتموها فلا تسبوها، وسلوا الله خيرها، واستعيذوا به من شرها». وإسناده غاية في الصحة، كما أخرج له متابعات من طرق كثيرة صحاح وحسان!
ذلك لأن الريح مصرفة مدبرة بتدبير الله وتسخيره، لا عقل لها ولا اختيار، ولا حساب عليها، ولا ثواب أو عقاب. فالسب لها يقع على من صرفها. ولولا أن المتكلم بسب الريح لا يخطر هذا المعنى في قلبه، ولا يحضر في ذهنه، لكان الأمر أفظع من ذلك، وأشنع بكثير.
u فصل: من سب الدهر فقد آذى الله
v وقول الله تعالى: }وقالوا ما هى إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر{ (الجاثية45:24).
v أخرج البخاري عن أبي هريرة عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: «قال الله عز وجل: }ؤذيني ابن آدم، يسب الدهر، وأنا الدهر: بيدي الأمر، أقلب اليل والنهار{، حديث في الصحة غاية، من أصح أحاديث الدنيا، وقد أخرجه آبو داود، وأحمد.
v وأخرج مسلم عن أبي هريرة عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: «قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم، يقول: يا خيبة الدهر (وفي رواية: يسب الدهر)، فلا يقولن أحدكم: يا خيبة الدهر، فإني أنا الدهر: أقلب ليله ونهاره، فإذا شئت قبضتهما»، وأخرجه أبو داود مختصراً، والحاكم وقال: (صحيح على شرطهما، ولم يخرجاه)، ووافقه الذهبي، وقد خرجه مسلم، كما ترى!
v وأخرج مسلم عن أبي هريرة عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: «لاتسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر». وأخرجه كذلك أحمد، وهو غاية في الصحة، بل هو كالمتواتر عن أبي هريرة.
v وأخرج أحمد بإسناد جيد قوي، على شرط مسلم، عن أبي هريرة مرفوعاً: «لا تسبوا الدهر، فإن الله عز وجل قال: أنا الدهر، الأيام والليالي لي: أجددها وأبليها، وآتي بملوك بعد ملوك».
v وأخرج أحمد عن أبي قتادة، الحارث بن ربعي، رضي الله عنه، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: «لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر». وهو حديث صحيح
وهذا واقع كثير في الجاهلية، وتبعهم على هذا كثير من الفساق والحمقى، إذا جرت تصاريف الدهر على خلاف مرادهم، جعلوا يسبون الدهر، والزمان، والوقت، وربما لعنوه. وهذا ناشيء من سخافة العقل، وقلة الورع، ومن الجهل المركب العظيم. فإن الدهر ليس عنده من الأمور شىء، فإنه مخلوق مدبَّر مصرَّف، والتصاريف الواقعة فيه تدبير العزيز الحكيم، ففي الحقيقة يقع العيب والسب على مدبره. والحال هنا لا يختلف كثيراً عنه بالنسبة للريح، فالعلة واحدة، والمعنى الجامع واحد، ودليل الخطاب واحد، فالحكم كذلك واحد، وهو نفس الحكم بالنسبة لشتى القوي الكونية غير العاقلة: من الدهر، والريح، والشمس، والزلازل، بل حتى الأمراض والحمَّى، وغيرها:
v كما أخرج مسلم، والبخاري في «الأدب المفرد»، وابن سعد في «الطبقات» من طريق أبي الزبير المكي، حدثنا جابر بن عبد الله: أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، دخل على أم السائب (أو: أم المسيب) فقال: «مالك يا أم السائب (أو: يا أم المسيب) تزقزقين؟! قالت: الحمى، لا بارك الله فيها! فقال: «لا تسبي الحمى! فإنها تذهب خطايا بني آدم، كما يذهب الكير خبث الحديد». وقد أخرج الطبراني في «الكبير» مثله من حديث فاطمة الخزاعية مرفوعاً بإسناد رجاله رجال الصحيح.
وليس سب الدهر مقصوراً على هذا الأسلوب البدائي المباشر، بل قد يأخذ صوراً مستترة أكثر تعقيدا، منها، على سبيل المثال، لا الحصر ما نص عليه بعض فقهاء عصور الإنحطاط، وبعض المعاصرين من تجويز بعض المحرمات، مثل تعدد الدول الإسلامية، أي تفرق المسلمين إلى أمم ودويلات، بدعوى «الضرورة»، و«فساد الزمان»! هذه كلها مزاعم وأكاذيب لا قيمة له شرعاً، والزمان بذاته لا يفسد، وإنما يفسد أهله، وفساد أهله سببه سوء فهمهم لدين الله، أو ضعف التقوى والإقبال على الذنوب والمعاصي، أو التكاسل عن العمل لإعادة الإسلام إلى الحياة، أو نفاق بعض «القراء»، الذين يسميهم الناس خطأً: «علماء»، للحكام الظلمة، أو مداهنتهم في دين الله، أو سكوتهم عن أنظمة الكفر التى سيطرت على بلاد المسلمين.
وظهور هذا القول ذاته: (فساد الزمان) هو مؤشر شر خطير، وعلامة انحراف كبير، لأنه في حقيقته من سب الدهر، وهو محرم لا يجوز، ومن إلقاء التهمة على المولى، جل وعز، وهو سفه، إن لم يكن كفراًً وردة. وهو تهرب من المسؤولية، وإلقاء للتهمة على من لا يتحمل مسؤليتها، في محاولة فاشلة للهروب من المسؤولية، والتزكية المحرمة للنفس، بدلاً من محاسبتها، ومراقبتها، وأخذها بالشدة إلى أمر الله، وفي أمر الله!
ولله در الشاعر عندما قال:
نعيب زماننا والعيب فينا وما بزماننا عيب سواناً
u فصل: ما جاء في عظم حرمة ذمة الله وذمة نبيه
v وقوله تعالى: }وأوفو بعهد الله إذا عاهدتم، ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها{ (النحل؛ 16:91).
v وعن بريدة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا أمر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا، فقال: «اغزوا باسم الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال (أو خلال) فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن اجابوك فاقبل منهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين، فان أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجرى عليهم حكم الله تعالى، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيىء شىء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فاسألهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم. واذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله و ذمة نبيه، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا» حديث صحيح، رواه مسلم في «الصحيح»، والترمذي، وابن ماجه، والدارمي.
v وعن النعمان بن مقرن مثله بإسناد صحيح عند مسلم.
v وأخرج البخاري عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله؛ فلا تخفروا الله في ذمته!».
v وأخرج البخاري بإسناد صحيح عن أمير المؤمنين، عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، في الحديث الطويل، وهو على فراش الموت، بعد أن أصيب، قال: (...، وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله، صلى الله عليه وسلم، أن يوفى لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، ولا يكلفوا إلا طاقتهم).
v وأخرج البخاري بإسناد صحيح عن علي، رضي الله عنه، قال: (ما كتبنا عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا القرآن، وما في هذه الصحيفة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المدينة حرام ما بين عائر إلى كذا، فمن أحدث حدثا، أو آوى محدثا، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه عدل ولا صرف؛ وذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل؛ ومن والى قوما بغير إذن مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل»). فإذا كان هذه اللعنة المدمرة، والمقت الكبير لمن أخفر مسلماً، فكيف بمن أخفر ذمة الله، وذمة رسوله؟!
v وعن عبدالله بن عمرو، رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما»، حديث صحيح أخرجه البخاري، وكذك ابن ماجه بأسانيد صحاح.
v وعن أبي بكرة قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «من قتل معاهداً في غير كنهه حرم الله عليه الجنة»، هذا كذلك حديث صحيح أخرجه النسائي، وكذلك أبو داود، وأحمد، والدارمي!
v وأخرج الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: «ألا من قتل نفسا معاهداً، له ذمة الله وذمة رسوله، فقد أخفر بذمة الله: فلا يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفا»، قال الترمذي: وفي الباب عن أبي بكرة؛ قال أبو عيسى: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
v كما أخرج البخاري بإسناد صحيح عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: [كيف أنتم إذا لم تجتبوا دينارا ولا درهما؟! فقيل له: وكيف ترى ذلك كائنا يا أبا هريرة؟! قال: إي والذي نفس أبي هريرة بيده، عن قول الصادق المصدوق! قالوا: عم ذاك؟! قال: تنتهك ذمة الله وذمة رسوله، صلى الله عليه وسلم، فيشد الله، عز وجل، قلوب أهل الذمة فيمنعون ما في أيديهم]، وأخرجه أحمد كذلك بإسناد صحيح، وزاد في آخره: [والذي نفس أبي هريرة بيده ليكونن مرتين]، وقد روي عن ابن عباس أنه قال: (...، ولا ختر قوم بالعهد، إلا سلط عليهم العدو)، فنقض العهد، وانتهاك ذمة الله وذمة رسوله وخيمة العاقبة في الدارين: في الدنيا والآخرة!
u فصل: ما جاء في التألِّي على الله
v عن جندب بن عبدالله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال رجل: (والله لا يغفر الله لفلان)، فقال الله عز وجل: }من ذا الذي يتألى عليّ أن لا أغفر لفلان؟! إني قد غفرت له، وأحبطت عملك{» رواه مسلم. وفي حديث أبي هريرة: «القائل رجل عابد».
قال أبو هريرة: «تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته» لأن الإقسام على الله، في الغالب، من باب الكبر، والعجب بالنفس، والإدلال على الله، وسوء الأدب معه، ولا يتم الإيمان حتى يسلم الانسان من تلك الفظائع المنكرة، والقبائح الشنيعة كلها.
وقد جاء ذم العجب بالنفس في أحاديث، منها ما جاء عن أنس مرفوعاً: «إن فيكم قوماً يتعبدون حتى يعجبوا الناس، ويعجبهم أنفسهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية»، حديث صحيح أخرجه أبو يعلى الموصلي. وقد تواتر النقل بالذم الشديد المغلظ للخوارج الغالين، المعجبين بأنفسهم، المكفرين لغيرهم، المارقين من الدين مروق السهم من الرمية، كما جاء، متواتراً، في العديد من الأحاديث، بعشرات الطرق الصحيحة عن جمع من الصحابة، أسلفنا طرفاً طيباً منها.
u فصل: إحسان الظن بالله
v قال الله تبارك وتعالى: }يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية، يقولون هل لنا من الأمر من شىء؟! قل إن الأمر كله لله{ (آل عمران؛ 3:154).
v وقوله: }الظانين بالله ظن السوء، عليهم دائرة السوء{ (الفتح: 6).
قال ابن القيم في الآية الأولى: [فسر هذا الظن بأنه سبحانه لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل. وفسر بأن ما أصابه لم يكن بقدر الله وحكمته. ففسر بإنكار الحكمة وإنكار القدرة، وإنكار أن يتم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يظهر على الدين كله. وهذا هو ظن السوء، الذي ظنه المنافقون والمشركون في سورة الفتح. وإنما كان هذا ظن السوء لأنه ظن غير ما يليق به سبحانه، وما يتعلق بحكمته، وحمده، ووعده الصادق.
فمن ظن أنه يديل الباطل على الحق ادالة مستقرة يضمحل معها الحق. أو انكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره. أو أنكر قدره لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد فذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار. وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم، وفيما يفعله بغيرهم. ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته وموجب حكمته وحمده. وكل ظن ينافي ذلك فإنه من ظنون الجاهلية المنافية للتوحيد لأنها سوء ظن بالله، ونفي لكماله، وتكذيب لخبره، وشك في وعده. فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا، وليتب إلى الله وليستغفره من ظنه بربه ظن السوء. ولو فتشت لرأيت عنده تعنتًا على القدر وملامة له، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر، وفتش نفسك: هل أنت سالم؟
فإن تنج منها، تنج من ذي عظيمة vvv وإلا، فإني لا إخالك ناجيا]
انتهى كلام ابن القيم رحمه الله، بتصرف وتهذيب.
وإحسان الظن بالله، وتمام الثقة به، وصدق التوكل عليه يترتب عليها، ضرورةً، دوام الرجاء فيه، وعدم القنوط من رحمته، أو اليأس من روحه:
v قال تعالى حاكياً عن يعقوب موصياً بنيه: }...، ولا تيأسوا من روح الله، إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون{. وحكى خطاب خليله، إمام الحنفاء، إبراهيم، للملائكة: }ومن يقنط من رحمة ربه إلا الظالون{. فما أحسن الظن بالله من قنط من رحمته، أو يأس من روحه وفرجه!
v أخرج البخاري عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال النبي، صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم، وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة»، هذا حديث غاية في الصحة، وأخرج مثله مسلم، وأحمد، وابن ماجه، والترمذي، وقال: (هذا حديث حسن صحيح ويروى عن الأعمش في تفسير هذا الحديث من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا يعني بالمغفرة والرحمة، وهكذا فسر بعض أهل العلم هذا الحديث قالوا: إنما معناه يقول إذا تقرب إلي العبد بطاعتي وما أمرت أسرعت إليه بمغفرتي ورحمتي، وروي عن سعيد بن جبير أنه قال في هذه الآية }فاذكروني أذكركم{ قال اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي).
v وأخرج مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يقول: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا دعاني»، حديث صحيح، غاية في الصحة، وأخرجه أحمد، والترمذي، وقال: حسن صحيح.
v وأخرج مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قال الله، عز وجل، أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حيث يذكرني؛ والله! لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بالفلاة، ومن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، وإذا أقبل إلي يمشي أقبلت إليه أهرول»، هذا حديث صحيح، وأخرجه أحمد كذلك.
v وأخرج أحمد عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل قال: «أنا عند ظن عبدي بي، إن ظن بي خيرا فله، وإن ظن شرا فله»، هذا حديث حسن.
v وأخرج أحمد عن حيان أبو النضر قال دخلت مع واثلة بن الأسقع على أبي الأسود الجرشي في مرضه الذي مات فيه، فسلم عليه وجلس، قال: فأخذ أبو الأسود يمين واثلة فمسح بها على عينيه ووجهه لبيعته بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له واثلة: واحدة أسألك عنها؟! قال: وما هي؟! قال: كيف ظنك بربك؟! قال: فقال أبو الأسود، وأشار برأسه، أي حسن، قال واثلة: أبشر! إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله، عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء!»، هذا حديث صحيح أخرجه أحمد مطولاً، ومختصراً، كما أخرجه الدارمي، والحاكم مختصراً، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال: على شرط مسلم.
v وأخرج الترمذي بإسناد حسن عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: «قال الله: يا بن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي؛ يا بن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي؛ يا بن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة»، قال أبو عيسى: (هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه)، وصححه الألباني، وهو كذلك بشواهده.
v وأخرج أحمد، بإسناد محتمل، عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «إن الله تبارك وتعالى، يقول: يا عبادي كلكم مذنب إلا من عافيت فاستغفرونى أغفر لكم، ومن علم منكم أنى ذو قدرة على المغفرة فاستغفرنى بقدرتي غفرت له ولا أبالي! وكلكم ضال إلا من هديت فسلوني الهدى أهدكم! وكلكم فقير إلا من أغنيت فسلوني أرزقكم! ولو أن حيكم وميتكم وأولاكم وأخراكم ورطبكم ويابسكم اجتمعوا على قلب أتقى عبد من عبادي لم يزيدوا في ملكي جناح بعوضة، ولو أن حيكم وميتكم وأولاكم وأخراكم ورطبكم ويابسكم اجتمعوا فسأل كل سائل منهم ما بلغت أمنيته وأعطيت كل سائل ما سأل لم ينقصني إلا كما لو مر أحدكم على شفة البحر فغمس أبره ثم انتزعها: ذلك لأني جواد ما جد وأجد، أفعل ما أشاء، عطائي كلامي، وعذابي كلامي، إذا أردت شيئا فإنما أقول له كن فيكون».
v وفي «المعجم الكبير»: حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة حدثنا إبراهيم بن إسحاق الصيني حدثنا قيس بن الربيع عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن بن عباس قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «قال الله عز وجل: بن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك؛ ولو أتيتني بقراب الأرض خطايا لقيتك على الأرض مغفرة ما لم تشرك بي، ولو بلغت خطاياك عنان السماء ثم استغفرتني لغفرت لك». هذا إسناد ضعيف، لا تقوم به الحجة، ولا يثبت به الحديث عن ابن عباس، رضي الله عنهما، ولكن المتن صحيح ثابت عن أبي ذر وأنس، رضي الله عنهما.
v وعن أبي هريرة أن رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى»، قيل: (يا رسول الله! ومن يأبى؟!)، قال: «من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى»، حديث صحيح أخرجه البخاري.
v وأخرج الحاكم في «المستدرك»، بإسناد صحيح وافقه عليه الذهبي، عنه رضي الله عنه مرفوعاً: «لتدخلن الجنة إلا من أبى، وشرد على الله كشراد البعير».
v كما أخرج أحمد عن أبي أمامة الباهلي، رضي الله عنه، أنه مر على خالد بن يزيد بن معاوية فسأله عن ألين كلمة سمعها من رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، يقول: «ألا كلكم يدخل الجنة إلا من شرد على الله شراد البعير على أهله»، وهو حديث صحيح، أخرجه كذلك الحاكم.
ولكن إحسان الظن بالله يقتضي، ضرورة، كذلك تعظيم أمر الله، واحترام حدوده، والخوف من مسائلته وعقوبته، وعدم الأمن من مكره، قال، جل وعز: }أفأمنوا مكر الله؟! فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون{، (الأعراف؛ 7:99)، لأن من لم يكن حاله كذلك فهو يعتقد، لا محالة، في أمر ربه اللعب والعبث، وفي وعده ووعيده الخداع والكذب، وهذا من أقبح الظن بالله وأسوئه! فكما أن القنوط من رحمة الله ضلال كبير، فكذلك الأمن من مكر الله خسران عظيم، وكلاهما وجهان لعملة واحدة: عدم تقدير الله حق قدره، وإساءة الظن به، والاستخفاف بأمره ونهيه، ونسبة العبث واللعب إليه، تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا.
فالرجاء مع الاصرار على المعصية، وترك الطاعة، غرور من الشيطان ليوقع الإنسان في المهالك، ويبعده عن طريق الفوز والنجاة، وليس هو من إحسان الظن بالله في قريب ولا بعيد، بل هو في الحقيقة إساءة ظن بالله، واستخفاف به وبأمره ونهيه، وعدم تعظيم له، وعدم تقديره كما هو أهله.
v وعن عقبة بن عامر الجهني، رضي الله عنه، عن النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: «إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب، فإنما هو استدراج»، ثم تلى، صلى الله عليه وعلى آله وسلم: }فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء، حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون{! هذا حديث صحيح أخرجه الطبراني في «الكنير»، والبيهقي في «الشعب»، وكذلك أحمد، وابن جرير، وابن أبي حاتم.
v وعن ابن عباس، رضي الله عنهما، أن رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، سئل عن الكبائر فقال: «الشرك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله». أخرجه الطبراني، والبزار، وابن أبي حاتم، ورجاله ثقات إلا شبيب بن بشر، وهو صدوق يخطيء، فالحديث حسن لذاته، صحيح بشهادة القرآن، وبشواهده السابقة، والتالية.
v عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، قال: (أكبر الكبائر: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله)، وهو أثر صحيح، أخرجه الطبراني في «الكبير»، وعبد الرزاق، وابن جرير بأسانيد صحاح. وهذا وإن كان موقوفاً على عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، ولكنه ليس مما يقال بالاجتهاد، ولم يكن ابن مسعود، رضي الله عنه، من أهل الجرأة على دين الله، وإحسان الظن به يرجح القول بأنه استفاده من رسول الله، عليه وعلى آله صلوات وتسليمات وتبريكات من الله!
لذلك لا بد أن يكون العبد دوماً بين الخوف والرجاء، على أن يكون في حالة المعصية إلى الخوف أقرب، من غير قنوط أو يأس، وفي مواطن الشدة: عند لقاء العدو، وفي سكرات الموت إلى الرجاء أقرب، من غير أمن لمكر الله، ولا استخفاف بحرمات الله، هذا هو الصواب، والله أعلم وأحكم، لا رب غيره، ولا إله سواه.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق