u فصل: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»
استحقاق الثواب والثناء من الله علي أي عمل من أعمال الإنسان منوط بالنية، وكذلك استحقاق العقاب والذم من الله. فمن أراد إصابة الصيد بسلاح ناري، فأخطأه، وأصاب إنساناً فقتله، فهو قاتل خطأً، لإنه المباشر أو المتسبب في القتل، ولكنه لم يرد إصابة ذلك الإنسان، فهو بالقطع ليس آثماً كإثم القاتل عمداً، وليس فعله، وإن كان قتلاً على الحقيقة، من باب القتل العمد من صدر ولا ورد. هذا مدرك بالحس والعقل، وعليه جمهور العقلاء، وقد أكده الشرع، وزاد فيه، ووسعه:
v حيث قال، جل جلاله: }مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً v وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً{، (الاسراء؛ 17:18- 19)
v وقال، تباركت أسماؤه: }قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ{. (لأعراف؛ 7:29)
v وقال، تعالى ذكره: }فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ{، (غافر:14)
v وقال، جل وعز: }هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ{، (غافر؛ 40:65)
v وقال، تباركت أسماؤه: }وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ{، (البينة؛ 98:5)
v وقال، تعالى ذكره: }وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ{، (التوبة؛ 9:46)
v وقوله، عليه وعلى اله الصلاة والسلام: «إنما الأعمال بالنيات (وفي رواية: بالنية) وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه»، حديث صحيح، من أصح أحاديث الدنيا، أجمع الأئمة على صحته، وأجمعت الأمة على تلقيه بالقبول، وأخرجه الشيخان، والجماعة، وأحمد، وابن حبان، وابن خزيمة، والنسائي في «السنن الكبرى»، وهو أيضاً في «سنن البيهقي الكبرى»، و«المعجم الأوسط» للطبراني، و«سنن الدارقطني»، و في «مسند أبي داود الطيالسي»، و«مسند الحميدي»، و«المنتقى من السنن المسندة» لابن الجارود، و«مسند الشهاب»، و«شرح معاني الآثار»، وغيرها، بعشرات بالأسانيد الصحيحة عن العشرات من أصحاب يحيى بن سعيد الأنصاري، عنه، عن محمد بن إبراهيم التيمي عن علقمة بن وقاص عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه. وجاء في «تلخيص الحبير في أحاديث الرافعي الكبير»: (قال الحافظ أبو سعيد محمد بن علي الخشاب رواه عن يحيى بن سعيد نحو من مائتين وخمسين إنسانا؛ وقال الحافظ أبو موسى سمعت عبد الجليل بن أحمد في المذاكرة يقول قال أبو إسماعيل الهروي عبد الله بن محمد الأنصاري كتبت هذا الحديث عن سبعمائة نفر من أصحاب يحيى بن سعيد، قلت: تتبعته من الكتب والأجزاء حتى مررت على أكثر من ثلاثة آلاف جزء فما استطعت أن أكمل له سبعين طريقا)، وروي من طريق الإمام مالك، إلا أنه لم يخرجه في الموطأ، وأخرجه، سوى مالك، كل أصحاب الكتب المعتمدة.
وروى نحو هذا المعنى بأسانيد مختلفة الدرجة عن علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وأبو سعيد الخدري وابن عمر وابن مسعود وابن عباس وأنس بن مالك وأبو هريرة وعتبة بن عبد السلمي وهلال بن سويد وعبادة بن الصامت وجابر بن عبد الله وعقبة بن عامر وأبو ذر وعتبة بن مسلم ومعاوية بن أبي سفيان، فالمعنى متواتر مقطوع بثبوته، مشهود عليه بآي القرآن، وضرورات الحس والعقل.
v وجاء في «صحيح مسلم» من طريق الأعرج عن أبي هريرة: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وإسحاق بن إبراهيم واللفظ لأبي بكر قال إسحاق أخبرنا سفيان وقال الآخران حدثنا بن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله عز وجل: }إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه، فإن عملها فاكتبوها سيئة، وإذا هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة فإن عملها فاكتبوها عشراً{»]، وهو في «صحيح ابن حبان» بحوه، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: (إسناده صحيح)، وأخرجه كذلك أحمد، وغيرهم.
v وجاء في «صحيح ابن حبان» من طريق محمد بن سيرين عن أبي هريرة: [أخبرنا عبد الله بن محمد الأزدي قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال حدثنا النضر بن شميل قال حدثنا هشام عن محمد عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن الله، جل وعلا، قال: (من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبتها بعشر أمثالها إلى سبع مائة؛ وإن هم بسيئة فلم يعملها لم أكتب عليه فإن عملها كتبتها عليه سيئة واحدة)]، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: (إسناده صحيح على شرط الشيخين)، وهو كما قال، وهو أيضاً في «صحيح مسلم»، وفي «مسند الإمام أحمد بن حنبل» من عدة طرق غاية في الصحة، وفي «مسند الشاميين».
v وجاء في «صحيح ابن حبان» من طريق العلاء عن أبي هريرة: [أخبرنا الفضل بن الحباب قال حدثنا القعنبي قال حدثنا عبد العزيز بن محمد عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قال الله تبارك وتعالى: (إذا هم عبدي بالحسنة فلم يعملها كتبتها له حسنة، فإن عملها كتبتها له عشر حسنات، وإن هم عبدي بسيئة ولم يعملها لم أكتبها عليه فإن عملها كتبتها واحدة)]، وعقّب الإمام أبو حاتم بن حبان، رضي الله تعالى عنه، قائلاً: [ قوله جل وعلا: (إذا هم عبدي)، أراد به إذا عزم فسمى العزم هما لأن العزم نهاية الهم، والعرب في لغتها تطلق اسم البداءة على النهاية واسم النهاية على البداءة لأن الهم لا يكتب على المرء لأنه خاطر لا حكم له ويحتمل أن يكون الله يكتب لمن هم بالحسنة الحسنة وإن لم يعزم عليه ولا عمله لفضل الإسلام فتوفيق الله العبد للإسلام فضل تفضل به عليه وكتبته ما هم به من الحسنات ولما يعملها فضل وكتبته ما هم به من السيئات ولما يعملها لو كتبها لكان عدلا وفضله قد سبق عدله كما أن رحمته سبقت غضبه فمن فضله ورحمته ما لم يكتب على صبيان المسلمين ما يعملون من سيئة قبل البلوغ وكتب لهم ما يعملونه من حسنة كذلك هذا ولا فرق]، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: (إسناده صحيح على شرط مسلم)، وهو كما قال.
v وجاء في «صحيفة همام بن منبه» من طريق همام بن منبه عن أبي هريرة: [وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: (إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعملها فإذا عملها فأنا أكتبها له بعشر أمثالها وإذا تحدث بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها ما لم يعملها فإذا عملها فأنا أكتبها له بمثلها)]
v وجاء في «سنن الترمذي» من طريق سعيد بن المسيب عن أبي هريرة: [حدثنا عمران بن موسى القزاز حدثنا عبد الوارث بن سعيد حدثنا علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن ربكم يقول: (كل حسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والصوم لي وأنا أجزي به: الصوم جنة من النار، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وإن جهل على أحدكم جاهل وهو صائم فليقل إني صائم)»]، وقال الإمام أبو عيسى الترمذي: (وفي الباب عن معاذ بن جبل وسهل بن سعد وكعب بن عجرة وسلامة بن قيصر وبشير بن الخصاصية واسم بشير زحم بن معبد والخصاصية هي أمه)، وقال أبو عيسى: (وحديث أبي هريرة حديث حسن غريب من هذا الوجه)، وقال الألباني: (صحيح)، وهو عند أحمد من طرق،
قلت: ليس علي بن زيد بن جُدْعان بذاك القوي، ولكن هذا يصح بشواهده، كما أنه قد توبع ببعض اللفظ مختصراً:
ــ كما هو في «المعجم الأوسط»: [حدثنا أحمد بن محمد بن نافع قال حدثنا أحمد بن صالح قال حدثنا عبد الله بن وهب قال أخبرني عمرو عن بكير عن بن المسيب عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «كل حسنة يعملها بن آدم بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام هو لي وأنا أجزي به»]، وقال الإمام الطبراني: (لم يروه عن بكير إلا عمرو).
v وجاء في «مسند إسحاق بن راهويه» من طريق أبي عبد الرحمن السلمي عن أبي هريرة: [أخبرنا جرير عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت عشرا ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه فإن عملها كتبت سيئة»]، لا خوف إلا من اختلاط عطاء بن السائب، فإن كان هذا قبل اختلاطه فهو إسناد صحيح.
v وجاء في «مسند الشاميين» من طريق عبد الله بن الفضل عن أبي هريرة: [حدثنا عبد الله بن محمد بن عزيز الموصلي ثنا غسان بن الربيع ثنا بن ثوبان عن عبد الله بن الفضل عن أبي هريرة عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: «إن الله، تبارك وتعالى، يقول: (إذا هم عبدي بسيئة فلم يعملها فلا تكتبوها، وإن عملها فاكتبوها واحدة، وإن تركها من أجلي فاكتبوها حسنة؛ وإذا هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة وإن عملها فاكتبوها بعشر أمثاها إلى سبع مائة ضعف)»]
قلت: فهذا نقل تواتر مقطوع بصحته عن أبي هريرة، لأنه من رواية الأعرج عنه، وكذلك: محمد بن سيرين، والعلاء، وهمام بن منبه، وسعيد بن المسيب، وأبي عبد الرحمن السلمي، وعبد الله بن الفضل، وكلهم ثقات أثبات، وربما غيرهم.
v وجاء حديث آخر في «صحيح مسلم» عن ثابت البناني عن أنس بن مالك: [حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا حماد بن سلمة حدثنا ثابت البناني عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «أتيت بالبراق، وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه»]، فساق حديث الإسراء والمعراج بطوله، ونصح موسى صلوات الله وسلامه عليه لنبينا محمد، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، بمراجعة ربه في عدد الصلوات، حتى قال: [«فلم أزل ارجع بين ربي تبارك وتعالى وبين موسى عليه السلام حتى قال: «يا محمد: إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة لكل صلاة عشر فذلك خمسون صلاة؛ ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشرا؛ ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئا فإن عملها كتبت سيئة واحدة» قال: «فنزلت حتى انتهيت إلى موسى صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: (ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف!)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: «قد رجعت إلى ربي حتى استحييت منه»]
ــ وجاء هذا بنحوه مطولاً، وكذلك مختصراً في «مسند أبي يعلى»، وقال الشيخ حسين أسد: (إسناده صحيح)، وهو كما قال، وهو على شرط مسلم كما ترى.
v وجاءت متابعة لذلك في «مسند الحارث»: [حدثنا يعلى حدثني عبد الحكم عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من هم بحسنة فعملها كتبت له عشر حسنات فان لم يعملها كتبت له حسنة واحدة ومن هم بسيئة فعملها كتبت عليه سيئة واحدة فان لم يعملها لم يكتب عليه شيء»]
v وجاء في «المعجم الصغير» عن صعصعة بن معاوية عن أبي ذر رضي الله تعالى عنهما: [حدثنا صدقة بن محمد بن خروف المصري حدثنا هشام بن محمد السدوسي حدثنا محمد بن أبي عدي حدثنا أشعث بن عبد الملك عن الحسن عن صعصعة بن معاوية عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشر أمثالها إلى سبع مائة وسبع أمثالها، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه، فإن عملها كتبت عليه سيئة أو يمحها الله، عز وجل»]، وقال الإمام الطبراني: (لم يروه عن الحسن إلا أشعث)
فهذه الأحاديث الصحاح آنفة الذكر تبرهن ليس فقط أن مدار ثواب الأعمال، (ومنها الأقوال)، وعقابها، على النية فحسب، بل هي برهان على أن النية، بمفردها من غير عمل، تستقل باستحقاق الثواب، وإن كان الله، جل جلاله، قد تفضل بالتجاوز عن العقاب، رحمة وفضلاً، ولو فعل لكان عدلاً، لا إلا إلا هو، عليه نتوكل، وبه نتأيد.
بل قد جاء ما هو أحسن من هذا: (من هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة)، وهذا يضاف إلى محو السيئات تفضلاً من الله ونعمة، ووعد الله بغفرانها مع التوبة على كل حال، تباركت ربنا ما أكرمك وأرحمك، حقاً: (لا يهلك على الله إلا هالك)، كما ثبت:
v فيما أخرجه الإمام البخاري في «الجامع الصحيح المختصر» عن بن عباس، رضي الله تعالى عنهما: [حدثنا أبو معمر حدثنا عبد الوارث حدثنا جعد أبو عثمان حدثنا أبو رجاء العطاردي عن بن عباس، رضي الله تعالى عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما يروي عن ربه، عز وجل، قال: قال: «إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك :فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها وعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات، إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة؛ ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة»]، وأخرجه مسلم، والدارمي، وأحمد من طرق، والطبراني في «المعجم الكبير»
v وأخرجه أيضاً الإمام النسائي في «السنن الكبرى»: [أخبرنا قتيبة بن سعيد قال ثنا جعفر عن الجعد أبي عثمان قال ثنا أبو رجاء العطاردي عن بن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: «إن ربكم رحيم: من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشرا إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة ولم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت واحدة أو يمحاها الله، ولا يهلك على الله إلا هالك»]، وهو بنحوه في «مسند عبد بن حميد».
v وجاء في «صحيح ابن حبان» حديث عجيب آخر عن خريم بن فاتك الأسدي، رضي الله عنه: [أخبرنا الحسن بن سفيان قال حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا أبو داود قال حدثنا شيبان النحوي قال حدثنا الركين بن الربيع عن أبيه عن عمه (وهو يسير بن عميلة) عن خريم بن فاتك الأسدي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلمم: «الناس أربعة، والأعمال ستة: موجبتان، ومثل بمثل، وحسنة بعشر أمثالها، وحسنة بسبع مائة ضعف؛ والناس موسع عليه في الدنيا والآخرة، وموسع عليه في الدنيا مقتور عليه في الآخرة، ومقتور عليه في الدنيا موسع عليه في الآخرة، ومقتور عليه في الدنيا والآخرة، وشقي في الدنيا وشقي في الآخرة؛ والموجبتان: من قال لا إله إلا الله أو قال مؤمنا بالله دخل الجنة، ومن مات وهو يشرك بالله دخل النار، ومن هم بحسنة فعملها كتبت له عشرة أمثالها، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة، ومن هم بسيئة فعملها كتبت له سيئة واحدة، غير مضعفة، ومن أنفق نفقة فاضلة في سبيل الله فبسبع مائة ضعف»]، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: (إسناده صحيح)، وهو بنحوه مع اختلف يسير في ترتيب الفقرات في «المستدرك على الصحيحين»، ومن عدة طرق في «المعجم الكبير»، وكذلك في «الآحاد والمثاني».
v وجاء في «مسند الشهاب» عن عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنه: [أخبرنا عبد الرحمن بن عمر المعدل أبنا أبو الفضل يحيى بن الربيع ثنا عبد السلام بن محمد الأموي ثنا سعيد بن كثير بن عفير ثنا بن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من هم بذنب ثم تركه كانت له حسنة ومن هم بذنب ثم عمله ثم استغفر الله منه غفر له»]، وهذا وإن لم يصح بذاته، فهو حسن صحيح بشواهده.
وهناك نصوص كثيرة مؤيدة لمقولتنا آنفة الذكر، آلا وهي: (إن النية، بمفردها من غير عمل، تستقل باستحقاق الثواب)، نكتفي ببعضها، فمن ذلك:
v ما أخرج الإمام مسلم من حديث سهل بن حنيف أنه، عليه وعلى اله الصلاة والسلام، قال: «من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وان مات على فراشه»
v وما أخرجه عن أبي هريرة مرفوعا: «من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من النفاق».
وقد استشكل بعض من لا فقه له ذلك وظنه معارض بما:
v أخرجه الإمام البخاري في «الجامع الصحيح المختصر»: [حدثنا عبد الرحمن بن المبارك حدثنا حماد بن زيد حدثنا أيوب ويونس عن الحسن عن الأحنف بن قيس قال: (ذهبت لأنصر هذا الرجل، فلقيني أبو بكرة فقال: (أين تريد؟!)، قلت: (أنصر هذا الرجل!)، قال: (ارجع فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: « إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار!»، فقلت: (يا رسول الله: هذا القات، فما بال المقتول؟!)، قال: «إنه كان حريصا على قتل صاحبه»]، وهذا إسناد في غاية الصحة والاتصال، بأتم لفظ وأوجزه، وأخرجه الإمام البخاري في «الصحيح» من طرق أخرى، ومسلم من عدة طرق، وأخرجه الإمام أبو داود في «سننه» من طرق، وكاد الإمام النسائي أن يستوعب كل طرقه في «السنن الكبري» وكذلك في «المجتبى من السنن»، وهو في «صحيح ابن حبان» من طرق عدة، وجاء في «مسند الإمام أحمد بن حنبل»: من طرق كثيرة، وأخرجه الإمام البيهقي في «سنن البيهقي الكبرى» متقصياً، كعادته الحميدة، أصح الطرق وأنظفها.
قلت: مما لا شك فيه أن الأحنف بن قيس، رضي الله عنه، كان مصيباً في حمله السلاح لنصرة الإمام الحق، إمام الهدى علي بن أبي طالب، سلام الله عليه، على الفئة الباغية، التي ثبت بغيها، وتوجب قتالها حتى تفيء إلى أمر الله، وكان أبو بكرة مخطئاً في تنزيل حديث رسول الله على تلك الواقعة، ولكن الله لم يكلفنا قط قبول رأي أبي بكرة، وإنما كلفنا فقط قبول روايته، وهو والله الثقة المأمون.
أما بخصوص موضوعنا فليس ثمة تعارض ها هنا، فالمقتول لم يرد قتل صاحبه ثم ترك تلك الإرادة وعاد إلى منزله حتى يستحق ثواب الحسنة الكاملة الموعود، كلا بل هو خرج من الإرادة إلى الفعل، فخرج من بيته، واستل سيفه من غمده، ثم أهوى به إلى صاحبه يريد قتله، إلا أن الأجل سبقه فكان هو المقتول، ولولا ذلك لكان هو القاتل.
ومن ضعف فقهه إلى درجة عدم إدراك مثل هذه البديهيات فالأولى به أن يترك الفقه واستنباط الأحكام لأهلها، وليبحث عن مهنة يستطيع أن يبدع ويحسن فيها، فإن الله كتب الإحسان على كل شيء، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها:
فثبت إذاً ثبوتاً قطعياً، بلا شبهة: أن الإنسان قد يثاب على النية المجردة، كما أشار إليه القرآن، وفصلته الأحاديث، فمن باب أولى أن يثاب على فعل المباح المحض، إذا صحبته نية صالحة، أو نباهة ذهن، وحضور قلب، وذكر لله، سبحانه وتعالى، بأي وجه من الوجوه الحسنة الجميلة: كالتقوِّي به على الواجبات والمستحبات، أو التمرس بمباعدة المكروهات والمحرمات، أو فعله بـ«وعي»، وهو حاضر الذهن، منتبه القلب على كونه قد أباحه الله، مستسلماً لحكم الله، أو فرحاً مسروراً برخصة الله، أو لغير ذلك من الاعتبارات الجميلة، التي جاءت بها الأدلة.
فالثواب إذاً على تلك النية، وذلك الذكر القلبي، وليس على الفعل المباح من حيث هو فعل مجرد مباح بذاته. فالمباح لذاته، أي الذي لا يستحق فاعلة مثوبة ولا عقوبة، محال أن ينقلب إلى مستحب، وإلا اختلت موازين الشريعة، واختلط الحابل بالنابل، معاذ الله.
والاستدلال الذي ذكرناه أعلاه، وما يشبهه وما هو من جنسه، هو الاستدلال الصحيح، وليس ما زلت به أقدام بعض الأكابر، من أمثال الإمام النووي، رضي الله عنه، ورفع درجته، حيث قال في شرحه على صحيح مسلم: (وفي هذا دليل على أن المباحات تصير طاعات، بالنيات الصادقات) مستشهداً بقوله، عليه وعلى اله الصلاة والسلام: «وفي بضع أحدكم صدقة».
فاستدلال الإمام النووي قطعاً استدلال باطل، ذلك أن قوله، عليه وعلى اله الصلاة والسلام: «وفي بضع أحدكم صدقة»، وكذلك قوله: «فكذلك فافعلوا فإنه من أماثل أعمالكم آتيان الحلال»، نصوص قاطعة بأن «الجماع» مستحب لذاته، يثاب فاعله، فليس هو إذاً مباح محض، لا يثاب فاعله ولا يأثم، فكيف جعله الإمام النووي، رحمه الله، مباحاً محضاً، كما يفهم من جملته، واشترط من ثم وجود نية معينة لاستحقاق الثواب؟!
بل إن الإمام أبا محمد علي بن حزم فهم الأمر في قوله، تعالى ذكره: }فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله{، أنه للوجوب، فجعل الجماع، ولو مرة مرة واحدة في كل طهر، فريضة، وليس فقط مباحاً أو مستحباً، وهذا أولى بالصواب!!
ثم أين ذكر النية في الحديث حتى يقال أن فيه دليلاً على أن الفعل المباح «ينقلب» بالنية الحسنة إلى مستحب، ومن ثم طاعة؟!
ثم إن استخدام لفظة طاعة ها هنا ليس بجيد، ولعل الإمام النووي قصد: المستحبات، وإلا فإن عمل المباح طاعة، وترك الحرام طاعة، والقيام بالفرض طاعة، لأن «الطاعة: هي طاعة التشريع»: فالإلتزام بحكم الله وشرعه هو الطاعة، لا فرق بين تحريم الحرام، وتحليل المباح، وإيجاب الواجب، وجعل كذا شرطاً لكذا، وهذا سبباً لذاك، واعتماد كذا وكذا رخصة، وذاك عزيمة، وهلم جراً.
لذلك نؤكد ونكرر ونشدد: أنه لا يجوز أن يقال أن المباح انقلب بـ«النية الحسنة» مستحباً، لأنه ليس كذلك في ذاته، وإنما كان الثواب على أمور أخرى صاحبته، فلا يجوز خلط هذا بهذا، وإلا اختلت مقاييس الشرع، واختلط الحابل بالنابل.
لذلك يحتاج المستحب لذاته، وهو الذي يستحق فاعله الثواب والثناء من الله، ولا يستحق تاركه مؤاخذة أو ذماً أو عقوبة من الله، والمكروه لذاته وهو الذي يستحق تاركه الثواب والثناء من الله، ولا يستحق فاعله مؤاخذة أو ذماً أو عقوبة من الله، يحتاجان كلاهما إلى دليل مستقل لأنهما خلاف الإباحة المحضة المطلقة الأصلية، وما كان هكذا فلا بد له من دليل، وإلا كان قولاً على الله بغير علم، وشرعاً من الدين ما لم يأذن به الله، أي إحداثاً وابتداعاً في الدين: هذه هي طريق الهلكة، المفضية إلى الكفر والضلال البعيد.
u فصل: الإسلام دين كامل
إن جميع أفعال العباد الاختيارية هي محل الحكم الشرعي، لا يخرج شيء منها عن ذلك، لقوله سبحانه وتعالى: }ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء{ (النحل؛ 16:89)، وقوله، تباركت أسماؤه: }... فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول، إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر{، (النساء؛ 4:59)، وقوله، جل وعز: }وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله{، (الشورى؛ 42:10)، ومعلوم بضرورة الحس والعقل أن الناس قد اختلفوا في كل شيء، وتنازعوا في كل شيء، حاشا ضروريات وأوليات الحس والعقل عند العقلاء، وحتى هذه خالف فيها السوفسطائيون، ....، والمجانين! فوجب، يقيناً، رد كل شيء وقع فيه خلاف وتنازع إلى حكم الله.
والرد }إلى الله والرسول{ لا بد، ضرورة، أن يكون فيه رفع الخلاف، كل خلاف، وفض النزاع، كل نزاع، وإلا كان أمر الله كذباً وتضليلاً، بإحالته عند النزاع إلى من ليس لديه فض النزاع، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً! لذلك لا بد من القطع والجزم بأن الكتاب والسنة فيهما فصل كل خلاف، وفض كل نزاع، لا يشك في ذلك إلا جاهل مركب دابته أفقه منه وأعقل، أو كافر خبيث!
ثم وجدناه، سبحانه وتعالى، أحال، في الوحي، أي في الكتاب والسنة، ما كان من شؤون «الدنيا»، أي خواص العالم المحسوس، وطبائعه، من جنس تأبير النخل: أي علوم الفيزياء والكيمياء والفلك وطبقات الأرض، وحرف الطب والزراعة والصناعة والهندسة، ونحوها، إلى الناس، أي إلى الحس والتجربة، والنظر والعقل، إحالة عامة، على وجه الإجمال: مراقبة وتجربة ودرساً وتنظيراً، وانتفاعاً وتطبيقاً. واستأثر بما سوى ذلك، وهو ضرورة من «الدين»، أي الشريعة العامة، والطراز المعين من العيش، لنفسه، وبالأخص ما كان: من الخبر عن ذاته العظيمة المقدسة، وملائكته الأطهار، واليوم الآخر، ونحوه، ومن الحكم على أفعال العباد، بالحل والحرمة والوجوب، وعلى أخلاقهم بالحسن أو القبح، ونحوه.
وقد استغرقت الشريعة المطهرة الخاتمة كل أفعال العباد بأحكامها على أكمل وجه، لما ذكرناه، ولقوله تعالى: }اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام ديناً{، (المائدة؛ 5:3)، مؤكداً، عقيبها مباشرة، في تناسب بديع، على أحكام الاضطرار المتعلقة بالمحرمات من الطعام، التي سبق نزولها في أوائل الوحي المكي: }فمن اضطر في مخمصة، غير متجانف لإثم، فإن الله غفور رحيم{، (المائدة؛ 5:3). فالدين قد كمُل، وهو الإسلام لا دين غيره، وليس غيره إلا الجاهلية والكفر، والنعمة قد تمت، ليس وراءها إلا النقص، ثم المصائب والنقم، في معصية الله، ومخالفة أمره، وعدم التقيد بشرعه، ثم بعد ذلك في الآخرة: النار الأبدية، واللعنة السرمدية!
والالتزام بالأحكام الشرعية هو القصد من خلق الإنسان، وهو معنى الوجود الإنساني، قال تعالى: }وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون{، (الذاريات؛ 51:56)، والعبادة هي التسليم، والخضوع، والطاعة، المبنية على منتهى الحب والتعظيم، أي الالتزام بكل أمر ونهي، كما سنفصله بما لا مزيد عليه، إن شاء الله تعالى، في هذا الكتاب!
وقد أوجبت الشريعة الكاملة أعمالاً، هي «الفرائض» أو «الواجبات»، لا تسقط إلا «بعدم القدرة»، أو برخصة شرعية منصوص عليها لتلك الفريضة بعينها، كالصيام في السفر، حتى ولو كان سفراً غير شاق، مع بقاء وجوبه على من ابتلي بعمل بدني شاق، مشقته قد تفوق مشقة السفر على ظهر الراحلة بكثير، ما دام قادراً!
وحرمت أعمالاً، هي «المحرمات»، لا يرخص لأحد فيها إلا برخصة منصوص عليها شرعاً، كالرخصة في الكذب في مواطن معدودة، جاء النص بها. وكذلك في أحوال الضرورة والإكراه الملجئ، أي الأحوال المؤدية إلى الموت، أو تلف الأعضاء، أو الأذى بالتعذيب والضرب الشديد يقيناً.
وحتى أحوال الضرورة هذه لا تبيح للإنسان قتل غيره، أو اتلاف أعضائه، فليست نفس المكره المضطر أعلى مرتبة أو أولى بالصيانة من نفس الغير. والضرورة، والإكراه الملجيء بالتهديد بالقتل المؤكد، لا يبيح للمسلم أن ينصر الكفار الحربيين على قتال المسلمين وقتلهم لأن جمهور العلماء، بل لعله إجماعهم، على أن المكره على القتل ليس له أن يفعل ذلك، لأن نفسه ليست أولى من نفوس الآخرين بالصيانة والحفظ، هذا بين واضح، وإليك كلام جيد للإمام شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، رضي الله عنه:
v حيث قال الإمام في «الفتاوى الكبرى»، (ج: 4 ص: 351): [....، فلا ريب أن هذا يجب عليه إذا أكره على الحضور أن لا يقاتل وإن قتله المسلمون كما لو أكرهه الكفار على حضور صفهم ليقاتل المسلمين، وكما لو أكره رجل رجلا على قتل مسلم معصوم، فإنه لا يجوز له قتله باتفاق المسلمين، وإن أكرهه بالقتل فإنه ليس حفظ نفسه بقتل ذلك المعصوم أولى من العكس. فليس له أن يظلم غيره فيقتله لئلا يقتل هو، بل إذا فعل ذلك كان القود على المكرِه والمكرَه جميعا عند أكثر العلماء كأحمد ومالك والشافعي في أحد قوليه وفي الآخر الجواب يجب القود على المكرِه فقط كقول أبي حنيفة ومحمد وقيل القود على المكرَه المباشر كما روي ذلك عن زفر وأبو يوسف يوجب الضمان بالدية بدل القود ولم يوجبه]، أنتهى كلام ابن تيمية، وقد كرر نحوا من هذا الكلام في موضع آخر من «مجموع الفتاوى»، (ج: 28 ص: 540).
v وله في «كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في الفقه»، (ج: 28 ص: 537) كلام جيد من زاوية أخرى: [...، بل قد أمر النبى المكره فى قتال الفتنة بكسر سيفه وليس له أن يقاتل، وإن قتل، كما فى صحيح مسلم عن أبى بكرة قال قال رسول الله أنها ستكون فتن ألا ثم تكون فتن ألا ثم تكون فتن القاعد فيها خير من الماشى و الماشى فيها خير من الساعى ألا فإذا نزلت أو وقعت فمن كان له إبل فليلحق بابله ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه قال فقال رجل يا رسول الله أرأيت من لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض قال يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر ثم لينج أن إستطاع النجاة اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت فقال رجل يا رسول الله أرأيت أن أكرهت حتى ينطلق بى إلى إحدى الصفين أو إحدى الفئتين فيضربنى رجل بسيفه أو بسهمه فيقتلنى قال يبوء باثمه وإثمك ويكون من أصحاب النار]
هذان نصان في غاية الجودة من كلام الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية، قدس الله سره، ورفع درجته، فتأمله حق تأمله، وراجعه مراراً.
وهناك أفعال، وهي، بحمد الله وتيسيره، أكثر أفعال العباد: ترك للمكلف الخيار فيها: إن شاء فعل، وإن شاء ترك. وربما كان الفعل في بعضها أولى، وهي «المستحبات». وقد يكون الترك في بعضها أولى، وهي «المكروهات». وربما تعادل الطرفان، وهي «المباحات». والمكلف يفعل المباحات أو يتركها، باختياره، على ما يظهر له في كل حالة ووضع من منفعة أو مصلحة، فيقوم بصفقة «مباحة»، ويترك أخرى «مباحة» لما ظهر له من كثرة ربح الأولى، وقلة الثانية، ويتجنب ثالثة «مباحة» خشية الخسارة!
فالنظر في المصالح والمنافع، وبضدها المفاسد والمضار، إنما يرد إذا كان أصل الفعل مباحاً، لا غير. فلا بد من دراسة لمشروعية الفعل، أي فعل، والوصول إلى حكم الله فيه أولا. فإذا ثبت أنه مما خُيِّر المكلف فيه، ورد حينئذ، وحينئذ فقط، النظر في المصالح والمنافع، وما يقابلها من مفاسد ومضار.
وعلى هذا فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يترك واجباً، بغير رخصة شرعية، أو لعدم قدرة، أو يرتكب حراماً، من غير إكراه ملجئ، بدعوى درء المفسدة، أو جلب المصلحة، مهما عظمت. فليس في ما أوجب الله مفسدة، مطلقاً، ولا في ما حرمه مصلحة، مطلقاً!
وكل ما يقال بخلاف ذلك ما هو إلا وسوسة من الشيطان، وطعن في الشريعة الكاملة، وترك لما خلقنا من أجله، وهو: «العبودية»، أي الطاعة والالتزام بالأحكام الشرعية، وإقبال على ما كفيناه، وهو: الأرزاق، والمعايش، و«المصالح»، بل ولا حتى النصر أو التمكين.
فنحن لم نكلف بالنصر والتمكين لأنهما من أفعال المولى، جل وعلا، وإنما كلفنا بالجهاد، وبالحكم بما أنزل الله حال التمكين. وكذلك كلفنا الله بالدعوة إليه على بصيرة، والعمل على نشر الدعوة، والعمل على إظهار الدين، ولم يكلفنا قط بـ«انتشار الدين» أو بـ«ظهور الدين»، فهذه من أفعال الله تبارك وتعالى، وتدبيره للأمر، وتصرفه الإلاهي في الكون، وتلك من أفعال العباد الاختيارية التي هي موضع التكليف!
والنصوص الشرعية، أي نصوص الوحي، أي الكتاب والسنة، كافية بحمد الله، لجميع الوقائع، من يوم وفاة النبي، صلوات الله وسلامه وتبريكاته عليه، إلى آخر الأبد. لا يقال أن الوقائع والأحداث والمستجدات غير متناهية، والنصوص متناهية، لأن الوقائع غير المتناهية هي الوقائع العينية، والأحداث المشخصة، أما أصناف الوقائع، وأجناس الأحداث فهي نهائية محدودة تشملها النصوص على الكفاية، والتمام، والكمال. فصلاة زيد، غير صلاة عمرو، وهكذا إلى ما لا نهاية، ولكن جنس الصلاة واحد، أو أجناس قليلة محصورة، قد استوعبتها النصوص، وهكذا!
v فقد أخرج ابن ماجه، بإسناد غاية في الصحة، عن سلمان الفارسي، رضي الله عنه، قال: قال له بعض المشركين، وهم يستهزئون به: (إني أرى صاحبكم يعلمكم كل شيء حتى الخراءة؟!)، قال: (أجل: أمرنا أن لا نستقبل القبلة، ولا نستنجي بأيماننا، ولا نكتفي بدون ثلاثة أحجار، ليس فيها رجيع ولا عظم)، وفي لفظ لأحمد بإسناد غاية في الصحة: قال رجل: (إني لأرى صاحبكم يعلمكم كيف تصنعون حتى إنه ليعلمكم إذا أتى أحدكم الغائط؟!)، قال: قلت: (نعم، أجل، ولو سخرت: إنه ليعلمنا كيف يأتي أحدنا الغائط، وإنه ينهانا أن يستقبل أحدنا القبلة، وأن يستدبرها، وأن يستنجي أحدنا بيمينه، وأن يتمسح أحدنا برجيع ولا عظم، وأن يستنجي بأقل من ثلاثة أحجار). وقد أخرج مثله، من غير ذكر الاستهزاء، بأسانيد صحاح، الأئمة: مسلم، والترمذي، والنسائي، وأحمد وغيرهم.
تأمل هذا المشرك العنيد، بل الحمار البلبد، وتعجب من رباطة جأش سلمان، وحسن جوابه، وعظيم أدبه، وحسن تعامله وتجمله، وما تضمنه الجواب من أحكام وآداب.
فإذا كان كلام سلمان حقاً، ونحن نشهد بالله الذي لا إله إلا هو أنه حق، فكيف يسوغ لمن يزعم أنه يؤمن بالله واليوم الآخر أن يزعم أن الشريعة فيها «مناطق فراغ»، أو «ثغرات»، أو أن هناك ما لم يأت به نص؟! ثم يذهب لملئه بالهوى والابتداع الذي يسمونه بالأسماء الجميلة، أي بغير اسمه القبيح، لتضليل الناس. ومن هذه الأسماء الجميلة المضللة: (فهم السلف الصالح)، (جلب المصالح، ودرء المفاسد)، (تسكين الدهماء، وإسكات الرعاع)، (سيرة العقلاء)، أو (خشية الفتنة)، التي هي «الحجة» المحببة إلى قلوب الخونة من فقهاء السلاطين، أخزاهم الله وأبعدهم، ولعنهم وأبادهم: }ألا في الفتنة سقطوا، وإن جهنم لمحيطة بالكافرين{.
v وأخرج الطبراني بإسناد صحيح عن أبي ذر، رضي الله تعالى عنه، قال: [تركنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وما طائر يقلب جناحيه في الهواء إلا وهو يذكر لنا منه علماً]، قال: فقال، صلوات الله وسلامه وتبريكاته عليه وعلى آله: «ما بقي شيء يقرب من الجنة، ويباعد من النار، إلا وقد بين لكم». هذا حديث صحيح، قد برهنا على صحته في الملحق، مؤيد لما ذكرنا من كمال الدين، وتمام النعمة.
v وفي «الجامع الصحيح المختصر» للبخاري: [حدثنا موسى بن مسعود حدثنا سفيان عن الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة رضي الله تعالى عنه قال لقد خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم خطبة ما ترك فيها شيئا إلى قيام الساعة إلا ذكره علمه من علمه وجهله من جهله إن كنت لأرى الشيء قد نسيت فأعرفه كما يعرف الرجل إذا غاب عنه فرآه فعرفه]
فلا صحة إذن لما تورط فيه جهلة المنتسبين إلى الدعوة الوهابية، والمتسمين زوراً وبهتنانآ بـ«السلفية»، من أن الدين كان ناقصاً حتى استكمل فهمه الصحيح السلف الصالح من القرون الثلاثة الفاضلة، أو حتى من الصحابة، أو حتى من الخلفاء الراشدين، وهم يقولون ذلك تلميحاً، بضحالة وسطحية، وتفاهة فكر، كما هي عادة القوم، للأسف الشديد، من معاداة الفكر، ونبذ التعقُّل والعقل، والإيغال في تفاهة النظر والرأي.
نعم: هم يقولون هذا من غير تحرير للمسألة، ولا دراسة متعمقة لها، لا تصريحاً بني على فكر عميق، لأن التصريح بذلك بعد تحرير المسألة كفر.
وهم بقولهم: القرآن والسنة بفهم السلف الصالح يحكمون لا محالة بنقص الدين، وعدم كمال البيان، ولا بتمام النعمة عند وفاة النبي، صلوات ربي وسلامه وتبركاته عليه وعلى آله، فكأن النبي لم يفهم، أو فهم ولم يبين، معاذ الله!
كما أنهم يطعنون في ختم النبوة، وعالمية الرسالة من حيث لا يشعرون، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، فما أعظم تلبيس إبليس؟!
بل القرآن والسنة ميسرة للذكر، مفهومة لكل من أراد تدبرها، ونفر للتفقه فيها كما أمر الله في سورة التوبة، لا فرق بين «سلف صالح»، و«خلف طالح»!
أما الكسالى والسطحيين الذين أبوا أن ينفروا للتفقه في الكتاب والسنة، وأخلدوا إلى راحة التقليد و«اتباع السلف الصالح»، أما هؤلاء فلن يفقهوا ما أنزل الله على وجهه، وسيبقون متخبطين بين قال فلان، ورد عليه فلتان، وإن قلتم قلنا، ولنا أحمد بن حنبل، ولكم مالك بن أنس: وهكذا في دوامة لا تنتهي من الأقوال المتباينة، والمزاعم المتناقضة. وسترى في هذه الرسالة القصيرة الكثير من ذلك، ليس فقط من قصور الفهم وإسائته، بل من الأغلاط الشنيعة الفاحشة، والزلات المدمرة المهلكة!
وأكثر أدعياء «السلفية» هؤلاء جهلة عوام، يتبعون مشايخ ليسوا بأحسن منهم كثيراً في العلم. وهم في الجملة لا يعرفون أقوا «السلف» واختلافهم، ويندر أن تجد منهم من تصفح «مصنف ابن أبي شيبة»، أو «سنن سعيد بن منصور»، مجرد تصفح، ناهيك بالدراسة المتأنية، دع عنك «مصنف عبد الرزاق» أو حتى «الأوسط» لابن المنذر، ولكنهم يجيدون المزاعم الكاذبة، والدعاوى العريضة، كشأن كل غبي جاهل، وعادة كل سطحي تافه.
ونحن إنما اطلنا الكلام على «أدعياء السلفية» هؤلاء، واستطلنا في عرضهم، لأنهم أكثر خلق الله تزكية للنفس، فهم «أهل العقيدة الصافية الصحيحة»، وغيرهم مبتدع ضال، أو مرتد كافر. فهم، بزعمهم العريض، وادعائهم المجرد: «الفرقة الناجية»، و«الطائفة المصورة»، وغيرهم هالك أو معذب. فما أشبههم بالخوارج الغالية الهالكة، وأحقهم بأوفر نصيب من قوله، عليه وعلى آله الصلاة والسلام: «من قال هلك الناس، فهو أهلكهم».
كما أنه لا صحة، كذلك، لما تورط فيه بعض الإسلاميين المعاصرين، وكذلك قلة من القدامى، من الزعم بوجود «فراغ تشريعي» يملؤه الناس بـ«العقل»، أو «الاستحسان»، أو «المصالح المرسلة»، أو «قياس الشبه»، أو «سيرة العقلاء»، أو بمراعاة «روح التشريع ومقاصده»! ولا صحة لقول من قال أن الوحي فصَّل في العقائد، والعبادات، وأجمل في المعاملات!
ويكفي لإبطال هذا الوهم الخطير، الذي يؤول إلى الكفر، حديث سلمان السالف الذكر في ما يتعلق بالطهارة وآداب الخلاء، أما فيما يتعلق بالمعاملات فيكفي إحصاء البيوع المنصوص على فسادها وحرمتها، وهي نيف وأربعون نوعاً، بعضها نادر جداً، لا يكاد يعرف! فأين الإجمال يا أهل الإنصاف؟! ثم حتى لو لم يذكر إلا صنفاً واحداً من البيوع فحرمه، كان ذلك بذاته دليلاً على أن البيوع سواه مباحة حلال، كما أصلناه في الفصول السابقة، لا سيما مع قوله تعالى: }وأحل الله البيع، وحرم الربا{، فأين الفراغ التشريعي إذاً؟! وهل كل هذه المزاعم الساقطة إلا أساطير الرخ والعنقاء؟!
ولكن الحق هو ما نص عليه الإمام الحجة محمد بن إدريس الشافعي، رضي الله عنه، حين قال في «الرسالة»: [فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها!]. نعم، صدقت يا أبا عبد الله! هذه حقيقة يقينية ثابتة: جهل ذلك من جهله، أو علمه من علمه.
وقد فصل ذلك وأصله الإمام الحجة أبو محمد علي بن حزم، رفع الله درجته، في كلامه الذي نقلناه آنفاً قبل عدة صفحات، حيث دحض أقوال المخالفين دحضاً، فطحنها، ومزقها تمزيقاً!
وهذه الأقوال الخبيثة الملعونة إنما تصدر من:
(1) أقوام كفرة من أهل النفاق الاعتقادي، يبطنون الكفر، ويظهرون الإسلام، ويريدون مزج الشريعة بالكفر، تدريجياً وبطريقة حذرة، حتى إذا فسدت أذواق الناس، وتبلدت أحاسيسهم، أماطوا اللثام، ثم نزعوا الثياب، ومشوا عرايا مظهرين العورة المغلظة، أي أظهروا الكفر البواح. وقد كثر هذا في عصرنا هذا (أواخر القرن الهجري الرابع عشر، وأوائل الخامس عشر الحالي)، وهم في أغلبيتهم من الحكام والمتنفذين.
(2) أو من قوم فسقة كسالى: أعيتهم السنن أن يحفظوها، أو أن يراجعوها في مصادرها، وقصرت هممهم عن تمييز صحيحها من سقيمها، وتكاسلوا عن بذل الجهد، واستفراغ الوسع في تدبر معانيها واستنباط الحكمة والهدى منها،
(3) أو من مقلدة جامدين، جهلة مبتدعين، ظلاميين متخلفين، أحالوا عقولهم، التي كرمهم الله بها، إلى التقاعد، ونصبوا لأنفسهم أحباراً ورهباناً، جعلوهم في مرتبة القداسة، يتبعونهم اتباع الدواب العجماء لقادتها!
نعم: لا ننكر أنه قد زلَّت القدم ببعض العلماء المخلصين الأكابر: فقاس بعضهم الشريعة الإلاهية الكاملة على الشرائع الوضعية الناقصة، المملوءة، ضرورة، بالثغرات، والتي تحتاج إلى ترقيع ثقوبها، وملء ثغراتها بـ«روح التشريع»، و«الاستحسان»، و«سيرة العقلاء»، و«المصالح المرسلة»، و«سد الذرائع»، وغيره من الفضائح والمخازي، والدجل والهراء!
والعالم المخلص الورع، أياً كانت مرتبته، لا يجوز أن يتابع على زلته، ولكن يستعاذ بالله منها، ويتضرع إلى الله أن يغفرها له، كما نفعل الآن سائلين الله لجميع علماء الأمة المخلصين الأثبات الذين أخطئوا في هذا الباب، مجتهدين طالبين للحق بعد استفراغ الجهد، وبذل الوسع، من الله المسامحة عن الخطأ والعفو والغفران، وعلى بذلهم الوسع جزيل الثواب والرحمة والرضوان، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم؛
أما فقهاء السلاطين الخونة، والحكام الجبابرة الظلمة الفسقة، فلا رحمهم الله، ولا غفر لهم، بل عليهم من الله لعنة وغضب وسخط، وتعساً لهم، وأضل أعمالهم.
u فصل: محمد، صلى اله عليه وعلى آله وسلم: }يحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث{
v قال الله، سبحانه وتعالى: }الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ{، (لأعراف؛ 7:157).
v وقال، تعالى ذكره: }يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ{، (المائدة؛ 5:4)
v وقال، جل جلاله: }الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ{، (المائدة؛ 5:5)
v وكذلك قال، تقدست أسماؤه: }فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً{، (النساء؛ 4:160).
ونسارع فنبين أن قولنا عن شئ أنه طيب في ذاته، أو لاعتبارات ومتعلقات لتلك الذات، أو خبيث في ذاته، أو لاعتبارات ومتعلقات لتلك الذات، يعني أنه كذلك في إطار هذا الكون، الذي هو مخلوق، حادث، وممكن من الممكنات،، وليس واجب الوجود، ولا هو ضروري، وإنما هو هكذا بجعل الله له، جعلاً تكوينياً قدرياً، وتقديره إياه، تقديراً كونياً، هكذا وفق الإرادة الإلاهية الكونية القدرية الحرة الطليقة المتعالية على كل قيد أو شرط، فليس وراء الله سلطة، ولا فوقه حاكم، بل هو العلي الأعلى، والحكيم الأحكم، وهو الأول والآخر، والظاهر، والباطن، وهو بكل شئ عليم. فالطيب إنما هو كذلك بجعل الله له كذلك، في إطار كون ممكن معين، لا لأمر ذاتي ضروري، أو لضرورة مفاهيمية مطلقة، والخبيث كذلك: فالخبيث إنما هو كذلك بجعل الله له كذلك، لا لأمر ذاتي ضروري: فالمرجع هو الله في كل شأن تكويني قدري.
والحلال هو ما أحله الله، أي جعل الانتفاع به متروكاً للمكلف: إن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل، من غير ملامة عليه، ولا ذم أو توبيخ. فالحلال هو: ما أحله الله بحكمه الديني التشريعي؛ وكذلك الحرام هو: ما حرمه الله بحكمه الديني التشريعي، حرفاً بحرف: فالمرجع هو الله في كل شأن تشريعي ديني.
فالله جل جلاله هو الأول والآخر، وهو المرجع وإليه المنتهى، وهو كذلك الآخر: فليس وراء الله غاية، بال هو غاية الغايات وهو منتهى النهايات!
وهذه الآيات البينات المباركات، المرفوعات المطهرات، بيان ساطع، وبرهان يقيني قاطع، على الحقائق التالية:
(1) أن مفهوم «الطيب» مغاير لمفهوم «الحلال»، وهو مستقل عنه تمام الاستقلال: فالطيب إنما كان طيباً لأن الإرادة الإلاهية الكونية القدرية جعلته هكذا، والحلال إنما كان حلالاً لأن الإرادة الإلاهية التشريعية الدينية حكمت به هكذا. وكذلك مفهوم «الخبيث»، و«الحرام» متغايران مستقلان عن بعضهما تمام الاستقلال، كما أسلفناه بالنسبة لمفهوم «الطيب» و«الحلال» حرفاً بحرف!
(2) أن الله، جل جلاه، بوصفه الرب كامل الربوبية، والسيد التام السيادة، قد يحرم بعض الطيبات (وكذلك سواء بسواء قد يحل بعض الخبائث، كما سيأتي بيانه قريباً).
فكون الشيء طيباً في ذاته، كما هو معلوم لله تعالى، أو خبيثاً في ذاته، كما هو معلوم لله تعالى، على أهمية ذلك، هو في مراتب الاعتبار دون اتصاف الله بالربوبية والسيادة، وأقل مرتبة من حقه أن يحكم بما يشاء ويختار فيحرم الطيبات، ويحل الخبائث إن شاء، ولا معقب على حكمه: }لا يسأل عما يفعل وهم يسألون{.
فمهما شرع رب العزة، جل جلاله، أو حكم، فإن حكمه وشرعه نهائي مطلق، فوق كل مراجعة، ولا يجوز أن يخضع لأي مساءلة، بل طاعته مطلقاً، بدون قيد أو شرط فريضة شرعية مطلقة، وهي قبل ذلك ضرورة عقلية ملزمة.
(3) أن هذه الأمة الخاتمة مرحومة، وقد خصت بنبي خاتم من خصائصه الكبرى، وفضائله العظمى أن امتن الله عليه بإباحة كل طيب، وتحريم كل خبيث، خلافاً للأمم السابقة التي ضربت عليه الآصار، ووضعت في أعناقها الأغلال، فحرمت عليها طيبات كانت حلالاً قبل ذلك، وهي حلال بعد ذلك في هذه الشريعة المباركة الخاتمة، كما هو بنص القرآن، وحرمت علي هذه الأمة المرحومة خبائث كانت مباحة في الشرائع السابقة، كالخمر مثلاً.
وقد قام البرهان على أن الإسلام دين كامل، قد استوعبت نصوصه، بحمد الله، أحكام كل شيء، أي كل الأعيان والأفعال، إلى يوم القيامة، من غير حاجة إلى بحث في حقيقة العين أو الفعل: هل هو طيب أو خبيث؟!
بل الحق أن ما ثبت بالنصوص، في هذه الشريعة المباركة الخاتمة، من الأعيان والمنافع، أنه حلال فهو طيب لا محالة، وما ثبت أنه حرام فهو خبيث لا محالة، وذلك بضمانة الله، جل جلاله لذلك. أي أننا نشهد بشهادة الله أن كل ما أحل الله من المنافع والأعيان، في هذه الشريعة المباركة الخاتمة، فهو طيب في ذاته، وكل ما حرمه، في هذه الشريعة المباركة الخاتمة، من ذلك فهو خبيث في ذاته.
فالبحث في كون الأعيان والمنافع (وربما بعض الأفعال والأقوال) طيبة أو خبيثة في ذاتها، وما هي ماهية الخبث أو الطيبة، وما هي جزئياتها ومركباتها، ومدى ارتباط ذلك بالنسب والمتعلقات، والظروف والملابسات، على أهميته من الناحية المعرفية والفلسفية، ليس له كبير أهمية أو قيمة من الناحية التشريعية، مع رجحان كونه في ذاته مستحيلاً إلا لمن أحاط بكل شيء علماً، وهو الله العزيز الحكيم.
وحتى لو سلمنا بإمكانية ذلك من حيث المبدأ، فإن واقع التشريع الإنساني، وما نشاهده عند كافة الأمم والشعوب من سن التشريعات، ثم فشلها بعد سنين أو عقود، أو حتى قرون، وإلغائها وسن غيرها، يجبرنا على أن الاعتقاد أن ذلك لا يتحقق، لعسره وشدة غموضه، إلا مع مرور الأزمنة وتعاقب أجيال من الدارسين والمفكرين، والسياسيين والمشترعين، وبكلفة ومشقة ضخمة، وتجارب خطرة فاشلة، لا تتناسب في أغلب الأحيان مع صغر النتيجة وهزالها.
وحتى لو سلمنا جدلاً أن العقل الإنساني قادر، من حيث المبدأ على استجلاء خواص الشيء المدروس، وعلاقته بغيره من الأشياء في الكون، وما يترتب عليه من المصالح والمنافع واللذَّات والمتعة، في العاجل والآجل، فهو من ثم قادر على الوصول إلى حكم «عقلاني» بأن هذا الشيء طيب أو خبيث، وحتى لو سلمنا جدلاً أن ذلك في غاية اليسر والسهولة، حتى لو سلمنا بكل ذلك جدلاً، فلا محصول يرجى من ذلك، باستثناء المتعة العقلية المحضة في معالجة تلك المباحث المعقدة المتشابكة.
أما الحكم الشرعي فقد ثبت قبل ذلك بالنص الشرعي، ولا يجوز إلا أن يكون ثبوته إلا بالنص الشرعي، لأن الإيمان والإسلام هو الرد لله ورسوله، كما أشبعناه برهنة في كتابنا هذا: (التوحيد: أصل الإسلام، وحقيقة التوحيد)، ومحال أن يكون غير ذلك.
وما قلناه آنفاً عن «الخبائث» ينطبق حرفاً بحرف على «الفواحش»، فكون الشيء فاحشة أمر ذاتي فيه لا علاقة له بورود الشرائع. و«الفاحشة» هي مجاوزة الشيء، أو الفعل، لحده اللائق به، وهو مفهوم يستخدم عادة في تصنيف الأفعال والأقوال، وكذلك العلاقات والنسب والنظم المجردة، وكذلك الأمور الوضعية والاتفاقية، ولا تحضرني الآن، ولا حالة واحدة، استخدم فيه لوصف عين أو منفعة، وإنما توصف المنافع والأعيان بـ«الخبث» وليس بـ«الفحش».
ونؤكد فنقول أن قولنا عن شئ أو فعل أنه «فاحشة»، في ذاته، أو لاعتبارات ومتعلقات لتلك الذات، إنما هو هكذا بجعل الله له، جعلاً تكوينياً قدرياً، وتقديره إياه، تقديراً كونياً، هكذا وفق الإرادة الإلاهية الكونية القدرية الحرة الطليقة المتعالية على كل قيد أو شرط، في إطار كون ممكن معين، لا لأمر ذاتي ضروري.
وقد حرم الله «الفواحش» ما ظهر منها، وما بطن في هذه الشريعة الخاتمة، تماماً كما حرم «الخبائث»، وذلك بدلالة الآيات التالية:
v قال، جل جلاله وسما مقامه: }قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ «الْفَوَاحِشَ» مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً، وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ{، (لأعراف؛ 7:33)
v وقال، عز وجل: }قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا «الْفَوَاحِشَ» مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ{، (الأنعام؛ 6:151).
فنص جل جلاله على أنه، في هذه الشريعة المباركة الخاتمة في أقل تقدير، قد حرم جنس الفواحش، أي الفواحش كلها،ما ظهر منها وما بطن، فصار الأمر بالنسبة لـ«الفواحش» من الأقوال والأفعال، وكذلك العلاقات والنسب والنظم المجردة، وكذلك الأمور الوضعية والاتفاقية، كمثيله بالنسبة لـ«الخبائث» من الأعيان والمنافع تماماً، حرفاً بحرف، فما قلناه آنفاً عن «الخبائث» ينطبق ها هنا بأحرفه عن «الفواحش»، فلا نطيل بإعادته، وبالله التوفيق.
وقد رخص الله للأمم السابقة في «خبائث» و«فواحش» عادت وبالاً عليها، كما هو بين من إحلال «الخمر» لهم، التي هي أم الخبائث، ومن مشروعية «الملكية الوراثية» لبني إسرائيل، وهو نظام خبيث ملعون فاحش، ألحّ القوم عليه، وترددوا إلى نبيهم مطاليين بعناد به، ولعله كان مفتاح هلاك بني إسرائيل ودمارهم، كما هو مفصل في كتابنا: (الحاكمية، وسيادة الشرع)، على نحو هو تصديق لقوله، عليه وعلى آله الصلاة والسلام: «إنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم»:
v كما جاء في «الجامع الصحيح المختصر» للإمام البخاري: [حدثنا إسماعيل حدثني مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: «دعوني ما تركتكم: إنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»]، هذا الإسناد صحيح كالشمس، بل هو «السلسلة الذهبية» من أسانيد أبي هريرة. وهو في «صحيح مسلم» بلفظ: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم»، وأيضاً في «صحيح مسلم» بلفظ آخر: «ذروني ما تركتكم، (وفي حديث همام: ما تركتم) فإنما هلك من كان قبلكم ...»، كما أنه في أكثر الصحاح، والسنن والمعاجم والمسانيد بأصح الأسانيد.
ونسارع ها هنا إلى التأكيد على أمرين:
أولاً: أن الله تكفَّل فقط في هذه الشريعة المباركة الخاتمة بتحريم الفواحش والخبائث، أما في الشرائع السابقة فليس الأمر كذلك: فيجوز أن تكون بعض الفواحش والخبائث مكروهة فقط، أو مباحة محضة من غير كراهية، وذلك لأن الله هو السيد المطلق السيادة، كما أسلفنا،
وثانياً: أن الفاحشة لا يجوز أن يكون مأموراً بها من الله جل جلاله، لا أمر أيجاب، ولا على وجه الاستحباب، لأن المستحب مأمور به أيضاً، وذلك لأن الله جل جلاله، قد حرم على ذلك على نفسه، أزلاً وأبداً. أي أن ذلك لا يقع من الله بموجب «القداسة»، و«القداسة» هي: السلامة من كل عيب ونقص، والتعالي فوق كل خسة ودناءة، وذلك هو مقتضى قوله، جل جلاله، وسمى مقامه: } إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء{، وسنفصل الكلام عن هذه الحقيقة المهمة في فصل لاحق بعنوان: ( } إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء{).
ونزيد ما سلف من القواعد العامة، والمفاهيم الكلية، إيضاحاً بتطبيقه على بعض الأمثلة مبتدئين بمثال «لحم الخنزيز»، الذي ثبت بالنصوص الشرعية القاطعة أنه حرام، فالأمر بالنسبة لـ«لحم الخنزيز» لا يخرج عن واحد من الاحتمالات التالية:
(1) أن يعتقد الإنسان حرمته لأن الله حرمه، فيكون بذلك مسلماً مؤمناً، راداً إلي الله ورسوله. ولا يضر في ذلك إن اعتقد:
(أ) أنه حرم لخبث ذاتي فيه، تفضلاً من الله ونعمة، ولطفاً ورحمة بعباده حيث كفاهم مؤنة البحث والتنقيب، وأعطاهم النتيجة سهلة ميسورة. وهذا هو الواجب اعتقاده لأهل الإسلام في هذه الرسالة الخاتمة لما ذكرناه أعلاه.
(ب) أنه حرم ابتلاءً وتعبداًمحضاً، أو تشديداً وعقوبة، أو تأديباً وتهذيباً وتدريباً على معالي الأمور، أو لغير ذلك مما هو معلوم لله، أو لمحض التعبد وممارسة الرب جل وعلا لحق الربوبية ومرتبة السيادة، مع كونه من الناحية الحسية والطبية طيباً في ذاته، بل لعله من أطيب اللحوم وأشهاها. وهذا قول جيد، ومعتقد لا بأس به لأتباع الشرائع السابقة، ولمن لم يعلم ببرهاننا أعلاه من أهل الإسلام، وهو قول الفيلسوف اليهودي فيلو الأسكندراني، الذي كان معاصراً للسيد المسيح عيسى بن مريم، صلوات الله وسلامه وتبريكاته عليه وعلى والدته.
(2) أن يعتقد الإنسان عدم جواز أكله لأنه خبيث في ذاته، والعقل يوجب على العاقل تجنب الخبيث والضار. هذا هو ما ينتظر من العقلاء قبل مجئ الرساله، وقيام الحجة، أما بعد مجئ الرسالة، وتمام البيان، وقيام الحجة، فهذا معتقد كفر يخرج صاحبه عن الملة، لأنه قبول لتشريع العقل، أي جعل العقل رباً وسيداً وإلاهاً من دون الله، أو قبول حكمه بغير إذن من الله، وهو على كل حال عدم رد إلى الله ورسوله، وهذا هو الشرك، شرك الكفر، المناقض للإسلام كل المناقضة، المخرج من الملة. فالمتورط في شئ من ذلك مشرك كافر، خارج عن الإسلام، إلا من عذر بجهل أو تأويل أو إكراه، ونحوه من موانع تكفير المعين.
ويزداد هذا القول فحشاً، وكفراً على كفر، إذا جعل التحريم على الله واجباً بموجب حكم العقل عليه بأنه «خبيث» لأسباب منها:
(أ) لأن في ذلك إيجاب وتحريم على الله ما لم يوجبه أو يحرمه على نفسه، وهذا مناقض عقلاً للألوهية ومن أخص خصائصها: السيادة والمرجعية النهائية،
(ب) ولأنه تكذيب صريح لنص القرآن القاطع بأن تحريم بعض الطيبات قد وقع فعلاً في شرائع سماوية سابقة، جاء بها الوحي، وكانت هي الدين الحق قبل نسخها. فهذا اتهام لله بمخالفة الحق الذي كان واجباً عليه وفق هذا الزعم الداحض الباطل، ومن ثم الوقوع ضرورة في الباطل والعدوان والظلم، وهذا أقبح من سابقة: لأنه منتهى الكفر وهدم العقل، أو هو طعن في ورود القرآن من عند الله، وهذا كفر أيضاً، وخروج عن الإسلام.
غير أن الأمر يختلف اختلافاً تاماً إذا جاء النص الشرعي في هذه الشريعة المباركة الخاتمة واصفاً لشيء، عيناً كان أو فعلاً، بأنه «خبيث»، فحينئذ لا بد من القطع، في هذه الشريعة المحمدية الخاتمة في أقل تقدير، بأنه حرام، إلا إذا جاء بيان بأن ذلك لاعتبار مخصوص، أو بقيود معينة، كما جاء بالنسبة للثوم، والبصل، وغيرها من المأكولات ذات الرائحة المنتنة، حيث وصفها الشارع بالخبث، إلا أنه أبان أيضاً أن ذلك لاعتبار الرائحة الكريهة فقط:
v حيث جاء في «صحيح مسلم»: [وحدثني عمرو الناقد حدثنا إسماعيل بن علية عن الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال لم نعد أن فتحت خيبر فوقعنا أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في تلك البقلة، الثوم، والناس جياع فأكلنا منها أكلا شديدا ثم رحنا إلى المسجد فوجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الريح فقال من أكل من هذه الشجرة «الخبيثة» شيئا فلا يقربنا في المسجد»، فقال الناس: (حرمت، حرمت)، فبلغ ذاك النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: «أيها الناس: إنه ليس بي تحريم ما أحل الله لي، ولكنها شجرة أكره ريحها!»]، وهو أيضاً في «مسند الإمام أحمد بن حنبل»، كما أنه في «سنن البيهقي الكبرى»
ــ وهو في «صحيح ابن خزيمة»: [أنا أبو طاهر نا أبو بكر نا أبو موسى محمد بن المثنى نا عبد الأعلى ثنا سعيد الجريري (ح) وثنا أبو هاشم زياد بن أيوب نا إسماعيل نا سعيد الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد قاله بمثل حديث مسلم]، ثم قال ابن خزيمة:(هذا حديث أبي هاشم، وزاد أبو موسى في آخر حديثه: «وإنه يأتينني من الملائكة فأكره أن يشموا ريحها»)
v وفي «مسند الإمام أحمد بن حنبل»: [حدثنا عبد الملك بن عمرو قال ثنا خالد بن ميسرة ثنا معاوية بن قرة عن أبيه قال نهى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن هاتين الشجرتين «الخبيثتين» وقال: «من أكلهما فلا يقربن مسجدنا!»، وقال: «ان كنتم لا بد آكليهما فأميتموهما طبخا»، قال يعنى البصل والثوم]، وهو في «السنن الكبرى للنسائي»، كما أنه أيضاً في «شرح معاني الآثار».
ففي ما سلف وصف النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بعض الأشجار بأنها خبيث، ففهم الصحابة ذلك على الفور، وللوهلة الأولى، كما هو الواجب المحتوم القطعي، الذي لا يجوز خلافه، على أنه تحريم لها، غير أنه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بين لهم أن هذا الوصف بـ«الخبث» في هذه الحالة إنما هو لنتن رائحتها، وهو «خبث» في جانب محدود من جوانبها، لم يؤد إلى تحريمها، وإنما فقط لتحريم إتيان المساجد حتى تزول رائحتها، كما أنه أرشد إلى إماتة الرائحة بالمبالغة في طبخها. ولما كان النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، له علاقة خاصة بجبريل وملائكة الوحي، صلوات الله وسلامه عليهم، كانت الكراهية في حقه أشد، كما سلف، وكما يظهر من الأحاديث التالية:
v كما جاء في «صحيح مسلم» بمزيد بيان: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا كثير بن هشام عن هشام الدستوائي عن أبي الزبير عن جابر قال: نهى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن أكل البصل والكراث فغلبتنا الحاجة فأكلنا منها فقال: «من أكل من هذه الشجرة المنتنة فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تأذى مما يتأذى منه الإنس»]، وهو بنحوه في «صحيح ابن حبان»، وهو أيضاً في «سنن البيهقي الكبرى»، وهو في «مسند أبي يعلى»، وقال الشيخ حسين أسد: (رجاله رجال الصحيح).
v وفي «صحيح مسلم» ما يشير أن الامتناع عن أكلها من خصوصياته، صلى الله عليه وعلى آله وسلم: [وحدثني أبو الطاهر وحرملة قالا أخبرنا بن وهب أخبرني يونس عن بن شهاب قال حدثني عطاء بن أبي رباح أن جابر بن عبد الله قال، (وفي رواية حرملة وزعم) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا أو ليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته»، وإنه أتي بقدر فيه خضرات من بقول فوجد لها ريحا فسأل فأخبر بما فيها من البقول فقال قربوها إلى بعض أصحابه فلما رآه كره أكلها قال: «كل فإني أناجي من لا تناجي»]، وفي «مسند الإمام أحمد بن حنبل» شطره الأول إلى قوله: «وليقعد في بيته»، وهو أيضاً في «صحيح ابن خزيمة» بنحو حديث أحمد، وكذلك في «المعجم الصغير للطبراني».
v وفي «صحيح ابن خزيمة»: [أنا أبو طاهر نا أبو بكر نا يونس بن عبد الأعلى نا بن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن بكر بن سوادة ان أبا النجيب مولى عبد الله بن سعد حدثه ان أبا سعيد الخدري حدثه انه ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الثوم والبصل والكراث وقيل يا رسول الله وأشد ذلك كله الثوم أفتحرمه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلوه، ومن أكله منكم فلا يقرب هذا المسجد حتى يذهب ريحه منه»]، وهو أيضاً في «سنن البيهقي الكبرى».
v وفي «السنن الكبرى للنسائي»: [أنبأ محمد بن المثنى قال حدثنا يحيى بن سعيد قال حدثنا هشام قال حدثنا قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة أن عمر بن الخطاب قال: (إنكم أيها الناس تأكلون من شجرتين ما أراهما إلا خبيثتين هذا البصل والثوم لقد رأيت نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما من الرجل أمر به فأخرج إلى البقيع فمن أكلهما فليمتهما طبخا)]، وهو في «السنن الكبرى للنسائي»: [أخبرنا محمد بن عبد الله بن المبارك قال ثنا شبابة بن سوار قال ثنا شعبة عن قتادة به إلى منتهاه]، وهو في «مسند الحميدي» بنحوه.
v وفي «شرح معاني الآثار»: [حدثنا فهد قال ثنا أبو غسان قال ثنا قيس عن أبي إسحاق عن شريك بن حنبل عن علي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: «من أكل هذه البقلة فلا يقربنا، أو يؤذينا في مساجدنا»]، وعقَّب الإمام الطحاوي قائلاً: (فكره قوم أكل البقول ذوات الريح أصلا واحتجوا في ذلك بهذه الآثار وخالفهم في ذلك آخرون وقالوا إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم، عن أكلها لا لأنها حرام ولكن لئلا يؤذي بريحها من يحضر معه المسجد وقد جاء في ذلك آثار أخر ما قد دل على ذلك).
وبخلاف موضوع الثوم والبصل، وعلى الضد منه، فإن التحريم لعمل قوم لوط تحريم قاطع، بدلالة قوله تعالى: }وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ{، (الانبياء؛ 21:74). ورأس تلك الخبائث إتيان الرجال شهوة من دون النساء، كما يظهر يقيناً من الآيات الكريمة التالية:
v وقال، تباركت أسماؤه: }ولُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ v إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ{، (لأعراف؛ 7: 80-81).
v وقال، جل جلاله وسمى مقامه: }وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ v أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ{، (النمل؛ 27:54-55)
v حيث قال، تعالى ذكره: }أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ، وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ، وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ، فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ{، (العنكبوت؛ 29:29).
v وقال، عز وجل: }أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ v وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ{، (الشعراء؛ 26:165-166).
فلو لم تأت إلا آيات العنكبوت والشعراء لما ثبت بها تحريم في هذه الشريعة الخاتمة لأنها تكون حينئذ، ضرورة ولا بد كما برهنا عليه في كتابنا هذا: (كتاب التوحيد: أصل الإسلام، وحقيقة التوحيد)، شريعة منسوخة لا يحل اتباعها. ولكن تصنيف «عمل قوم لوط» الذي أنكره عليهم نبيهم لوط، صلوات الله عليه، أشد الإنكار، ودعاهم إلى تركه، تصنيفه بأنه «خبيث»، أي أنه «خبيث» بذاته قبل ورود الشرع بخطاب يتعلق به، وهو إتيان الذكران شهوة من دون النساء، مع ما ذكرنا أعلاه من القواعد اليقينية، يوجب القطع بأنه محرم أيضاً في هذه الشريعة الخاتمة، وحتى قيام الساعة الكبرى في آخر الزمن.
ويزداد هذا وضوحاً بدلالة آيات الأعراف والنمل حيث وصف إتيان الرجال شهوة من دون النساء بأنه «فاحشة»، فهو محرم أيضاً حرمة قطعية بموجب كونه «فاحشة». وقد انعقد الإجماع اليقيني من الصحابة، ومن بعدهم من أهل الإسلام، على حرمة «عمل قوم لوط»، وقد جاءت في ذلك أحاديث ليس هذا موضع ذكرها.
ونسارع فنكرر ونؤكد مرة أخرى في الختام: أن كون بعض الأشياء: أعياناً، وأقوالاً، وأفعالاً تستحق أن تسمَّى خبائث أو فواحش لأمور ذاتية فيها، أو لاعتبارات ومتعلقات لتلك الذات، إنما هو بجعل الله لها كذلك بتقديره التكويني في إطار كون معيَّن، فليس من ذلك شئ ضروري بالضرورة العقلية أو المفاهيمية المطلقة، التي يستحيل خرقها، لأن الكون بأكمله بنظامه الأساسي، وشروطه الابتدائية ممكن، مخلوق، حادث؛ وهو هكذا بجعل الله له بأمره التكويني القدري. وهناك أكوان ممكنة لا خبث ولا فواحش فيها (مثال ذلك: الجنة التي هي دار السلام)، وهناك أكوان أخرى ممكنة لا تصلح لحياة كائنات مكلفة أو حتى حية أصلاً، وهكذا أبداً: كل ذلك ممكن ولن يخرج ممكن الوجد إلى الوجود فعلياً إلا بجعل الله وخلقه، وبإذن الله التكويني القدري: }إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون{!
نعم: هناك مقولات قليلة فاحشة في كل الأكوان الممكنة، لكونها تتناقض مع الضرورات العقلية المطلقة وفي مقدمتها كون الباري، جل وعلا، تباركت أسماؤه، وسمى مقامه، هو الواحد الأحد، الحي القيوم، الحق المبين، كالقول بأن لله شريكاً، أو أنه ليس على كل شئ قدير، أو القول أنه ما أحاط بكل شئ علماً، أو الزعم بأنه يكذب، أو أنه يظلم ويعتدى، أو أنه يخلف الميعاد، حاشا لله، تعالى ربنا وتقدس! هذه مقولات كاذبة باطلة في كل الأكوان، فاحشة في كل الأكوان، لكونه تتناقض مع كون الرب، جل جلاله وسما مقامه، هو الواحد الأحد الحق المبين، فمن رابع المستحيلات أن يكون مأموراً بها في أي شريعة متخيلة، في أي كون ممكن، معاذ الله!
وطريق النجاة في هذا الكون الذي نحن الآن فيه، أثناء هذه الدنيا وعلى هذه الأرض التي نعيش فوقها، بعد مجئ سيدي أبي القاسم محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله، النبي الأمي خاتمة أنبياء الله، عليه وعلى آله صلوات وتسليمات وتبريكات من الله، بعد مجيئه بهذه الرسالة الخاتمة، طريق النجاة هو: الرد إلى النصوص الشرعية، أي إلى نصوص الكتواب والسنة، فقط لا غير، لأنها هي وحدها النصوص الشرعية، والبحث فيها، للتوصل إلى حكم الله في كل مسألة.
فالنصوص الشرعية هي «سفينة نوح»، من ركبها سلم ونجا، ومن تخلف عنها غرق وهلك، مهما خادع نفسه فتوهم أنه قادر على مصارعة الأمواج، والإفلات من الطوفان باللجوء إلى رووس الجبال.
على أن الرد إلى الله ورسوله، أي إلى النصوص الشرعية ضرورة، هو الإسلام والإيمان والإحسان، وهو جوهر «العبودية» التي خلق الإنس والجن لها. فحتى لو كان البحث العقلي في ماهية الأشياء: أعياناً، وأفعالاً، وأقوالاً لمعرفة كونها «طيبة»، أو لكونها «خبيثة» أو «فاحشة»، حتى لو كان هذا ممكناً، بل وفي غاية اليسر والسهولة، لما جاز ذلك في حق من يطلب الوصول إلى الحكم الشرعي، لأن ذلك ليس رداً إلى الله ورسوله، وإن كان جائزاً في إطار الدرس الموضوعي، أو البحث الفلسفي، لمعرفة طبائع الأشياء وماهياتها، أو لغير ذلك من المقاصد والأهداف الواجبة أو المستحبة أو المباحة، ولكنه لا يجوز مطلقاً بقصد معرفة حكم الله فيها.
وعلى ذلك فلا محصول من الجدل البيزنطي العقيم: هل التحسين والتقبيح عقلي محض، أو شرعي محض، أو كلامها بتركيبة معينة، أو ترتيب معين. نقول: هذا قد يكون مبحثاً فكرياً فلسفياً، أو شرعياً محترماً، ولكنه نظري محض، ليس ورائه عمل، وليس هو من باب السنة والبدعة من صدر ولا ورد، كما زعم بعض المهووسين، من المعتزلة قديماً، أو من أدعياء السلفية حديثاً، المعجبين بأنفسهم وعقيدتهم «الصحيحة»، المزكين لأنفسهم الشاهدين لها بأنهم وحدهم «الفرقة الناجية» و«الطائفة المنصورة»، القائلين بلسان حالهم، إن لم يكن، بكل وقاحة، بلسان مقالهم: (لن يدخل الجنة إلا من كان سلفياً)، فنقول لهم: }تلك أمانيهم، قل: هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين v بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن، فله أجره عند ربه، ولا خوف عليهم، ولا هم يحزنون{، (البقرة؛ 2:111-112)!
ونحن إنما أمرنا فقط: }اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم{، وقيل لنا قطعاً: }اليوم أكملت لكم دينكم{، وفي هذا كما أسلفنا الكفاية التامة المطلقة لكل حكم من الأحكام إلى يوم القيامة الكبرى، ولسنا نبالي أكان ما جاء النص بحسنه معقولاً أو غير معقول، ممكناً أن يدرك بالعقل مستقلاً أو غير ممكن، أو مدركاً بالعقل ثم الشرع، أو بالشرع ثم بالعقل، أو بالشرع والعقل في آن، أو بالشرع فقط.
هذا هو الحق الذي يجب اعتقاده، ولا يجوز العمل بغيره لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، ومن كفر فإن الله غني عن العالمين.
u فصل: } إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء{
أسلفنا قريباً أنه من الجائز أن يأذن الله ببعض «الفواحش» و«الخبائث»، وأن يحرم بعض «الطيبات»، كما وقع فعلاً في الشرائع السابقة، ولكن من المحال الممتنع أن يأمر بـ«الفاحشة» أصلاً، أي أن يجعلها فريضة واجبة واجبة، أو مندوبة مستحبة، لا في شريعة سابقة، ولا في هذه الشريعة المباركة الخاتمة، ومن باب أولى. ليس في هذا الكون، ولا في غيره من الأكوان الممكنة، التي يوجد فيها ما يستحق أن يسمَّى فاحشة أصلاً:
البرهان القاطع على ذلك: أن الله، تباركت أسماؤه، وتعالى ذكره، قال: }وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ: إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ، أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ{، (لأعراف؛ 8:28) ، فهذا خبر يقيني صادق، أزلاً وأبداً، لا يتصور في العقل ما يناقضه، ولا يمكن نسخه لأن الأخبار لا تنسخ: (أنه، جل جلاله، لا يأمر بالفحشاء)، ولم يأمر بها قط في سابق الأزمنة، ولا في شئ من الأكوان الممكنة. وقال، جل وعز: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ{، (النور؛ 24::21)، ومن المحال الممتنع أن يأمر الله بما يأمر به إبليس، عدو الله!
وقد أسلفنا أن الحكم العقلي على الأعيان بالخبث والطيبة قد يكون في غاية الصعوبة، وهو ها هنا كذلك بالنسبة لما هو مستحق أن يسمَّى «فاحشة». بل لعل الحكم على فعل أو قول، وكذلك الحكم على العلاقات والنسب والنظم المجردة، وعلى الأمور الوضعية والاتفاقية، بأنه «فاحشة» بموجب العقل، إن سلمنا جدلاً بأنه ممكن من حيث المبدأ، أكثر صعوبة وعسراً من الحكم على شيء بأنه «خبيث»، لأنه يتطلب النظر في دوافع الفعل وبواعثه، وماهية الفعل نفسه، ومما ذا يتركب، وبماذا يرتبط، ثم النظر فيما يترتب عليه من أشياء وأفعال وحوادث، لا تكاد تنحصر في هذا الكون الفسيح المترامي الأطراف!
فمن رابع المستحيلات إذاً أن يثبت بنص الشرع، (أو بضرورة الحس والعقل مع استبعادنا أن يكون ذلك مدركاً بالحس، أو نظر العقل، منفردين)، أن فعلاً من الأفعال فاحشة من حيث هو، ثم يأتي من الله أمر بفعله وجوباً، أو حتى استحباباً، لأن المستحب مأمور بفعله، وإن كان الأمر به ليس جازماً، وليس على تاركه حرج أو ملامة، إلا أنه مأمور به. ومن المحال الممتنع أن يأمر الله بفعل، ثم يظهر بعد ذلك أن ذلك الفعل كان فاحشة
ونسارع إلى التنبيه بأن التقابل بين «الخبيث» و«الطيب» في الأعيان والمنافع الموجب لها بأحكام «الحرام» و«الحلال»، في هذه الشريعة الخاتمة المباركة، وكذلك البرهان الملزم الذي أقمناه على أن الأصل في الأشياء، لا سيما الأعيان والمنافع، هو الإباحة، مما يترتب عليه ضرورة أن «الشئ» المعين لا بد أن يكون خبيثاً أو طيباً، لا محالة؛ هذا التقابل ليس له ما يماثله فيما يتعلق بمفهوم «الفاحشة» مطلقاً.
نعم: قد تكفل الله في، في هذه الشريعة الخاتمة المباركة، بتحريم كل فاحشة: هذا حق. ولكن ما ليس بفاحشة من الأقوال والأفعال، وكذلك العلاقات والنسب والنظم المجردة، وكذلك الأمور الوضعية والاتفاقية، قد يكون واجباً، أو مستحباً، أو مباحاً، أو مكروهاً، أو حتى حراماً؛ وقد يكون أمراً وضعياً يدخل تحت مفاهيم الشرط أو السبب أو المانع أو الرخصة أو العزيمة، وغير ذلك من الأحكام الوضعية. فكون الشئ (خصوصاً: الأقوال والأفعال) ليس فاحشة، ومن ثم ليس باطلاً محرماً، لا يوجب له حكماً معيناً، لا فرق بين كون الحكم تكليفياً كالوجوب أو الاستحباب أو الإباحة أو الكراهة أو حتى التحريم؛ أو كونه حكما وضعياً كجعله شرطاً، أو سبباً، أو مانعاً أو رخصة أو عزيمة أو الحكم عليه بالصحة أو الفساد أو البطلان، ونحو ذلك. كل ذلك يحكم الله فيه بما يشاء وفق الحكمة الإلاهية، والتفرد بالسيادة والربوبية والحاكمية.
وحتى لا يبقى كلامنا عامَّاً مجرداً يصعب استيعابه يحسن بنا أن نتأمّل مثلاً فردياً معيناً ألا وهو كشف المرأة البالغة للعورة المغلظة، أي السوأتين، لغير حليلها، وهو من المحرمات المعلومة من الدين الإسلامي بالضرورة، لأنها من المقطوع بثبوته بأدلة القرآن، والسنة المتواترة، وإجماع أهل الإسلام المتيقن، المقطوع به.
فكشف المرأة للعورة المغلظة «حرام» مقطوع بحرمته، (بغض النظر عن مرتبة الحرمة: أهو من الصغائر المحرمة، أم من كبائر الذنوب)، وهو أيضاً بذلك «فاحشة» بالضرورة الشرعية بموجب كونه «حراماً». البرهان على ذلك ظاهر من قوله، جل جلاله، وسما مقامه: }قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ «الْفَوَاحِشَ» مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً، وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ{، (لأعراف؛ 7:33).
فهذه قسمة حاصرة تبين أن المحرمات أربعة أصناف رئيسية:
(أ) القول على الله بغير علم، وهو أشنعها، ولا يكون إلا في الأقوال والمعتقدات. وليس كشف العورة من جنس الأقوال والمعتقدات، فليس هو من هذا الباب قطعاً؛
(ب) الشرك بالله، شرك الاعتقاد الذي هو شرك الكفر، وذلك بأن يجعل مع الله إلاهاً آخر، وشرك العمل، والشرك الخفي، كالرياء، ونحوه، وليس كشف العورة من الشرك الاعتقادي أو العملي في صدر ولا ورد، فليس هو إذاً من هذا الصنف بلا شك ولا جدال،
(ج) وليس هو إثم عدوان وبغي على حقوق الآخرين، كما هو بين، نعم: كشف العورة قد يكون فيه إزعاج لبعض الناس، وإثارة للبعض الآخر، وربما متعة لصنف ثالث، ولكن لا يقول أحد في العالم أنه بغي وظلم للآخرين، كسفك الدماء وأخذ الأموال وأكلها بالباطل، وضرب الظهور والأبشار، وانتهاك العرض والحرمة بالقذف والسباب، ونقض العهود والمواثيق، وما شابه ذلك،
(د) فلزم ضرورة أن يكون من الصنف الرابع، وهو «الفواحش»، بالمعنى الضيق، وهو بداهة من الفواحش الظاهرة،
نقول: الفواحش بالمعنى الضيق لأن الإثم والبغي والعدوان هو أيضاً تجاوز للحد اللائق، فهو إذاً فحش وإسراف بالمعنى الواسع، وكذلك الشرك بالله هو اعتداء على حق الله في أن يعبد وحده لا شريك، واعتداء على العقل والصدق بالكذب في زعم وجود شريك للباري، وهو ادعاء لوجود المحال الممتنع، فالشرك إذاً فحش وإسراف بالمعنى الواسع، والقول على الله بغير علم أوغل في الإسراف والفحش، وفي الظلم والعدوان على حق الله، وعلى العقل الذي هو مناط التكليف.
فلو قال قائل: كل المحرمات فواحش، بهذا المعنى الواسع، لكان مصيباً. فعلى هذا تكون إضافة الأصناف الثلاثة الأخيرة في الآية من باب إضافة الخاص إلى العام.
كما نلاحظ أن الترتيب للأصناف الأربعة الرئيسة في الآية الكريمة هو ترتيب تصاعدي للصنف العام، بمعنى: أن أقبح أنواع الفواحش بالمعنى الضيق (عمل قوم لوط مثلاً) لا تصل في الإثم إلى درجة أعلى أنواع البغي والعدوان (القتل، وانتهاك الأعراض بالاغتصاب وقذف المحصنات)، وهذه بدورها ليست في الشر بمرتبة من جعل مع الله إله آخر، وهذه وإن كانت كذباً وإفكاً وقولاً على الله بغير علم، إلا أنها ليست في مرتبة من اتهم الله بالظلم أو السفه أو بمخالفة الحق، كما فعل إبليس، لعنه الله. هذا مبحث لطيف، ولكن ليست هذه الرسالة المختصرة مكانه.
وما قلناه آنفاً ظاهر ومؤيد أيضاً بقوله، عز وجل: }قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا «الْفَوَاحِشَ» مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ{، (الأنعام؛ 6:151).
وقد يستشكل ذلك البعض معترضين عليه بأن الله، جل جلاله، قد أمر في سابق الأزمنة إبراهيم عليه وعلى آله الصلاة والسلام، بذبح ابنه، وقتل الإنسان، إلا في عقوبة شرعية، أو في حرب عادلة مشروعة، أو دفاعاً عن النفس ضد عدو صائل لا يندفع شره إلا بالقتل، جريمة شنعاء، وفاحشة منكرة. فعلى هذا يكون الله، تعالى وتقدس، قد أمر بفاحشة واحدة على أقل تقدير؟!
ولكن هذا اعتراض باطل، بني على مقدمات فاسدة، لأن النفوس كلها، نفوس بني آدم وغيرهم من ذوات الأرواح، ملك لله، له أن يتصرف بها كما يشاء، وهو السيد التام السيادة، والمالك صاحب الحق المطلق. فليس قتل الإنسان نفسه تقرباً إلى الله، أو قتل غيره تقرباً إلى الله، فاحشة مطلقاً، إلا عند الدنيويين و«العلمانيين»، الذين يزعمون أن الإنسان ليس عبداً مملوكاً لله، فهو سيد نفسه، ورب نفسه، وإله نفسه، وهذا يتناقض كلية مع «التوحيد»، الذي جاء به نبي الإسلام، محمد بن عبد الله، خاتمة أنبياء ورسل الله، عليه وعلى آله صلوات وتسليمات وتبريكات من الله، ويتناقض مع العقل، وهو مع ذ لك معتقد كفر، يتناقض مع الإسلام كل المناقضة.
ومن ناحية أخرى فإن قتل الإنسان لنفسه منهي عنه، إلا في إطار عملية استشهادية مشروعة، أو قتل غيره، إلا في جهاد مشروع، أو في حالة المدافعة للصائل المعتدي الذي لا يندفع شره وعدوانه إلا بالقتل، أو في عقوبة شرعية بعد حكم قضائي معتبر.
وأي قتل سوى ذلك هو إما:
(1) فاحشة منكرة، بل ظلم واعتداء على حق المخلوق، وملكية الخالق، فهو حرام لهذه الاعتبارات،كما هو بين من الآية الكريمة؛
(2) أو قولا على الله بغير علم في حالة من قتل نفسه أو قتل غيره لمحض التقرب إلى الله، كما تذبح الأضاحي والهدي والقرابين ونحوه، لأن الله، تقدست أسماؤه، نسخ ذلك الأمر الذي أمر به آبراهيم، وفدى إسماعيل بذبح عظيم. ثم لم يأمر بشئ من ذلك في الشرائع اللاحقة، لا لأنه، جل وعلا، ليس أهلاً أن يتقرب إليه بالقرابين البشرية، بل تفضلاً منه ورحمة، وتلطفاً ورفقاً: لا إله إلا هو: ما أكرمه وأرحمه!
فمن فعل ذلك فقد ارتكب حراماً بقوله على الله بغير علم، وهو مبتدع في الدين: إذ جعل فعله قربة إلى الله، مع أن الله جل جلاله لم يجعله قربة مشروعة، وهذا أحد، بل أهم اعتبارات التحريم، كما هو بين من الآية الكريمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق