مـسـائـل أصولــيـة

بــــاب
مسائل أصولية

u فصل: محمد رسول الله وخاتم النبيين، لا نبي بعده ولا رسول

v قال الله، جل ذكره، وتقدست أسماؤه: }ما كان محمد أبا أحد من رجالكم، ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما{، (الأحزاب: 33:40).
v ومعنى الآية أوضح من الشمس لذلك اختصره الإمام الطبري في «تفسيره» اختصاراً: [القول في تأويل قوله تعالى: }ما كان محمد أبآ أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما{، يقول تعالى ذكره ما كان أيها الناس محمد أبا زيد بن حارثة ولا أبا أحد من رجالكم الذين لم يلده محمد فيحرم عليه نكاح زوجته بعد فراقه إياها، ولكنه رسول الله، وخاتم النبيين، الذي ختم النبوة فطبع عليها فلا تفتح لأحد بعده إلى قيام الساعة، وكان الله بكل شيء من أعمالكم ومقالكم وغير ذلك ذا علم لا يخفى عليه شيء. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ذكر من قال ذلك:
ــ حدثتا بشر قال حدثنا يزيد قال حدثنا سعيد عن قتادة قوله ما كان محمد أبا أحد من رجالكم قال نزلت في زيد إنه لم يكن بابنه ولعمري ولقد ولد له ذكور إنه لأبو القاسم وإبراهيم والطيب والمطهر ولكن رسول الله وخاتم النبيين أي آخرهم وكان الله بكل شيء عليما
ــ حدثني محمد بن عمارة قال حدثنا علي بن قادم قال حدثنا سفيان عن نسير بن ذعلوق عن علي بن الحسين في قوله ما كان محمد أبا أحد من رجالكم قال نزلت في زيد بن حارثة والنصب في رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعنى تكرير كان رسول الله صلى الله عليه وسلم والرفع بمعنى الاستئناف ولكن هو رسول الله والقراءة النصب عندنا واختلفت القراء في قراءة قوله وخاتم النبيين فقرأ ذلك قراء الأمصار سوى الحسن وعاصم بكسر التاء من خاتم النبيين بمعنى أنه ختم النبيين ذكر أن ذلك في قراءة عبد الله ولكن نبيا ختم النبيين فذلك دليل على صحة قراءة من قرأه بكسر التاء بمعنى أنه الذي ختم الأنبياء صلى الله عليه وسلم وعليهم وقرأ ذلك فيما يذكر الحسن وعاصم خاتم النبيين بفتح التاء بمعنى أنه آخر النبيين كما قرأ مختوم خاتمه مسك بمعنى آخره مسك من قرأ ذلك].
ولم يكن يخطر للطبري على بال، ولا على بال غيره من علماء تلك العصور السالفة، أن ينشأ نقاش حول معنى لفظة: «خاتم»، لأن لها معنى واحداً لا غير: ألا وهو: الطبع والإغلاق والإقفال والإنهاء وما يؤول إليه الأمور في العاقبة، أي في أواخرها، ونحو ذلك، لا تعرف العرب لها معنىً سواه:
ومادة «ختم» الثلاثية قد استخدمها القرآن في غير هذا المكان في سبع مواضع إليكها بترتيب المصحف، والقرآن خير ما يفسره القرآن:
(1) قال الله تعالى: }ختم الله على قلوبهم، وعلى سمعهم وأبصارهم غشاوة، ...، الآية{، (البقرة: 2:7).
(2) وقال، جل ذكره: }قل: أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم، من إله غير الله يأتيكم به، ...، الآية{، (الأنعام: 6:46).
(3) وقال، تقدست أسماؤه: }اليوم نختم على أفواههم، وتكلمنا أيديهم...، الآية{، (يس: 36:65).
(4) وقال: }أم يقولون افترى على الله كذباً؟! فإن يشأ الله يختم على قلبك ...، الآية{، (الشورى: 42:24).
(5) وقال: }أفرأيت من اتخذ إله هواه، وأضله الله على علم، وختم على سمعه وبصره، ..الآية{، (الجاثية: 45:23).
(6) وقال: }يسقون من رحيق مختوم{، (المطففين: 83:25).
(7) وقال: }ختامه مسك، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون{، (المطففين: 83:26).
والإمام الطبري حجة في اللغة، وهو من علمائها المبرزين، مع إمامته في التفسير، والحديث، وكونه مجتهداً مطلقاً. وقد أفاض في مناقشة لفظة «ختم»، عند مجيئها المرة الأولى بترتيب المصحف، فذكر المعنى اللغوي الوحيد باختصار، ثم أطال في مناقشة مسائل: «الهدى والضلال»، و«طغيان الذنوب على القلب»، ..إلخ، فقال:
v بخصوص الآية الأولى في «تفسيره»: [القول في تأويل قوله جل ثناؤه: }ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم{، وأصل الختم الطبع والخاتم هو الطابع يقال منه ختمت الكتاب إذا طبعته فإن قال لنا قائل وكيف يختم على القلوب وإنما الختم طبع على الأوعية والظروف والغلف قيل فإن قلوب العباد أوعية لما أودعت من العلوم وظروف لما جعل فيها من المعارف بالأمور فمعنى الختم عليها وعلى الاسماع التي بها تدرك المسموعات ومن قبلها يوصل إلى معرفة حقائق الأنباء عن المغيبات نظير معنى الختم على سائر الأوعية والظروف فإن قال فهل لذلك من صفة تصفها لنا فنفهمها أهي مثل الختم الذي يعرف لما ظهر للأبصار أم هي بخلاف ذلك قيل قد اختلف أهل التأويل في صفة ذلك وسنخبر بصفته بعد ذكرنا قولهم:
فحدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي قال حدثنا يحيى بن عيسى عن الأعمش قال أرانا مجاهد بيده فقال كانوا يرون أن القلب في مثل هذا يعني الكف فإذا أذنب العبد ذنبا ضم منه وقال بإصبعه الخنصر هكذا فإذا أذنب ضم وقال بإصبع أخرى فإذا أذنب ضم وقال باصبع أخرى هكذا حتى ضم اصابعه كلها قال ثم يطبع عليه بطابع قال مجاهد وكانوا يرون أن ذلك الرين
حدثنا أبو كريب قال حدثنا وكيع عن الأعمش عن مجاهد قال القلب مثل الكف فإذا أذنب ذنبا قبض أصبعا حتى يقبض أصابعه كلها وكان أصحابنا يرون أنه الران
حدثناالقاسم بن الحسن قال حدثنا الحسين بن داود قال حدثني حجاج قال حدثنا ابن جريج قال قال مجاهد نبئت أن الذنوب على القلب تحف به من نواحيه حتى تلتقي عليه فالتقاؤها عليه الطبع والطبع الختم قال ابن جريج الختم الختم على القلب والسمع
حدثناالقاسم قال حدثنا الحسين حدثني حجاج عن ابن جريج قال حدثني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول الران أيسر من الطبع والطبع أيسر من الاقفال والإقفال أشد ذلك كله، ...إلخ].
v أما بخصوص الآية الثانية فقد قال في «تفسير الطبري»: [القول في تأويل قوله تعالى: } قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون{، يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم قل يا محمد لهؤلاء العادلين بي الأوثان والأصنام المكذبين بك أرأيتم أيها المشركون بالله غيره إن أصمكم الله فذهب بأسماعكم وأعمالكم فذهب بأبصاركم وختم على قلوبكم فطبع عليها حتى لا تفقهوا قولا ولا تبصروا حجة ولا تفهموا مفهوما أي إله غير الله الذي له عبادة كل عابد يأتيكم به يقول يرد عليكم ما ذهب الله به منكم من الأسماع والأبصار والأفهام ...إلخ]. فأنت ترى أنه لم يخصص للفظة «ختم» إلا نصف جملة عابرة، فاكتفى في تفسيرها بلفظة مرادفة هي: «طبع»، وهي في الواقع أشد إذ أنها: طبع مع إنهاء بعد إقفال وإغلاق.
v وبخصوص الآية الثالثة قال في «تفسير الطبري»: [القول في تأويل قوله تعالى: }اليوم نختم على أفواههم وتكلمنآ أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون{، يعني تعالى ذكره بقوله اليوم نختم على أفواههم اليوم نطبع على أفواه المشركين وذلك يوم القيامة وتكلمنا أيديهم بما عملوا في الدنيا من معاصي الله وتشهد أرجلهم ...، إلخ]. وهذا كسابقه في الاختصار.
v أما بخصوص الآية الرابعة فقد قال في «تفسير الطبري»: [القول في تأويل قوله تعالى: }أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشإ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته إنه عليم بذات الصدور{، يقول تعالى ذكره أم يقول هؤلاء المشركون بالله افترى محمد على الله كذبا فجاء بهذا الذي يتلوه علينا اختلاقا من قبل نفسه وقوله فإن يشاء الله يا محمد يطبع على قلبك فتنس هذا القرآن الذي أنزل إليك... إلخ].
v أما بخصوص الآية الخامسة وهي: }أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون{، فقد قال في «تفسير الطبري»: [وقوله وختم على سمعه وقلبه يقول، تعالى ذكره: وطبع على سمعه أن يسمع مواعظ الله وآي كتابه فيعتبر بها ويتدبرها ويتفكر فيها فيعقل ما فيها من النور والبيان والهدى، وقوله وقلبه يقول وطبع أيضا على قلبه فلا يعقل به شيئا ولا يعي به حقا].
v وبخصوص الآيتين الأخيرتين السادسة والسابعة فقد أطال في «تفسير الطبري» لوقوع الاختلاف بين المفسرين فقال: [وقوله: }يسقون من رحيق مختوم{، يقول يسقى هؤلاء الأبرار من خمر صرف لا غش فيها وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل]، وبعد أن ذكر نحو عشرة أسانيد، كلها متفق على أن الرحيق هي «الخمر»، قال: [وأما قوله: }مختوم v ختامه مسك{، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله فقال بعضهم معنى ذلك ممزوج مخلوط مزاجه وخلطه مسك. ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال حدثنا مهران عن سفيان عن أشعث بن أبي الشعثاء عن يزيد بن معاوية وعلقمة عن عبد الله بن مسعود ختامه مسك قال ليس بخاتم ولكن خلط
حدثنا ابن بشار قال حدثنا يحيى بن سعيد وعبد الرحمن قالا حدثنا سفيان عن أشعث بن سليم عن يزيد بن معاوية عن علقمة عن عبد الله بن مسعود ختامه مسك قال أما إنه ليس بالخاتم الذي يختم أما سمعتم المرأة من نسائكم تقول طيب كذا وكذا خلطه مسك
حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال حدثنا أيوب عن أشعث بن أبي الشعثاء عمن ذكره عن علقمة في قوله ختامه مسك قال خلطه مسك
حدثنا أبو كريب قال حدثنا وكيع عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله مختوم قال ممزوج ختامه مسك قال طعمه وريحه
قال حدثنا وكيع عن أبيه عن أشعث بن أبي الشعثاء عن يزيد بن معاوية عن علقمة ختامه مسك قال طعمه وريحه مسك، وقال آخرون بل معنى ذلك أن آخر شرابهم يختم بمسك يجعل فيه. ذكر من قال ذلك:
حدثني علي قال حدثنا أبو صالح قال ثني معاوية عن علي عن ابن عباس قوله رحيق مختوم ختامه مسك يقول الخمر ختم بالمسك
حدثني محمد بن سعد قال ثني أبي قال ثني عمي قال ثني أبي عن أبيه عن ابن عباس ختامه مسك قال طيب الله لهم الخمر فكان آخر شيء جعل فيها حتى تختم المسك
حدثنا بشر قال حدثنا يزيد قال حدثنا سعيد عن قتادة ختامه مسك قال عاقبته مسك قوم تمزج لهم بالكافور وتختم بالمسك حدثنا ابن عبد الأعلى قال حدثنا ابن ثور عن معمر عن قتادة ختامه مسك قال عاقبته مسك
حدثت عن الحسين قال سمعت أبا معاذ يقول حدثنا عبيد قال سمعت الضحاك يقول في قوله ختامه مسك قال طيب الله لهم الخمر فوجدوا فيها في آخر شيء منها ريح المسك حدثنا ابن عبد الأعلى قال حدثنا حاتم بن وردان قال حدثنا أبو حمزة عن إبراهيم والحسن في هذه الآية ختامه مسك قال عاقبته مسك
حدثنا ابن حميد قال حدثنا يحيى بن واضح قال حدثنا أبو حمزة عن جابر عن عبد الرحمن بن سابط عن أبي الدرداء ختامه مسك فالشراب أبيض مثل الفضة يختمون به شرابهم ولو أن رجلا من أهل الدنيا أدخل أصبعه فيه ثم أخرجها لم يبق ذو روح إلا وجد طيبها.
وقال آخرون عني بقوله مختوم مطين ختامه مسك طينه مسك. ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال حدثنا أبو عاصم قال حدثنا عيسى وحدثني الحرث قال حدثنا الحسن قال حدثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قوله مختوم ختامه مسك قال طينه مسك
حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد في قوله مختوم الخمر ختامه مسك ختامه عند الله مسك وختامها اليوم في الدنيا طين
وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب قول من قال معنى ذلك: آخره وعاقبته مسك أي هي طيبة الريح إن ريحها في آخر شربهم يختم لها بريح المسك. وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال في ذلك بالصحة لأنه لا وجه للختم في كلام العرب إلا: الطبع والفراغ كقولهم ختم فلان القرآن إذا أتى على آخره، فإذا كان لا وجه للطبع على شراب أهل الجنة يفهم إذا كان شرابهم جاريا جري الماء في الأنهار ولم يكن معتقا في الدنان فيطين عليها وتختم، تعين أن الصحيح من ذلك الوجه الآخر وهو العاقبة والمشروب آخراً وهو الذي ختم به الشراب. وأما الختم بمعنى المزج فلا نعلمه مسموعا من كلام العرب].
وأنت ترى أن الطبري يحب الاستطراد والتطويل كلما سنحت له الفرصة، ومع ذلك لم يجد لهذه اللفظة: «ختم» إلا معنى «طبع عليه»، أو «أغلقه»، أو «أنهاه» أو «فرغ منه»، ولم يجد غير ذلك مطلقاً في كلام العرب، لذلك رجح في الآيات الأخيرة أن معنى: }ختامه مسك{ يعني عاقبته ونهايته التي يصير إليها مسكاً طيباً، لا كخمر الدنيا، التي تفوح رائحة كريهة من فم شاربها. وهذا المعنى اليتيم هو الوحيد الذي ذكره صاحب «مختار الصحاح»، كما يظهر من نصه التالي:
v وفي «مختار الصحاح» عند مادة (خ ت م): خَتَم الشيء من باب ضرب فهو مَخْتُومٌ، ومُخَتَّم، شدد للمبالغة، وخَتَمَ الله له بخير، وختم القرآن: بلغ آخره، واخْتَتَمَ الشيء ضد افتتحه، والخَاتَمُ، بفتح التاء وكسرها، والخَيْتامُ، والخَاتَامُ، كله بمعنى، والجمع الخَوَاتِيمُ، وتَخَتَّمَ: لبس الخاتم. وخاتِمةُ الشيء: آخره. ومحمد، صلى الله عليه وسلم، خاتم الأنبياء عليهم الصلاة والسلا.م والخِتَامُ: الطين الذي يختم به. وقوله تعالى : }ختامه مسك{، أي آخره لأن آخر ما يجدونه رائحة المسك.
نعم: هناك لفظة «تختم» بمعنى لبس الخاتم، ولكن الخاتم إنما سمِّيَ كذلك لأنه كان في الأصل يستخدم للطبع على الظروف والرسائل التي يبعث بها الملوك، فيغلقونها بالشمع الأحمر، ثم يطبعون بالخاتم عليه، فلا يفتح إلا بكسر الخاتم، ولا يمكن العبث بمحتوياته، إلا وانكشف ذلك وظهر. ثم أصبحت الخواتم بعد ذلك زينة، تلبس في الأصابع، وإن كان بعضها ما زال يستخدم للتواقيع، وإغلاق الظروف، في بقاع كثيرة، خصوصاً في البادية، بل وبعض الحاضرة، في جزيرة العرب، حتى يومنا هذا.
ويكفيك من هذا كله تفسير روح الله، وكلمته، السيد الوجيه المقرب المسيح عيسى بن مريم، عليه وعلى والدته أزكى الصلاة وأتم التسليم، لهذه اللفظة، يوم القيامة: (أرأيتم لو كان متاع في وعاء قد ختم عليه هل كان يقدر على ما في الوعاء حتى يفض الخاتم؟! فيقولون : لا، قال: فإن محمداً، صلى الله عليه وسلم، خاتم النبيين)» كما أخبرنا بذلك رسول الله، محمد، خاتم النبيين، عليه وعلى آله الصلاة والسلام:
v كما جاء في «مسند الإمام أحمد بن حنبل» بأصح إسناد تقوم به الحجة في الدين كما تقوم به الحجة في اللغة: [حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة حدثنا ثابت عن أنس أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: «يطول يوم القيامة على الناس فيقول بعضهم لبعض انطلقوا بنا إلى آدم أبي البشر فيشفع لنا إلى ربنا، عز وجل، فليقض بيننا فيأتون آدم فيقولون يا آدم أنت الذي خلقك الله بيده وأسكنك جنته فاشفع لنا إلى ربك فليقض بيننا فيقول إني لست هناكم ولكن ائتوا نوحا رأس النبيين فيأتونه فيقولون يا نوح اشفع لنا إلى ربك فليقض بيننا فيقول إني لست هناكم ولكن ائتوا إبراهيم خليل الله عز وجل فيأتونه فيقولون يا إبراهيم اشفع لنا إلى ربك فليقض بيننا فيقول إني لست هناكم ولكن ائتوا موسى الذي اصطفاه، الله عز وجل، برسالاته وبكلامه قال فيأتونه فيقولون يا موسى اشفع لنا إلى ربك، عز وجل، فليقض بيننا فيقول إني لست هناكم ولكن ائتوا عيسى روح الله وكلمته فيأتون عيسى فيقولون يا عيسى اشفع لنا إلى ربك فليقض بيننا فيقول إني لست هناكم ولكن ائتوا محمدا، صلى الله عليه وسلم، فإنه خاتم النبيين، فإنه قد حضر اليوم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيقول عيسى: (أرأيتم لو كان متاع في وعاء قد ختم عليه هل كان يقدر على ما في الوعاء حتى يفض الخاتم؟! فيقولون: لا. قال فإن محمداً، صلى الله عليه وسلم، خاتم النبيين)»، قال: فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «فيأتوني فيقولون يا محمد اشفع لنا إلى ربك فليقض بيننا قال فأقول نعم فآتي باب الجنة فآخذ بحلقة الباب فاستفتح فيقال من أنت فأقول محمد فيفتح لي فاخر ساجدا فاحمد ربي، عز وجل، بمحامد لم يحمده بها أحد كان قبلي ولا يحمده بها أحد كان بعدي فيقول ارفع رأسك وقل يسمع منك وسل تعطه واشفع تشفع فيقول أي رب أمتي أمتي فيقال أخرج من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان قال فأخرجهم ثم أخر ساجدا فاحمده بمحامد لم يحمده بها أحد كان قبلي ولا يحمده بها أحد كان بعدي فيقال لي ارفع رأسك وسل تعطه واشفع تشفع فأقول أي رب أمتي أمتي فيقال أخرج من كان في قلبه مثقال برة من إيمان قال فأخرجهم قال ثم أخر ساجدا فأقول مثل ذلك فيقال من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان قال فأخرجهم»].
ونحن كذلك نقول: صدق الله، وصدق رسله، آمنا بالله ورسله، نشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، خاتم الأنبياء والمرسلين، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وروح منه، وكلمته ألقاها إلى مريم، الصديقة العذراء البتول، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور. كفرنا وتبرأنا من مسيلمة، والأسود العنسي، والبهاء، والقادياني، وغيرهم من الكذابين الدجالين: }ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً، أو قال: أوحي إلى ولم يوح إليه شئ، ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله؛ ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم: أخرجوا أنفسكم! اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق، وكنتم عن آياته تستكبرون{.
ومن هذا يتبين يقيناً، لا شك فيه، أن لفظة: «خاتم النبيين» لا يمكن أن تعني إلا أنه آخرهم، بل هي أقوى من ذلك في الدلالة: فكأن النبوة وعاء أغلق وطبع عليه: فلا يخرج منه أحد، ولا يدخله أحد، إلى قيام الساعة الكبرى: فنبوة الأنياء السابقين ثابتة لا تزول إلى أبد الأبد، فلا يتصور زوال تلك الصفة عنهم أبداً، ومحمد آخرهم ولا تزول عنه هذه الصفة إلى أبد الأبد، وليس بعده نبي جديد يأتي إلى أبد الأبد. وليس من معانيها أنه شاهد على نبوتهم فحسب، وهو والله كذلك، ولا أنه مصدق لهم، وهو والله كذلك، ولا أنه تشريف لهم، وهو والله كذلك، لأن لفظة «ختم» لا ترد في العربية بشئ من ذلك مطلقاً. وتلك المعاني إنما ثبتت له، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، من نصوص أخرى غير هذه.
ففي الآية وحدها الدليل اليقيني القاطع، الذي يكفر منكره، بأن محمداً، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، هو آخر النبيين وخاتمهم، لا نبي بعده ولا رسول، فمن ادعى ذلك بعده فهو دجال كاذب، لا فرق بين مسيلمة الحنفي العربي العدناني الكذاب، ولا الأسود العنسي العربي القحطاني الكذاب، ولا «البهاء» العجمي الفارسي الكذاب، ولا غلام أحمد القادياني العجمي الهندي الكذاب، ولا غيرهم ممن سلف، أو سيأتي في مستقبل الأيام، بما في ذلك عدو الله وعدو رسله، مسيح الضلالة: المسيح الدجال الأكبر، وهو لم يأت بعد عند كتابة هذه السطور. كلهم كذب، أو سيكذب، على الله، وكلهم عدو لله، وكلهم عليهم لعنة، ومقت، وسخط، وغضب من الله.
أما الأنبياء السابقون، ومنهم سيدنا المسيح عيسى بن مريم، مسيح الله المهدي، سيد الوجاهة والمجد، صلوات الله وسلامه وتبريكاته عليه وعلى والدته، فهم في «وعاء» النبوة، وإن شئت فقل: في «سجل» الأنبياء، قبل الختم عليه وإغلاقه، وكل واحد منهم نبي كما كان، وهو نبي الآن، ولو عاد إلى الدنيا فهو نبي كما كان: نبوته قديمة سابقة على ختم النبوات، وليست هي جديدة حادثة بعد ذلك.
ولما كانت شرائعهم قد نسخت، وأممهم بوصفها أمم رسالة قد انقرضت، كما سيأتي بيانه وإقامة البراهين القاطعة عليه قريباً، فإن من عاد منهم سيعود، لا محالة فرداً من أفراد هذه الأمة المحمدية الخاتمة، ولا يسعه إلا أن يتبع الرسالة الآخرة، ويطبق الشريعة المحمدية الخاتمة، كما سيكون الحال عند عودة سيدنا المسيح عيسى بن مريم، عليه وعلى والدته صلوات وتسليمات وتبريكات من الله. هذا هو الحق الذي قامت عليه قواطع الأدلة، وهو الذي لا يجوز اعتقاد غيره لمن آمن بالله واليوم الآخر، ومن كفر فإن الله غني عن العالمين.
ولكن الله، جلت قدرته، علم أن هناك من يجادل ويكابر، فألهم نبيه الخاتم، محمد بن عبد الله الهاشمي العربي، عليه وعلى آله أتم صلاة وأزكى تسليم، مزيد إيضاح وبيان، بأنواع متباينة من الألفاظ والتعبيرات، فمن ذلك قوله: «لا نبي بعدي»، أو قوله: «وإني خاتم الأنبياء لا نبي بعدي»، أو قوله: «ليس بعدي نبي،، أو قوله: «إني آخر الأنبياء وأنتم آخر الأمم»، أو قوله: «لا نبي بعدي ولا أمة بعدكم»، أو قوله، أن له أسماء، منها: «العاقب، أي الذي ليس بعده نبي»، اأو قوله: «إني آخر الأنبياء، وإن مسجدي آخر المساجد»، أو قوله: «بعثت أنا والساعة هكذا وأشار بأصبعيه»، وحديث الشفاعة الكبرى، وقد مضى ما يقوله سيدي المسيح بن مريم يومئذ، ويقول الناس: «يا محمد أنت رسول الله خاتم الأنبياء، غفر الله لك ذنبك، ما تقدم منه وما تأخر: اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟!»، وحديث البيت الذي اكتمل، إلا من موضع لبنة، وتساؤل الناس عن ذلك، فقال: «فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين»، وتأكيده أن النبوة قد انقطعت، ولم يبق إلا المبشرات، وهي الرؤيا الصالحة، فقال: «لم يبق من النبوة إلا المبشرات»، وغيرها من الثابت عنه بأصح الأسانيد عن كل من: أبي هريرة، وسعد بن أبي وقاص، وأسماء بنت عميس، وأم المؤمنين أم سلمة، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وثوبان، وحذيفة بن اليمان، وفاطمة بنت قيس،وأبي أمامة الباهلي، وعبد الله بن عمرو بن العاصي، وجبير بن مطعم، وأنس بن مالك، وابن عباس، وأبي الطفيل، وعائشة أم المؤمنين، و أم كرز الكعبية، وعبد الله بن أبي أوفى، وعبد الله بن مسعود، والعرباض بن سارية السلمي، وعقبة بن عامر، وجابر بن عبد الله، رضوان الله وسلامه عليهم جميعاً، بأصح ما تكون الأسانيد، كل إسناد منه حجة بمفرده، فكيف بمجموعها؟! وقد جاء أيضاً عن غيرهم: سهل بن سعد، ومحمد بن عدي بن كعب، والنعمان بن بشير.
كما جاء ذلك كله في مناسبات متباينة متعددة، يستحيل عقلاً أن يكون هناك تواطؤ على افترائها، وهذا أقوى تواتر في الدنيا وأوضحه، لا يشك فيه إلا من ارتفع عنه القلم، ولحق بالمعتوهين والمجانين. وقد سردنا النصوص بأسالنيدها، مع دراسة بعض تلك الأسانيد عند اللزوم، في رسلتنا المسمَّاة: «ختم النبوة»، وحررناها تحريراً، فلله الحمد والمنة.
وإجماع الصحابة على ختم النبوة، أي أن محمداً هو آخر الأنبياء والمرسلين، لا نبي بعده ولا رسول، وقتالهم لمن ادعاها أشد القتال، معلوم بضرورة من التاريخ، يقر به كل مسلم وكافر، ولم ينقل عن أحد منهم قط، ولا حتى في رواية مكذوبة، أنه سأل متنبئاً عن برهان أو دليل، لأن البرهان القاطع قد قام على كذبه، لحظة تفوُّهه بذلك البهتان العظيم: هذا إجماع متيقَّن، لا يوجد في العالم إجماع أصح منه، لا عند المسلمين ولا عند غيرهم، بل تناقله عوام المسلمين مشافهة خلفاً عن سلف، يتناقلونه نفقل كواف عن سلفهم، فلا يحتاجون فيه إلى مراجعة عالم، أو تصفح كتاب، أو مناقشة أسانيد.
u فصل: تفضيله، صلوات الله وتسليماته وتبريكاته عليه وعلى آله، على جميع النبيين
فضل الله، جل ذكره، رسوله النبي الأمي الخاتم، بأبي هو وأمي، على جميع الأنياء السابقين، وميزه عليهم فخصه بخصال لم تكن لأحد منهم:
ــ ختم به النبيون: فلا نبي بعده ولا رسول إلى يوم القيامة، وقد حررنا هذا في فصل سابق، وأشبعناه بحثاً في رسالة خاصة،
ــ وجعلت له الأرض مسجداً وطهوراً، فحيث ما أدركت الصلاة أحداً من أمته فثم مسجده، وثم طهوره، وكانت الأمم السابقة لا تصلى إلا في معابد وصوامع وكنائس وبيع مجهزة مخصوصة،
ــ ونصره بالرعب على مسيرة شهر من حواليه، ولا زالت أمته تستمتع ببعض هذه المزية حتى في أضعف عصورها، والرعب والهلع يدب في قلوب الجيوش اللجبة التي تمتلك الأسلحة النووية إذا قابلوا في ميدان المعركة حفنة من «الإرهابيين»، كما يسمونهم، مع كونهم لا يمتلكون إلا السلاح الخفيف،
ــ وأحل الله له ولأمته الغنائم يتمولونها ويتقوَّون بها، وكانت الأمم السابقة تقدمها قرابين فتحرقها،
ــ وخصه بالشفاعة العظمى لجميع الخلائق في مقام يحمده فيه الأولون والآخرون،
ــ ويعقد له لواء الحمد يوم القيامة فيكون النبيون من آدم ومن بعده تحت لوائه،
ــ وأعطي دعوة مستجابة فجعلها الشفاعة لأمته يوم القيامة في حين تعجَّل الأنبياء السابقون، صلوات الله وسلامه عليهم، دعوتهم في الدنيا،
ــ وأعطي جوامع الكلم: فيقول الجملة الواحدة التي تحتوي المعاني والأحكام الكثيرة، واختصر له الكلام اختصاراً: فلا فضول ولا هذر،
ــ وأرسل إلى الناس كافة، بل إلى الجن والإنس، وكان النبيون قبله يرسلون إلى قومهم أو قريتهم خاصة لا يتجاوزونها؛
إلى غير ذلك من خصائصه العظمى ومراتبه العليا ومقاماته السامية الكريمة، التي جعلته إمام الأنبياء، وأفضل المرسلين، عليه وعلى آله من الله أعظم الصلوات وأكثر البركات وأتم التسليم، بأبي هو وأمي.
وأما كونه، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، رسول الله إلى الناس جميعا، أحمرهم وأسودهم، فمعلوم علم يقين لا يتطرق إليه الشك بالدليل القاطع ثبوتاً ودلالة:
v قال، تعالى ذكره، وجل جلاله: }قل يأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون{
v وقال، جل وعز: }ومآ أرسلناك إلا كآفة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون{
v وأخرج البخاري في الصحيح بأقوى الأسانيد: [حدثنا عبد الله حدثنا سليمان بن عبد الرحمن وموسى بن هارون قالا حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا عبد الله بن العلاء بن زير حدثني بسر بن عبيد الله حدثني أبو إدريس الخولاني قال سمعت أبا الدرداء رضي الله عنه يقول كانت بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما محاورة فأغضب أبو بكر عمر فانصرف عنه عمر مغضبا فأتبعه أبو بكر يسأله أن يستغفر له فلم يفعل حتى أغلق بابه في وجهه فأقبل أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو الدرداء ونحن عنده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما صاحبكم هذا فقد غامر أي غاضب وحاقد قال وندم عمر على ما كان منه فأقبل حتى سلم وجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقص على رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر قال أبو الدرداء فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل أبو بكر يقول والله يا رسول الله لأنا كنت أظلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل أنتم تاركو لي صاحبي إني قلت: «يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت».
كل هذا معلوم من الدين بالضرورة، بل هو معلوم لأكثرالكفار أيضاً أنه، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، ادعى ذلك لنفسه، وكتب إلى الملوك والجبابرة يدعوهم إلى طاعته واتباعه. هذه حقيقة واضحة، وبديهية تاريخية لا يتطرق إليها الشك، ولو ذهبنا نستقصي مفرداتها لملأنا المجلدات.
ولكن قد يقول قائل: لعل هناك أنبياء، من عصور ما قبل الكتابة والتاريخ، لم يصلنا خبرهم، أرسلوا إلى الناس كافة. نعم: هذا بعيد جداً أن يقع ولا يصلنا، وأن يكون ولا يخبرنا به القرآن، أو الكتب المنزلة السابقة، فضلاً عن مناقضته لحركة التاريخ، والتسلسل الطبيعي للأحداث، ولكنه ليس بمستحيل، ولا هو على الله بعزيز.
فنقول: نعم، ولكنه في غاية البعد، وحتى آدم إنما كان مبعوثاً لأهل بيته، وهم مع كونه كل الإنسانية آنذاك، إلا أنهم ما كانوا كل الإنسانية بشمولها حتى ينقرض الجنس البشري، وتقوم الساعة، فلا يصح أن يقال أنه مرسل إلى الناس كافة، ولكنه مرسل إلى قومه فقط، الذين كانت الإنسانية منحصرة فيهم مؤقتاً.
وكذلك ثبت عن النبي، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، بالتواتر أنه ُفِّضل على النبيين بهذه الخصلة، وخُص بها، فوجب ضرورة أنها لم تكن لأحد من قبله أبداً، فمن ذلك:
v ما أشار إليه الإمام الطبري في تفسيره، «تفسير الطبري»: [القول في تأويل قوله تعالى: }تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شآء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جآءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شآء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد{، يعني تعالى ذكره بقوله تلك الرسل الذين قص الله قصصهم في هذه السورة كموسى بن عمران وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وشمويل وداود وسائر من ذكر نبأهم في هذه السورة، يقول تعالى ذكره هؤلاء رسلي فضلت بعضهم على بعض فكلمت بعضهم والذي كلمته منهم موسى صلى الله عليه وسلم ورفعت بعضهم درجات على بعض بالكرامة ورفعة المنزلة كما حدثني محمد بن عمرو قال حدثنا أبو عاصم قال حدثنا عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: }تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض{، قال يقول منهم من كلم الله ورفع بعضهم على بعض درجات: (يقول كلم الله موسى، وأرسل محمدًا إلى الناس كافة)، حدثني المثنى قال حدثنا أبو حذيفة قال حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد بنحوه. ومما يدل على صحة ما قلنا في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمسا، لم يعطهن أحد قبليبعثت إلى الأحمر والأسود ونصرت بالرعب فإن العدو ليرعب مني على مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد كان قبلي وقيل لي سل تعطه فاختبأتها شفاعة لأمتي فهي نائلة منكم إن شاء الله من لا يشرك بالله شيئا»]
v وفي تفسير الطبري: [القول في تأويل قوله تعالى: }قل يأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون{، يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم قل يا محمد للناس كلهم إني رسول الله إليكم جميعا لا إلى بعضكم دون بعض كما كان من قبلي من الرسل مرسلا إلى بعض الناس دون بعض فمن كان منهم أرسل كذلك، فإن رسالتي ليست إلى بعضكم دون بعض ولكنها إلى جميعكمv وفي تفسير الطبري أيضاً: [القول في تأويل قوله تعالى: }ومآ أرسلناك إلا كآفة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون{، يقول تعالى ذكره وما أرسلناك يا محمد إلى هؤلاء المشركين بالله من قومك خاصة ولكنا أرسلناك كافة للناس أجمعين العرب منهم والعجم والأحمر والأسود بشيرا من أطاعك ونذيرا من كذبك ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن الله أرسلك كذلك إلى جميع البشر وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك حدثنا بشر قال حدثنا يزيد قال حدثنا سعيد عن قتادة قوله وما أرسلناك إلا كافة للناس قال أرسل الله محمدا إلى العرب والعجم فأكرمهم على الله أطوعهم له ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال أنا سابق العرب وصهيب سابق الروم وبلال سابق الحبشة وسلمان سابق فارس]
v ومن ذلك ما جاء في «صحيح البخاري» عن جابر بن عبد الله: [حدثنا محمد بن سنان قال حدثنا هشيم (ح) قال وحدثني سعيد بن النضر قال أخبرنا هشيم قال أخبرنا سيار قال حدثنا يزيد هو بن صهيب الفقير قال أخبرنا جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت خمسا، لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة»]
v وهو في «صحيح مسلم» بلفظ: «كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وجعلت لي الأرض طيبة طهورا ومسجدا فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان ونصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر وأعطيت الشفاعة». وحديث جابر في الصحاح والسنن والمسانيد والمعاجم بأصح الأسانيد، كما هو في الملحق.
v كما جاء مثله في «صحيح مسلم» عن أبي هريرة: حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة بن سعيد وعلي بن حجر قالوا حدثنا إسماعيل وهو بن جعفر عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون». وهذا كذلك في الصحاح والسنن والمسانيد والمعاجم بأصح الأسانيد، كما هو في الملحق.
v وفي «مجمع الزوائد» حديث ثالث عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فضلت على الأنبياء بست لم يعطهن أحد كان قبلي: غفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد كان قبلي، وجعلت أمتي خير الأمم، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأعطيت الكوثر، ونصرت بالرعب، والذي نفسي بيده إن صاحبكم لصاحب لواء الحمد يوم القيامة تحته آدم فمن دونه»، قال الهيثمي: رواه البزار وإسناده جيد، قلت: بحثت عنه فلم أجده بعد حتى هذه الساعة.
v وفي «صحيح ابن حبان» عن أبي ذر: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم ببست حدثنا حماد بن يحيى بن حماد بالبصرة حدثنا أبي حدثنا أبو عوانة عن سليمان عن مجاهد عن عبيد بن عمير عن أبي ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: بعثت إلى الأحمر والأسود، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ونصرت بالرعب فيرعب العدو من مسيرة شهر وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا وقيل لي سل تعطه واختبأت دعوتي شفاعة لأمتي في القيامة وهي نائلة إن شاء الله لمن لم يشرك بالله شيئا»، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: (حديث صحيح).
v وهو في «المستدرك على الصحيحين» مطولاً: حدثنا أبو بكر أحمد بن كامل بن خلف القاضي حدثنا محمد بن جرير الفقيه حدثنا أبو كريب سمعت أبا أسامة وسئل عن قول الله عز وجل وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا فقال حدثنا الأعمش عن مجاهد عن عبيد بن عمير عن أبي ذر رضي الله عنه قال طلبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فوجدته قائما يصلي فأطال الصلاة ثم قال: «أوتيت الليلة خمسا، لم يؤتها نبي قبليأرسلت إلى الأحمر والأسود (قال مجاهد الإنس والجن)، ونصرت بالرعب فيرعب العدو وهو على مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وقيل لي سل تعطه فاختبأتها شفاعة لأمتي فهي نائلة من لم يشرك بالله شيئا». وقال الحاكم: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذه السياقة إنما أخرجا ألفاظا من الحديث متفرقة).
قلت: هو من أصح أحاديث الدنيا كأنه متواتر عن الأعمش، على شرط الشيخين، بل هو فوق شرطهما.
v وجاء هذا عن أبي موسى الأشعري في «مسند الإمام أحمد بن حنبل»: حدثنا حسين بن محمد حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبي موسى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمسا: بعثت إلى الأحمر والأسود، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا وأحلت لي الغنائم ولم تحل لمن كان قبلي ونصرت بالرعب شهرا وأعطيت الشفاعة وليس من نبى الا وقد سأل شفاعة وإني أخبأت شفاعتي ثم جعلتها لمن مات من أمتي لم يشرك بالله شيئا»، وقال الهيثمي: (رواه أحمد متصلا ومرسلا، والطبراني، ورجاله رجال الصحيح). قلت: وإسنادنا هذا ها هنا إسناد صحيح.
v وهو في «مسند الإمام أحمد بن حنبل» عن أبي أمامة: حدثنا محمد بن أبي عدى عن سليمان يعنى التيمي عن سيار عن أبي أمامة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «فضلني ربي على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام (أو قال على الأمم) بأربع»، قال: «أرسلت إلى الناس كافة، وجعلت الأرض كلها لي ولأمتى مسجدا وطهورا فأينما أدركت رجلا من أمتي الصلاة فعنده مسجده وعنده طهوره، ونصرت بالرعب مسيرة شهر يقذفه في قلوب أعدائي، وأحل لنا الغنائم»،
v وهو في «مسند الإمام أحمد بن حنبل» عن ابن عباس: حدثنا عبد الصمد حدثنا عبد العزيز بن مسلم حدثنا يزيد عن مقسم عن بن عباس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي، ولا أقولهن فخراً: بعثت إلى الناس كافة الأحمر والأسود، ونصرت بالرعب مسيرة شهر، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأعطيت الشفاعة فأخرتها لأمتي فهي لمن لا يشرك بالله شيئا». قلت: يزيد هو ابن أبي زياد: فيه ضعف يسير، قد أكثر عنه أحمد، وحسن حديثه بعض الأئمة كالهيثمي حيث قال في «مجمع الزوائد»: (رجال أحمد رجال الصحيح غير يزيد بن أبي زياد وهو حسن الحديث)، وجود ابن كثير هذا الإسناد في تفسيره، وبقية رجاله ثقات، فلعله يقوى ويصبح حسنآ تقوم به الحجة بشهادة الروايات الأخرى عن ابن عباس.
v كما هو في «سنن البيهقي الكبرى» عن عكرمة عن بن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي من الأنبياء: جعلت لي الأرض طهورا ومسجدا ولم يكن نبي من الأنبياء يصلي حتى يبلغ محرابه وأعطيت الرعب مسيرة شهر يكون بيني وبين المشركين مسيرة شهر فيقذف الله الرعب في قلوبهم وكأن النبي يبعث إلى خاصة قومه وبعثت أنا إلى الجن والإنس وكانت الأنبياء يعزلون الخمس فتجئ النار فتأكله وأمرت أنا أن أقسمها في فقراء أمتي ولم يبق نبي إلا أعطى سؤله وأخرت شفاعتي لأمتي». v وفي «مسند الإمام أحمد بن حنبل» حديث آخرعن عبد الله بن عمرو بن العاص: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا بكر بن مضر عن بن الهاد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان رسول الله صلى الله عليه وسلم عام غزوة تبوك قام من الليل يصلي فاجتمع وراءه رجال من أصحابه يحرسونه حتى إذا صلى وانصرف إليهم فقال لهم: «لقد أعطيت الليلة خمسا ما أعطيهن أحد قبلي: أما أنا فأرسلت إلى الناس كلهم عامة، وكان من قبلي إنما يرسل إلى قومه، ونصرت على العدو بالرعب ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر لملئ منه رعبا، وأحلت لي الغنائم آكلها وكان من قبلي يعظمون أكلها كانوا يحرقونها، وجعلت لي الأرض مساجد وطهورا أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت وكان من قبلي يعظمون ذلك إنما كانوا يصلون في كنائسهم وبيعهم، والخامسة هي ما هي؟! قيل لي سل فإن كل نبي قد سأل! فاخرت مسألتي إلى يوم القيامة فهي لكم، ولمن شهد أن لا إله إلا الله»،
v وفي «مجمع الزوائد» حديث آخر عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه: عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمسا لم يعطها نبي قبلي: بعثت إلى الأحمر والأسود وإنما كان النبي يبعث إلى قومه، ونصرت بالرعب مسيرة شهر، وأطعمت المغنم ولم يطعمه أحد كان قبلي، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وليس من نبي إلا وقد أعطي دعوة فتعجلها وإني أخرت دعوتي شفاعة لأمتي وهي بالغة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئا»، وقال الهيثمي: (رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن). قلت الإسناد هو كما في «الطبراني الأوسط»: حدثنا محمد بن أبان أخبرنا إبراهيم بن سويد الجذوعي حدثنا عامر بن مدرك حدثنا فضيل بن مرزوق عن عطية عن أبي سعيد.
v وفي «صحيح ابن حبان» عن عوف بن مالك: أخبرنا أبو يعلى حدثنا هارون بن عبد الله الحمال حدثنا بن أبي فديك عن عبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب عن عباس بن عبد الرحمن بن ميناء الأشجعي عن عوف بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت أربعا لم يعطهن أحد كان قبلنا وسألت ربي الخامسة فأعطانيها: كان النبي يبعث إلى قريته ولا يعدوها وبعثت كافة إلى الناس، وأرهب منا عدونا مسيرة شهر وجعلت لي الأرض طهورا ومساجد وأحل لنا الخمس ولم يحل لأحد كان قبلنا وسألت ربي الخامسة فسألته أن لا يلقاه عبد من أمتي يوحده إلا أدخله الجنة فأعطانيها». قلت: عبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب ليس بالقوي، عباس بن عبد الرحمن بن ميناء الأشجعي، قال الحافظ: (مقبول)، فقط!!
v وهو في «المعجم الكبير» عن السائب بن يزيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فضلت على الأنبياء بخمس: بعثت إلى الناس كافة، وادخرت شفاعتي لأمتي ونصرت بالرعب شهرا أمامي وشهرا خلفي وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي». قلت: ولكن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة متروك متهم.
v قد اعتنى بذلك أيضاً المفسرون ففي «تفسير ابن كثير»: [وقد ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأحلت لي الغنائم وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة وقال الإمام أحمد حدثنا محمد بن أبي عدي عن سليمان التيمي عن سيار عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فضلني الله على الأنبياء أو قال على الأمم بأربع أرسلت إلى الناس كافة وجعلت لي الأرض كلها ولأمتي مسجدا وطهورا فأينما أدركت رجلا من أمتي الصلاة فعنده مسجده وطهوره ونصرت بالرعب مسيرة شهر يقذف في قلوب أعدائي وأحلت لي الغنائم»، ورواه الترمذي من حديث سليمان التيمي عن سيار القرشي الأموي مولاهم الدمشقي سكن البصرة عن أبي أمامة صدى بن عجلان رضي الله عنه به وقال حسن صحيح وقال سعيد بن منصور أنبأنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث أن أبا يونس حدثه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نصرت بالرعب على العدو ورواه مسلم من حديث ابن وهب وقال الإمام أحمد حدثنا حسين بن محمد حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبيه أبي موسى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطيت خمسا بعثت إلى الأحمر والأسود وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا وأحلت لي الغنائم ولم تحل لمن كان قبلي ونصرت بالرعب مسيرة شهر وأعطيت الشفاعة وليس من نبي إلا وقد سأل الشفاعة وإني قد اختبأت شفاعتي لمن مات لا يشرك بالله شيئا تفرد به أحمد وروى العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب قال قذف الله في قلب أبي سفيان الرعب فرجع إلى مكة فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن أبا سفيان قد أصاب منكم طرفا وقد رجع وقذف الله في قلبه الرعب ورواه ابن أبي حاتم]
v وفي «تفسير ابن كثير»: [قال تعالى: }وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ{، والآيات في هذا كثيرة كما أن الأحاديث في هذا أكثر من أن تحصر وهو معلوم من دين الإسلام ضرورة أنه صلوات الله وسلامه عليه رسول الله إلى الناس كلهمقال البخاري رحمه الله في تفسير هذه الآية حدثنا عبد الله حدثنا سليمان بن عبد الرحمن وموسى بن هارون قالا حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا عبد الله بن العلاء بن زير حدثني بسر بن عبيد الله حدثني أبو إدريس الخولاني قال سمعت أبا الدرداء رضي الله عنه يقول كانت بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما محاورة فأغضب أبو بكر عمر فانصرف عنه عمر مغضبا فأتبعه أبو بكر يسأله أن يستغفر له فلم يفعل حتى أغلق بابه في وجهه فأقبل أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو الدرداء ونحن عنده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما صاحبكم هذا فقد غامر أي غاضب وحاقد قال وندم عمر على ما كان منه فأقبل حتى سلم وجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقص على رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر قال أبو الدرداء فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل أبو بكر يقول والله يا رسول الله لأنا كنت أظلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل أنتم تاركو لي صاحبي إني قلت: «يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدقت»، انفرد به البخاري وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الصمد حدثنا عبد العزيز بن مسلم حدثنا يزيد بن أبي زياد عن مقسم عن ابن عباس مرفوعا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي ولا أقوله فخرا بعثت إلى الناس كافة الأحمر والأسود ونصرت بالرعب مسيرة شهر وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأعطيت الشفاعة فأخرتها لأمتي يوم القيامة فهي لمن لا يشرك بالله شيئا إسناده جيد ولم يخرجوه، وقال الإمام أحمد أيضا حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا بكر بن مضر عن ابن الهاد عن عمروبن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عام غزوة تبوك قال من الليل يصلي فاجتمع وراءه رجال من أصحابه يحرسونه حتى إذا صلى انصرف إليهم فقال لهم: «لقد أعطيت الليلة خمسا ما أعطيهن أحد قبلي: أما أنا فأرسلت إلى الناس كلهم عامة وكان من قبلي إنما يرسل إلى قومه، ونصرت على العدو بالرعب، ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر لملئ مني رعبا وأحلت لي الغنائم أكلها وكان من قبلي يعظمون أكلها كانوا يحرقونها وجعلت الأرض مسجدا وطهورا أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت وكان من قبلي يعظمون ذلك إنما كانوا يصلون في بيعهم وكنائسهم والخامسة هي ماهي قيل لي سل فإن كل نبي قد سأل فأخرت مسألتي إلى يوم القيامة فهي لكم ولمن شهد أن لاإله إلا الله»، إسناد جيد قوي ولم يخرجوه وقال أيضا حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من سمع بي من أمتي أو يهودي أو نصراني فلم يؤمن بي لم يدخل الجنة وهذا الحديث في صحيح مسلم من وجه آخر عن أبي موسى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي رجل من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار»، وقال الإمام أحمد حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة حدثنا أبو يونس وهو سليم بن جبير عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني ثم يموت ولا يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار»، تفرد به أحمد وقال الإمام أحمد حدثنا حسين بن محمد حدثنا إسرائيل عن أبي أسحاق عن أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطيت خمسا بعثت إلى الأحمر والأسود وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأحلت لي الغنائم ولم تحل لمن كان قبلي ونصرت بالرعب مسيرة شهر وأعطيت الشفاعة وليس من نبي إلا وقد سأل الشفاعة وإني قد اختبأت شفاعتي ثم جعلتها لمن مات من أمتي لم يشرك بالله شيئا وهذا إسناد صحيح ولم أرهم خرجوه والله أعلم وله مثله من حديث ابن عمر بسند جيد أيضا وهذا الحديث ثابت في الصحيحين، أيضا من حديث جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس عامة].
v وفي «تفسيرابن كثير»: [ ... عن عكرمة قال سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول إن الله تعالى فضل محمدا صلى الله عليه وسلم على أهل السماء وعلى الأنبياء قالوا يا ابن عباس فيم فضله على الأنبياء قال رضي الله عنه إن الله تعالى قال وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم وقال للنبي صلى الله عليه وسلم وما أرسلناك إلا كافة للناس فأرسله الله تعالى إلى الجن والإنس وهذا الذي قاله ابن عباس رضي الله عنهما قد ثبت في الصحيحين رفعه عن جابر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة ويبعث إلى الناس عامة وفي الصحيح أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بعثت إلى الأسود والأحمر قال مجاهد يعني الجن والإنس وقال غيره يعني العرب والعجم والكل صحيح]
فهذه أسانيد صحاح إلى: جابر بن عبد الله، وأبي هريرة، وأبي ذر الغفاري أصدق خلق الله لهجة، والحبر البحر الثقة المأمون الإمام عبد الله بن عباس، والحافظ المتقن كاتب الحديث النبوي عبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي موسى عامر بن قيس الأشعري، وأبي أمامة صُدَي بن عجلان الباهلي، رضي الله عنهم جميعاً، قد شحنت بها الصحاح والسنن والمسانيد والمصنفات والمعاجم، بل وكتب التفسير والأدب والعربية، تقوم بها الحجة اليقينية القاطعة، التي لا ينكرها إلا معتوه مجنون، رفع عنه القلم، وخرج عن التكليف، أو كافر ملعون، خرج عن الإسلام، مع روايات أخرى عنهم وعن غيرهم من الصحابة ضربنا عنها الذكر صفحاً خشية التطويل، على كونه، عليه وعلى آله الصلاة والسلام: (أرسل إلى الناس كافة وفضل بذلك وخص به، فلم يرسل قبله نبي ولا رسول إلا إلى قومه أو قريته خاصة).
نعم: وايم الله إنها لفضيلة عظمى تنضم إلى غيرها من فضائل سيدي أبي القاسم، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، تبتهج القلوب بذكرها وُتَشَّنف الآذان بسماعها، كما تتعطر بها المجالس، ولكن ليس ذلك كل شئ، بل قبل ذلك وفوق ذلك: هذه عقائد أساسية، يجب الإيمان بها، ويكفر منكرها، ويترتب عليها أمور تشريعية وفكرية في غاية الأهمية نتفرغ لها الآن.
u فصل: نسخ الشرائع السابقة ببعثته، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، نسخاً تهائياً تاماً مطلقاً
ثبت بالدليل القاطع، الذي يكفر منكره، أن الأنبياء السابقين إنما أرسلوا إلى أمم مخصوصة، أو قرى مخصوصة. كما ثبت أنه، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، أرسل إلى الناس كافة، وأن الناس كافة هم أمته. هذا لا يكون ولا يتشكل في عقل مع فرضية أن الأمم السابقة ما زالت موجودة الآن، فلا بد أن تكون قد انقرضت وزالت بوصفها أمة رسالة مخاطبة من نبي معين، وأصبحت من ثم جزء من الأمة المحمدبة. أي أنها فقدت صفتها الأممية، وشخصيتها المعنوية، وعادت مجرد أفراد وجماعات وقبائل وشعوب تندرج تحت الأمة المحمدية.
وبذلك تكون دعوات الأنبياء السابقين غير ذات موضوع لأنها موجهة إلى معدوم: فليس هناك في الدنيا مكلف بشريعة موسى، وإنما هناك أفراد وقبائل من بني إسرائيل، أما أمة موسى، بوصفها أمة رسالة، فقد ذهبت وانقرضت، ولا بشريعة عيسى كذلك، ولا غيرهما. ولكن الرسالات السابقة تحتوي أمر الله ونهيه، فهل سقط ذلك كله، وأصبح غير ذي معنى؟! حاشا لله، السيد المطلق الكامل السيادة، أن يتهافت أمره أو أن تسقط أحكامه إلا بفعله هو، جل ذكره. لذلك وجب أن يكون جل وعلا قد نسخ جميع الشرائع السابقة بمجرد بعثة محمد، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، إلى الناس كافة.
فقوله تعالى لمحمد، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، نصبتك نبياً رسولاً إلى الناس كافة، قال معه، ضرورة: لقد حكمت برفع الخطاب في جميع الرسائل السابقة لأنها موجهة إلى معدوم، ونسخت جميع الشرائع السابقة، وأبطلت جميع أحكامها: فلم يعد واجبها واجباً، ولا حرامها، حراماً، ولا حلالها حلالاً.
فالأنياء السابقين إذا شرائعهم منسوخة، لا يحل تطبيقها، بل ويحرم اتباعها، فضلاً عن كونهم لم يرسوا لنا أصلاً، ولم يخاطبونا بشئ فلا تلزمنا شريعتهم مطلقاً. ليس هذا فحسب، بل يحرم علينا اتباع أي شئ من شرائعهم لأنها منسوخة، والأخذ بالمنسوخ وترك الناسخ جريمة كبرى، وتعقيب على الله في حكمه، وتمرد على ربوبيته وسيادته، فمن المحال الممتنع إذاً أن يكون (شرع من قبلنا شرع لنا)!
وما يوجد في شريعتنا من مشابهة، أو حتى مطابقة، لبعض أحكام الشرائع السابقة هو تشريع جديد، وليس هو إقرار لشرع سابق، حاشا لله، كيف وقد نسخ الشرع السابق أولا بكامله، بحلاله وحرامه، حلوه ومره، ثم شرع هذا بعد ذلك؟!
ويتضح كذلك بطلان كون (شرع من قبلنا شرع لنا)، بالإضافة إلى البرهان القطعي الضروري آنف الذكر، من أدنى تأمل لكون محمد، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بعث للبشرية كافة، بل للجن والإنس. فأتباعه من بني البشر أمة واحدة تشمل شتى شعوب الأرض وقبائلها، وهي بوصفها أمة واحدة لها شرعة واحدة، أما الانبياء السابقون فكان كل واحد منهم يبعث في شعوب أو قبائل أو قرى مخصوصة، ولكل واحد منهم شرعة ومنهاج، يختلف عن شرعة غيره ومنهاجه ولو في حكم واحد فمن زعم أن تلك الشرائع شرع لنا لزمه:
(1) تطبيقها جميعاً في نفس الوقت من نفس الجهة والاعتبار، أي الجمع بين المتناقضات، وهو مستحيل عقلاً وشرعاً،
(2) أو جعل كل شريعة مخصوصة بأمة معينة تسري الآن على تلك الأمة فقط، ولا تسري على غيرها من بني البشر، فمن حق الياباني أو الصيني أن يقول: هذا تشريع لبني إسراذيل، وهو غير ملزم لي زمن موسى نفسه، فكيف يكون ملزماً لي اليوم بعد بعثة محمد، صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟! وهذا محال شرعاً لمناقضته لعالمية الرسالة المحمدية، ووحدة الأمة المحمدية، وكلا الأمرين ثبت بالأدلة اليقينية القاطعة، بل هو معلوم من الإسلام بالضرورة، عند العوام والخواص، والمسلمين والكفار على حد سواء، كما أسلفنا. فهذا برهان قطعي ضروري ثاني.
وحاول قوم أن يفلتوا من الإشكالية فقالوا: إنما يكون شرع من قبلنا شرعاً لنا إذا ذكر في القرآن أو السنة. فنقول: هذا لا يغني عنكم شيئاً، لأن ذكره في الوحيين لا يخرج عن حالتين:
(1) أن يكون يفهم منها أنه إنما هو خبر مجرد فقط. والخبر ليس أمراً ولا نهياً،
(2) أو أن يذكر بصيغة يفهم منها مخاطبتنا به، فهذا شرع جديد مستأنف مطابق للشريعة السابقة بحذافيره.
وهذا إنما أصبح شرعاً لنا لا بمجرد كونه كان شريعة سابقة، ولا بمجرد إخبار الوحيين عن ذلك بأنه كان كذلك، ولكن لمجيء النص بتشريعه، أي لأننا خوطبنا به. فهو إذاً شريعة جديدة جاء الأمر بها الآن، وهي مطابقة لشريعة سابقة ذهبت ونسخت وانتهى أمرها.
فلا يجوز أن يقال أن شرع من قبلنا شرع لنا أو صار شرعاً لنا، ولكن يقال: هذه شريعة جديدة مستأنفة لنا مطابقة لشريعة سابقة، وهذا ممكن عقلاً وشرعاً، ولا غبار عليه.
v قال الإمام الحجة أبو محمد علي بن حزم الأندلسي في «المحلى»: [مسألة: (ولا يحل لنا اتباع شريعة نبي قبل نبينا)، قال عز وجل: }لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا{، حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور حدثنا وهب بن مسرة حدثنا محمد بن وضاح حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا هشيم أخبرنا سيار عن يزيد الفقير أخبرنا جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة فإذا صح أن الأنبياء عليهم السلام لم يبعث أحد منهم إلا إلى قومه خاصة فقد صح أن شرائعهم لم تلزم إلا من بعثوا إليه فقط وإذا لم يبعثوا إلينا فلم يخاطبونا قط بشيء ولا أمرونا ولا نهونا ولو أمرونا ونهونا وخاطبونا لما كان لنبينا صلى الله عليه وسلم فضيلة عليهم في هذا الباب ومن قال بهذا فقد كذب هذا الحديث وأبطل هذه الفضيلة التي خصه الله تعالى بها فإذا قد صح أنهم عليهم السلام لم يخاطبونا بشيء فقد صح يقينا أن شرائعهم لا تلزمنا أصلا وبالله تعالى التوفيق]،انتهى كلام أبي محمد.
فنقول: بخٍ بخ: هنيئاً لك أبا محمد هذا الفهم العميق، والفكر الموفق، الذي هو، بحمد الله، عين قولنا، الذي نقرره كالتالي:
قاعدة: نسخت الشرائع السابقة ببعثة سيدنا خاتم النبيين محمد بن عبد الله، عليه وعلى آله صلوات وتسليمات وتبريكات من الله، نسخاً نهائياً فورياً كاملاً مطلقاً، لذلك لا يجوز تطبيقها، ولا يحل اتباعها أصلاً.
فكل ماجاء به من الأحكام بعد نزول: }إقرأ{ فما هو شرع إلا جديد مستأنف، حتى ولو تشابه أو تطابق مع شريعة سابقة، فحقيقته أنه، لا محالة، جديد مستأنف. ولا يجوز مطلقاً أن يقال أنه «إقرار» للشرع السابق، لأن ما نسخ، ضرورة، قد بطل وذهب وانتهى، وأصبح معدوماً لا وجود له، ولو لطرفة عين، فعودته بعد ذلك إنشاء لشرع جديد، وليس إقراراً لشرع سابق موجود ما زال سارياً.
والذكر الحكيم، قرآناً وسنة، مملوء بحمد الله بالشواهد على قولنا هذا، فكلام الله ورسوله لا يتناقض أو يتعارض: }ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيراً{. فمن تلك الشواهد:
v قوله، تعالى ذكره، وعز سلطانه: }وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه{، (المائدة، 5:48).
المهيمن، وهو من أسماء الله الحسنى، ذكرت في تفسيره معاني الشهيد والمؤتمن، والأمين، والرقيب الحافظ، ولكنه على التحقيق في المقام الأول: المسيطر المتحكم، ذي السلطان القاهر، والأمر النافذ، ثم في المقام الثاني: القائم بالأمر، المتولي لشؤن الحكم، ورعاية الشؤون. وقد حاول الإمام الحافظ ابن حجر تلخيص الأقوال وتحريرها في «فتح الباري»، حيث قال: [قوله المهيمن القرآن أمين على كل كتاب قبله أورد بن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن بن عباس في قوله تعالى ومهيمنا عليه قال القرآن أمين على كل كتاب كان قبله، وروى عبد بن حميد من طريق أربدة التميمي عن بن عباس في قوله تعالى ومهيمنا عليه قال مؤتمنا عليه وقال بن قتيبة وتبعه جماعة مهيمنا مفيعل من أيمن قلبت همزته هاء وقد أنكر ذلك ثعلب فبالغ حتى نسب قائله إلى الكفر لأن المهيمن من الأسماء الحسني وأسماء الله تعالى لا تصغر. والحق أنه أصل بنفسه ليس مبدلا من شيء وأصل الهيمنة الحفظ والارتقاب تقول هيمن فلان على فلان إذا صار رقيبا عليه فهو مهيمن قال أبو عبيدة لم يجيء في كلام العرب على هذا البناء إلا أربعة ألفاظ مبيطر ومسيطر ومهيمن ومبيقر].
وقال الحافظ في موضع آخر من «فتح الباري»: [قال البيهقي: (هذا شرح قول أهل التفسير في المهيمن انه الأمين ثم ساق من طريق التيمي عن بن عباس في قوله مهيمنا عليه قال مؤتمنا ومن طريق علي بن أبي طلحة عن بن عباس المهيمن الأمين ومن طريق مجاهد قال المهيمن الشاهد وقيل المهيمن الرقيب على الشيء والحافظ له وقيل الهيمنة القيام على الشيء قال الشاعر:
الا ان خير الناس بعد نبيه vvv مهيمنه التاليه في العرف والنكر
يريد القائم على الناس بعده بالرعاية لهم) انتهى.
ويصح ان يريد الأمين عليهم فيوافق ما تقدم]. قلت: قد أصاب البيهقي ها هنا في تفسيره للفظة «المهيمن» بـ«القائم على الناس بالرعاية لهم»، فلا يستفاد من بيت الشعر المذكور إلا هذا، وقد تفهم بمعنى الحاكم المسيطر، أما الشهيد فلا، وأما المؤتمن فنعم، ولكن ليس من اللفظ نفسه، وإنما من مستلزمات معانيه شرعاً وعقلاً: أن الحاكم القائم بالشؤون مؤتمن عليها، أو هكذا ينبغي أن يكون، وإلا كان خائناً مجرماً.
ويشبه هذا ما جاء في «لسان العرب»: [وفي حديث عكرمة: (كان علي، عليه السلام، أعلم بالمهيمنات )، أي القضايا من الهيمنة وهي القيام على الشيء جعل الفعل لها هو لأربابها القوامين بالأمور].
أما الإمام الطبري فقد طوَّل جداً في هذا ولم يأت، خلافاً لعوائده الجميلة، بجديد في تفسيره.
ولكن الإمام ابن كثير كان أسعد حظاً في تفسير لهذه اللفظة إذ قال: [قوله تعالى: }ومهيمناً عليه{، قال سفيان الثوري وغيره، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس: أي مؤتمناً عليه. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: المهيمن الأمين، قال: القرآن أمين على كل كتاب قبله. ورواه عن عكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد ومحمد بن كعب وعطية والحسن وقتادة وعطاء الخراساني والسدي وابن زيد نحو ذلك، وقال ابن جرير: القرآن أمين على الكتب المتقدمة قبله، فما وافقه منها فهو حق، وما خالفه منها فهو باطل، وعن الوالبي عن ابن عباس «ومهيمناً» أي شهيداً، وكذا قال مجاهد وقتادة والسدي. وقال العوفي عن ابن عباس «ومهيمنا» أي حاكماً على ما قبله من الكتب، وهذه الأقوال كلها متقاربة المعنى، فإن اسم المهيمن يتضمن هذا كله، فهو أمين وشاهد وحاكم على كل كتاب قبله، جعل الله هذا الكتاب العظيم الذي أنزله آخر الكتب وخاتمها أشملها وأعظمها وأكملها حيث جمع فيه محاسن ما قبله، وزاده من الكمالات، ماليس في غيره، فلهذا جعله شاهداً وأميناً وحاكماً عليها كلها وتكفل تعالى بحفظه بنفسه الكريمة، فقال تعالى: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون]، انتهى كلام ابن كثير، وهو كلام جيد موفق.
ولكن الأكثرية من المفسرين ، للأسف الشديد، على تقليد ابن عباس في تفسيره للفظة «المهيمن» بـ«الشهيد»، ثم «المؤتمن» أو «الأمين»، التي لا تنسجم مع السياق، إلا قليلاً، بخلاف الحاكم، أو القائم، ونحوها. وهذا هو عيب التقليد، والتكاسل عن الاجتهاد والتفكير المستقل.
وقد وجدنا في تاريخ الطبري في قصة مقتل أبي شريح الخزاعي ومعاقبة قتلته أبيات من الشعر ممتعة، تصلح كشواهد لغوية: [...، فكتب فيهم إلى عثمان فكتب إليه في قتلهم فقتلهم على باب القصر في الرحبة، وقال في ذلك عمرو بن عاصم التميمي:
لا تأكلوا أبدا جيرانكم سرفا أهل الزعارة في ملك ابن عفان
وقال أيضا:
إن ابن عفان الذي جربتمو فطم اللصوص بمحكم الفرقان
ما زال يعمل بالكتاب مهيمنا في كل عنق منهم وبنان
ويظهر من الأبيات معنى التحكم، بل البطش والسيطرة في لفظة: (مهيمن).
كما في «الإصابة في تمييز الصحابة» أثناء ترجمة الفارعة بنت أبي الصلت رضي الله عنها، أخت أمية بن أبي الصلت الشاعر المشهور، هذه الأبيات من قصيدة له:
لك الحمد والنعماء والفضل ربنا ولا شيء أعلى منك جَدا وأمجد
مليك على عرش السماء مهيمـــن لعزته تعنو الوجـــوه وتســـجـــــــــــد
قلت: لا معنى لـ«مهيمن» هاهنا إلا: المتحكم المسيطر، ذي السلطان القاهر، والتصرف النافذ.
وهذا هو الذي شاع على السنة الناس خاصة وعامة في القرون الأخيرة، فإذا قيل «الهيمنة الأجنبية» فهم منها كل سامع معنى «الغلبة والتسلط أو الاستعمار الأجنبي»، لا غير، وهو الصواب والحمد لله.
وهذا هو الذي ندين الله به: أن «المهيمن» هو المسيطر المتحكم القاهر، ذي السلطان النافذ، لا غير
ولا يكون القرآن «مهيمناً» أي حاكما ومتسلطاً ومتغلباً ومسيطراً على الكتب السابقة، إلا إذا كان ناسخاً لها، لا يتصور، عقلاً أو شرعاً، في أوامر الله ونواهيه غير ذلك، لأنها كلها مرتبة واحدة، ذات حرمة وقدسية واحدة، فإذا هيمن أحدها وتحكم في آخر، فهو ناسخ وذاك منسوخ بالضروة، ومحال أن يكون الحال غير هذا، ولا يتصور في العقل إلا هذا، فهذا برهان ثالث على كون الشرائع السابقة منسوخة كلها، وعلى كوننا غير مخاطبين بها أصلاً، وأن (شرع من قبلنا شرع لنا) مقولة باطلة، بل إفك عظيم، لا يحل التفوه به مطلقاً بعد هذا البيان.
v ومن الأدلة على نسخ جميع الشرائع السابقة، والبطلان المطلق لمقولة: (شرع من قبلنا شرع لنا) قوله، جل جلاله، وتقدَّست أسماؤه: }ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ{، (الجاثـية؛ 45:18)، فهو، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، على شريعة خاصة مستقلة، تختلف عن الشرائع السابقة، أوحيت إليه من أول أمره في مكة، لأن سورة الجاثـية مكية إجماعاً، لذلك ما سأل أهل الكتاب عن شئ من الهدى أو الأحكام قط، بل نهى عن ذلك أشد النهي، كما سيأتي قريباً. ولعل بعض الناس، وبخاصة اليهود، تسخطوا من ذلك، فأعلمهم الله، بعد ذلك في المدينة، أن سنته المطردة الثابتة هي: جعل كل أمة على شريعة، وكل شريعة هي، في وقت شرعها وللقوم الذين شرعت لهم، شريعة الله، والعمل بها طاعة لله، فالمهم هو المسارعة إلى الأعمال الصالحة، والمسابقة إلى الخيرات، فإذا نسخت كانت الشريعة الجديدة هي شريعة الله، تجب طاعتها، ولا تحل مخالفتها، كما نبَّه جل جلاله، وسما مقامه، إذ قال: }وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ{، (المائدة:48)، وسورة المائدة من أواخر ما نزل في المدينة إجماعاً.
v ومن الأدلة على نسخ جميع الشرائع السابقة، والبطلان المطلق للمقولة الكاذبة الباطلة: (شرع من قبلنا شرع لنا)، قوله عليه وعلى آله الصلاة والسلام: «لو أصبح موسى فيكم حيا اليوم فاتبعتموه وتركتموني لضللتم»، كما سنشبعه نقاشاً في الفصل المقبل. وموسى نبي ورسول معصوم، لا يحل له مخالفة أمر الله. فمن المحال الممتنع أن لا يسعه إلا متابعة محمد، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بمعصية الله الذي أوحى إليه بشريعة معلومة مستقلة، فوجب ضرورة أن تكون شريعته منسوخة عن آخرها، بحيث لو بعث حياً لم يجز له إلا اتباع محمد، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وإلا كان عاصياً آثماً، حاشاه. فهذا كذلك برهان رابع على كون الشرائع السابقة منسوخة كلها، وعلى كوننا غير مخاطبين بها أصلاً، وأن (شرع من قبلنا شرع لنا) مقولة باطلة لا يحل التفوه بها.
v ومن القرائن القوية على نسخ جميع الشرائع السابقة، والبطلان المطلق للمقولة الكاذبة؛ (شرع من قبلنا شرع لنا)، إمامته، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، للأنبياء يوم أسريَ به إلى بيت الله المقدس، حيث بعث له الأنبياء السابقين، فتدافعوا من يتقدم، ثم قدموه أو قدمه جبريل أمامهم، فأمهم في الصلاة. يترتب على ذلك ضرورة أنه صلواتهم قد نسخت، لأنهم صلوا بصلاته، والصلاة عمود الدين، فغيرها نسخ من باب أولى. فهذا برهان خامس على كون الشرائع السابقة منسوخة كلها، وعلى كوننا غير مخاطبين بها أصلاً، وأن (شرع من قبلنا شرع لنا) مقولة باطلة لا يحل التفوه بها.
ــ وقد ثبتت قصة إمامته، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، للأنبياء بما جاء في «صحيح مسلم» حيث قال الإمام مسلم: [وحدثني زهير بن حرب حدثنا حجين بن المثنى حدثنا عبد العزيز وهو بن أبي سلمة عن عبد الله بن الفضل عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها فكربت كربة ما كربت مثله قط»، قال: «فرفعه الله لي أنظر إليه ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به، وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء فإذا موسى قائم يصلي فإذا رجل ضرب جعد كأنه من رجال شنوءة، وإذا عيسى بن مريم عليه السلام قائم يصلي أقرب الناس به شبها عروة بن مسعود الثقفي، وإذا إبراهيم عليه السلام قائم يصلي أشبه الناس به صاحبكم يعني نفسه، فحانت الصلاة فأممتهم، فلما فرغت من الصلاة قال قائل: (يا محمد هذا مالك صاحب النار فسلم عليه!)، فالتفت إليه فبدأني بالسلام]،
ــ وهو في «السنن الكبرى» للإمام النسائي: [أخبرنا محمد بن رافع قال حدثنا حجين بن المثنى قال حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة بعينه إلى منتهاه سنداً ومتناً]
ــ وفي «مسند الشاميين» من حديث طويل: [حدثنا مطلب بن شعيب حدثنا عبد الله بن صالح (ح) وحدثنا أحمد بن خليد الحلبي حدثنا يحيى بن صالح الوحاظي قالا: حدثنا سعيد بن عبد العزيز التنوخي حدثنا يزيد بن أبي مالك عن أنس بن مالك أن النبي، صلى الله عليه وسلم قال: «أتيت بدابة فوق الحمار ودون البغل خطوتها عند منتهى طرفها فركبت ومعي جبريل عليه السلام فسارت بي، ...»] إلى أن قال: [«ثم دخلت بيت المقدس فجمع لي الأنبياء فصليت بهم، ثم صعد بي إلى السماء الدنيا، ...الحديث»]
ــ وفي «فتح الباري شرح صحيح البخاري» ذكر لرواية أخرى: [وفي حديث أبي امامة عند الطبراني في الأوسط ثم اقيمت الصلاة فتدافعوا حتى قدموا محمداً]
u فصل: «لو أصبح موسى فيكم حيا اليوم فاتبعتموه وتركتموني لضللتم»
v قال، عليه وعلى آله الصلاة والتبريكات والسلام: «لو أصبح موسى فيكم حيا اليوم فاتبعتموه وتركتموني لضللتم»، كما ثبت عن عبد الله بن ثابت وغيره: جاء عمر إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله إني مررت بأخ لي من قريظة فكتب لي جوامع من التوراة [بالعربية، لنزداد به علما الى علمنا،] أحب أن أعرضها عليك)، فتغير وجه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، [وغضب حتى احمرت عيناه]، قال: فقلت لعمر: (مسخ الله عقلك! أما ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وقال أبو بكر: (ثكلتك الثواكل! ما ترى بوجه رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟!)، [وقالت الأنصار: (يا معشر الأنصار السلاح السلاح غضب نبيكم، صلى الله عليه وسلم)، فجاءوا حتى أحدقوا بمنبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم]، فقال عمر: (رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا وبمحمد، صلى الله عليه وسلم، [رسولاً] نبيا)، قال: فسري عنه، ثم قال:«[أمتهوكون فيها يا بن الخطاب: والذي نفسي بيده: إني أوتيت جوامع الكلم، وخواتمه، واختصر لي الحديث اختصارا، ولقد جئتكم بها بيضاء نقية، فلا تهوكوا، ولا يغرنكم المتهوكون! لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء: فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا: فإنكم إما أن تصدقوا بباطل، أو تكذبوا بحق]، والذي نفسي بيده لو أصبح موسى فيكم حيا اليوم، فاتبعتموه، وتركتموني لضللتم [عن سواء السبيل ضلالاً بعيداً]، [والذي نفسي بيده لو أن موسى، صلى الله عليه وسلم، كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني]: إني حظكم من النبيين، وأنتم حظي من الأمم»، [ثم نزل عن المنبر]. وقد أثبتنا صحة هذا الحديث بطوله في الملحق.
وقد ثبتت لفظة: «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء» من طرق أخرى بمفردها، عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، كما هو مبرهن عليه في الملحق أيضاً.
وقد جاءت لفظة: «ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم» من طرق أخرى بمفردها، عن العديد من الصحابة، فمن ذلك ما جاء عن أبي نملة الأنصاري، رضي الله عنه
v كما هي في «صحيح ابن حبان»: أخبرنا بن قتيبة قال حدثنا حرملة قال حدثنا بن وهب قال أخبرنا يونس عن بن شهاب أن نملة بن أبي نملة الأنصاري حدثه أن أبا نملة أخبره أنه بينما هو جالس عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم، جاء رجل من اليهود فقال هل تكلم هذه الجنازة فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «الله أعلم»، فقال اليهودي: (أنا أشهد أنها تتكلم)، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقالوا آمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله: فإن كان حقا لم تكذبوهم، وإن كان باطلا لم تصدقوهم»، وقال: «قاتل الله اليهود: لقد أوتوا علماً». وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده قوي. وقد أخرجه أبو داود، والطبراني من طرق كثيرة، والبيهقي، وغيرهم.
وكما جاءت عن عامر بن ربيعة، رضي الله عنه:
v في «المستدرك على الصحيحين»: أخبرناه أبو الفضل الفقيه حدثنا عثمان بن سعيد الدارمي أخبرنا عبد الله بن عبد الجبار بحمص حدثنا الحارث بن عبيدة حدثنا الزهري عن سالم عن أبيه عن عامر بن ربيعة قال: كنا مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فمر بجنازة فقال رجل من اليهود: (يا محمد تكلم هذه الجنازة؟!)، فسكت رسول الله، صلى الله عليه وسلم. فقال اليهودي: (أنا أشهد أنها تكلم!)، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «إذا حدثكم أهل الكتاب حديثا فقولوا آمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله».
أما لفظة: «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج»، التي كثيراً ما أُسيء فهمها، فقد جاءت عن عدد من الصحابة بأصح الأسانيد، منها ما جاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنه، كما:
v في «مسند الإمام أحمد بن حنبل»: حدثنا أبو المغيرة حدثنا الأوزاعي حدثني حسان بن عطية قال أقبل أبو كبشة السلولي ونحن في المسجد فقام إليه مكحول وابن أبي زكريا وأبو بحرية فقال: سمعت عبد الله بن عمرو يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار». هذا في غاية الصحة، مسلسل بالثقات المصرحين بالتحديث، وهو كذلك عند أحمد من طرق أخرى صحيحة، وعند البخاري، والداومي، وابن حبان، وفي مسند الشافعي، ومسند الحميدي، والطبراني الصغير، وشرح مهاني الآثار، ومواضع متعددة من «فتح الباري شرح صحيح البخاري»، وغيرهم.
وما جاء عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، كما:
v في «السنن الكبرى»: أنبأ الفضل بن العباس بن إبراهيم قال حدثنا عفان قال حدثنا همام قال حدثنا زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، وحدثوا عني ولا تكذبوا علي». هذا صحيح جداً، وهو كذلك في مسند أحمد من عدة طرق صحاح.
وما جاء عن جابر بن عبد الله، رضي الله عنه، كما:
v في «مسند عبد بن حميد»: حدثني بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن الربيع بن سعد عن بن سابط عن جابر قال قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «تحدثوا عن بني إسرائيل فإنه كانت فيهم الأعاجيب»، ثم أنشأ يحدث قال: «خرجت طائفة منهم فأتوا مقبرة من مقابرهم فقالوا لو صلينا ركعتين فدعونا الله عز وجل يخرج لنا بعض الأموات يخبرنا عن الموت قال ففعلوا فبينا هم كذلك إذ طلع رجل رأسه من قبر بن عينيه أثر السجود فقال: يا هؤلاء ما أردتم إلي؟! فوالله لقد مت منذ مائة سنة فما سكنت عني حرارة الموت حتى كان الآن فادعوا الله أن يعيدني كما كنت».
ولإزالة سوء الفهم الذي كثيراً ما أحاط بهذه الأحاديث نبدأ باستعراض أقوا الأئمة السابقين حول الموضوع التي يمثلها أحسن تمثيل ما قاله الإمام الحافظ الكبير ابن حجر العسقلاني:
v حيث قال في «فتح الباري شرح صحيح البخاري»: [والذي يظهر ان كراهية ذلك للتنزيه لا للتحريم والأولى في هذه المسئلة التفرقة بين من لم يتمكن ويصر من الراسخين في الإيمان فلا يجوز له النظر في شيء من ذلك بخلاف الراسخ فيجوز له ولا سيما عند الاحتياج الى الرد على المخالف ويدل على ذلك نقل الأئمة قديما وحديثا من التوراة وإلزامهم اليهود بالتصديق بمحمد، صلى الله عليه وسلم، بما يستخرجونه من كتابهم ولولا اعتقادهم جواز النظر فيه لما فعلوه وتواردوا عليه واما استدلاله للتحريم بما ورد من الغضب ودعواه أنه لو لم يكن معصية ما غضب منه فهو معترض بأنه قد يغضب من فعل المكروه ومن فعل ما هو خلاف الأولى إذا صدر ممن لا يليق منه ذلك كغضبه من تطويل معاذ صلاة الصبح بالقراءة وقد يغضب ممن يقع منه تقصير في فهم الأمر الواضح مثل الذي سأل عن لقطة الإبل وقد تقدم في كتاب العلم الغضب في الموعظة ومضى في كتاب الأدب ما يجوز من الغضب]، انتهى كلام الحافظ. وقال في موضع آخر: [قوله وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج أي لا ضيق عليكم في الحديث عنهم لأنه كان تقدم منه، صلى الله عليه وسلم، الزجر عن الأخذ عنهم والنظر في كتبهم ثم حصل التوسع في ذلك وكأن النهي وقع قبل استقرار الأحكام الإسلامية والقواعد الدينية خشية الفتنة ثم لما زال المحذور وقع الإذن في ذلك لما في سماع الأخبار التي كانت في زمانهم من الاعتبار وقيل معنى قوله لا حرج لا تضيق صدوركم بما تسمعونه عنهم من الأعاجيب فإن ذلك وقع لهم كثيرا وقيل لا حرج في أن لا تحدثوا عنهم لأن قوله أولا حدثوا صيغة أمر تقتضي الوجوب فأشار إلى عدم الوجوب وأن الأمر فيه للإباحة بقوله ولا حرج أي في ترك التحديث عنهم وقيل المراد رفع الحرج عن حاكي ذلك لما في أخبارهم من الألفاظ الشنيعة نحو قولهم اذهب أنت وربك فقاتلا وقولهم اجعل لنا إلها وقيل المراد ببني إسرائيل أولاد إسرائيل نفسه وهم أولاد يعقوب والمراد حدثوا عنهم بقصتهم مع أخيهم يوسف وهذا أبعد الأوجه وقال مالك المراد جواز التحدث عنهم بما كان من أمر حسن أما ما علم كذبه فلا وقيل المعنى حدثوا عنهم بمثل ما ورد في القرآن والحديث الصحيح وقيل المراد جواز التحدث عنهم بأي صورة وقعت من انقطاع أو بلاغ لتعذر الإتصال في التحدث عنهم بخلاف الأحكام الإسلامية فإن الأصل في التحدث بها الإتصال ولا يتعذر ذلك لقرب العهد وقال الشافعي من المعلوم أن النبي، صلى الله عليه وسلم، لا يجيز التحدث بالكذب فالمعنى حدثوا عن بني إسرائيل بما لا تعلمون كذبه وأما ما تجوزونه فلا حرج عليكم في التحدث به عنهم وهو نظير قوله إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم ولم يرد الإذن ولا المنع من التحدث بما يقطع بصدقه]، انتهت القطعة الثانية من كلام الحافظ.
قلت: رحم الله الحافظ، لقد اختلط عليه، وعلى الكثير من العلماء غيره، حكم ثلاثة أقضية متباينة، فجعلها قضية واحدة، كما يظهر من الدراسة المدققة التالية:

القضية الأولى: سؤال أهل الكتاب، أو غيرهم من الكفار، عن شيء من «الدين» طلباً للعلم والهدى (لاحظ قول عمر: لنزداد علماً إلى علمنا) وهذا محرم تحريماً قطعياً لا شك فيه بقرينة أنه، عليه وعلى آله صلوات وتسليمات وتبريكات من الله، غضب غضباً شديداً حتى احمرت عيناه من فعل عمر، حتى صاح به عبد الله بن ثابت: (مسخ الله عقلك! أما ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وصاح به أبو بكر: (ثكلتك الثواكل ما ترى بوجه رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟!)، وتنادت الأنصار إلى السلاح، وهذا لا يكون إلا في العظائم. وقد علَّل النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ذلك بأمور عدة تختلف حسب مرتبتها في الأهمية، وهي:
الاعتبار الأول: أن ما في أيدي أهل الكتاب السابق من الكتب والروايات محرف غيرت ألفاظه، وأدخل فيه ما ليس منه، قد اختلط فيه الحق والباطل، والصدق والكذب على وجه لا يمكن التمييز، من داخله، بين أجزائه على وجه متيقن أبداً، كما أنه ناقص لحذف أشياء منه عمداً أو لضياعها. فما ببأيديهم مظلم ملوَّث، لا تقوم به حجة، ولا تبرأ به ذمة. أما ما أتى به محمد، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهو منير نقي، وهو شاف كاف (لاحظ قوله: إني أوتيت جوامع الكلم، وخواتمه، واختصر لي الحديث اختصارا، ولقد جئتكم بها بيضاء نقية) قد تكفل الله بحفظه بحيث يبقى إلى يوم القيامة نقياً تقوم به الحجة، وتبرأ به الذمة. فكيف يسوغ للعاقل طالب الحق أن يترك المنبع النقي الصافي ويتجه إلى المشوب الملوَّث؟! نعم: قد يعذر من لم يجد إلا الملوَّث إذا شرب منه مضطراً كحال المؤمنين بالكتب السابقة قبل بعثته، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أما بعد بعثته فلا.
الاعتبار الثاني: وهو أهم من سابقه وأخطر: أن أهل الكتاب السابق لما سبق ذكره من تحريف الكتب وضياعها، ولانتشار الفسق والنفاق في أحبارهم وكهنتهم ورهبانهم، الذين يحرفون الكلم الثابت الصحيح عن مواضعه، ويتأولون الكتاب على غير تأويله، ويجعلون الكتاب قراطيس يبدون بعضها ويخفون كثيراً، ويبقون الكتاب بلغات ميتة بائدة لا يحسنها جمهور الناس ليحتكروا تفسيره، ويتسلطوا على العامة بمعرفته، ولمداهنتهم للسلاطين، وأكلهم أموال الناس بالباطل، أنهم لذلك كله ضلال بعيدون عن الهدى، ومن كان ضالاً بنفسه لا ينتظر منه أن يهدي غيره، ولا يجوز أن يوثق بفتواه، ولا أن يعتد برأيه.
وعلم «الدين» إنما يؤخذ فقط عن أهل الهداية والاستقامة، لا عن أهل الغواية والضلالة (لاحظ قوله: فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا). وهذا يصح كذلك، ومن باب أولى، حتى على منافقة القراء من هذه الأمة المحمدية، لا سيما فقهاء السلاطين، لعنهم الله، بالرغم من حفظ الذكر وسلامته من التحريف والضياع في ذاته، وبالرغم من حفظهم هم للكتب والمتون والشروح، كالحمار يحمل أسفاراً، لأنهم لم يرفعوا بها رأساً، فلا يجوز أيضاً سؤالهم، ولا طلب الهدي منهم وهم قد ضلوا.
الاعتبار الثالث: وهو الاعتبار الأهم والأخطر: أن الكتب السابقة حتى ولو قدرنا جدلاً، وتنزلاً في الاحتجاج، أنها كانت محفوظة حرفاً حرفاً، بل حركة حركة، وصوتا صوتا، كحفظ القرآن عند المسلمين، وحتى لو سلمنا جدلاً بأن حملتها من الكهنة والأحبار والرهبان ثقاة مأمونون، لا يحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يكتمون شيئاً مما أنزل الله، ويبلغون عن الله ولا يخشون أحداً إلا الله، إي أنهم بحق ورثة للأنبياء، لو فرضنا ذلك كله جدلاً لم تعد مصدر هداية: لأنها نسخت كلها من أولها إلى آخرها، كبيرها وصغيرها. بل لو أن موسى، وهو من أعظم رسل الله السابقين مكانة، وأكثرهم تشريعاً، بعث حياً اليوم للزمه اتباع النبي محمد، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، من غير قيد أو شرط.
ولما كان موسى، صلى الله عليه وسلم، رسولاً نبياً معصوماً لا يجوز له أن يخالف شيئا من أوامر الله نواهيه التي أوحاها إليه من قبل، لزم ضرورة أن يكون كل ما أوحي إليه منسوخ كله، دقه وجله فور بعثة محمد، صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ولو تبع الناس موسى، وتركو محمداً لضلوا ضلالاً بعيداً، أي لكفروا، لأن الضلال البعيد لا يطلق إلا على الكفر.
فمن لحظة نزلت: }إقرأ بسم ربك الذي خلق{، على الصحيح، أو على أبعد تقدير لحظة نزول قوله، تباركت أسماؤه: }قل: يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً{، نسخت جميع الشرائع السابقة كلها جميعاً، وعاد الأمر أنف كيوم خوطب آدم وزوجه: }لا تقربا هذه الشجرة{، بل كحالهما قبل ذلك الخطاب. فلم يكن ثم صلاة ولا زكاة ولا صيام، وما ثمة تكليف حتى جاء ذلك الأمر الواحد اليتيم. لذلك كان الحق الذي لا ريب فيه أن (شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا)، كما أقمنا عليه قواطع الأدلة فيما سبق. نعم قال بخلاف ذلك بعض أهل العلم، وهو خطأ منكر فادح، وزلة جسيمة شنعاء من زلات العلماء، نسأل الله أن يغفرها لهم، ونعوذ بالله من شرها.
أما حمل الحافظ ابن حجر، رحمه الله، غضب النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، الشديد على الكراهية فحسب فهو عجيب، وهو من زلات العلماء الشنيعة، أعاذنا الله من شرها. وأعجب منه القياس على تأنيب معاذ، رضي الله عنه، على إطالته الصلاة. وكان الأولى به، سامحه الله وعفا عنه، أن يحكم بحرمة تطويل الإمام لصلاة الفرض فوق طاقة المأمومين، وهو الحق إن شاء الله تعالى، بدلاً من تنكيس القضية، والذهاب إلى مقالته الساقطة العجيبة. وأما غضب النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، على من سأل عن ضوال الإبل فالأرجح، والله أعلم، أنه استشعر من السائل محاولة المراوغة لاستحلال أخذها أو ركوبها على الأقل، كما يظهر من تتبع ألفاظ الحديث، فاشتد غضبه لا من مجرد السؤال، ولكن من ما ظهر من مقاصد السائل ونيته الملتوية، وهي نية محرمة خبيثة، يستحق صاحبها الذم والتوبيخ، وأن يعنَّف ويغضب عليه.
القضية الثانية: وهو غير الأولى، ومباينة لها، تتعلق بالموقف من إخبار أهل الكتاب لنا بشيء من أمور «الدين»، كأخبار الغيب، وأحوال القيامة، وصفات الله وأسمائه، وذلك عندما يتطوعون هم بتقديم الخبر، غير مسبوق بسؤال منا، لأن سؤالهم عن ذلك غير جائز كما أسلفنا. ففي مثل هذه الأحوال يوجب العقل التوقف في كل مقولة لم يقم عليها أو على ضدها برهان، لأن الإثبات والنفي كلاهما أحكام تفتقر إلى البرهان. وحتى لو كانت تلك المقولات مستندة على كتبهم ورواياتهم، مستنبطة استنباطا صحيحاً من النصوص التي في أيديهم، فلا يجوز إلا التوقف في أمرها لأن نصوصهم غير ثابته، ولم يقم البرهان القاطع على حجيتها. هذا هو الموقف «المعرفي» العقلي السليم، والتعامل المنصف، من كل قضية لم تتم بعد البرهنة عليها: التوقف والامتناع عن النفي أو الإثبات. ثم جاء الشرع المطهر فأوجب هذا الموقف «المعرفي» السليم على المؤمنين بالرسالة المحمدية فأصبح هو كذلك الحكم الشرعي الملزم، لأن خلاف ذلك يفضي إلى التصديق بباطل، وهو أمر محرم شنيع: أقل مراتبه التخريف والسفاهة، وربما وصل إلى درجة الكفر والضلالة، أو التكذيب بحق، وهو كسابقه في الشناعة.
وهذا الموقف هو كذلك الواجب على من عصى الله ورسوله وبدأهم بالسؤال، فالوقوع في المعصية أولاً بسؤالهم لا يبرر الوقوع في المعصية تالياً بتكذيبهم أو تصديقهم من غير برهان. نعم: هذا هو الواجب على كل حال تجاه تحديثهم لنا عن أي شأن من شؤون «الدين»، سواء كان هذا ابتداءً وتبرعاً منهم، أو رداً على سؤال منا.
القضية الثالثة: التحديث «عنهم»، أي رواية أخبارهم، وما حدث في تاريخهم الطويل من الفتن والحروب، والارتقاء والانحطاط، والنصر والهزيمة، وصلاح الحكام وفسادهم، وإحسان الأحبار وانحرافهم، وكذلك الأعاجيب التي كانت فيهم، كل ذلك لأخذ العبرة والموعظة، ولفهم حركة التاريخ، وسنن الأمم والدول والمجتمعات، لا سيما وأن بني إسرائيل كانوا أمة رسالة ودعوة. ويدخل في ذلك، بل هو الأولى بالتقديم لأنه كالمدخل لما سبق: دراسة كتبهم ومروياتهم لغربلة المتناقض والمكذوب، واستجلاء الراجح والصحيح، لا سيما إذا دعم ذلك بدراسة آثارهم، وأطلال مدنهم، وما رواه مؤرخو الشعوب الأخرى عنهم، إلى غير ذلك من آليِّات البحث التاريخي. ومن البديهي أنه لا يجوز، كما أسلفنا في القضايا السابقة، أخذ مروياتهم، أو مرويات غيرهم، موضع التسليم، بل لا بد من التوقف فيها أولاً، ثم فحصها وتمييزها ثانياً. فإن ثبت أو ترجح شيء من ذلك جاز بعدئذ التحدث عنهم به، ولا حرج، لأخذ العبرة منه.
ولكن الفهم الخاطيء السقيم للأحاديث المذكورة أعلاه، حتى من قبل بعض الأكابر، كما يظهر مثلاً في كلام الإمام الحافظ الحجة ابن حجر، أدى إلى انتكاس القضايا في أذهان المسلمين. نعم: قل أن يوجد من المسلمين من سأل أهل الكتاب طالباً الهدى من عندهم، ولكن كثر من طلب الهدى من كتب الفلاسفة، وهم شر من أهل الكتاب، وأبعد عن الهدى والوحي، ظاناً أنها مباحث عقلية، مهملاً للكتاب والسنة. والحق أنها أسوأ حالاً من كتب بني إسرائيل: فما هي إلا فرضيات خيالية، ومباحث خرافية، إلا أقل القليل.
وانتشر التصديق لمرويات أهل الكتابين وأخذها قضية مسلمة خاصة في كتب التفاسير، بل وجد من حاول تأويل النصوص القرآنية لتتوافق مع الخرافات العبرانية: سبحان الله هذا بهتان عظيم!
وفي المقابل قلت الأبحاث النقدية الموضوعية لكتبهم. نعم: قام الإمام الفحل أبو محمد علي بن حزم الأندلسي، فيما نعلم، بأول دراسة موضوعية في تاريخ البشرية لكتب أهل الكتابين في «الفصل بين الملل والنحل»؛ ولكن لم يتبعه كثير من علماء المسلمين بل أهملوا الموضوع إهمالاً، إلا الإمام ابن تيمية في «الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح»، ولم يأت من غيرهما إلا أشياء يسيرة أخرى، لا تسمن ولا تغني من جوع، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
u فصل: النهي عن كثرة السؤال
اشتد نهي الله ورسوله عن كثرة السؤال، والتردد على رسول الله بالمسائل والفرضيات، والتقعر والتعمق في الجدليات، لا فرق في ذلك بين سؤال الرجل المطعون في نسبه: من هو أبي؟! وسؤال الأعرابي الأحمق عن الحج: أهو في كل عام.
ثبت ذلك بالبرهان القاطع، والحجة اليقينية الملزمة بذلك كما هي في الآيات والأحاديث التالية:
v قال الحق، جل جلاله، وتباركت أسماؤه: }يأيها لذين آمنوا لا تسألوا عن أشيآء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل لقرآن تبد لكم عفا لله عنها ولله غفور حليم{، (المائدة: 5:101)، وإليك جماع قول أئمة التفسير كما وردت في:
v فقد جاء في « تفسير الطبري»: [القول في تأويل قوله تعالى: }يأيها لذين آمنوا لا تسألوا عن أشيآء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل لقرآن تبد لكم عفا الله عنها، والله غفور حليم{، ذكر أن هذه الآية أنزلت على رسول الله بسبب مسائل كان يسألها إياه أقوام امتحانا له أحيانا، واستهزاء أحيانا، فيقول له بعضهم: من أبي؟!، ويقول له بعضهم إذا ضلت ناقته: أين ناقتي؟! فقال لهم تعالى ذكره: لا تسألوا عن أشياء من ذلك (كمسألة عبد الله بن حذافة إياه من أبوه) إن تبد لكم تسؤكم يقول إن أبدينا لكم حقيقة ما تسألون عنه ساءكم إبداؤها وإظهارها وبنحو الذي قلنا في ذلك تظاهرت الأخبار عن أصحاب رسول الله. ذكر الرواية بذلك: ...] ثم استعرض الطبري نحواً من عشر روايات أكثرها صحاح بذلك المعنى المذكور، وهي في الملحق مع كامل نص الإمام الطبري.
v واستأنف الإمام: [وقال آخرون نزلت هذه الآية على رسول الله من أجل مسألة سائل سأله عن شيء في أمر الحج. ذكر من قال ذلك: ...] وذكر كذلك نحواً من ثمانية طرق، أكثرها صحاح، ، وهي كذلك في الملحق مع كامل النص.
v ثم قال: [وقال آخرون بل نزلت هذه الآية من أجل أنهم سألوا رسول الله عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي. ذكر من قال ذلك:...] ثم ذكر روايتين، لا غير.
v ثم قال الإمام الطبري: [ وأولى الأقوال بالصواب في ذلك قول من قال نزلت هذه الآية من أجل إكثار السائلين رسول الله المسائل كمسألة ابن حذافة إياه من أبوه ومسألة سائله إذ قال إن الله فرض عليكم الحج أفي كل عام وما أشبه ذلك من المسائل لتظاهر الأخبار بذلك عن الصحابة والتابعين وعامة أهل التأويل.
وأما القول الذي رواه مجاهد عن ابن عباس فقول غير بعيد من الصواب ولكن الأخبار المتظاهرة عن الصحابة والتابعين بخلافه وكرهنا القول به من أجل ذلك على أنه غير مستنكر أن تكون المسألة عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحام كانت فيما سألوا النبي عنه من المسائل التي كره الله لهم السؤال عنها كما كره الله لهم المسألة عن الحج أكل عام هو أم عاما واحدا وكما كره لعبد الله بن حذافة مسألته عن أبيه فنزلت الآية بالنهي عن المسائل لها فأخبر كل مخبر منهم ببعض ما نزلت الآية من أجله وأجل غيره.
وهذا القول أولى الأقوال في ذلك عندي بالصحة لأن مخارج الأخبار بجميع المعاني التي ذكرت صحاح فتوجيهها إلى الصواب من وجودها أولى]، وقد ذكرنا نص كلام الطبري بكامله في الملحق، وكذلك تفسير ما جاء بعده من آيات لعلاقته بالموضوع، فليراجع هناك.
v وفي تفسير ابن كثير نحو ما قال الطبري مختصراً مع زيادات موفقة مفيدة: [نهى الله تعالى المؤمنين في هذه الآية الكريمة عن كثرة سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن الأشياء قبل كونها كما قال تعالى: }يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم{، أي وإن تسألوا عن تفصيلها بعد نزولها تبين لكم ولاتسألوا عن الشيء قبل كونه فلعله أن يحرم من أجل تلك المسألة ولهذا جاء في الصحيح: «إن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسئلته»، ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد مع امرأته رجلا فإن تكلم تكلم بأمر عظيم وإن سكت سكت على مثل ذلك فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها ثم أنزل الله حكم الملاعنة ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال وفي صحيح مسلم ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه مااستطعتم وإن نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وهذا إنما قاله بعد ما أخبرهم أن الله كتب عليهم الحج فقال رجل أكل عام يا رسول الله فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا ثم قال عليه السلام لا ولو قلت نعم لوجبت ولو وجبت لما استطعتم ثم قال ذروني ما تركتم الحديث ولهذا قال أنس بن مالك: (نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء فكان يعجبنا أن يأتي الرجل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع).
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده أخبرنا أبو كريب أخبرنا إسحاق بن سليمان عن أبي سنان عن أبي إسحاق عن البراء ابن عازب قال: (إن كان ليأتي علي السنة أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشيء فأتهيب منه، وإن كنا لنتمنى الأعراب).
وقال البزار أخبرنا محمد بن المثنى أخبرنا ابن فضيل عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال مارأيت قوما خيرا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ما سألوه إلا عن اثنتي عشرة مسألة كلها في القرآن يسألونك عن الخمر والميسر ويسألونك عن الشهر الحرام و يسألونك عن اليتامى يعني هذا وأشباهه وقوله تعالى أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل أي بل تريدون أو هي على بابها في الإستفهام وهو إنكاري وهو يعم المؤمنين والكافرين فإنه عليه الصلاة والسلام رسول الله إلى الجميع كما قال تعالى يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم قال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد عن ابن عباس قال قال رافع بن حريملة أو وهب بن زيد يا محمد ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرؤه وفجر لنا أنهارا نتبعك ونصدقك فأنزل الله من قولهم أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل قال قال رجل يا رسول الله لو كانت كفارتنا ككفارات بني إسرائيل فقال النبي صلى الله عليه وسلم اللهم لا نبغيها ثلاثا ما أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل كانت بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه وكفارتها فإن كفرها كانت له خزيا في الدنيا وإن لم يكفرها كانت له خزيا في الآخرة فما أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل قال ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما وقال الصلوات الخمس من الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن وقال من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه وإن عملها كتبت سيئة واحدة ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة واحدة وان عملها كتبت له عشر أمثالها ولا يهلك على الله إلا هالك فأنزل الله أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل وقال مجاهد أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل أن يريهم الله جهرة قال سألت قريش محمدا صلى الله عليه وسلم ان يجعل لهم الصفا ذهبا قال نعم وهو لكم كالمائدة لبني إسرائيل فأبوا ورجعوا وعن السدي وقتادة نحو هذا والله أعلم والمراد أن الله ذم من سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن شيء على وجه التعنت والإقتراح كما سألت بنو إسرائيل موسى عليه السلام تعنتا وتكذيبا وعنادا قال الله تعالى ومن يتبدل الكفر بالإيمان أي ومن يشتر الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل أي فقد خرج عن الطريق المستقيم إلى الجهل والضلال وهكذا حال الذين عدلوا عن تصديق الأنبياء واتباعهم والإنقياد لهم إلى مخالفتهم وتكذيبهم والإقتراح عليهم بالأسئلة التي لا يحتاجون إليها على وجه التعنت والكفر كما قال تعالى ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار وقال أبو العالية يتبدل الشدة بالرخاء، ...، الآيات]، انتهى كلام الإمام بن كثير، وقد أحسن فيه وأجاد.
وأنت ترى مما سلف من أقوال الإمامين، وما أوردا من أدلة تحدث بمجموعها علماً قطعياً، لا محيص من الإقرار بصحته، على قولنا أن الآية، كما هو منطوقها، عامة في كل المسائل: لا فرق في ذلك بين سؤال الرجل متعنتاً: من هو أبي؟! أو أين أبي: في الجنة أو النار؟! وسؤال الأعرابي الجاهل عن الحج: أهو في كل عام؟!
ولاستكمال البرهان القاطع على ذلك، ولزيادة إيضاح المسألة بكافة أبعادها، نورد أهم الروايات الصحيحة في هذا الموضوع مع أسانيدها، مبتدئين بحديث أبي هريرة، رضي الله عنه:
v ففي «الجامع الصحيح المختصر» للإمام البخاري: [حدثنا إسماعيل حدثني مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: «دعوني ما تركتكم: إنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»]هذا الإسناد صحيح كالشمس، بل هو «السلسلة الذهبية» من أسانيد أبي هريرة!
v وهو في «صحيح مسلم» بلفظ: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم» .
v في «صحيح مسلم» بلفظ آخر: «ذروني ما تركتكم، (وفي حديث همام: ما تركتم) فإنما هلك من كان قبلكم ...»،
ــ وهو في أكثر الصحاح، والسنن والمعاجم والمسانيد بأصح الأسانيد كما هو مفصل في الملحق.
v وفي «صحيح ابن حبان» زيادة مفيدة جيدة بإسناد قوي تقوم به الحجة، وتعليق جيد من الإمام أبي حاتم بن حبان البستي: [أخبرنا عمر بن محمد الهمداني قال حدثنا عبد الملك بن شعيب بن الليث بن سعد قال حدثني أبي عن جدي عن محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة به. قال بن عجلان حدثني زيد بن أسلم عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وزاد فيه: «وما أخبرتكم أنه من عند الله فهو الذي لا شك فيه»، قال أبو حاتم، رضي الله تعالى عنه: (في هذا الخبر بيان واضح: أن النواهي عن المصطفى صلى الله عليه وسلم كلها على الحتم والإيجاب حتى تقوم الدلالة على ندبيتها وأن أوامره صلى الله عليه وسلم بحسب الطاقة والوسع على الإيجاب حتى تقوم الدلالة على ندبيتها، قال الله جل وعلا: وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ثم نفى الإيمان عن من لم يحكم رسوله فيما شجر بينهم من حيث لا يجدوا في أنفسهم مما قضى وحكم حرجا ويسلموا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم تسليما بترك الآراء المعكوسة، والمقايسات المنكوسة، فقال فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما)، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: (إسناده قوي على شرط مسلم).
ولم ينفرد أبو هريرة بهذا المعنى، بل قد جاء في هذا الموضوع، من زاوية أخرى، عن سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنه، كما هو:
v في «الجامع الصحيح المختصر» للإمام البخاري: [حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ حدثنا سعيد حدثني عقيل عن بن شهاب عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: «إن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته»]
v هو وفي «صحيح مسلم» بلفظ: «إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين فحرم عليهم من أجل مسألته». وقال مسلم: حدثناه أبو بكر بن أبي شيبة وابن أبي عمر قالا حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري (ح) وحدثنا محمد بن عباد حدثنا سفيان قال أحفظه كما أحفظ بسم الله الرحمن الرحيم عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن أمر لم يحرم فحرم على الناس من أجل مسألته»]
ويزيد حديث النواس بن سمعان، وهو صحيح كذلك، هذه القضية وضوحاً، حيث جاء:
v في «صحيح مسلم»: [حدثني هارون بن سعيد الأيلي حدثنا عبد الله بن وهب حدثني معاوية يعنى بن صالح عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن نواس بن سمعان قال: (أقمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة سنة ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة: كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن شيء، قال فسألته عن البر والإثم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس»).
وهناك حديث أبي ثعلبة الخشني، وهو قوي صحيح، في نفس الموضوع:
v كما أخرجه الإمام ابن حزم في «الإحكام في أصول الأحكام» وحكم بصحته: [حدثنا أحمد بن قاسم حدثنا أبي قاسم بن محمد بن قاسم حدثنا جدي قاسم بن أصبغ أخبرنا بكر بن حماد أخبرنا حفص بن غياث عن داود بن أبي هند عن مكحول عن أبي ثعلبة الخشني قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء من غير نسيان لها رحمة لكم فلا تبحثوا عنها!».]
v وهو في «المستدرك على الصحيحين» بلفظ: «إن الله حد حدودا فلا تعتدوها، وفرض لكم فرائض فلا تضيعوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وترك أشياء من غير نسيان من ربكم ولكن رحمة منه لكم فاقبلوها ولا تبحثوا فيها!»
v كما هي في «المعجم الصغير» عن أبي الدرداء بلفظ: «إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وسكت عن كثير من غير نسيان فلا تتكلفوها: رحمة من الله فاقبلوها»،. وقد نسبه الحافظ في «الفتح» إلي البزار والحاكم، بلفظ مختلف مع زيادات، فقال: [ما أخرجه البزار وقال: (سنده صالح)، وصححه الحاكم، من حديث أبي الدرداء رفعه: «ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو فاقبلوا من الله عافيته فان الله لم يكن ينسى شيئا»، ثم تلا هذه الآية: }وما كان ربك نسيا{]. وتصحيح الحاكم، مع قول البزار: (سنده صالح)، وعدم اعتراض الحافظ بن حجر يدل على قوة الحديث، وجودة إسناده، إذا كان هو الوارد في المعجم الصغير، وإن كان إسناد المعجم الصغير مستقلاً عن ذاك لدى البزار والحاكم فزيادة قوة وخير وبركة!
وجاء نحو هذا عن عمير بن قتادة الجندعي الليثي، رضي الله عنه، من طريق محتملة، لا بأس بها:
v كما هي في «المستدرك على الصحيحين»: [أخبرنا أبو جعفر البغدادي حدثنا أبو علاثة حدثني أبي حدثنا محمد بن سلمة الحراني عن بكر بن خنيس (عن أبي بدر) عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن أبيه عن جده قال : [كانت في نفسي مسألة قد أحزنني أني لم أسأل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عنها ولم أسمع أحدا يسأله عنها فكنت أتحينه فدخلت عليه ذات يوم وهو يتوضأ فوافقته على حالتين كنت أحب أن أوافقه عليهما وجدته فارغا وطيب النفس فقلت يا رسول الله أتأذن لي أن أسألك قال نعم سل عما بدا لك قلت يا رسول الله ما الإيمان قال السماحة والصبر قلت فأي المؤمنين أفضل إيمانا قال أحسنهم خلقا قلت فأي المسلمين أفضلهم إسلاما قال من سلم المسلمون من لسانه ويده قلت فأي الجهاد أفضل فطأطأ رأسه فصمت طويلا حتى خفت أن أكون قد شققت عليه وتمنيت إن لم أكن سألته وقد سمعته بالأمس يقول: «إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما لمن سأل عن شيء لم يحرم عليهم فحرم عليهم من أجل مسألته»، فقلت: أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله، صلى الله عليه وسلم، فرفع رأسه فقال كيف قلت قلت أي الجهاد أفضل فقال: «كلمة عدل عند إمام جائر»]، بخٍ بخ لك يا عمير بن قتادة، أخا بني ليث، على هذه الأسئلة العظيمة الموفقة، وهنيئاً لك سماع البيان النبوي الشافي الكافي من الشفتين الشريفتين مباشرة من غير واسطة.
وكان غضب خاتمة أنبياء الله، عليه وعلى آله صلوات وتسليمات وتبريكات من الله، على من يسأل عن مثل هذه الأمور شديداًَ، كما جاء عن أبي قتادة الأنصاري، رضي الله تعالى عنه:
v كما جاء في «صحيح مسلم»: [حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار واللفظ لابن المثنى قالا حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن غيلان بن جرير سمع عبد الله بن معبد الزماني عن أبي قتادة الأنصاري، رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سئل عن صومه قال: فغضب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال عمر، رضي الله تعالى عنه: (رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا، وببيعتنا بيعة!)، قال: فسُئِل عن صيام الدهر فقال: «لا صام ولا أفطر، (أو ما صام وما أفطر)»، قال: (فسئل عن صوم يومين وإفطار يوم) قال: «ومن يطيق ذلك؟!»، قال: (وسئل عن صوم يوم وإفطار يومين)، قال: «ليت أن الله قوانا لذلك!»، قال: (وسئل عن صوم يوم وإفطار يوم)، قال: «ذاك صوم أخي داود عليه السلام»، قال: (وسئل عن صوم يوم الإثنين)، قال: «ذاك يوم ولدت فيه، ويوم بعثت، (أو أنزل علي فيه)»، قال فقال: «صوم ثلاثة من كل شهر، ورمضان إلى رمضان: صوم الدهر»، قال: (وسئل عن صوم يوم عرفة)، فقال: « يكفر السنة الماضية والباقية»، قال: (وسئل عن صوم يوم عاشوراء)، فقال: «يكفر السنة الماضية»]، وهو في صحيح مسلم» من عدة طرق، وهو أيضاً في «المجتبى من السنن»، وفي «السنن الكبرى»، وكذلك في «مسند الإمام أحمد بن حنبل» من عدة طرق وفي «صحيح ابن خزيمة»، وهو في «صحيح ابن حبان»، كما أنه في «المستدرك على الصحيحين»، وفي «سنن أبي داود»، وقد استوعب الإمام البيهقي أهم طرقه في «سنن البيهقي الكبرى»، وفي غيرها بأصح الأسانيد.
ــ وهو بتجميع الأسانيد في «سنن البيهقي الكبرى»: [أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك أنبأ عبد الله بن جعفر حدثنا يونس بن حبيب حدثنا أبو داود حدثنا حماد بن زيد وهشام ومهدي قال حماد ومهدي عن غيلان بن جرير وقال هشام عن قتادة عن غيلان بن جرير عن عبد الله بن معبد الزماني عن أبي قتادة رضي الله تعالى عنه، أن أعرابيا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن صومه: فغضب حتى عرف ذلك في وجهه فقام عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقال رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبك نبيا أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله فلم يزل عمر رضي الله تعالى عنه يردد ذلك حتى سكن، ثم ساق الحديث بطوله إلى منتهاه بنحو حديث الإمام مسلم]، وقال الإمام البيهقي: (رواه مسلم في الصحيح عن يحيى بن يحيى وغيره عن حماد بن زيد ومن وجه آخر عن مهدي بن ميمون)
ــ وهو في «صحيح ابن حبان» مع تعقيب جيد موفق من الإمام أبي حاتم بن حبان: [أخبرنا أبو يعلى حدثنا خلف بن هشام البزار حدثنا حماد بن زيد عن غيلان بن جرير عن عبد الله بن معبد عن أبي قتادة به بطوله إلى قوله: «وددت انى طوقت ذاك»]، وقال أبو حاتم: (لم يكن غضب النبي صلى الله عليه وسلم من أجل مسألة هذا السائل عن كيفية الصوم وإنما كان غضبه صلى الله عليه وسلم لأن السائل سأله قال يا نبي الله كيف تصوم قال فكره النبي صلى الله عليه وسلم استخباره عن كيفية صومه: مخافة ان لو أخبره يعجز عن اتيان مثله، أو خشي صلى الله عليه وسلم على السائل وأمته جميعا ان يفرض عليهم ذلك فيعجزوا عنه)، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: (إسناده صحيح على شرط مسلم).
# وسبق في خلال كلام ابن كثير، الذي أوردناه آنفاً حديث البراء بن عزب، رضي الله عنه، حيث قال ابن كثير: [وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده أخبرنا أبو كريب أخبرنا إسحاق بن سليمان عن أبي سنان عن أبي إسحاق عن البراء ابن عازب قال: (إن كان ليأتي علي السنة أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشيء فأتهيب منه، وإن كنا لنتمنى الأعراب)]
v وقال الإمام أبو داود: [حدثنا قتيبة قال حدثنا الليث عن جعفر بن ربيعة عن بكر بن سوادة عن مسلم بن مخشي عن ابن الفراسي أن الفراسي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (أسأل يا رسول الله؟!)، قال: «لا، وإن كنت سائلا لا بد: فاسأل الصالحين»]، وأخرجه بعيمه الإمام النسائي إلا أنه قال: (أخبرنا قتيبة)، وكذلك الإمام عبد الله بن أحمد بن حنبل، إلا أنه قال: [حدثنا أبي حدثنا قتيبة بن سعيد، (قال أبو عبد الرحمن وكتب به إلي قتيبة بن سعيد: كتبت إليك بخطي، وختمت الكتاب بخاتمي، ونقشه الله ولي سعيد رحمه الله، وهو خاتم أبي) حدثنا ليث بن سعد به بعينه]
v وهو في «تهذيب الكمال» خلال ترجمة (مسلم بن مخشي المدلجي، أبو معاوية المصري) من طريق الطبراني: [أخبرنا به أبو إسحاق بن الدرجي وأحمد بن شيبان قالا أنبأنا أبو جعفر الصيدلاني قال أخبرنا أبو علي الحداد قال أخبرنا أبو نعيم الحافظ قال حدثنا عبد الله بن جعفر قال حدثنا إسماعيل بن عبد الله (ح) وأخبرنا بن الدرجي قال أنبأنا أبو جعفر الصيدلاني ومحمد بن معمر بن الفاخر في جماعة قالوا أخبرتنا فاطمة بنت عبد الله قالت أخبرنا أبو بكر بن ريذة قال أخبرنا أبو القاسم الطبراني قال حدثنا مطلب بن شعيب الأزدي قالا حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثني الليث عن جعفر بن ربيعة عن بكر بن سوادة عن مسلم بن مخشي عن بن الفراسي أن أباه الفراسي أتى النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله: أسأل؟!)، فقال: «لا، وإن كنت لا بد سائلا فسل الصالحين!»] أخرجه أبو داود والنسائي من حديث الليث بن سعد فوقع لنا بدلا عاليا]
v وقد لخص الحافظ أكثر الروايات في هذا الخصوص تلخيصاً جيداً في «فتح الباري» فقال: [قوله باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه وقوله تعالى لا تسألوا عن أشياء ان تبد لكم تسؤكم كأنه يريد ان يستدل بالآية على المدعي من الكراهة وهو مصير منه الى ترجيح بعض ما جاء في تفسيرها وقد ذكرت الاختلاف في سبب نزولها في تفسير سورة المائدة وترجيح بن المنير انه في كثرة المسائل عما كان وعما لم يكن وصنيع البخاري يقتضيه والأحاديث التي ساقها في الباب تؤيده وقد اشتد إنكار جماعة من الفقهاء ذلك منهم القاضي أبو بكر بن العربي فقال اعتقد قوم من الغافلين منع السؤال عن النوازل الى ان تقع تعلقا بهذه الآية وليس كذلك لأنها مصرحة بأن المنهي عنه ما تقع المسئلة في جوابه ومسائل النوازل ليست كذلك انتهى وهو كما قال لأن ظاهرها اختصاص ذلك بزمان نزول الوحي ويؤيده حديث سعد الذي صدر به المصنف الباب من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته فان مثل ذلك قد أمن وقوعه ويدخل في معنى حديث سعد ما أخرجه البزار وقال سنده صالح وصححه الحاكم من حديث أبي الدرداء رفعه: «ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو فاقبلوا من الله عافيته فان الله لم يكن ينسى شيئا»، ثم تلا هذه الآية: }وما كان ربك نسيا{. وأخرج الدارقطني من حديث أبي ثعلبة رفعه: «إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها»، وله شاهد من حديث سلمان أخرجه الترمذي وآخر من حديث بن عباس أخرجه أبو داود وقد أخرج مسلم وأصله في البخاري كما تقدم في كتاب العلم من طريق ثابت عن أنس قال: (كنا نهينا أن نسأل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن شيء وكان يعجبنا ان يجيء الرجل الغافل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع، ..)، فذكر الحديث ، ومضى في قصة اللعان من حديث بن عمر فكره رسول الله، صلى الله عليه وسلم، المسائل وعابها. ولمسلم عن النواس بن سمعان قال أقمت مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سنة بالمدينة ما يمنعني من الهجرة الا المسألة كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل النبي، صلى الله عليه وسلم، ومراده انه قدم وافدا فاستمر بتلك الصورة ليحصل المسائل خشية أن يخرج من صفة الوفد الى استمرار الإقامة فيصير مهاجرا فيمتنع عليه السؤال وفيه إشارة الى ان المخاطب بالنهي عن السؤال غير الأعراب وفودا كانوا أو غيرهم. وأخرج أحمد عن أبي امامة قال لما نزلت يا أيها الذي آمنوا لا تسألوا عن أشياء الآية كنا قد اتقينا أن نسأله، صلى الله عليه وسلم، فأتينا أعرابيا فرشوناه بردا وقلنا سل النبي، صلى الله عليه وسلم، ولأبي يعلى عن البراء ان كان ليأتي علي السنة أريد أن أسأل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن الشيء فأتهيب وان كنا لنتمنى الأعراب أي قدومهم ليسألوا فيسمعوهم أجوبة سؤالات الأعراب فيستفيدوها].
فأحاديث الباب ثابتة ثبوتاً قطعياً لا يرقى إليه شك، توجب العلم القاطع، وإذا انضمت إلى الآية، بعموم لفظها، والروايات الواردة عن ابن عباس، وغيره، في تفسيرها، أصبح الموضوع وهو نهي الله ورسوله المغلظ عن كثرة السوآل بشتى أنواعه، والتردد والاختلاف على النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والإغراق في التفريع والجدليات، وكذلك السؤال عن أشياء معينة: على لا فرق في ذلك بين سؤال الرجل المطعون في نسبه: من هو أبي؟! وسؤال الأحمق المتعنت عن أبيه في الجنة هو أم في النار، وسؤال الأعرابي الجاهل عن الحج: أهو في كل عام، وغير ذلك.
لقد جاء كل ذلك على نحو قطعي، ثبوتاً ودلالة، يكفر منكره، ويخرج من الإسلام بجحده. وهو بذلك يصلح أن يكون أصلاً ترد إليه الفروع، وتستنبط منه الكليات في العقيدة وأصول الفقه وقواعد الأحكام، فلله الحمد والمنة على حفظه للذكر، قرآناً وسنة.
بقيت مسألة واحدة، وهي أننا لو تصفحنا أي كتاب من كتب الحديث المعتمدة، كالبخاري مثلاً، لوجدنا فيها الكثير من الروايات الدالة على أن بعضهم سأل بعض الأسئلة، فهذا يعارض ما ذكرتم أعلاه من النهي عن السؤال؟!
فنقول: فكان ماذا؟! ومن زعم أن القوم كانوا معصومين، لا يقعون في مخالفات شرعية. وإذا تصفحت البخاري فستجد أيضاً العديد من الروايات المشتملة على معاقبة الزناة، واللصوص، وجلد من قذف محصنة، وتوبيخ النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لمن اغتاب أخاه أو لمن اغتابت أختها، وقد أوردنا أعلاه أن النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قد غضب من بعض الأسئلة واستنكرها، وأن الآية الكريمة جادت في واقعة من تلك الوقائع، هذا أولاً.
وثانياً: أن أكثر تلك الأسئلة إنما جاء من الأعراب، وأهل الآفاق، ومن أعضاء الوفود، وهؤلاء لهم رخصة شرعية واضحة بذلك، لأن النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كان يسألهم، لا سيما عند قرب رحيلهم: «هل بقيت لكم من حاجة»، أو كلامً نحو هذا. ولا شك أن هذا يشمل السؤال عما قد يكون مجهولاً عندهم، أو غامضاً في أذهانهم.
وثالثاً: أن النهي المغلَّظ إنما جاء عن السؤال عما لم يحرم، أي لم يأت فيه نص بعينه، فهو إذاً على الحل الأصلي. والسؤال يدل على سوء ظن السائل بالله، وأنه ربما غفل عن شئ، أو نسي شيئاً، أو فاته شئ، أو أن نبيه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قد كتم شيئاً أو أهمل شيئاً، وهذا كله محال وكفر صريح. وقد تؤدي هذه الوقاحة، وهذا الظن السئ، إلى مجئ حكم بالتحريم عقوبة لكافة الأمة. أما السؤال عن تفصيل حكم قد جاء، أو بيان دقيقة من دقائق حكم قد شرع، أو تفاصيل عبادة أو نسك سبق تشريعه فليس هو من هذا الباب أصلاً.
u فصل: الأصل في الأشياء، أعياناً وأفعالاً وأقوالاً، الإباحة
ولما كنا قد برهنا بالأدلة اليقينية القاطعة على أمور منها:
(1) أننا لسنا مخاطبين بشرائع الآنبياء السابقين أصلاً، فضلاً عن كونها نسخت من أولها إلى آخرها نسخاً فورياً نهائياً مطلقاً بمجرد مجئ الوحي إلى نبينا محمد، رسول الله وخاتم النبيين،
(2) مع علمنا الضروري بأنه تلقَّى الوحي والتشريعات منجماً على مدار بضع وعشرين عاماً، فلم ينزل عليه كتاب شامل أول الأمر جملة واحدة،
(3) النهي المغلظ عن كثرة السؤال، بشتى أنواعه، والتردد والاختلاف على النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والإغراق في التفريع والجدليات،
(4) أن النبي، عليه وعلى اله الصلاة والسلام، وصحابته كانوا في العادة يتعاطون البيوع، والمهن، ويتزوجون، ويسافرون، ويتطببون، ويمارسون كافة شؤون الحياة، على عوائد العرب، من غير تكلف سؤال، أو انتظار وحي.
فلا بد من الوصول إلى الحق في مسألة ما هو الأصل في الأشياء والأفعال والأقوال: أهو الحرمة، أو الإباحة أم ماذا، وماذا كان الواجب على الناس أثناء تتابع نزول الوحي فيما لم يرد فيه نص آنذاك. فنقول، وبالله التوفيق:
أولا: قبل البعثة النبوية الشريفة: لا حكم قبل ورود الشرع، فليس حكم الأشياء والأفعال والأقوال هو الإباحة كما يتوهم البعض، لأن الإباحة حكم شرعي لا يعرف إلا بخطاب الشارع، فكيف يكون الحكم موجوداً قبل مجيء الخطاب المنشئ له؟! هذا خلف وتناقض مستحيل. والناس يفعلون ما يشاؤون وفق عقولهم، أو أهوائهم ومصالحم حتى تأتيهم رسالة الله: هذه حالة عدم التشريع الإلاهي، وليست حالة تشريع إلاهي بالإباحة، وشتان بين الأمرين، وبعد ما بينهما كما بعدت السماء عن الأرض، لا يخفى على عالم أو عاقل، ولكن أنَّى فهم ذلك للتافهين والسطحيين؟!
ثانياً: أثناء مجئ الوحي: فور بزوغ شمس الرسالة المحمدية أصبح كل من بلغته الرسالة مكلفاً، لأنه إنما خلق للعبودية، أي للسمع والطاعة لأوامر الله ونواهيه، لأن العبودية لله هي: منتهى الذل والخضوع والطاعة والتسليم المبنية على المحبة والتعظيم، وليست هي ركوع وسجود، وقيام وقعود، وطواف وسعي. والسؤال ها هنا: هل يوجد هناك حكم عام يرجع إليه في كل شئ وفعل حتى يرد عليه نسخ أو تغيير، أم أن ذلك غير موجود؟!
وجواب ذلك يستنبط من الآية الكريمة والأحاديث المتواترة الشريفة التي فصلنا ذكرها أعلاه المشددة في النهي عن كثرة السؤال، وعن أنواع معينة من السؤال، فقوله، عليه وعلى آله الصلاة والسلام: «ذروني ماتركتكم»، لا يحتما إلا معنىً واحد: افعلوا ما شئتم وقولوا ما شئتم فهو حلال لكم، وانتفعوا بكافة الأشياء فهي خلقت حلالاً طاهرة لكم، تنتفعون بها بكل وجه ممكن، وكل فائدة متخيلة، وأوفوا بعقودكم، والتزموا بعهودكم، وداوموا على أعرافكم، واستمروا على أنكحتكم ومواريثكم، حتى أكون أنا الذي أفصل لكم الحرام (والمكروه) أو الواجب (والمستحب) أو أحكم بخلاف ذلك.
هذا هو المعنى ضرورة وإلا كان النبي، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، مقراً لهم على فعل الحرام، وترك الواجبات، والتمادي في العقود والشروط الفاسدات، فلم يعد مبلغاً عن الله، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر: هذه صفة المتنبئ الكاذب، وليس النبي الصادق. حاشا لأبي القاسم، رسول الله، وخاتم النبيين، عليه وعلى آله الصلاة والسلام والتبريكات من الله: حاشاه ثم حاشاه!
هذا ما تقتضيه ضرورة العقل والشرع، مع كونه جاء مصرحاً به نصاً في مثل:
(1) حديث أبي الدرداء رفعه: «ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو فاقبلوا من الله عافيته فان الله لم يكن ينسى شيئا»، ثم تلا هذه الآية: }وما كان ربك نسيا{. وحديث أبي ثعلبة الخشني، الذي جاء فيه: «..، وسكت عن أشياء من غير نسيان لها رحمة لكم فلا تبحثوا عنها!». و«العافية» ها هنا هي عافية بعد ورود الشرع، وهذه هي الإباحة والحل المطلق بالضرورة، بخلاف «العافية» قبل ورود الشرع فهي «فراغ تشريعي»، لا يترتب عليه حساب أو عقاب، لأن الحساب والعقاب لا يكون إلا بعد بلوغ الشرائع، وقيام الحجة.
(2) وقوله عليه وعلى آله الصلاة والسلام: «إن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته»، يعني ضرورة أن ذلك الشئ الذي اعتدى المعتدي الأثيم بالسؤال عنه كان ضروة حلالاً قبل السؤال الغبي الآثم الذي تسبب في التحريم، وهذا يقتضي ضرورة أن كل ما لم يأت من الله ورسوله عنه نص بتحريم (أو بإيجاب) فهو ضرورة على الحل والإباحة المطلقة، ومحال أن يكون الأمر غير ذلك.
فليس إذاً ثمة فراغ تشريعي منذ نزول قوله تعالى: }إقرأ{، وحتى نزول الشرائع الجديدة المفصلة. فكأن الله قال للناس حينئذ: افعلوا ماشئتم قد عفوت لكم عن كل شئ، وأذنت لكم في كل فعل، حتى أفصل لكم الحرام والواجب، وأبين المستحب من المكروه، وحتى ذلك الحين فكل شئ حلال وعفو، لطفاً ورحمة بكم، لا عن غفلة أو نسيان من ربكم؛ فلا تختلفوا إلى نبيكم، وتكثروا السؤال والتعنت على ربكم، فتذوقوا وبال أمركم. أو بلفظ آخر: ما أنتم عليه فهو حلال، حتى إشعار آخر. وما أنتم عليه من العقود والأنكحة والالتزامات والعادات والتقاليد صحيح ملزم نافذ حتى إشعار آخر.
(3) ما نقل نقل التواتر، وعلم بالضرورة من التاريخ والسير،أن النبي، عليه وعلى اله الصلاة والسلام، وصحابته كانوا في العادة يتعاطون البيوع، والمهن، ويتزوجون، ويسافرون، ويتطببون، ويمارسون كافة شؤون الحياة، على عوائد العرب، من غير تكلف سؤال، أو انتظار وحي، إلا في الشاذ النادر. فهذا يقتضي أنهم كانوا يعتقدون أن الأصل في الأشياء والأفعال الإباحة، وأن الإباحة هي الحكم الأصلي العام.
نعم: هنا قد يستنكر مستنكر: فيستمر صاحب بيت الدعارة، مثلاً، في تشغيله، وجني الأموال من مهور البغايا، حتى يأتي الوحي بنص صريح في تحريمه؟!
قلنا: فكان ماذا؟! مال حلال حتى يأتي تحريمه من صاحب السيادة، تقدست ذاته، وتباركت أسماؤه، فيصبح حينئذ حراماً، وليس قبل ذلك.
ولعلهم يقولون: أين العقول السليمة؟، والفطر المستقيمة! فنقول: دعونا من عقولكم المختلة، التي تسمونها «سليمة»، وفطركم الممسوخة، التي تسمُّنها «مستقيمة»: خالق العقول والفطر أعرف بها، فدعوه لها، فإذا شاء أخذها في الاعتبار إذا شرع، تلطفاً ورحمة، وإن شاء أهمل ذلك، تعبداً وابتلاءً. الأولى بكم، يا قوم، أن تقبلوا على ما خلقتم له: أن تعبدوا الله مخلصين له الدين، منيبين إليه: لا أن تعقبوا على ربكم، أو تقدموا بين يدي رسولكم!!
وعلى كمل حال فقد قال جمهور العلماء: إن الأصل في الأشياء هو الحل، لأن الله امتن على الناس فقال: }هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً{، وغيرها من الآيات كثير طيب، ولا تكون هذه منة بحق إلا إذا كانت الأشياء والمنافع كلها مباحة، إلا ما جاء نص بتحريمه، وكل الأشياء طاهرة، إلا ما جاء النص بنجاسته.
قلنا: هذا برهان ضروري وحجة قاطعة نزيده تفصيلاً فنقول: كا ما خلق في الكون من الأشياء، الأعيان بذاتها وكذلك منافعها، هو
أولا: مباح للإنسان،
وثانياً: طاهر من الناحية الشعائرية التعبدية،
لا فرق بين غاز كالهواء والبخار، ولا سائل كالماء والعصر ولبن ذوات الأثداء، والدماء، ولا صلب كالحديد والنحاس والتراب والصخور، ولا فرق بين بسيط عنصري كالماء والهواء، وخليط معقد مركب كالطين والتربة الزراعية،
ولا فرق بين الميت كالصخور والجبال والحي كالدواب والطيور، كل ذلك مما خلقه الله في الكون، ومباح طاهر للإنسان الانتفاع بالعين بما يترتب عليه زوالها وفنائها كذبح الشاة، وأكل الرغيف، أو التمتع بمنفعة كركوب الدابة وشم الوردة والنظر إلى جمال الجبال والسهول، إلا ما جاء نص باستثنائه من ذلك بإخراجه من الحل إلى الحرمة فيصبح حراماً، أو بإخراجه من الطهارة إلى النجاسة فيصبح نجساً، أو كليهما معاً. فالحل والطهارة مفهومان متغايران فحرمة الشئ لا تعني نجاسته ضروره، ونجاسته لا تعني حرمة الانتفاع به، كذلك بالضرورة.
وقالت قلة من العلماء: الأفعال غير الأشياء، والإنسان وأفعاله ليست داخلة فيما سبق نقاشه لأن الله، جل شأنه، امتن على الإنسان بتسليطه على سائر الكائنات وتمكينه من منفعتها، ونحن نعلم بضرورة الحس والعقل أن الممتن عليه، وهو الإنسان من حيث كونه إنساناً، غير الممتن به، وهو سائر ما في الكون من أشياء. فلا يصلح البرهان السابق على حل الأشياء وطهارتها برهاناً على أن الأصل في أفعال الإنسان هو الحل. بل إن الإنسان إنما خلق للعبودية: أي لطاعة أوامر الله ونواهيه مطلقاً، فلا يجوز أن يتصرف بشئ أو أن يقدم على فعل إلا بإذن الله.
فنقول: هذا قول جيد مؤصل، وتفريق عميق دقيق بين الأفعال، أفعال الإنسان الاختيارية لأنها وحدها محل النظر هنا، والأشياء الأخرى المخلوقة في الكون، المباينة للإنسان. كما أن الحق الذي لا شك فيه أن الإنسان إنما خلق للعبودية لا غير، قال، تقدست أسماؤه: }وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون{، لأن العبودية لله هي: منتهى الذل والخضوع والطاعة والتسليم المبنية على المحبة والتعظيم، وليست هي ركوع وسجود، وقيام وقعود، فالعبادة هي الطاعة، المبنية على المحبة والتعظيم، لا غير، كما سشبعه بحثاً في هذه الرسالة.
ولكن هذا كله لا علاقة له بكون الأصل في الأشياء الإباحة أم لا، ولا بكون الأصل في الأفعال الإباحة أم لا، لأن الإياحة حكم شرعي: فطاعة الله في الإباحة لا تختلف عن طاعته في الالتزام بالواجب أو في تحريم الحرام. فإذا حكم الله أن الأصل في الأشياء الإباحة فهذا حكمه الذي لا يجور تجاوزه، ولكان التسليم بذلك ولذلك هي العبودية التي خلق الإنسان لأجلها وأمر بها، ولو حكم فيها بالحرمة لكان ذاك حكمه الذي لا يجوز تعديه، ولكنت هذه هي العبودية التي خلق الإنسان لأجلها وأمر بها، ولا فرق.
وقوله تعالى: }فمن يفعل مثقال ذرة خيراً يره v ومن يفعل مثقال ذرة شراً يره{، وما جاء مجراه، كذلك لا علاقه له بالموضوع، وإنما هو كناية عن شمول المحاسبة والجزاء، من ثواب وعقاب، لكل عمل مها صغر. والخير هو ما حكم الله أنه خير، والشر ما ذمه الله وسماه شراً، وليس غير ذلك مطلقاً. فما علاقة هذا بالحكم الأصلي على الأفعال أو الأشياء؟! لا علاقة لذلك مطلقاً لأننا نبحث عن حكم الله، أي نريد تطبيق العبودية لله، التي هي التسليم لحكم الله، لا غير، بغض النظر عن ماهية هذا الحكم: هل هو مثلاً تحريم ألبان الإبل، كما كان على بني إسرائيل، أو إباحتها، كما هو لنا في هذه الشريعة المطهرة الخاتمة. إذاً لا مندوحة عن البحث في المسألة من غير هذا المنطلق.
ومن زاوية أخرى فنلاحظ:
(أ) أن ما ثبت من كون الأصل في الأشياء الإباحة يقتضي ضرورة أن كل الأفعال المتعلقة بتلك الأشياء مباحة كذلك، وإلا فقدت تلك الإباحة معناها. فكون الشاة حلالاً يعني جواز ذبحها، وسلخها، ودبغ جلدها، وبيعها وشرائها، ودفنها، وإذابة شحمها، والاستصبح بذلك الشحم أو صنع الصابون منه، وهكذا مما لا يعد ولا يحصى من الأفعال الإنسانية المتعلقة بعين الشاة أو منفعتها. هذا قسم كبير من الأفعال الإنسانية صار ضرورة مباحاً في الأصل، حتى يرد الدليل بخلاف ذلك، كورود الأدلة بتحريم تعذيب الحيران، أو وسمه بالنار في وجهه، بل ولعنة من فعل ذلك.
(ب) أن الله، جل ذكره، قد امتن على الإنسان أيضاً بالسمع والبصر والفؤاد، وبالقلب، وبالأعين والآذان، أي بالعقل ومداخله من آلات الحس، وباللسان والشفتين، والنفس وما ألهمها من فجور وتقوى، أي بالإرادة والمشيئة والاختيار، وبأنه خلق في أحسن تقويم، فلزم من ذلك كضرورة، كما لزم أعلاه، أن جميع الأفعال الناشئة من ذلك مباحة في الأصل حتى يأتي النص بخلاف ذلك: فاللسان والشفتان، ومن ورائهما النفس والعقل (الفؤاد والقلب)، هما آلة النطق والكلام، وإنشاء الأصوات. لذلك وجب ضرورة أن يكون كل ما يخرج من اللسان والشفتين من أصوات كالصفير والهمهمة والتمتمة والصراخ والبكاء والنوح والعويل والنطق والكلام وشتى الأصوات، ما كان منها حسناً، أي موافقاً للطبع الإنساني، كتغريد البلابل، والغناء، أو قبيحاً كنهيق الحمير، مباحاً حتى يأتي النص بخلافه، وكذلك سائر الكلام والنطق بغض النظر عن مضمونه ومحتواه، لا فرق بين شتم، أو غيبة أو نميمة أو تنابز بالألقاب أو وصف للخيل أو تشبيب بالنساء، أو وصف للجماع، حتى يأتي النص بخلاف ذلك. فأي فعل أو كلام يخرج عن هذا؟!
(ج) أن النهي المغلظ عن السؤال، الذي أثبتنا قطعيته فيما سلف، يقتضي ضرورة إباحة كل شئ وكل فعل، حتى يأتي النص بخلاف ذلك، لا يجوز أن يكون غير ذلك. والإنسان لا يخلو من فعاليات وأنشطة طوال حياته، فإذا قيل له لا تسأل، ولا تراجع حتى يكون الشارع، تبارك وتعالى، هو الذي يبادر بالأمر أو النهي، وجب ضرورة أن يكون معنى هذا: إفعل ما شئت، فهو مباح لك، حتى يأتيك من الشارع أمر بخلاف ذلك. لا سيما أنه عليه وعلى آله الصلاة والسلام قال تصريحاً، لا تلميحاً: «دعوني ما تركتكم إنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»، فهل يعقل من المعصوم بعصمة الله، المبلغ البلاغ التام المبين عن الله، أن يأمر الناس أن يتركوه حتى يكون هو الذي يبدؤهم، تاركاً لهم يقعون في الحرام ويتركون الواجبات؟! حاشا لله، ثم حاشا لله، وقال: «إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين فحرم عليهم من أجل مسألته»، قطعي الدلالة على أن الشئ المسؤول عنه عدواناً وتكلفاً وظلماً كان مباحاً قبل السؤال المتعنت الغبي، الذي أدى إلى التحريم، ولفظة «شئ» هنا على معناها اللغوي تشمل كل شئ: الأعيان والصفات والأفعال. وقال بصراحة ووضوح أكثر: «إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وسكت عن كثير من غير نسيان فلا تتكلفوها: رحمة من الله فاقبلوها»، فهل بعد هذا البيان بيان؟! وهل ثمة إلا الغلو والعناد والتكلف الممقوت من حمار بليد، أو كافر عنيد؟!
(د) أن الله، تباركت أسماؤه، صرح بأنه فصل لنا ما حرم علينا: }وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه، وقد فصل لكم ما حرم عليكم، إلا ما اضطررتم إليه، وإن كثيراً ليضلون بأهوائهم بغير علم، إن ربك هو أعلم بالمعتدين{، فالحرام قد فصل كله، أي جاء مصرحاً به، مبيناً تفصيله، وكذلك الواجب، لأن ترك الواجب إثم وحرام. وقد عاتب الله، بل وبَّخ وشجب، في هذه الآية من امتنع عن بعض المأكولات خوفاً من حرام لم يأتي تفصيلة، فدل ذلك ضرورة على أن كل شئ، الأعيان والأفعال، حلال على الإجمال حتى يأتي تفصيل يحرم أو يوجب شيئاً.
وهذا هو كذلك فهم جابر بن عبد الله الأنصاري، ومعه كثير من الصحابة، الذين عبر هو عنهم بضمير الجمع: في لفظة: (كنا)، عندما قال: (كنا نعزل والقرآن ينزل) أو (كنا نعزل على عهد النبي، صلى الله عليه وسلم، والقرآن ينزل)، كما هو في الصحيحين، وفي رواية مسلم: زاد إسحاق قال سفيان: (لو كان شيئا ينهى عنه لنهانا عنه القرآن).
v ولكن قال الحافظ في «فتح الباري»: [وشرحه بن دقيق العيد على ما وقع في العمدة فقال استدلال جابر بالتقرير من الله غريب ويمكن أن يكون استدل بتقرير الرسول لكنه مشروط بعلمه بذلك انتهى ويكفي في علمه به قول الصحابي أنه فعله في عهده والمسألة مشهورة في الأصول وفي علم الحديث وهي أن الصحابي إذا أضافه الى زمن النبي، صلى الله عليه وسلم كان له حكم الرفع عند الأكثر لأن الظاهر أن النبي، صلى الله عليه وسلم، اطلع على ذلك وأقره لتوفر دواعيهم على سؤالهم إياه عن الأحكام وإذا لم يضفه فله حكم الرفع عند قوم وهذا من الأول فإن جابرا صرح بوقوعه في عهده، صلى الله عليه وسلم، وقد وردت عدة طرق تصرح باطلاعه على ذلك والذي يظهر لي أن الذي استنبط ذلك سواء كان هو جابرا أو سفيان أراد بنزول القرآن ما يقرأ أعم من المتعبد بتلاوته أو غيره مما يوحي إلى النبي، صلى الله عليه وسلم فكأنه يقول فعلناه في زمن التشريع ولو كان حراما لم نقر عليه وإلى ذلك يشير قول بن عمر كنا نتقي الكلام والإنبساط إلى نسائنا هيبة أن ينزل فينا شيء على عهد النبي، صلى الله عليه وسلم، فلما مات النبي، صلى الله عليه وسلم، تكلمنا وانبسطنا أخرجه البخاري].
قلت: قول من قال: (استدلال جابر بالتقرير من الله غريب)، لا شئ، بل استغراب الإمام الحافظ، رضي الله عنه، هو الغريب حقاً، أليس الله قد أحاط بكل شئ علماً؟! وهل كان بيان النبي، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، من عند نفسه؟! حاشا لله، ثم حاشا لله، بل هو من عند الله، والله هو المتكفل بذلك: }ثم إن علينا بيانه{، أما حديث ابن عمر، وهو موافق لجابر في المعنى، فهو التالي بنصه:
v كما أخرجه الإمام البخاري في «الجامع الصحيح»: [حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر، رضي الله عنهما، قال: (كنا نتقي الكلام والانبساط إلى نسائنا، هيبة أن ينزل فينا شيء على عهد النبي، صلى الله عليه وسلم، فلما مات النبي، صلى الله عليه وسلم، تكلمنا وانبسطنا)]، هذا من أصح أسانيد الدنيا، ومن أكثرها علوَّاً. وأخرجه ابن ماجه، فقال: حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا سفيان به، وكذلك أحمد في «المسند»: حدثنا عبد الرحمن عن سفيان به.
وكان النبي، عليه وعلى اله الصلاة والسلام، يبتدرهم بأمور لم تكن تخطر لهم على بال، بل بعضها لم يره هو وإنما أخبره بها الوحي فقط، كوصيته لوفد عبد القيس ألا ينتبذوا في ظروف وأوعية معينة منه: «الدباء، والنقير، والمحنتم، والمزفت» فتعجبوا من معرفته لبعضها مع أنها مجهولة لأهل مكة والمدينة، ولا يعرفها سوى أهل اليمامة، كما جاء:
v في «صحيح مسلم»: حدثني محمد بن بكار البصري حدثنا أبو عاصم عن بن جريج (ح) وحدثني محمد بن رافع واللفظ له حدثنا عبد الرزاق أخبرنا بن جريح قال أخبرني أبو قزعة أن أبا نضرة أخبره (وحسنا أخبرهما) أن أبا سعيد الخدري أخبره: أن وفد عبد القيس لما أتوا نبي الله، صلى الله عليه وسلم، قالوا: (يا نبي الله جعلنا الله فداءك ماذا يصلح لنا من الأشربة؟!)، فقال: «لا تشربوا في النقير!»، قالو: (يا نبي الله، جعلنا الله فداءك، أو تدري ما النقير؟!)، قال: «نعم، الجذع ينقر، وسطه، ولا في الدباء، ولا في الحنتمة؛ وعليكم بالموكي».
ــ وهو في «مسند الإمام أحمد بن حنبل»: [حدثنا عبد الرزاق وروح قالا حدثنا بن جريج أخبرني أبو قزعة به بعينه. قلت: هذا في غاية الصحة، وقد صرح ابن جريج بالتحديث. أما قولّ: (وحسناً أخبرهما) فهو انقلاب لفظي، والصحيح: (وحسنا أخبره)، أي أن حسناً أخبر أبا قزعة،
ــ كما هو في «شرح معاني الآثار»: [حدثنا علي قال حدثنا الحجاج عن بن جريج قال أخبرني أبو قزعة أن أبا نضرة وحسنا أخبراه أن أبا سعيد الخدري أخبرهما به]
v وجاء مطولاً في «صحيح مسلم» من طريق أخرى، فيها كامل القصة: حدثنا يحيى بن أيوب حدثنا ابن علية حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال حدثنا من لقي الوفد الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من عبد القيس قال سعيد وذكر قتادة أبا نضرة عن أبي سعيد الخدري في حديثه هذا أن أناسا من عبد القيس قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ( يا نبي الله: إنا حي من ربيعة، وبيننا وبينك كفار مضر، ولا نقدر عليك إلا في أشهر الحرم فمرنا بأمر نأمر به من وراءنا وندخل به الجنة إذا نحن أخذنا به!)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا رمضان وأعطوا الخمس من الغنائم؛ وأنهاكم عن أربع عن الدباء والحنتم والمزفت والنقير»، قالوا: (يا نبي الله ما علمك بالنقير؟!)، قال: «بلى: جذع تنقرونه فتقذفون فيه من القطيعاء» (قال سعيد أو قال من التمر) ثم تصبون فيه من الماء حتى إذا سكن غليانه شربتموه حتى إن أحدكم أو إن أحدهم ليضرب ابن عمه بالسيف»، قال: (وفي القوم رجل أصابته جراحة كذلك قال: وكنت أخبؤها حياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فقلت: (ففيم نشرب يا رسول الله؟!)، قال: «في أسقية الأدم التي يلاث على أفواهها»، قالوا: (يا رسول الله إن أرضنا كثيرة الجرذان، ولا تبقى بها أسقية الأدم؟!)، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: «وإن أكلتها الجرذان، وإن أكلتها الجرذان، وإن أكلتها الجرذان»، قال: وقال نبي الله صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس إن فيك لخصلتين يحبهما الله الحلم والأناة». وعقَّب الإمام مسلم فقال: حدثني محمد بن المثنى وابن بشار قالا حدثنا ابن أبي عدي عن سعيد عن قتادة قال حدثني غير واحد لقي ذاك الوفد وذكر أبا نضرة عن أبي سعيد الخدري أن وفد عبد القيس لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل حديث ابن علية غير أن فيه وتذيفون فيه من القطيعاء أو التمر والماء، ولم يقل: (قال سعيد: أو قال من التمر). قلت: هو أيضاً في «مسندأحمد»: حدثنا يحيى بن سعيد عن ابن أبي عروبة حدثنا قتادة عمن لقي الوفد وذكر أبا نضرة عن أبي سعيد بنحوه.
v وهذا «النقير» إنما كان معروفاً في اليمامة فقط، لا يعرفه أهل الحجاز كما هو في «سنن البيهقي الكبرى»: [حدثنا أبو بكر بن فورك أنبأ عبد الله بن جعفر حدثنا يونس بن حبيب حدثنا أبو داود حدثنا عيينة بن عبد الرحمن بن جوشن حدثني أبي قال: كان أبو بكرة ينتبذ له في جرة فقدم أبو برزة من غيبة كان غابها فنزل بمنزل أبي بكرة قبل أن يأتي منزله فذكر الحديث في إنكار ما نبذ له في جرة وقوله لامرأته وددت إنك جعلتيه في سقاء وأن أبا بكرة حين جاء قال قد عرفنا الذي نهينا عنه نهينا عن الدباء والنقير والحنتم والمزفت فإما الدباء فإنا معشر ثقيف بالطائف كنا نأخذ الدباء فنخرط فيها عناقيد العنب ثم ندفنها ثم نتركها حتى تهدر ثم تموت وأما النقير فإن أهل اليمامة كانوا ينقرون أصل النخلة فيشدخون فيه الرطب والبسر ثم يدعونه حتى يهدر ثم يموت وأما الحنتم فجرار كان يحمل إلينا فيها الخمر وأما المزفت فهي هذه الأوعية التي فيها هذا الزفت)، وقال البيهقي معقباً: ( كذا روي عن أبي بكرة وقد قال جماعة من أهل العلم أن المعنى في النهي عن الانتباذ في هذه الأوعية أن النبيذ فيها يكون أسرع إلى الفساد والاشتداد حتى يصير مسكرا وهو في الأسقية أبعد منه ثم وردت الرخصة في الأوعية كلها إذا لم يشربوا مسكرا والله أعلم).
وقد فجأهم، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، في مناسبة أخرى، ومن غير سابق إنذار، بسؤال محرج، وهو:
v كما جاء في «مسند أحمد»: [حدثنا عبد الصمد قال حدثنا حفص السراج قال سمعت شهرا يقول حدثتني أسماء بنت يزيد أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والرجال والنساء قعود عنده فقال: «لعل رجلا يقول ما يفعل بأهله، ولعل امرأة تخبر بما فعلت مع زوجها؟!»، فأرم القوم فقلت: (إي والله يا رسول الله إنهن ليقلن وإنهم ليفعلون!)، قال: «فلا تفعلوا فإنما ذلك مثل الشيطان لقي شيطانة في طريق فغشيها والناس ينظرون»]. هذا خبر صحيح، نعم: شهر بن حوشب صدوق، ولكنه كثير الإرسال والأوهام، إلا أنه ها هنا صرح بالتحديث وهو معروف بإكثار الرواية عن أسماء بنت يزيد، رضي الله عنها، فهذا الإسناد حسن بذاته، ولا شك. ويشهد لكونه حفظ ها هنا الحديث التالي من طريق مستقلة تماما عن أبي هريرة، لا يتصور فيها تواطؤ على الكذب، ولا وقوع الخطأ مصادفة:
v كما هو في «مسند الإمام أحمد» عن أبي هريرة: [حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن سعيد الجريري عن أبي نضرة عن رجل من الطفاوة قال نزلت على أبي هريرة قال ولم أدرك من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا أشد تشميرا ولا أقوم على ضيف منه فبينما أنا عنده وهو على سرير له وأسفل منه جارية له سوداء ومعه كيس فيه حصى ونوى يقول سبحان الله سبحان الله حتى إذا أنفذ ما في الكيس ألقاه إليها فجمعته فجعلته في الكيس ثم دفعته إليه فقال لي ألا أحدثك عني وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت بلى قال فإني بينما أنا أوعك في مسجد المدينة إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد فقال: «من أحس الفتى الدوسي، من أحس الفتى الدوسي»، فقال له قائل هو ذاك يوعك في جانب المسجد حيث ترى يا رسول الله فجاء فوضع يده علي وقال لي معروفا فقمت فانطلق حتى قام في مقامه الذي يصلي فيه ومعه يومئذ صفان من رجال وصف من نساء أو صفان من نساء وصف من رجال فأقبل عليهم فقال إن نساني الشيطان شيئا من صلاتي فليسبح القوم وليصفق النساء، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينس من صلاته شيئا. فلما سلم أقبل عليهم بوجهه فقال: «مجالسكم: هل منكم إذا أتى أهله أغلق بابه وأرخى ستره ثم يخرج فيحدث فيقول فعلت بأهلي كذا وفعلت بأهلي كذا؟!»، فسكتوا فأقبل على النساء فقال: «هل منكن من تحدث؟!»، فجثت فتاة كعاب على إحدى ركبتيها وتطاولت ليراها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسمع كلامها فقالت: (إي والله إنهم ليحدثون، وإنهن ليحدثن!)، فقال: «هل تدرون ما مثل من فعل ذلك؟! إن مثل من فعل ذلك مثل شيطان وشيطانة لقي أحدهما صاحبه بالسكة قضى حاجته منها والناس ينظرون إليه»، ثم قال ألا لا يفضين رجل إلى رجل، ولا امرأة إلى امرأة إلا إلى ولد أو والد، قال وذكر ثالثة فنسيتها، ألا إن طيب الرجل ما وجد ريحه ولم يظهر لونه ألا إن طيب النساء ما ظهر لونه ولم يوجد ريحه»). فيه رجل مجهول من الطفاوة، وبقيته ثقات مشاهير. وهذه الفتاة، لله درها، هي، بلا شك، أسماء بنت يزيد بن السكن، رضي الله عنها، راوية الحديث السابق، فثبت حديثها ذاك يقيناً، وظهر صدق ودقة الرجل الطفاوي، رحمه الله، والحمد لله رب العالمين.
v وأخرجه أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا بشر حدثنا الجريري (ح) وحدثنا مؤمل حدثنا إسماعيل (ح) وحدثنا موسى حدثنا حماد كلهم عن الجريري عن أبي نضرة حدثني شيخ من طفاوة به بطوله إلى قوله: «ألا إن طيب النساء ما ظهر لونه ولم يظهر ريحه». ثم قال أبو داود: (من ههنا حفظته عن مؤمل وموسى: ألا لا يفضين رجل إلى رجل ولا امرأة إلى امرأة إلا إلى ولد أو والد وذكر ثالثة فأنسيتها، وهو في حديث مسدد، ولكني لم أتقنه كما أحب، وقال موسى حدثنا حماد عن الجريري عن أبي نضرة عن الطفاوي به)، وقال الألباني: ضعيف. قلت: نعم أصاب شكلياً لجهالة الطفاوي، ولكن لا خوف من اختلاط الجريري، لتعدد الرواة عنه: إسماعيل بن إبراهيم (ابن علية)، وبشر، وحماد بن زيد، وكذلك يزيد بن زريع كما هو عند البيهقي، وكلهم حجة إمام، ومنهم من سمع من الجريري قبل الاختلاط.
v في «سنن البيهقي الكبرى»: [أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد المقري أنبأ الحسن بن محمد بن إسحاق حدثنا يوسف بن يعقوب حدثنا محمد بن أبي بكر حدثنا يزيد بن زريع حدثنا الجريري عن أبي نضرة قال حدثني شيخ من الطفاوة به إلى قوله: «طيب النساء ما ظهر لونه ولم يجد ريحه»]
ولا نشك أن من استقصى السنن لواجد لكثير من مثل هذا، أي من ابتدار نبي الله لهم، من غير سؤال سابق منهم، بل وربما من غير مناسبة تقتضي ذلك، ولا من سابق اطلاع لنبي الله على شئ من شأنهم، بل بوحي من الله يأتيه فجأة، وهو عين قولنا: (أن إقرار القرآن لما كان زمن الوحي، كإقرار النبي لما رآه وسمعه، ولا فرق). بل إن الأول أقوى، وأعلى مرتبة، وهو الأصل، وهو الأعم والأكثر.
على كل حال لا يضرنا من هو القائل: (لو كان شيئا ينهى عنه لنهانا عنه القرآن)، لأنه هو الحق بأدلته التي سلفت. أما قوله: (والقرآن ينزل)، يعني ضرورة زمن نزول الوحي، لا فرق بين قرآن وسنة، كما أسلفنا، وكما هو وواضح كالشمس من براهيننا السابقة على حجية السنة وكونها وحياً وذكراً، كما هو أيضاً بين من مقالة عبد الله بن عمر: (كنا نتقي الكلام والإنبساط إلى نسائنا هيبة أن ينزل فينا شيء على عهد النبي، صلى الله عليه وسلم، فلما مات النبي، صلى الله عليه وسلم، تكلمنا وانبسطنا)، ونحن نعلم ضرورة أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يدخل على حريمهم، أو يتجسس على خصوصياتهم في غرف نومهم، وما يفعلون وكيف يتحدثون مع أزواجهم في فرشهم.
ثالثاً: بعد وفاة النبي، عليه وعلى آله الصلاة والسلام: نحن نعلم يقيناً أن الدين قد اكتمل بمعنى أن كل أوامر الله ونواهيه قد بلغتنا قبل وفاة النبي، صلوات الله وتسليماته وتبريكاته عليه وعلى آله، كاملة مفصلة مبينة واضحة لا شك فيها، كما قال، عليه وعلى آله الصلاة والسلام: «تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنه إلا هالك». وقد كفل الله بحفظ الذكر قرآنا وسنة، نعم: ولغة عربية كذلك لأنها من لوازم «الذكر»، ولا يفهم «الذكر» إلا بها، إلى قيام الساعة، لأنه عليه وعلى آله الصلاة والسلام، هو أخر الأنياء والمرسلين، ليس بعده نبوة ولا رسالة، ولا يتصور بعده نسخ، ولا تشريع جديد، إلا من من بدل الشرائع، واستبدل الكفر بالإيمان، وضل سواء السبيل، وأبى إلا أن يحتجز قراراً بئيساً في نار جهنم، والعياذ بالله.
فبعد وفاته عليه وعلى آله الصلاة والسلام، أصبح الواجب على الناس عامة، والعلماء المجتهدين والمتبوعين منهم خاصة، الرجوع إلى النصوص الشرعية فقط لاستنباط الهدى منه: الأخبار الصحيحة والأحكام الملزمة، أي أن السؤال أصبح واجباً في كل شئ، وعن كل شئ، لأنه قد جاء من الله حكم في كل شئ، ولا يخرج عن حكمه أي شئ.
غير أن السؤال لا بد أن يكون سؤالاً صحيحاً: أي أن يكون عن دليل حرمة الشئ أو وجوبه، وعن استحبابه أو كراهيته، بذاته، ولا تكون مطلقاً عن الإباحة لأنها هي الأصل الثابت العام المطلق، بالأدلة الثابتة اليقينية العامة المذكورة أعلاه، ولا تحتاج إلى دليل جرئي غير ذلك إطلاقاً.
قلنا: يكون السؤال الصحيح عن دليل حرمة الشئ أو وجوبه، وعن استحبابه أو كراهيته بذاته، وقلنا: «بذاته»، احتياطاً من كون الإنسان قد يثاب على فعل المباح إذا أراد التقوِّي به على الواجبات والمستحبات، أو التمرس بمباعدة المكروهات والمحرمات، أو فعله بـ«وعي»، وهو حاضر الذهن، منتبه القلب على كونه قد أباحه الله، مستسلماً لحكم الله، أو فرحاً مسروراً برخصة الله، أو لغير ذلك من الاعتبارات الجميلة، التي جاءت بها الأدلة. ولكن الحق الذي لا ريب فيه أن الثواب ليس على ذات الفعل ها هنا وإنما هو على نية التقوِّي به للطاعات أو على ذكره لله، وإدراكه للصلة به أثناء العمل، أوغير ذلك من الاعتبارات، وكل ذلك غير ذات العمل من حيث هو عمل مجرد.
فلا يجوز أن يقال أن المباح انقلب بذلك مستحباً، لأنه ليس كذلك في ذاته، وإنما كان الثواب على أمور أخرى صاحبته، فلا يجوز خلط هذا بهذا، وإلا اختلت مقاييس الشرع، واختلط الحابل بالنابل.
لذلك يحتاج المستحب لذاته، وهو الذي يثاب فاعله، ولا يؤاخذ تاركه، والمكروه لذاته وهو الذي يثاب تاركه، ولا يعاقب فاعله، يحتاجان كلاهما إلى دليل مستقل لأنهما خلاف الإباحة الأصلية المطلقة، وما كان هكذا فلا بد له من دليل، وإلا كان قولاً على الله بغير علم، وشرعاً من الدين ما لم يأذن به الله، أي إحداثاً وابتداعاً في الدين: هذه هي طريق الهلكة، المفضية إلى الكفر والضلال البعيد.
ولعلنا نفرد موضوع النية، وتأثيرها على الثواب والعقاب، في فصل مستقل، هو: (فصل: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»)، وسيأتي بعد هذا قريباً إن شاء الله.
وليس ما أصلناه آنفاً ببدع من القول، بل قد قال به أو ببعضه مشاهير الأئمة، فقال الإمام الحافظ الحجة أبو محمد علي بن حزم، قدس الله سره، في «الإحكام»: [فإن قالوا فأرونا جمع النوازل منصوصا عليها! قلنا لو عجزنا عن ذلك لما كان عجزنا حجة على الله تعالى ولا على رسوله صلى الله عليه وسلم إذ لم ندع لكم الواحد فالواحد منه الإحاطة بجميع الفتن لكن حسبنا أننا نقطع بأن الله تعالى بين لنا كل ما يقع من أحكام الدين إلى يوم القيامة فكيف ونحن نأتيكم بنص واحد فيه كل نازلة وقعت أو تقع إلى يوم القيامة وهو الخبر الصحيح الذي ذكرناه قبل بإسناده وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «دعوني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه»، فصح نصا أن ما لم يقل فيه النبي صلى الله عليه وسلم فليس واجبا لأنه لم يأمر به وليس حراما لأنه لم ينه عنه فبقي ضرورة أنه مباح فمن ادعى أنه حرام مكلف أن يأتي فيه بنهي من النبي صلى الله عليه وسلم فإن جاء سمعنا وأطعنا وإلا فقوله باطل ومن ادعى فيه إيجابا كلف أن يأتي فيه بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم فإن جاء به سمعنا وأطعنا وإن لم يأت به فقوله باطل وصح بهذا النص أن كل ما أمر به صلى الله عليه وسلم فهو فرض علينا إلا ما لم نستطع من ذلك وأن كل ما نهانا عنه فحرام حاشا ما بينه صلى الله عليه وسلم أنه مكروه أو ندب فقط فلم يبق في الدين حكم إلا وهو ههنا منصوص جملة]
ثم استطرد قائلاً: [فأي شيء بقي بعد هذا وهل في العالم نازلة تخرج من أن يقول قائل هذا واجب فنقول له إن أتيت على إيجابه بنص من القرآن أو بكلام صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إجماع فسمعا وطاعة وهو واجب ومن أبى عن إيجابه حينئذ فهو كافر وإن لم يأت على إيجابه بنص ولا إجماع فإنه كاذب وذلك القول ليس بواجب أو يقول قال هذا حرام فنقول له إن أتيت على النهي عنه بنص أو إجماع فهو حرام وسمعا وطاعة ومن أراد استباحته حينئذ فهو آثم كاذب عاص وإن تأت على النهي عنه بنص ولا إجماع فأنت كاذب وذلك الشيء ليس حراما. فهل في العالم حكم يخرج عن هذا؟! فصح أن النص مستوعب لكل حكم يقع أو وقع إلى يوم القيامة ولا سبيل إلى نازلة تخرج عن هذه الأحكام الثلاثة وبالله تعالى التوفيق.
ثم قد جاءت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ما جاءت به هذه الآيات كما حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الهمذاني حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد البلخي حدثنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا إسماعيل هو ابن أبي أويس حدثنا مالك بن أنس عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال دعوني ما تركتكم إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم. قال أبو محمد: فهذا حديث جامع لكل ما ذكرنا بين فيه صلى الله عليه وسلم أنه إذا نهى عن شيء فواجب أن يجتنب وأنه إذا أمر بأمر فواجب أن يؤتى منه حيث بلغت الاستطاعة وأن ما لم ينه عنه ولا أمر به فواجب ألا يبحث عنه في حياته صلى الله عليه وسلم وإذ هذه صفته ففرض على كل مسلم ألا يحرمه ولا يوجبه وإذا لم يكن حراما ولا واجبا فهو مباح ضرورة إذ لا قسم إلا هذه الأقسام الثلاثة فإذا بطل منها اثنان وجب الثالث ولا بد ضرورة وهذه قضية النص وقضية السمع وقضية العقل التي لا يفهم العقل غيرها إلا الضلال والكهانة والسخافة التي يدعيها أصحاب القياس أنهم يفهمون من الوطء الأكل ومن الثمر الجلوز ومن قطع السرقة مقدار الصداق وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ثم نعكس عليهم سؤالهم فنقول لهم إذا جوزتم وجود نوازل لا حكم لها في قرآن ولا سنة فقولوا لنا ماذا تصنعون فيها، فهذا لازم لكم وليس يلزمنا لأن هذا عندنا باطل معدوم لا سبيل إلى وجوده أبدا،
فأخبرونا إذا وجدتم تلك النوازل أتتركون الحكم فيها فليس هذا قولكم أم تحكمون فيها ولا سبيل إلى قسم ثالث فإن حكمتم فيها فأخبرونا عن حكمكم فيها أبحكم الله تعالى وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم حكمتم فيها فإن قلتم نعم قلنا قد تناقضتم لأنكم قلتم ليس فيها نص بحكم الله تعالى ولا لرسوله صلى الله عليه وسلم وقد كذب آخر قولكم أوله وإن قلتم بغير حكم الله تعالى أو بغير حكم رسوله صلى الله عليه وسلم نحن برآء إلى الله تعالى من كل حكم في الدين لم يحكم به الله عز وجل وفي هذا كفاية لمن عقل فوضح لنا وبطل ما سواه والحمد لله رب العالمين.
وبهذا جاءت الأحاديث كلها مؤكدة متناصرة كما حدثنا حمام بن أحمد حدثنا عبد الله بن إبراهيم حدثنا أبو زيد المروزي حدثنا الفربري حدثنا البخاري حدثنا عبد الله بن زيد المقرىء حدثنا سعيد حدثنا عقل عن ابن شهاب عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته فنص صلى الله عليه وسلم كما تسمع أن كل ما لم يأت به تحريم من الله تعالى فهو غير محرم.
وهكذا أخبر صلى الله عليه وسلم في الواجب أيضا كم حدثنا عبد الله بن يوسف بن نامي حدثنا أحمد بن فتح حدثنا عبد الوهاب بن عيسى حدثنا أحمد بن محمد الفقيه الأشقر حدثنا أحمد بن علي القلانسي حدثنا مسلم بن الحجاج حدثني زهير بن حرب حدثنا يزيد بن هارون حدثنا الربيع بن مسلم القرشي عن محمد بن زياد عن أبي هريرة قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا، فقال رجل أكل عام يا رسول الله فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه
قال أبو محمد: فنص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن ما لم يوجبه فهو غير واجب وما أوجبه بأمره فواجب ما أستطيع منه وأن ما لم يحرمه فهو حلال وأن ما نهى عنه فهو حرام فأين للقياس مدخل والنصوص قد استوعبت كل ما اختلف الناس فيه وكل نازلة تنزل إلى يوم القيامة باسمها وبالله تعالى التوفيق. وقال تعالى: }أم لهم شركاء شرعوا لهم من لدين ما لم يأذن به لله؟! ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم وإن لظالمين لهم عذاب أليم{]. انتهى كلام الإمام الحافظ الحجة أبي محمد علي بن حزم الأندلسي، فتدبره، وأعد قراءته حتى تستوعبه وتعطيه حقه من الفهم والتذوق.
وأنت ترى أن هذا في مجمله هو عين قولنا، وهو: (أن الأصل في الأشياء والأفعال والأقوال الإباحة، وكذلك في العقود والشروط الإباحة والصحة، لذلك فإن الأصل هو الإلزام في العقود التي تم عقدها، والشروط التي تم الاتفاق عليها لأنها انعقدت صحيحة).
ونزيد هذا وضوحاً وتفصيلاً بأن نقول، أن قولنا: (الأصل في الأشياء والأفعال والأقوال الإباحة) يقتضي ضرورة خلوها، في الأصل، من الأحكام «الوضعية»، فلا يكون شئ منها سبباً، أو شرطاً، أو رخصة أو عزيمة، أو مبطلاً أو مصححاً لشئ آخر، أو غير ذلك من الأحكام الوضعية، إلا ببرهان، وكذلك هو الشأن في الحوادث الواقعة في الكون، مثل طلوع الشمس، ونزول المطر، وخسوف القمر، حتي يجئ النص بخلاف ذلك.
بقيت مسألة واحدة مهمة، في غاية الأهمية، وهي قولهم: (أن الأصل في العبادات الحظر، حتي يأتي بها دليل)، التي جعلها البعض قاعدة كلية. فنقول: هذه جملة لا معنى لها، يفترض القائلون بها أن هناك أفعال تستحق أن تسمَّى (عبادة) بذاتها من حيث كونها أفعالاً مجردة، وهذا غير صحيح، بل هو خطأ قاتل شنيع، كما سنبرهن عليه في الأبواب والفصول التالية، لا سيما في الباب المسمَّى: (توحيد التقديس والعبادة)، إن شاء الله. وإنما جرت عادة الناس أن يطلقوا هذه التسمية (عبادة) على الأفعال والأقوال والمعتقدات التي يراد بها التقرب ممن يعتقد فيه الألوهية، فالعبادة هي إذاً: [توجيه أفعال وشعائر معينة (وأقوال ومعتقدات) إلى من تعتقد فيه الألوهية للتقرب إليه وطلب رضاه ومحبته والزلفى إليه، أو اتفاء ضرره أو شره، أو استدرار عطفه وبره وإنعامه، أو الاستعانة به في دفع ضر أو جلب منفعة، ونحو ذلك].
فإذا تقدم إنسان بشعائر تعبدية إلى من يعتقد فيه الألوهية، فهو قطعاً يعتقد أن المعبود يحب تلك الشعائر ويرضاها، فهو يعتقد استحباب، أو حتى وجوب، أفعاله تلك. وبالنسبة لأهل الإسلام، بعد بزوغ شمس الرسالة المحمدية، فإن الحكم على فعل بأنه مستحب أو واجب، يعني أن حكمه هو خلاف الإباحة المحضة الأصلية، المقطوع بها، وهذا لا يجوز إلا ببرهان.
فالصحيح أن الله، جل جلاله، لا يجوز أن يتقرب إليه إلا بما جعله هو مستحباً أو واجباً، أي الصحيح هو أنه: (لا يعبد إلا بما شرع)، وهذه القاعدة الصحيحة ليست شيئاً جديداً، وإنما هي تطبيق وتفريع لقاعدتنا:[أن الأصل في الأشياء والأفعال والأقوال الإباحة، وكذلك في العقود والشروط الإباحة والصحة، والأصل هو الإلزام في العقود التي تم عقدها، والشروط التي تم الاتفاق عليها].
هذا هو ما قامت عليه قواطع الأدلة اليقينية، فلا يجوز اعتقاد غيره، ولا العمل به، لمن آمن بالله واليوم الآخر، ومن كفر فإن الله غني عن العالمين.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق