ماهية الوحي و (الذكر المنزَّل)

بـــاب
ماهية الوحي و(الذكر المنزَّل)

u فصل: الوحي هو القرآن والسنة
قد يظن بعض الناس أن الوحي هو القرآن فقط، وهذا خطأ فادح، وغلط جسيم، بل ضلال كبير يؤول لا محالة إلى الكفر، والخروج من الإسلام. والحق أن الوحي نوعان:
النوع الأول: وحي لفظي متلو، هو القرآن العظيم في هذه الرسالة الخاتمة، وما كتبه الرب، جل جلاله، في الألواح لموسى، وغير ذلك من الكتب والصحف الأولى، وهو الأقل، وبعضه قد يكون معجزاً بلفظة كالقرآن العظيم، والبعض الآخر ليس كذلك، وبعضه قد يكون متعبداً بتلاوته، كالقرآن العظيم، وبعضه ليس بالضرورة كذلك، وبعضه تكفل الله بحفظة، كالقرآن العظيم، وبعضه استحفظه النبيون والربانيون والأحبار كصحف موسى، وبعضه ما زال بأيدينا، كالقرآن العظيم، وبعضه ضاع ولم يصلنا منه شئ كصحف إبراهيم، وهكذا،
والنوع الآخر: وهو الأكثر والأعم: وحي بالمعنى، وليس ضرورة باللفظ، غير متلو، وهو، في هذه الرسالة الخاتمة، السنة النبوية الشريفة: قولاً، بما في ذلك الأحاديث القدسية، وإشارة، وفعلاً، وتقريراً، وأكثر الكتب الأولى ما هي إلا من هذا النوع: أقوال الأنبياء، وأفعالهم، وأقاريرهم، وسيرتهم، وأحوال شعوبهم زمن النبوة.
أما القرآن المجيد فهو كلام الله المنزل على سيدنا محمد، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بعين لفظه وأحرفه، كما هو مكتوب في المصاحف، محفوظ في الصدور، متلو بالألسنة، مسجل في الأشرطة، وغيرها من وسائل الحفظ والنقل، منقول عنه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كتابة ومشافهة نقل تواتر، نقل الكافة عن الكافة، المفيد للعلم القطعي الضروري للناس جميعاً، مسلمهم، وكافرهم. والقرآن العظيم كذلك معجز بلفظه، متعبد بتلاوته.
وأما السنة النبوية، التي هي أقوال النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومنه الإشارة، وأفعاله، وتقريراته فهي كذلك وحي من الله تعالى بالمعنى، عبر عنه رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بألفاظه هو أو (إشارته: القائمة مقام اللفظ)، وكذلك بفعله، لأن الله عصمه عن فعل قبيح، أو بإقراره، أي بسكوته على أمر ما، إذا رآه أو بلغه خبره، سكوتاً يدل على الإقرار أو الرضا.
فأما قول الأنبياء البلاغي عن الله، القطعي الدلالة على كونه بلاغاً من عند الله على النحو الذي لا يحتمل التأويل، كقوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (هذا اللفظ قرآن منزل من عند الله وليس هو من كلامي)، وكقول موسى: (هذه الألواح كتبها الله)، وكقول أي نبي من الأنبياء: إن الله فرض كذا، وحرم كيت، وأن الله أعدّ النار لمن فعل كيت وكيت، أو أن الله أوحى إلي أن أبلغكم كذا وكذا؛ كل ذلك يستحيل أن يكون خطأً أو كذباً، بالضرورة العقلية الموجبة لعصمة الأنبياء في التبليغ عن الله، وإلا فقدت النبوة معناها، بل يصبح عدمها خيراً من وجودها. ولا يجوز أن يكون خطأً أو سهواً لاستحالة تصحيحه، لأن التصحيح يقبل الطعن فيه باحتمال الخطأ والسهو في هذا التصحيح نفسه، وهكذا يتسلسل الأمر لا إلى نهاية، فتنهار العصمة، وتفقد النبوة معناها، وتصبح لغواً وعبثاً، حاشا لله، حاشا لله.
لذلك وجب أن تكون الأخبار البلاغية، أي المصرحة بالبلاغ عن الله، تصريحاً مباشراً لا يحتمل الشك في دلالتها، صدقاً، وحقاً، لا خطأ فيها، ولا نسيان يتطرق إليها من الوهلة الأولى مطلقاً، ومن غير قيد أو شرط، بالضرورة المفاهيمية المطلقة.
ولكن ماذا عن أقوال النبي غير الصريحة في البلاغ، كقوله: «مهر البغي خبيث»، وقوله: «الحج عرفة»، ونحوه مما لا يحصى، وإشارته، وأفعاله، وأقاريره؟!
الحق أن كل ذلك، بالنسبة لنبينا محمد، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، في أقل تقدير، وحي معصوم من عند الله، لا يتطرق إليه كذب، أو خطأ، أو نسيان، بالأدلة اليقينية التالية:
v قال تعالى: (وما ينطق عن الهوى v إن هو إلا وحي يوحى)، (النجم؛ 53:23). ونحن نعلم ضرورة أنه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قد نطق بأشياء كثيرة جداً، لا تكاد تحصى، من أمور الدين، سوى القرآن، فلو لم يكن ذلك وحي من الله كذلك، لكان القرآن كاذباً في هذه المقولة، ولوجب ضرورة أن يكون من عند غير الله، وهذا خلاف ما فرضناه من ثبوت النبوة، وقيام قواطع الأدلة عليها (كما سيأتي في موضعه) المتضمنة كون القرآن حينئذ ضرورة من عند الله، أو لكان الله كاذباً في هذه الآية من القرآن، وهذا محال لا يجوز على الله، تبارك الله وتعالى عن ذلك علواً كبيراً!!
وقد يقول قائل: إنما عنى القرآن فقط بلفظة «ينطق»، لا غير!
فنقول: كذبت وأفكت، ليست هذه لغة العرب، فالقرآن «يتلى». والعرب تقول: «تلى» محمد القرآن، و«جاء» محمد بالقرآن، وما سمعناها تقول قط: نطق محمد «قرآناً».
ثم من أين لكم أن تحكموا أن لفظة «قرآن» لا تعني فقط سورة البقرة وآل عمران، وآية كيت وكيت، وليس كل ما هو بين الدفتين في المصحف المعروف؟! فإن جاز أن تكون لفظة «ينطق» إنما تعني «يتلو قرآناً» فقط، وليست هي على عمومها وإطلاقها، كما توجبه اللغة العربية ضرورة، هكذا تحكماً من غير برهان، فجوِّزوا كذلك أن تكون لفظة «قرآن» ليست هي على إطلاقها وعمومها لكل ما بين الدفتين، وإلا فأنتم كاذبون متناقضون، متحكمون بالهوى والباطل.
v وقال، جل من قائل: (قل: إنما أنذركم بالوحي)، (الأنبياء؛ 21:45)، وهذ صيغة حصر، يعني لا أنذركم إلا بالوحي، لا غير، وقد كان، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ينذر بكلام كثير من لفظه، أي من غير القرآن، ويتوعد بالنار على ذنوب مختلفة، ويحذر من ترك واجبات كثيرة، ويسن شرائع مختلفة، إلى غير ذلك من أنواع البلاغ والنذارة. فإن لم يكن ذلك نوع من الوحي من عند الله، لكان القرآن أيضاً كاذباً في هذه المقولة، ولوجب ضرورة أن يكون من عند غير الله، وهذا خلاف ما فرضناه من ثبوت النبوة، وقيام قواطع الأدلة عليها (كما سيأتي في موضعه) المتضمنة كون القرآن حينئذ ضرورة من عند الله، أو لكان الله كاذباً في هذه الآية من القرآن، وهذا محال لا يجوز على الله، تبارك الله وتعالى عن ذلك علواً كبيراً!!
ومن زعم أن الوحي ها هنا إنما هو القرآن فقط فقد أفك وكذب، وصادر على المطلوب، وكابر في المعلوم ضرورة من السيرة والتاريخ. بل هو مكذب للقرآن نفسه الذي سمّى، مثلاً، ما ألقي في نفس أم موسى، صلوات الله وسلامه عيها وعلى ولدها، وحياً، ونحن نعلم ضرورة أنه لم يكن قرآناً، ولا من جنسه أو لغته أصلاً.
وهو مع ذلك قد نسب العيّ والعجز عن التعبير الصحيح إلى الله، تباركت أسماؤه. فهل في العالم أيسر من جملة: (إنما أنذركم بالقرآن) أو (إنما أنذركم بالكتاب)؟! فلما لم تأت الآية هكذا أيقنا بكذب وتناقضن من زعم أن المقصود بلفظة «الوحي» ها هنا هو «القرآن» فقط، لا غير، لا سيما أنه، جل جلاله، وسما مقامه يقول: (قُلْ: أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً؟! قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ، أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى؟! قُلْ: لا أَشْهَدُ، قُلْ: إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ)، (الأنعام؛ 6:19)، فنص هاهنا صراحة على القرآن، وأن بعض مقاصد تنزيله هو النذارة، في صيغة لا تفيد الحصر، فللقرآن مقاصد أخرى، غير النذارة، كالبشارة والتذكير، والحث على التفكير والتعقل، والخبر الصادق عن الله، والتشريع، وغير ذلك كثير.
وكذلك النذارة منها القرآن، وقد تكون بغير القرآن، فما زال خطباء الجمعة ينذرون ويحذرون بكلامهم، وكذلك الشعراء بشعرهم، وهذا إنذار باجتهاد علماء وشعر شعراء، وليس بالوحي، وربما كان مستنبطاً من الوحي، وربما كان الاستنباط صحيحاً أو خطأً، وفوق ذلك وقبله: نبي الله الخاتم بالوحي، كما هو في الآية الكريمة موضع درسنا: (قل: إنما أنذركم بالوحي)، (الأنبياء؛ 21:45)!
v وقال، تباركت أسماؤه: (من يطع الرسول فقد أطاع الله)، (النساء؛ 4:80)، وقال: (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله)، (النساء؛ 4:64)، وغيرها آيات كثيرة أمر فيها رب العزة، تباركت أسماؤه، بطاعة النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، طاعة مطلقة من غير قيد أو شرط؛ وجعل طاعة الرسول شرطاً للهداية، ومعصيته مفضية إلى الضلالة، مع آيات أخرى توعد فيه من يعصيه أو يعصي رسله، على حد سواء ولا فرق، بنار جهنم خالدين فيها أبداً، كما هو مثلاً:
ــ في قوله، تباركت أسماؤه: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ v وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ)، (النساء؛ 5:14)،
ــ وقوله: (إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً)، (الجـن؛ 72:23)،
ــ وقوله: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً)، (الفتح؛ 48:17)،
ــ وقوله: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً)، (الأحزاب؛ 33:36)،
ــ وقوله: (يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)، (الأحزاب؛ 33:71).
ــ وقوله: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ، وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا، وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)، (النور؛ 24:54).
ــ وقوله: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ{، (المائدة؛ 5:92)
ــ وقوله: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)، (التغابن؛ 64:12).
ــ وقوله: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)، (النور؛ 24:54).
ــ وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ)، (محمد؛ 47:33).
ــ وجعل تبارك وتعالى نفسه ورسوله المرجع المطلق عند النزاع، بخلاف أولي الأمر، الذين تحصل منازعتهم، وتجوز مراجعتهم، فقضى:}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً{، (النساء؛4:59).
ــ بل ها هو ربنا، تباركت أسماؤه، يفرد طاعة الرسول بنفسها، من غير ذكر نفسه المقدسة أصلاً، ويجعلها شرطاً للأمل في الرحمة: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)، (النور؛ 24:56).
ــ كما أكّد كل ذلك بأن جعل، جل ذكره، اتباع النبي شرطاً لحصول محبته، التي هي أعلى الأماني، والإعراض عن اتباع الرسول، والتولي عن طاعته، من أصناف الكفر، فقال: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ v قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ)، (آل عمران؛ 3:32).
ثم زاد هذا بياناً بقوله، تعالى ذكره: (ومَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ)، (النور؛ 24:52)، فجعل الخشية والتقوى لله وحده، أما الطاعة فهي لله ورسوله، وقد تم عطف لفظ «الرسول» على لفظ «الجلالة» على نحو يشعر بتساوي المرتبة فيما يتعلق بوجوب الطاعة فقط، مع التباين المطلق بين الله، الحي القيوم، الأول الأزلي القديم بغير ابتداء، والآخر الباقي بغبر فناء أو انتهاء، بينه وبين الرسول، المخلوق الحادث الفاني.
كما أنكر جل جلاله، وسما مقامه، على من أراد أن يفرق بين الله ورسله، أو من حاول المراوغة بادعاء الإيمان ببعض والكفر ببعض، وأغلق في وجهه أبواب الفرار، حيث قال: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ، وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً v أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً)، (النساء؛ 4:150-151).
فبين، جل وعلا، أن طاعة الرسل إنما هي بإذن الله، وأنها طاعة لله، بل هي مطابقة لطاعة الله، وأنها في نسب المرتبة، مرتبة طاعة الله، كما هو بين عطف لفظ « الرسول» على لفظ «الجلالة» على نحو يشعر بتساوي المرتبة في الحجية والإلزام.
وزاد ذلك بياناً وتأكيداً إذ أكَّد رب العزة، جل جلاله وسما مقامه، أنه لا يقبل بتاتاً التفرقة بينه وبين رسله، لأنهم منفردون بالبلاغ عن الله، معصومون بعصمة الله، فكل محاولات «دق الإسفين» بين الله وأحد من رسله فاشلة لا محالة، وهي كفر بحق، مفضي بصاحبه إلى الخسارة واللعنة الأبدية، والعذاب المهين في النار السرمدية!
ومعلوم بضرورة الحس، والعقل، والشرع أن الرسول مخلوق لله، وليس هو عين الله، ولا ذاته ذات الله، ولا إرادته إرادة الله في أصل التكوين، إو في مراتب الوجود، فلزم ضرورة أن تكون سنته تبليغاً معصوماً عن الله، أي وحياً يقينياً بالمعنى، أو ربما باللفظ، من الله. ولو جاز أن يكون شئ من ذلك من ذات النبي، من غير وحي معصوم من الله، لفقدت الرسالة معناها، وبطل الاحتجاج بها، ولم تقم لله على عباده حجة، ولا لزمتهم منه شريعة، خلافاً لنصوص القرآن الأخرى المتضافرة، فيتناقض القرآن، ويكون من عند غير الله، حاشا لله، ثم حاشا لله، وهذا خلاف ما فرضناه من ثبوت النبوة، وقيام قواطع الأدلة عليها (كما سيأتي في موضعه) المتضمنة كون القرآن حينئذ ضرورة من عند الله، أو لكان الله كاذباً في هذه الآية من القرآن، وهذا محال لا يجوز على الله، تبارك الله وتعالى عن ذلك علواً كبيراً!!
وقد يقول قائل: لعل النبي المرسل إنما أمر بذلك الأمر المعين أو نهى عن بموجب ما فطر عليه، أو تركب منه بدنه، من الخصائص الضرورية، والمعطيات الوراثية؟!
فنقول: فكان ماذا؟! هذا وحي أيضاً، لأنه ما كان سيكون على هذه الصفة المخصوصة بحيث لا يقبل ذوقه، ولا يستريح عقله إلا إلى مراد الله، كما هو معلوم على حقيقته في «نفس» الله، إلا بعلم سابق، وترتيب مقدر، وخلق بإرادة الله، وفق مشيئة الله، تشكل في بنية النبي بالتقدير التكويني القدري، الذي جاء، في هذه الحالة المخصوصة، موافقاً لمراد الله الديني التشريعي من بعثة هذا النبي المرسل، بحيث يكون النبي المرسل جاهزاً للتبليغ بلاغاً معصوماً عن مراد الله.
ولا يقولن قائل: لا تجوز تسمية هذا ومثله وحياً؟!
فنقول: كذبت وأفكت، هكذا سمَّاه الله جل جلاله عندما قال: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ)، (النحل؛ 16:68)، وبالضرورة نعلم أن ذلك الوحي إنما هو بجعل الله لصفات النحل، كما هي مغروسة في المورثات، على نحو معين ترتب عليه أنها تتخذ من الجبال والشجر والمعروشات بيوتاً بكيفية معينة، وذلك بالقطع ليس قرآنا يتلى، ولا حصل بنزول ملك، أو رؤية في منام، أو نفث في الروع.
فالوحي الإلاهي إذاً أنواع كثيرة: بداية بما هو مغروس في المورثات في أصل الخلقة وتكوينها، وصعوداً إلى هذا القرآن المجيد الذي هو الكلام الإلاهي المنزل بلفظه وأحرفه، المعجز في نظمه، المتعبد بتلاوته. وبينهما أنواع كثيرة: النفث في الروع، وحصول علم ضروري في النفس من غير تعلم، والرؤيا الصادقة، وتمثل الرسول الملائكي للرسول البشري ومخاطبته له مشافهة، ونزول صحف وألواح مكتوبة من السماء، وغير ذلك مما شاء الله من الأنواع. كل ذلك وحي، وكل ذلك معصوم في حق الأنبياء المرسلين، لا يتطرق إليه كذب، أو خطأ أو نسيان، وإلا لما كان للنبوة معنى، ولما وجد فرق بين النبي المرسل، والعالم المجتهد.
v وقال جل جلاله، وسمآ مقامه: (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ؛ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)، (الحشر؛ 59:7). وهذا أمر جازم، متبوع بالوعيد المؤكد الشديد، يقطع بوجوب أخذ كل ما أتى با النبي، بدون اسيتثناء لأن (ما) من صيغ العموم، وبدون قيد أو شرط، لورود الأمر مطلقاً غير مقيد أو مشروط.
ومعلوم بضرورة التاريخ أن النبي، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، لم يأت بذهب ولا فضة، ولم يكن تاجراً يجلب البضائع إلى الأسواق، ولا هو ملك مستبد متسلط يوزع الأعطيات والمنح والمناصب والإقطاعيات على محسوبيه. كلا، والله: لم يأت بشئ من ذلك إلا بقليل لا يذكر، وإنما أتى بما لا يحصى من الأخبار عن الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأحوال الساعة وأشراطها، وأنباء النبيين وأممهم السابقة، وأتى بالموعظة بشتى أشكالها من الخطب والقصص وضرب الأمثال، وغير ذلك من فنون الموعظة، وأتى بكثير من الأوامر والنواهي، والتوجيه والنصح والإرشاد، وتلفظ بأصناف من الحكمة البالغة، والمثل السائر.
كل ذلك أتى به نبي الله، عليه وعلى آله صلوات وتسليمات وتبريكات من الله، فأخذه فريضة لازمة لا هوادة فيها، بنص القرآن: كل صنف بحسبه:
(1) فأخذ الخبر يكون بتصديقه والاستسلام له، والتدين، أي التقرب من الله وطلب رضوانه، بذلك الاستسلام والتصديق،
(2) وأخذ الأمر يكون بطاعته والامتثال له، في حدود الطاقة والاستطاعة،
(3) وأخذ النهي يكون بالارتداع عما نهي عنه،
(4) وأخذ غير ذلك بحسبه أيضاً، فإذا أقطعك أرضاً فخذها وتملكها حلالاً طيباً، هنيئاً مريئاً، وإذا أعطى غيرك، ولم يعطك، فافرح بذلك لذلك المحظوظ، واغبطه ولا تحسده عليه، ولا يخطرن ببالك أن ذلك كان محاباة أو ظلماً، حاشا لله،
وكل ذلك حق من عند الله، لأنه من المحال الممتنع أن يأمر الله بتصديق الخبر الكاذب، أو طاعة أمر لم يأمر به هو، تعالى ذكره، أو الامتناع عن شئ لم ينه عنه هو، جل جلاله.
قوله، جل جلاله، وسما مقامه: (وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)، هو ضرورة بعض ما اشتمل عليه قوله: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ )، فهو من باب إضافة الخاص على العام، والجزء على الكل. فهذا التكرار جاء للتأكيد على مقاصد تشريعية وبلاغية منها:
(1) أهمية الانتهاء والارتداع عما نهى عنه نبي الله، عليه وعلى آله صلوات وتسليمات وتبريكات من الله، بدون اشتراط القدرة والاستطاعة، لأن الانتهاء عن المنهيات موقف سلبي، أي هو عدم فعل، وهذا مقدور لكل أحد؛
(2) إبطال أي شبهة بأن قوله: }وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ {، قد يعني شيئاً آخر غير الأخبار والأوامر والنواهي، أو قد تعني النص القرآني فحسب. ولما كانت النواهي قد ذكرت مستقلة على وجه التصريح، لزم أن تكون جملة }وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ {، شاملة للنواهي، وما هو من جنسها، مما يصلح أن يقال عنه أن الرسول أتى به، أي شاملة للأخبار والأوامر، وكذلك ربما لغير ذلك.
وجملة }وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ { هي بداهة، وبطبيعة الحال، شاملة للنص القرآني، من باب أولى: فإذا قال الرسول: هذا قرآن، قلنا: سمعاً وطاعة، وأخذناه قرآناً، وأثبتناه في المصحف، بين الدفتين، وإذا قال: هذه الآية التي كانت قرآناً، قد رفعها الله، ونسخ لفظها، فأخرجوها من المصحف، ولا تتلوها من بعد، قلنا: سمعاً، وطاعة، وشطبنا عليها من المصحف، وهكذا أبداً: ما أتانا الرسول أخذناه، وما نهانا عنه اجتنبناه.
v وقال، جل من قائل: }إن اتبع إلا ما يوحى إلي{، (الأنعام؛ 6:50)، وهذ صيغة حصر كذلك، يعني لا أتبع إلا الوحي، لا غير، والاتباع يكون بالأقوال والأفعال، وإن كان استخدامه في الأفعال أكثر وأوضح.
وقد كان، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، يفعل أفعالاً كثيرة لم يرد لها ذكر في القرآن أصلاً، كتقبيله لنسائه ومباشرته لهم، إلا الجماع في الفرج، وهو صائم، وكذلك فعله نحو هذا معهن وهن في حالة الحيض: يفعل كل شئ إلا الجماع في الفرج، وكان أيضاً يقول أقوالاً كثيرة من لفظه، أي من غير القرآن، فإن لم يكن ذلك نوع من الوحي من عند الله، لكان القرآن أيضاً كاذباً في هذه المقولة، ولوجب ضرورة أن يكون من عند غير الله، وهذا خلاف ما فرضناه من ثبوت النبوة، وقيام قواطع الأدلة عليها (كما سيأتي في موضعه) المتضمنة كون القرآن حينئذ ضرورة من عند الله، أو لكان الله كاذباً في هذه الآية من القرآن، وهذا محال لا يجوز على الله، تبارك الله وتعالى عن ذلك علواً كبيراً!!
وقد أسلفنا بيان استحالة كون لفظة «الوحي» مرادفة للفظة «القرآن»، بحيث يكون كل وحي قرآناً، هذا محال كما سبق إيضاحه. علي أن جملة (إن أتبع إلا القرآن) لا تقل حسناً أو بلاغة عن قوله تعالى: }إن اتبع إلا ما يوحى إلي{، فإذ لم ترد هكذا علمنا يقيناً أن الله أراد بجملة: }ما يوحى إليَّ{، شيئاً آخر غير «القرآن» فقط. ولما كان القرآن، ضرورة، من جملة ما يصدق عليه }ما يوحى إلي{، جاز أن يكون هناك وحي غير القرآن، زيادة على القرآن.
v وقال تعالى: }لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، وذكر الله كثيراً{، (الأحزاب؛ 33:21)، هكذا على الإطلاق، بدون قيد أو شرط، ولكنه قال في حق إمام الحنفاء، وسيد الأتقياء إبراهيم الخليل، صلى الله عليه وعلى آله وسلم: }قد كان لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا بردآؤ منكم، ومما تعبدون من دون الله، كفرنا بكم، وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً، حتى تؤمنوا بالله وحده، إلا قول إبراهيم لأبيه: لأستغفرن لك ...{، (الممتحنة؛ 60:4)، فجعله أسوة حسنة فقط في موضوع «البراءة» من قومه إذ أصروا على الكفر، وجاهروا بالعداوة ومحاولات القتل، وحتى هذه «الأسوة الحسنة» المخصوصة لم تأت من غير قيد ولا شرط، بل استثني منها استغفار إبراهيم لأبيه!
مع أنه جل وعلا ذكر له في استغفاره لأبيه عذراً وجيهاً مقبولاً، وأثنى عليه في التوقف عن الاستغفار، بعد انقطاع العذر، قال تباركت أسماؤه: }وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه! إن إبراهيم لأواه حليم{، (التوبة؛ 9:114)، ومع ذلك فقد استثنى الحق، تبارك وتعالى، من حسن الأسوة، والاقتداء بإبراهيم، استغفاره لأبيه، وقد كان محسناً معذوراً فيه، وايم الله، وما فعل حراماً، ولا ارتكب معصية، وإنما خالف الأولى، لا غير، قاصداً الخير، قائماً بفريضة بر والده، وكان تصرفه على الإباحة والرخصة الأصلية، ولم يكن أمر بعد بخلاف ذلك، ثم امتنع من ذلك عندما جاءه الأمر صريحاً!
وعلى الضد التام من ذلك لم يرد في الكتاب العزيز، ولا حرف واحد، يدل على استثناء إمام النبيين، وسيد المرسلين، خليل رب العالمين، محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، المصطفى المختار، من حسن الائتساء به، أو وجوب الاقتداء بهديه، فثبت قطعاً ضرورة أنه الأسوة الحسنة، والقدوة المعصومة، مطلقاً ومن غير قيد أو شرط، في كل قوله وفعله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم!
فمجموع هذين النصين: }إن اتبع إلا ما يوحى إلي{، (الأنعام؛ 6:50)، و}لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، وذكر الله كثيراً{، (الأحزاب؛ 33:21)، مع تأكيدها بقوله، جل ذكره: }قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌv قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ{، يوجب أن تكون أفعاله وحياً معصوماً، صالحة أن تكون أسوة حسنة، بدون قيد أو شرط.
إلا أن طبيعة الفعل، وكونه عادة ليس في درجة القول من البيان والقطعية توجب فقط أن: (ما يفعله النبي، عليه وعلى اله الصلاة والسلام، يستحيل أن يكون حراماً على أمته)، لذلك يجوز لهم الائتساء به بفعل مثل ما فعل من غير حرج ولا نكير. إلا أن الفعل المجرد لا يدل على وجوب ولا استحباب أو إباحة مجردة، إلا بقرينة تبين ذلك. ولكن لا يتصور أنه، عليه وعلى اله الصلاة والسلام، يفعل مكروها إلا ومعه قرينة تبين أنه إنما فعله لبيان عدم المؤاخذة على الفعل، وإن كان الترك أولى، هذا بعض ما يقتضيه كونه (أسوة حسنة).
وكذلك، لما أسلفنا قريباً، وبضرورة الحس والعقل، يجب أن يكون: (الترك إنما هو برهان قاطع فقط على عدم وجوب الفعل المتروك على أمته)، ثم لا بد من قرينة لبيان الحرمة، أو الكراهية أو الإباحة المحضة. ولكن لا يتصور أنه، عليه وعلى اله الصلاة والسلام، يترك مستحباً إلا ومعه قرينة تبين أنه إنما تركه لبيان عدم المؤاخذة على الترك، وإن كان الفعل أولى، أو حتى لا يشق على أمته، أو لاعتبارات أخرى ستأتي في فصل مستق، إن شاء الله تعالى. هذا بعض ما يقتضيه كونه (أسوة حسنة).
فمن المحال الممتنع أن يفعل النبي، عليه وعلى اله الصلاة والسلام، ما هو حرام على أمته، أو أن يترك ما هو واجب على أمته. ولكن يجوز أن يفعل ما هو خلاف الأولى في حق أمته من ترك مستحب أو فعل مكروه فيكون هذا «ذنباً» فيما بينه وبين الله، مع كونه ليس كذلك في حق غيره من أفراد أمته.
هذا هو المعنى الوحيد الممكن الذي تنسجم به النصوص المحكمة آنفة الذكر، وما هو من بابها، الموجبة قطعاً لعصمة أقواله وأفعاله، مع بعض النصوص المتشابهة، التي أشكلت على بعض الناس، وفي مقدمتها، قوله، جل ذكره: }لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً{، (الفتح؛ 48:2)، وكذلك عتاب الله له في إعراضه عن الأعمى: }عبس وتولَّى v أن جاءه الأعمى{، وما جرى مجرى ذلك، كله كما بيناه آنفاً، وكما تبينه وتشهد به الأحاديث التالية:
v كما جاء في «صحيح مسلم»: [حدثنا يحيى بن يحيى وقتيبة بن سعيد وأبو الربيع العتكي جميعا عن حماد قال يحيى أخبرنا حماد بن زيد عن ثابت عن أبي بردة عن الأغر المزني وكانت له صحبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة»]، وهو بنحوه في «سنن أبي داود»، وهو في «مسند الإمام أحمد بن حنبل» من عدة طرق صحاح، وهو كذلك في «السنن الكبرى» من طرق كثيرة، وهو في «سنن البيهقي الكبرى»، وهو كذلك في «المعجم الكبير» من طرق كثيرة نادرة حسان، وهو كذلك في «الآحاد والمثاني» وفي «المنتخب من مسند عبد بن حميد»، وفي «شرح معاني الآثار»، ولعله في غيرها.
ــ وهو كذلك في «صحيح ابن حبان»، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: (إسناده صحيح)، وعقَّب الإمام أبو حاتم بن حبان قائلاً: [قوله صلى الله عليه وسلم إنه ليغان على قلبي يريد به يرد عليه الكرب من ضيق الصدر مما كان يتفكر فيه صلى الله عليه وسلم بأمر اشتغاله كان بطاعة أو اهتمامه بما لم يعلم من الأحكام قبل نزولها كأنه كان يعد صلى الله عليه وسلم عدم علمه بمكة بما في سورة البقرة من الأحكام قبل إنزال الله إياها بالمدينة ذنبا فكان يغان على قلبه لذلك حتى كان يستغفر الله كل يوم مائة مرة لا أنه كان يغان على قلبه من ذنب يذنبه كأمته صلى الله عليه وسلم]
v وجاء في «المعجم الكبير»: [حدثنا محمد بن محمد الجذوعي القاضي قال سمعت العباس بن الوليد النرسي يقول: (سألت أبا عبيدة معمر بن المثنى عن تفسير قوله: «إنه ليغان على قلبي»، فلم يفسره لي، وسألت الأصمعي عنه فلم يفسره]
قلت: رحم الله الإمامين الورِعين: أبا عبيدة مَعْمَر بن المُثَنَّى، وعبد الملك بن قُرَيْب الأصْمَعي إذا امتنعا عن الكلام بغير علم.
قلت: الـ«غين» هو السحاب الرقيق الذي يستر ذات الشمس دون ستر ضوئها، بخلاف الـ«غيم» الذي هو السحاب الكثيف، فكأنه، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، يستغفر الله من أدنى أحوال غفلة القلب.
v وجاء أيضاً في «سنن أبي داود» بإسناد صحيح: [حدثنا الحسن بن علي ثنا أبو أسامة عن مالك بن مغول عن محمد بن سوقة عن نافع عن بن عمر قال: (إن كنا لنعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة: «رب اغفر لي، وتب علي إنك أنت التواب الرحيم»]، وقال الألباني: صحيح، وهو في «مسند الإمام أحمد بن حنبل»، وهو كذلك في «السنن الكبرى»، وفي «المنتخب من مسند عبد بن حميد»، وفي غيرها.
v وجاء أيضاً في «سنن ابن ماجه» بإسناد جيد: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا محمد بن بشر عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة»]، وقال الألباني: (حسن صحيح)، وهو كذلك في «السنن الكبرى»،
ــ وهو في «المعجم الصغير» من طريق نادرة: [حدثنا إبراهيم بن محمد الغزالي البصري المعدل حدثنا خلاد بن أسلم المروزي حدثنا النضر بن شميل أنبأنا حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأستغفر الله في اليوم وأتوب إليه في كل يوم مائة مر»]، وقال الإمام الطبراني: (لم يروه عن عاصم إلا حماد بن سلمة تفرد به النضر)، قلت: فكان ماذا، هاذان كلاهما ثقة مأمون، حجة إمام.
ــ وهو في «شرح معاني الآثار» من طريق نادرة أخرى: [حدثنا بن أبي داود قال ثنا خطاب بن عثمان وحيوة بن شريح قالا ثنا بقية بن الوليد عن الزبيدي عن الزهري عن عبد الملك بن أبي بكر بن الحارث بن هشام عن أبي هريرة أنه كان يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأتوب في اليوم مائة مرة»، وقال أنس إنما قال: «سبعين مرة»]
v وجاء أيضاً في «السنن الكبرى» للإمام النسائي: [أخبرنا قتيبة بن سعيد حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن أبي المغيرة قال قال حذيفة شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذرب لساني فقال: «أين أنت من الاستغفار؟! إني لأستغفر الله كل يوم مائة مرة»]
فثبت بذلك قولنا بلا شبهة: أن «ذنوب» النبي، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، ليست هي ارتكاب ما هو «حرام» على «أمته»، وإنما هي كلها من باب خلاف الأولى: ترك مستحب شرعه الله مستحباً لأمته، أو فعل مكروه مما كره الله لأمته. ومن المحال الممتنع شرعاً وعقلاً أن تكون ترك «واجب على أمته»، أو فعل «حرام على أمته»!
v وقال، تبارك وتعالى، مجيباً موسى، صلى الله عليه وسلم، عندما اعتذر عن قومه، وطلب الصفح والمغفرة، بعد أن أخذتهم الرجفة:}...، قال: عذابي أصيب به من أشاء، ورحمتي وسعت كل شيء، فسأكتبها للذين يتقون، ويؤتون الزكاة، والذين هم بآيتنا يؤمنون v الذين يتبعون الرسول النبي الأمِّي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل: يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي التي كانت عليهم؛ فالذين آمنوا به، وعزروه، ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون v قل: يا أيها الناس! إني رسول الله إليكم جميعاً، الذي له ملك السماوات والأرض، لا إله إلا هو، يحيي ويميت؛ فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمِّي الذي يؤمن بالله وكلماته، واتبعوه لعلكم تهتدون{، (الأعراف؛ 7:156- 158). وهذه البشارة بالنبي الأمي، الذي يساوي موسى في الدرجة (أو يزيد)، والذي سيقيمه الله لبني إسرائيل (وغيرهم) من بني إخوانهم (أي من نسل إسماعيل، أخي إسحاق، جد بني إسرائيل)، ما زالت محفوظة في سفر التثنية، أحد أسفار التوراة، حفظتها العناية الإلاهية من يد التحريف والعبث والتزوير التي طالت أكثر الكتب الأولى!
وقد نص الله فيها صراحة على أنه، أي الرسول النبي الأميّ، صلوات الله وسلامه وتبريكاته عليه وعلى آله: }يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر{، هكذا بإطلاق: ينهى عن «المنكر»، أي عن جنس المنكر، أي عن كل فرد من أفراد المنكر. لذلك وجب أن ينكر، صلى الله عليه وعلى آله وبارك وسلم تسليماً، كل منكر يراه أو بلغه، بقول، أو إشارة واضحة تدل على الإنكار، لا تحتمل الشك، أو فعل مبين، يدل على الإنكار، ولا يحتمل الشك. فإن أقر أمراً وجب ضرورة أنه ليس بمنكر، أي ليس بحرام. ثم يعرف هل هو: مكروه، أو مباح محض، أو مستحب مندوب، أو فريضة واجبة من بيان آخر زائد على مجرد الإقرار، ولكنه قطعاً ليس بحرام على أمته، ولا هو من الباطل. فعلمنا بذلك يقيناً أنه لا يسكت على باطل أو حرام، ولا يقر إلا حقاً، وإلا كان قول الله كاذباً، ووعده خائساً، تعالى الله عن ذلك علوَّاً كبيراً!
كما قال تقدست أسماؤه: }يا أيها الرسول! بلِّغ ما أنزل إليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته، والله يعصمك من الناس، إن الله لا يهدي القوم الكافرين{، (المائدة؛ 5:67). وقد ثبت أنه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، صرف الحراس، ولم يعد يُحْرَس بعد ذلك، ولم يكن له بواب، حتى لحق بالرفيق الأعلى، إذ عصمه الله أن يطاله أحد بسوء:
v كما جاء في «المستدرك على الصحيحين»: [حدثنا عبد الصمد بن علي البزاز ببغداد أنبأ أحمد بن محمد بن عيسى القاضي حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا الحارث بن عبيد حدثنا معبد الجريري عن عبد الله بن شقيق عن عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت هذه الآية: }والله يعصمك من الناس{، فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة فقال لهم: «أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله»]، وقال الحاكم: (هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه)، وقال الذهبي في التلخيص: (صحيح)، وهو أيضاً في الترمذي، وحسنه الألباني، وفي «سنن البيهقي الكبرى»، وغيرها.
فإن كان محمد رسول الله، ونحن نشهد أنه رسول الله حقاً، وصدقاً، فأي شئ يجعله يسكت على باطل، أو يقر حراماً، وقد عصمه ربه، وحرسه من كافة الخلق، فلا يصل إليه أحد بأذى؟! وهل يمتنع أكثر الناس من الصدع بالحق إلا لخوفهم من الأذى؟! فازددنا بذلك علماً، وإيماناً، ويقيناً أنه لا يسكت على باطل أو حرام، ولا يقر إلا حقاً!
v على أن هناك العديد من الأحكام العينية إنما ثبتت بالسنة فقط لحظة تشريعها، ولكن القرآن العظيم أشار إليها في مناسبة أخرى، ونص على كونها من تشريع الله، أو على كونها ملزمة بنفس درجة إلزامية ما جاء نصاً في القرآن، أو نحو ذلك، فمن ذلك:
(1) استقبال القبلة الأولى (ونحن نعلم بالضرورة من التاريخ أنها كانت «بيت المقدس»، ولكن هذا لا يهم ها هنا) لم يرد في القرآن مطلقاً النص بتشريعها، وإنما كان ذلك بأمر النبي، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، ولكن كونها كانت قبلة ملزمة لا بد من استقبالها، وأن ذلك بجعل الله لها كذلك، جاء في معرض الكلام عن نسخها، وفرض استقبال المسجد الحرام بدلاً منها، حيث قال، تباركت أسماؤه: }وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ{، (البقرة؛ 2:143). والآية نص صريح على أن القبلة الأولى إنما كانت بـ(جعل من الله).
(2) توبيخ الله، جل جلاله، للمؤمنين على انصرافهم عن النبي، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، حال إلقائه خطبة الجمعة واقفاً، يدل دلالة قاطعة على أنهم لم يفعلوا مباحاً، لأن المباح لا توبيخ عليه، فلا بد أنهم ارتكبوا حراماً. مع أنه لم يرد في القرآن ذكر للجمعة مطلقاً قبل ذلك، فإيجابها أو استحبابها إنما كان ضرورة بالسنة، وليس بنص القرآن. نعم جاء القرآن بتأكيد وجوبها في نفس السياق من القرآن التي تضمنت التوبيخ، إلا أن الأمر الأول كان سابقاً، بالقطع، على نزول تلك القطعة من القرآن.
ومعلوم كذلك أن الأذان كان يستعمل للنداء للجمعة، وكذلك لغيرها من صلوات الجماعة، قبل نزول الآيات، وقد أشير إليه فيها على أنه الطريقة المستقرة المشروعة، فمتى نودي للجمعة، وجب السعي إليها وترك البيع: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ v فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَv وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ{،(الجمعة؛ 62:9-11).
(3) وبعد الكارثة التي أصابت المسلمين في معركة أحد، وانسحاب الجيش القرشي، ثم ندم أبي سفيان، زعيم قريش، على أنه انسحب قبل الإجهاز على المسلمين، وتفكيره بإعادة الكرة عليهم لاستئصالهم، بعد تلك الكارثة استنفر النبي، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، المسلمين رغم مصابهم وجراحاتهم لمطاردة الجيش القرشي، وقطع المسلمون بالفعل مسافة لا بأس بها، فبلغت الأنباء لأبي سفيان، ودب في قلبه الرعب، وآثر العودة إلى مكة، وعاد المسلمون سالمين من غير قتال ولا جراحات جديدة. وقد أثنى الله على أولئك الذين استجابوا للنفير بالرغم من إصابتهم، فقال: }يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ v الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ{، (آل عمران؛ 3:171-172)، فجعلهم مستجيبين لله والرسول، مع أن الاستنفار إنما كان بكلام من النبي، ولم ينزل به قرآن، ولا حرف واحد.
(4) وعندما تضجر بعض المنافقين من كيفية توزيع النبي للزكاة، وتكلموا في النبي، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، ولمزوه وعابوه، أنزل الله فضيحتهم، فقال: }وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ v وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ{، (التوبة؛ 9: 58-59)، وهذا نص صريح أن ما أعطاهم النبي، إن كان أعطاهم شئاً، هو حقهم المشروع كما هو مراد الله، جل جلاله، وعطيته، لذلك قال: }مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ{، فعطية النبي إذاً هي عطية الله، مع أننا نعلم ضرورة أنه لم ينزل بها قبل ذلك قرآن، فهي إذا بنيت على وحي غير القرآن.
(5) وقال جل جلاله: }وإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ، فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ{، (التحريم؛ 66:3)، وليس في القرآن، ولا حرف واحد، من ذلك الحديث الخاص الذي أعلم الله نبيه به. هذا برهان قاطع على أنه، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، قد جاءه وحي من الله، غير القرآن، ولو في هذه الحالة الخاصة.
(6) وقال تباركت أسماؤه: }أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى v عَبْداً إِذَا صَلَّى v أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى){، (العلق؛ 96: 9-11)، في سورة مكية قديمة، آياتها الفاتحة هي أو ما نزل من القرآن، على القول الصحيح المشهور، وفيها البرهان القاطع على أنه، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، كان يصلي فأنكر عليه بعض رؤوس الكفر من قريش صلاته التي لم يعهدوها. فالصلاة كانت إذاً مشروعة، وجوباً أو استحباباً، كصلاتنا هذه اليوم، أو بصورة أولى منسوخة، قبل نزول هذه الآيات، وهي من أول ما نزل، وليس في الآيات قبلها ذكر الصلاة أصلاً، فوجب أن يكون ابتداء تشريع الصلاة، وهي عمود الدين، بالسنة، أي بوحي خارج القرآن، ثم تتابع القرآن، وتواترت السنة بعد ذلك بتأكيد وجوبها، وتعظيم شأنها، وتفصيل أحكامها، واستكمال شرائعها. ولعل تلك الصلاة التي نهى رأس الكفر أبو جهل عمرو بن هشام عنها كانت مستحبة، وذلك قبل فريضة الصلاة يوم المعراج!
(7) وقبيل وقعة بدر الكبرى أمر الله رسوله بالخروج، بالرغم من كراهية بعض المؤمنين الشديدة لذلك، وتخوفهم من مغبة مصادمة قريش، الدولة الأعظم آنذاك في جزيرة العرب، لا سيما بعد ورود أخبار بخروج الجيش القرشي، فامتن الله عليهم بالوعد بالظفر بالقافلة أو بالجيش القرشي. كل ذلك وحي خارج القرآن، وليس في القرآن منه حرف واحد، ثم أرخه الله بعد نهاية المعركة في نص القرآن، حيث قال، تقدست أسماؤه: }كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ v يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ v وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ{، (لأنفال؛ 8: 5-7)
فثبت من البراهين آنفة الذكر ثبوتاً قطعياً، من نصوص القرآن وحده، وبضرورات الحس والعقل، بدون اعتماد أي نص من السنة، إلا من بعض نصوص السنة التي أوردناها على وجه المتابعة والاستئناس، وليس على وجه البرهنة والاستدلال، أنه، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، معصوم في التبليغ عن الله في أقواله وأفعاله وإقراراته: كل ذلك وحي معصوم من عند الله.
فليس الوحي الذي أنزل على محمد، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، هو فقط القرآن المجيد، الذي هو كلام الله المنزل بلفظه وأحرفه، المتعبد بتلاوته، المعجز بنظمه، بل هو شامل لسنته الشريفة، التي هي مجموع أقواله وأفعاله وأقاريره، بأبي هو وأمي، عليه وعلى آله الصلاة والسلام.
والوحي، لا فرق بين قرآن وسنة، في درجة واحدة من الإلزامية والحجية، فقوله، تباركت أسماؤه: }ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم{، يعني تعاطي التجارة في مواسم الحج، أو قوله: }ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد{، حجة قاطعة ملزمة إلى يوم القيامة الكبرى، تماماً كقوله، عليه وعلى آله الصلاة والسلام: «لا وصية لوارث» أو قوله في تحديد الحد الأعلى للوصية: «الثلث، والثلث كثير»، حجة قاطعة ملزمة أيضاً إلى يوم القيامة الكبرى، وذلك بغض النظر عن كون المثالين الأوليين وحياً باللفظ، وقرآناً يتلى في الصلاة، من كلام خالق البشر، والأخرى من لفظ النبي، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، وهو مخلوق بشر.
فالفضل العظيم الذي يستحقه القرآن الحكيم، وقدسيته الخاصة، وارتفاع مكانته على مرتبة السنة من حيث كونه كلام الله المنزل بلفظه وأحرفه، المتعبد بتلاوته، المعجز بنظمه، كل ذلك، وهو حق لا شك فيه:
ــ قضية مستقلة، تمام الاستقلال، عن كون الوحي، قرآناً وسنة، مرتبة واحدة من حيث الحجية والإلزامية،
ــ وهاتان قضيتان مستقلتان عن جواز نسخ القرآن بالسنة أو عدم جواز ذلك.
ــ هذه قضايا مختلفة متباينة، لا يجوز خلط بعضها ببعض، وإلا حصل الخلل الجسيم، بل الضلال البعيد، الذي، أي الضلال البعيد، هو الكفر، عياذاً بالله تبارك وتعالى!
u فصل: بعض ما يجوز على الأنبياء، وما لا يجوز عليهم
ولعله من المناسب هنا، بناءً على ما سبق، تلخيص ما يجوز للأنبياء، وبخاصة نبينا محمد، عليه وعلى اله الصلاة والسلام، وما لا يجوز من جوانب القصور الإنساني الطبيعي:
(1) يجوز عليه، وعلى إخوانه من الأنبياء السابقين، ما يجوز على سائر البشر من من ظهور العدو وانتصاره عليهم، والتعرض للأذى، والإهانة، والتعذيب، والسجن، والإخراج من الوطن، وقطع الأطراف، والقتل، وغيره. وقد وقع كثير من ذلك عياناً، ومقتل يحيى بن زكريا، صلوات الله وسلامه عليهما، إرضاءً لعاهرة، مشهور معروف! وعصم بعض الأنبياء من ذلك: مثل موسى وهارون، صلوات الله وسلامه عليهما، من أول أمرهما، ونبينا محمد، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، في أواخر العهد المدني عندما عُصِم أخيراً من الناس: فصرف الحرس، وكان قبل ذلك يُحْرَس، وقد تعرض قبل ذلك للأذى فرجمه سفلة ثقيف بالحجارة حتى أدموه، وألقى سفهاء قريش على ظهره الشريف القذر، وشج رأسه، وكسرت رباعيته يوم أحد، إلى غير ذلك من أنواع الأذى، قبل عصمته من الناس!
(2) ويجوز عليه، وعلى إخوانه من الأنبياء السابقين، ما يجوز على سائر البشر من المرض في البدن بكل أنواعه، خفيفاً أو شديداً، منفراً أو غير منفر، إلا ما يمن الله على بعضهم بالسلامة منه، كأمن نبينا محمد، صلوات الله وسلامه عليه، أن يصاب بذات الجنب، ونحوه. بل لعل ابتلاء الأنبياء بالوعك والألم أشد، حتى يقتدي بهم، ويتسلى بمصابهم أشد المبتلين.
أما مرض العقل أو النفس فلا يجوز عليهم، لأن ذلك يقتضي «رفع القلم» وسقوط التكليف، ولأن النبوة تقتضي، ضرورة، سلامة العقل والنفس، بل وكمالهما!
(3) ويجوز عليه، وعلى إخوانه من الأنبياء السابقين، بداهة سائر المصائب الكونية من فقد الأهل والأحبة، وذهاب الأموال، وضيق ذات اليد، بل والفقر، وقلة الناصر، وخذلان الأهل والعشيرة، بل لعل ابتلائهم بذلك أشد من ابتلاء غيرهم به، فيكون في ذلك العزاء لأهل البلاء من غيرهم، والقدوة في الصبر الجميل بِمَثَلِهم.
(4) ويجوز عليه، وعلى إخوانه من الأنبياء السابقين، إدراك الواقع المحسوس مباشرة، أو المنقول إليهم رواية، على خلاف حقيقته، التي هو عليها في نفسه، بكل سبب ممكن يحدث به ذلك عند سائر البشر:
(أ) كخداع حواس، أو تخييل بشعوذة، أو خفة يد أو سحر: }فخيل إليه من سحرهم أنها تسعى{، وكذلك لمرض بدني يفسد ذوق الطعام، أو الاحساس بالحر والبرد.
(ب) أو لكذب الرواة أو خطئهم، وكذلك الشهود في مجلس القضاء، أو تزوير الوثائق، أو بسبب الأيمان الكاذبة، وغيره. أو لعدم وجود البينات الازمة لإثبات الحق، مع ثبوته في نفس الأمر في علم الله، وما شاكل ذلك.
فهذا أفضل رسل الله، خاتمة أنبياء الله، المعصوم بعصمة الله، عليه وعلى آله صلوات وتسليمات وتبريكات من الله، لم يعصم من أن يخدع بكذب كاذب، أو يحكم بالظاهر بناءً على شهادة فاجر، أو حسن بيان محاجج جدلي ماهر:
v لما ثبت من قوله، عليه وعلى آله الصلاة والسلام: «إنما أنا بشر، وإنه يأتيني الخصم، فلعل بعضكم أن يكون أبلغ (وفي رواية: ألحن) من بعض، فأحسب أنه صدق، فأقضي له بذلك! فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو فليتركها»، كما هو في حديث غاية في الصحة، أخرجه البخاري، وهذا لفظه، والإمام مالك، وأحمد، وأبو داود وغيرهم بأسانيد غاية في الصحة، تقوم بها الحجة اليقينية القاطعة. وهذا الحديث يؤكد عدة حقائق في غاية الأهمية أن الباطل قد يحسن صاحبه عرضه، والتدليل عليه، حتى ينخدع به المعصوم، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، نفسه، فمن باب أولى قد يحصل بلا شك لمن هو دونه من الناس.
لذلك كان إخبار الأنبياء عن أمور «الدنيا»، أي الواقع المحسوس، خواصه العامة، وحوادثه العينية، كإخبار سائر البشر محتملاً للصواب والخطأ، لا سيما ما كان بصيغة الشك أو الظن: كقوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، عن تأبير النخل: «ما أظن ذلك يغني شيئاً» أو «لو لم يفعلوا لصلح»، ونحوه.
وكثير مما يسميه الناس زوراً وبهتاناً «الطب النبوي»، ونحوه. وهذا الباب يحتاج إلى تدقيق واحتياط شديد حتى لا ينسب إلى الوحي ما ليس منه، فيكون كذباً، وقولاً على الله بغير علم، وهو جريمة شنعاء؛ ولا يخرج منه ما هو منه: فيضيع علم صحيح، وخير كثير.
(5) ويجوز عليه، وعلى إخوانه من الأنبياء السابقين، ترك الأنسب من المباحات، واختيار غيره، وكله مباح محض، كاختيار موقع معين للقتال، أو اسلوب إداري معين، أو استخدام آلة دون آلة أخرى، وغيره أنسب لتحقيق الغرض، وقد يوفق أهل الخبرة من غيرهم إلى ما هو أنسب، فيرجع النبي إلي قولهم، ويترك اختيار نفسه، كما كان من الحباب بن المنذر في موقعة بدر الكبرى، وكلامه المشهور عن تغيير موقع الجيش. ولا شك أن النبي، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، يبذل الجهد، ويستفرغ الوسع، كسائر عقلاء البشر، بل أشد، للوصول إلى الأنسب في ذلك، وقد يسمّي بعض الناس ذلك اجتهاداً، وهو كذلك بلا شك لغة، وليس هو الاجتهاد بالمعني الاصطلاحي، الذي لا يجوز على النبي، كما سيأتي.
(6) قد يقع منه، ومن إخوانه من الأنبياء السابقين، ما هو خلاف الأولى شرعاً، أي فعل ما هو مكروه شرعاً، أو ترك ما هو مستحب شرعاً، لأسباب منها:
(أ) لبيان الحكم التشريعي، بعد ورود نهي، أي أنه مكروه: يثاب تاركه، ولا يعاقب فاعله، وليس حراماً. وكذلك بالمثل بالنسبة للمستحبات، ولا يكون ذلك كله إلا بوحي من الله، معصوم.
وحكمة ذلك، والله أعلم، أن من البشر أصنافاً من أهل الغلو والتنطع لا يقنعهم إلا البيان العملي مقروناً بالبيان اللفظي، كما أن ثمة أنواع من الأحكام لا يكتمل بيانها إلا بالفعل، لا باللفظ.
(ب) لغلبة جانب الرحمة، كفعل النبي، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، في مسألة أسرى بدر؛
(ج) أو لغلبة جانب الحرص على مصلحة الدعوة، وإيصالها إلي أهل المنعة والقوة، كفعله في قصة: }عبس، وتولَّى{.
هذان النوعان، (ب) و(ج)، وكذلك:
(1) ما قد يقوم بنفسه الشريفة من الهم بغير الحق،
(2) والدعاء على من لا يستحق على عادة العرب، كقول: عقرى، حلقى، ثكلته أمه، تربت يداه، ونحوه؛
هذه الأنواع هي التي أتى العتاب من الله في بعضها، وسمّاها الله في حق نبيه «ذنوباً»، ثم تفضل الله بالغفران الشامل لما تقدم منها وما تأخر، أخيراً، بعد الحديبية، إذ قال: }إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً v ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر، ويتم نعمته عليك، ويهديك صراطاً مستقيماًv وينصرك الله نصراً عزيزاً{.
لا يقال هذه ليست ذنوباً، وإنما هي مكروهات، يثاب تاركها، ولا يعاقب فاعلها، لا يقال ذلك لأن هذا هو حكمها بالنسبة لأمته، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أما هو فمفترض عليه تركها، كما افترض عليه قيام الليل من دون أمته، وخصوصيات أخرى. وهذا هو موضع الشبهة التي أسلفنا الإشارة إليه، والذي ظن بعض الحمقى أنه يوجب وقوع الصغائر منه، بل والكبائر كما زعم من لا عقل له من الخوارج كذي الخويصرة التميمي، وأشباهه من الملاعين الهلكى. ولكن المغبون من كانت دابته، التي يركبها، أكبر منه عقلاً، وأكثر منه لله ذكراً، وأبلغ منه تعظيما لمقام الألوهية السامي الرفيع، ومقامات الأنبياء والرسل، وأقل منه جفاءً!
(7) ولا يجوز على النبي، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، أن يفعل حراماً، صغيرة كان أو كبيرة، ولا أن يترك واجباً، صغيراً كان أو كبيراً البته. بل إن فعله برهان يقيني قاطع على عدم الحرمة، ونحتاج إلى بيان آخر لمعرفة كونه مكروهاً، أو مباحاً، أو مستحباً، أو واجباً، كما أسلفنا؛ وتركه برهان يقيني قاطع على عدم الوجوب، ونحتاج إلى بيان زائد لمعرفة كونه مستحباً، أو مباحاً، أو مكروهاً، أو محرماً. ولم يظهر لنا برهان عقلي أو شرعي لهذا بالنسبة لإخوانه من الأنبياء السابقين، بل لعل قصة يونس، وإباقه إلى الفلك، تثبت أن الأمر بالنسبة لهم ليس هو كما كان بالنسبة لمحمد بن عبد الله، خاتمة أنبياء الله، عليه وعلى آله صلوات وتسليمات وتبريكات من الله.
(8) كما لا يجوز أن يكون خبره، في غير «أمور الدنيا»، إلا حقاً، وكذلك خبره عن الأمم السابقة، والوقائع الماضية، من غيرة رواية أو إسناد أو شهادة من غيره ينقلها هو، لا بد أن يكون حقاً جاء به الوحي؛ وكذلك المستقبل الذي لم يقع بعد، فهو غيب محض، لا يعلمه ذاتياً إلا الله، ولا يُعْلَم إلا بتعليم من الله، وإلا جاز أن يتطرق الخلل، كذباً كان أو خطأً، إلى الوحي: فتسقط حجة الله على العباد، وتفقد الرسالة معناها، ويصبح عدمها ووجودها سواء.
(9) وكذلك قوله الإنشائي، بالأمر والنهي، لا يكون إلا وحياً، لأنه لا ينطق عن الهوى، ولا ينذر إلا بالوحي، فلو جاز أن يكون أي واحد من أمره ونهيه من عند نفسه، وليس من عند الله، جاز ذلك في الكل، وفقدت الرسالة معناها، وأصبح كلام الله كذباً.
(10) كما لا يجوز عليه أن يسكت على منكر، لأنه مأمور بالبلاغ، والأمر بكل معروف، والنهي عن كل منكر، لذلك كان سكوته عن أي فعل، إقرار لذلك الفعل ضرورة، فلا يكون حراماً البتة، ثم نحتاج إلى بيان آخر زائد لمعرفة كونه مكروهاً، أو مباحاً، أو مستحباً، أو واجباً.
(11) ولا يجوز عليه الاجتهاد، أي استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، لأنه هو صاحب النص: قوله نص، وفعله نص، وإقراره نص. فهو المشرع، أي الذي ينشيء الأحكام إنشاءً، بوحي الله وعصمته، وغيره يستنبطها استنباطاً!
u فصل: الذكر، ليس هو فقط القرآن، بل السنة ذكر أيضاً
نبدأ بالتنبيه على أن لفظة «الذكر» لها معاني متعددة متباعدة، لا يعقل أصلاً أن تكون كلها مقصودة في مقام واحد في آن واحد، فلا بد إذاً من النظر بعناية، وبكل دقة، إلى السياق المعين، موضع البحث أو الدرس، لمعرفة المقصود من الآية المعينة، أو النص المعيَّن:
ــ فقد تطلق على القرآن فقط، كما جاء في قوله، جل جلاله: }إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ v لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ{، (فصلت؛41:42)، كما يقتضيه السياق هنا ضرورة، لأن لفظة (الذكر) جاءت ها هنا لشئ وصف بأنه: }كتاب عزيز v لا يأتيه الباطل من بين وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ{، (فصلت؛ 41:41-42)،،
ــ كما أنها قد تطلق على التسبيح والتهليل والتكبير، كما هو معلوم مشهور،
ــ وقد تطلق على الشهرة عند الناس، بسبب المكانة الرفيعة، والشأن المهم أو الخطير. ومن ذلك قوله، تعالى ذكره: }ورفعنا لك ذكرك{، (الشرح؛ 94:4)، وربما كان هذا بعض المعاني المقصودة بقوله، جل شأنه: }وإنه لذكر لك، ولقومك، وسوف تسألون{، (الزخرف؛ 43:44)، يعني: أن هذا القرآن سيجعل لك ولقومك شأناً تتذاكره الأمم، ويتناقله التاريخ، بعد أن كنتم خاملي الذكر، على هامش الناريخ، لا يعرفكم أحد، ولا يسمع بكم أحد، ولا يبالي بكم أحد!
ــ وقد تطلق على مجموع الوحي المنزل، أي على القرآن والسنة،
وهذا المعنى الأخير، وهو الذي يهمنا في هذا الفصل، هو ما سنفصل البرهنة عليه في كتابنا هذا: (كتاب التوحيد: أصل الإسلام، وحقيقة التوحيد):
v فقد قال تعالى: }وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم، ولعلهم يتفكرون{، (النحل؛ 16:44)؛ وقال، تقدست أسماؤه: }إن علينا جمعه وقرآنه v فإذا قرأناه فاتبع قرآنه v ثم إن علينا بيانه{، (القيامة؛ 75:17-19).
والآية نص قاطع على أن هذا (الذكر) أنزل على نبي الله الخاتم وحده خاصة، وليس إلى عموم الناس ابتداءً، ليقوم هو بعد ذلك، استناداً إلى هذا الذكر المعصوم، المنزل إليه خاصة، بعملية (بيان) لـ(ما نزل إلى الناس عامة) الذي يشمل بالضرورة ما سبق نزوله من (القرآن)، وربما كذلك السنن النبوية السابقة، التي اطلع عليها الناس من قبل، والتي لم يكتمل بعد بيانها، أو ما زالت في حاجة إلى مزيد بيان.
وليست مواصفات (الذكر) كما هو مذكور أعلاه هي صفة (القرآن):
(1) فالقرآن وحي منزل إلى الناس عامة. نعم: هو ينزل أولاً على النبي، ثم يأخذه الناس منه، إلا أن دور النبي أول الأمر يقتصر على اللفظ به، وتلاوته، فقط، لا غير ، ثم يأخذ منه الناس ذلك اللفظ فوراً، ويكتبونه في ما تيسر من الألواح والرقاع. فالحال لا تختلف عن كونه كأنه نزل إلي الناس جميعاً مباشرة مكتوباً في قرطاس، أو منقوشاً على ألواح، أو مسجلاً على أشرطة مغنطيسية، أو ما شابه،
(2) والقرآن مفتقر إلى بيان كما هو معلوم بضرورة الحس والعقل لمن تصفح القرآن مجرد تصفح، أن فيه، أي في القرآن، إجمالاً كثيراً يحتاج إلي تفسير وتفصيل، وعمومات قد تحتاج إلى تخصيص، وإطلاقات قد تحتاج إلى تقييد، ومواطن يسيرة من المشتبه تحتاج إلى تأويل، وغير ذلك من أنواع البيان الازم. وحاجة القرآن إلى البيان حقيقة أقر بها القرآن نفسه في الآية آنفة الذكر: }وأنزلنا إليك الذكر لتبينللناس ما نزل إليهم، ولعلهم يتفكرون{، (النحل؛ 16:44)، وقد تكفل الله بهذا البيان في قوله، جل جلاله، وسما مقامه: }إن علينا جمعه وقرآنهv فإذا قرأناه فاتبع قرآنه v ثم إن علينا بيانه{، (القيامة؛ 75:17-19)، إلا أن البيان يأتي عادة متراخياً، بعد مدة من الزمن: }ثم إن علينا بيانه{، بخلاف هذا (الذكر) الذي أنزل على محمد ليكون هو بياناً مباشراً،
(3) ولكن (الذكر) وحي منزل على النبي خاصة، ثم يستخدمه النبي لبيان (ما نزل إلى الناس عامة)، فهو بذاته (بيان)، وفي حين أن (القرآن)، قطعاً، من هذا الذي (نزل إلى الناس عامة)، وهو الذي يراد بيانه،
والبيان النبوي هو ضرورة:
(1) أقوال النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومنها الإشارة،
(2) وأفعاله،
(3) وتقريراته،
أي أنه السنة النبوية، من غير زيادة، ولا نقصان. فالسنة النبوية إذاً من (الذكر) المنزل، ضرورة ولا بد.
ومن أمثلة افتقار القرآن إلى بيان، بإقرار القرآن نفسه، وبضرورة الحس والعقل: الصلاة المكتوبة، التي هي عمود الدين، لم يرد لشعائرها كبير تفصيل يذكر، في حين أن الوضوء، وهو الشعيرة المفروضة لتحقيق الطهارة الشعائرية التعبدية، التي لا تصح الصلاة إلا بها، جاء مفصلاً تفصيلاً كافياً يستطيع به أي إنسان أداؤه على وجهه المطلوب. فمن المحال الممتنع أن لا تكون أحكام الصلاة على نفس الدرجة من التفصيل لأحكام الوضوء، أو لعلها أكثر. ومع ذلك لم يرد ذلك التفصيل اللازم في القرآن، فتولته السنة لأن بيان أحكام الصلاة يتطلب في أكثره الأسوة العملية، ويصعب الإتيان به بمجرد الكلام الملفوظ، إلا بإسهاب وتطويل، وبسط كلام، لا يتناسب مع بلاغة القرآن، وحسن نظمه، أي مع كون القرآن معجزاً.
وأكثر تفاصيل أحكام الصلاة المكتوبة، وأركانها المهمة، التي بينتها السنة، التي هي وحي معصوم كنا أسلفنا البرهنة عليه، قد نقلت إلينا نقل تواتر، نقل الكواف عن الكواف، بحيث تقوم بهذا النقل الحجة اليقينية القاطعة. وهذه الحجة القاطعة على المهم من أحكام الصلاة، هو في نفس الوقت حجة قاطعة على أن تلك السنن من (الذكر) المنزل ضرورة، لأن من أهم وظائف الذكر المنزل أنه به يبين النبي الخاتم، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، للناس ما سبق تنزيله إليهم.
ومن أمثلة ذلك أيضاً: الزكاة، التي أوجبها الله في كل مال، والتي هي ركن من أركان الإسلام. وهي ليست شعيرة تعبدية خالصةً له تبارك وتعالى فحسب، بل هي كذلك حق للسائل والمحروم، قال تعالى: }والذين في أموالهم حق معلوم v للسائل والمحروم{، (المعارج؛ 70:24-25)، فتيقنا أنها واجبة في كل مال، وقال: }وآتوا حقه يوم حصاده{، (الأنعام؛ 6:141)، فعلمنا أن ما يحصد يؤدى حقه فور حصاده، ولكننا لم نعلم: هل هو فور تمام الحصاد، أم هو كل حصاد كل يوم بيومه؟! من باب أولى لم نعلم ما هي مواقيت زكاة الأموال الأخري! وقال تعالى: }إنما الصدقات للفقراء والمساكين ... إلى آخر الآية الكريمة{، (التوبة؛ 9:60)، فعلمنا الأصناف المستحقة، ولم نعلم كيف توزع بينهم، ولا من له صلاحية ذلك: هل يتولَّى ذلك الأفراد، أم تقوم به الدولة؟! ولا يوجد في القرآن بيان ذلك، فوجب ضرورة أن يكون بيان ذلك في السنة الشريفة، وإلا كان خبر الله: }وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم، ولعلهم يتفكرون{، كاذباً، ووعده: }ثم إن علينا بيانه{، مخلفَاً، خائساً، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
على أن الله، جل جلاله، إنما تكفل ببيان ما ينزل من القرآن بعد جمعه وتلاوته، عندما ترد الحاجة إلى البيان، كما هو بين من استخدام لفظة (ثم) المفيدة للترتيب مع التراخي، وكما هو معلوم بالضرورة من التاريخ أن القطعة من القرآن تنزل، فيتلوها النبي، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، ويلقبها على عدد من الحفاظ تقوم بهم الحجة اليقينية القاطعة، ويدعو من تيسر لكتابتها، وكل ذلك يستغرق وقتاً، ثم يكون البيان عند الحاجة، لا سيما إذا كان بيان كيفية عملية، كشعائر الصلاة مثلاً.
ونعود إلى قوله، تعالى مجده: }وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم، ولعلهم يتفكرون{، (النحل؛ 16:44)؛ فهو نص بيَّن فيه ربنا، جل وعلا، أنه أنزل على رسوله «الذكر» ليبين للناس }ما نزل إليهم{!
ولكن ما هو المقصود بجملة: }ما نزل إليهم{؟! أي ما هو (التنزيل) المحتاج إلى بيان، والذي أنزل الله «الذكر» إلى نبيه لبيانه؟!
هذا (التنزيل) المفتقر إلى بيان لا يخرج عن احتمالين اثنين، أولهما على طرف نقيض من الآخر:
الاحتمال الأول: إن كان المقصود بـ«ما نزل إليهم» أقل ما يمكن أن يقال عنه: }ما نزل إليهم{، ألا وهو القرآن ضرورة، وهو المتبادر لأول وهلة من ظاهر الآية، ولأنه المقصود في المقام الأول، عادة، عند إطلاق لفظة «التنزيل» ومشتقاتها. كما أنه وحي بلفظه وأحرفه، يتلقاه الناس من فم النبي، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، مباشرة فور تلاوته، ويتساوون معه في حفظه وترتيله، فكأنه نزل إليهم مباشرة، من غير واسطة، أو كأنه نزل مكتوباً في قرطاس، أو منقوشاً على ألواح، لذلك استحق أن يقال عنه أنه: }نزل إليهم{، بخلاف الذكر، الذي أنزل خاصة على محمد النبي، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، فيقوم النبي بعملية (البيان) التي تجعله صالحاً لتلقي الناس، ولو لم يقم النبي بذلك لما عرف به الناس، ولما اطلعوا عليه.
فإن كان الأمر كذلك، فلا شك حينئذ أنه:
أولا: بحاجة إلى البيان، وهذا ثابت ليس بهذه الآية فقط، بل أيضاً ضرورة بقوله، تعالى ذكره: }إن علينا جمعه وقرآنه v فإذا قرأناه فاتبع قرآنهv ثم إن علينا بيانه{، (القيامة؛ 75:17-19)، وكذلك بضرورة الحس والعقل،
ثانياً: أن بيانه يكون بـ«الذكر»، وهو نوع آخر من الوحي والتنزيل من عند الله لا محالة، ولا شئ يصلح أن يكون ذكراً، يتنزل على الرسول خاصة، ثم يأخذه الناس منه، إلا السنة النبوية الشريفة، وما نزل من قرآن سابق، تم بيانه، ضرورة ولا بد.
ولا يجوز أن يكون «الذكر» هو القرآن فقط، بل لا بد أن يشمل وحياً غير القرآن، كما أسلفنا البرهنة عليه:
إذاً ثبت قطعاً أن «الذكر» المنزل ليس هو القرآن فحسب، فهو القرآن والسنة، أو بلفظ أدق: القرآن وبعض السنة. ولكن إذا كان بعض السنة ذكراً، فكلها من «الذكر» لا محالة، لأنها كلها وحي معصوم، وهي صنف واحد، وفي مرتبة واحدة من حيث الإلزام والحجية.
الاحتمال الثاني: أن يكون المقصود بـ}ما نزل إليهم{ أكثر ما يمكن تصوره تحت جملة: }ما نزل إليهم{، وهو كل وحي سبق نزوله حتى تلك الحظة المعينة وهو مع ذلك ما زال مفتقراً إلى (البيان)، ثم نزلت قطعة (الذكر) هذه لبيانه. هذا الوحي السابق إذاً هو ضرورة إما:
(1) آي من القرآن العظيم، تحتاج إلى بيان، وقد جاء وقت الحاجة لبيانها،
(2) سنن سابقة، مازالت تفتقر إلى بيان، أو مزيد بيان، قد جاء وقته، وهي مع ذلك مما تلقاه الناس فصلح أن يقال عنها أنها من }ما نزل إليهم{، و فلا بد حينئذ أن يكون بيانه بوحي جديد ينضم إلى ما سبق نزوله قبل ذلك، لا فرق بين قرآن أو سنة، وهكذا شيئاً فشيئاً، حتى يكتمل الوحي كله، فيصبح بيناً كاملاً لا يحتاج إلى وحي جديد لبيان أي شئ منه، وذلك قبيل وفاة خاتمة أنبياء الله، عليه وعلى آله صلوالت وتسليمات وتبريكات من الله.
فإن كان الحال كذلك وجب أن يكون «الذكر» المنزل شاملاً، ضرورة، لكل ما نزل إلى قبل تلك اللحظة المعينة من قرآن وسنة، مضافاً إليه ما نزل الآن من بيان، وهكذا شيئاً فشيئاً حتى لا يبقى شئ مفتقراً إلى بيان، عند اكتمال الدين، وتمام الوحي، وختم (الذكر)، قبيل وفاة خاتمة أنبياء الله، عليه وعلى آله صلوالت وتسليمات وتبريكات من الله.
إذاً وجب، على كل حال، وبموجب أي من الفرضيتين، أو أي فرضية أخرى تتوسط بينهما، أن يكون «الذكر المنزل» شاملاً لكل من القرآن والسنة، ضرورة، ولا يجوز أن يكون أكثر منهما أو أكبر لأنه ما ثمة وحي منزل إلا هذين: القرآن والسنة، فلا بد أن يكون «الذكر المنزل» هو بالضبط الوحي كله، أي القرآن والسنة، فقط لا غير، من غير زيادة ولا نقصان.
فلفظة «الذكر المنزل» إذا أطلقت هكذا معرفة بالألف واللام، في سياق الكلام عن التنزيل أو الوحي، لا بد أن تشمل السنة لا محالة. فقولنا أن السنة مبينة للقرآن حق، وقولنا أن القرآن والسنة يبين بعضها بعضاً حق كذلك، وقولنا أن «الذكرالمنزل»، الذي هو القرآن والسنة، يبين بعضه بعضاً، وأنه كاف شاف للبيان والبلاغ وإقامة حجة الله على العباد، إلى يوم القيامة الكبرى، حق كذلك. وكل ذلك حق يترتب بعضه على بعض ضرورة.
وقد يزعم بعض من يتسمون بـ«القرآنيين» أن البيان إنما يكون بقرآن جديد فقط، وليس لغير القرآن دخل في ذلك، فنقول: كذبتم وأفكتم، لأن:
(1) ما نزل من القرآن مفتقر لبيان، وهذا البيان هو بضرورة الحس والعقل ليس ذات تلك القطعة من القرآن، لأن الله تكفل به وأثبته متراخياً في الزمن عن القطعة التي نزلت؛
(2) لو كان بيان القرآن إنما يكون حصرآً بالقرآن، لزم أن يكون:القرآن بعد اكتمال وحيه، كما هو الآن بأيدينا، بيناً بذاته، لا يحتاج إلى بيان. وهذه مكابرة للحس والعقل، كما أقمنا عليه قواطع البراهين آنفاِ، ويكفيك من ذلك مثال (الصلاة المكتوبة)،
(3) إن لفظة }بيانه{، معرفة بالإضافة، واللفظ يكون معرفاً للعهد أو للجنس، وهو ها هنا تعريف يفيد الجنس ضرورة، لأننا لم نعلم بعد، عند نزول هذه الآية ذاتها، ما هو البيان المعهود المتفق عليه، فلا يجوز أن يكون التعريف ها هنا للعهد.
فالله، جل جلاله، قد تكفل إذاً بجنس البيان الشامل لكل أفراده التي يمكن تصورها:
(أ) من نص قرآن آخر، يأتي لا حقاً. هذا بيان ضروري واجب، لا يكتمل الدين إلا به،
(ب) أو من وحي آخر، يترجمه النبي إلى (بيان) بأفعاله وأقواله (ومنها الإشارة) وأقاريره، وما هذا إلا السنة النبوية الشريفة، التي هي أفعال النبي وأقواله وأقاريره. وهذا أيضاً بيان ضروري واجب، لا يكتمل الدين إلا به،
(ج) أو حتى ما قد يستجد في المستقبل من العلوم والمخترعات الهندسية، والاكتشافات الأثرية التي فيها بيان جديد، لم يكن معروفاً من قبل، أو مزيد بيان، لبعض آي القرآن. مثال الأخير، قوله تعالى: }خلق الرنسان من علق{، فهمها العربي الفصيح عند نزول القرآن أن الإنسان خلق من شئ كالعلق، أو من شئ يلتصق ويتعلق، وكان في هذا كفاية له، لم يحتج لغيرها في زمنه، ثم قال المفسرون الأوائل أن العلق قطعة متجمدة من الدم تكون في الرحم، تشبه دويبة «العلق»، ثم جاء تمام بيانه من علم الأجنة الحديث.
وهذا النوع الثالث من البيان، مع كونه بياناً، إلا أنه ليس من الوحي أو الذكر المنزل، إنما هو بيان إضافي مستحب، امتن الله به على عباده، وليس هو مما هو ضروري لكمال «الدين»، لأن الدين كمل قبيل وفاة خاتمة أنبياء الله، عليه وعلى آله صلوات وتسليمات وتبريكات من الله، وإن كان مفيداً للبرهنة على صحة و«حقانية» الدين، منضافاً إلى ما سبقه من البينات والآيات والبراهين.
هذا البيان منحة إضافية، كما قال جل جلاله: }سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ{، (فصلت؛ 41:53).
فالزعم بأن البيان إنما يكون بقرآن جديد فقط، لا غير، زعم مجرد، وتحكم بالباطل، ومكابرة لضرورة التاريخ، ومعاندة للمحسوسات والمعقولات، وتكذيب للقرآن، وتخصيص لما جاء عاماً، من غير برهان، وهذا لا يجوز، بنص القرآن: }هاتو برهانكم إن كنتم صادقين{.

فـ(الذكر المنزَّل) هو بضرورة الحس والعقل، وبشهادة القرآن نفسه، هو القرآن والسنة، من غير زيادة، ولا نقصان.
ويشهد لما أسلفنا ذكره، وهو أن:
(1) الوحي المعصوم، ليس هو فقط القرآن، بل السنة وحي معصوم أيضاً)،
(2) وأن (الذكر) ليس هو فقط القرآن، بل هو القرآن والسنة، وإن السنة مبينة للقرآن، كما يشهد لذلك، ويؤكده، ويفصله، نصوص كثيرة متضافرة من السنة النبوية نفسها.
ولما كنا قد أثبتنا بالفعل فيما سلف أنها، أي السنة النبوية، وحي معصوم، وأنها في نفس مرتبة الحجية كالقرآن، سواءً بسواء، وذلك بضرورات الحس والعقل، وبراهين القرآن، فقط من غير استخدام لنصوص السنة، حتى لا نقع في الدور والمصادرة على المطلوب (وما أوردنا من نصوص السنة إنما هو من باب الشواهد والاستئناس، وليس من باب الإثبات والبرهنة).
وإذ تمَّت البرهنة على أن السنة وحي معصوم، فلم تعد نصوصها مجرد شواهد ومتابعات تصلح للاستئناس فقط، بل قد أصبحت السنة بذاتها برهاناً، وأصبح الاحتجاج بها جائزاً، بما في ذلك الاحتجاج بها لنفسها وعلى نفسها، لأنها إن كانت وحياً معصوما لم يجز أن تكون متناقضة، بل لا بد أن تكون متسقة خالية من التناقض عموماً، ومتسقة مؤكدة لكونها وحياً ملزماً معصوماً، في المقام الأول، وعلى وجه الخصوص (وذلك طبعاً بشرط ثبوت صحة نسبتها إلى النبي، عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأتم التسليم)، فمن ذلك:
v ما جاء عن عقبة بن عامر الجهني قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «هلاك أمتي في الكتاب واللبن!»، قالوا: (يا رسول الله ما الكتاب واللبن؟!)، قال: «يتعلمون القرآن فيتأولونه على غير ما أنزل الله، عز وجل؛ ويحبون اللبن فيدعون الجماعات والجمع ويبدون»، وفي لفظ: «قوم يتعلمون كتاب الله يجادلون به الذين آمنوا»، هذا حديث صحيح، كما هو مبرهن عليه في الملحق.
فهذا الحديث، وهو صحيح ثابت، يدل على هلاك من تأوَّل القرآن على غير تأويله، وجادل به المؤمنين. وتأويل القرآن على وجهه إنما يعرف من طريق النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقط، مبلغاً ذلك البلاغ المعصوم عن الله، الذي تكفل هو، جل وعز، ببيانه البيان الشافي اليقيني الملزم، لا غير، أليس هو، تباركت أسماؤه، الذي وعد، ووعده الحق: }فإذا قرأناه فاتبع قرآنه v ثم إن علينا بيانه{، (القيامة؛ 75:18-19)، و}ومن أوفى بعهده من الله؟!{، (التوبة؛ 9:111)؟!
v وأخرج الترمذي عن بن عباس، رضي الله تعالى عنهما، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار». وقال أبو عيسى: (هذا حديث حسن صحيح)، أخرجه كذلك أحمد، والنسائي في الكبرى، وأبو يعلى، والشهاب القضاعي، وغيرهم. والعلم اليقيني بالقرآن إنما يكون من طريق النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لا غير، كما أسلفنا.
v وأخرج النسائي بإسناد صحيح عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله، ثم يقول: «من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له. إن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار!»، ثم يقول: «بعثت أنا والساعة كهاتين»، وكان إذا ذكر الساعة احمرت وجنتاه، وعلا صوته، واشتد غضبه، كأنه نذير جيش يقول: صبحكم مساكم، ثم قال: «من ترك مالا فلأهله، ومن ترك دينا أو ضياعا فإلي أو علي وأنا أولى بالمؤمنين»، وأخرج مثله مسلم، وابن ماجه، وأحمد ببعض الاختصار، وجاء مثله من كلام عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، بأصح الأسانيد.
v وجاء في «سنن ابن ماجه»: [حدثنا عبد الله بن أحمد بن بشير بن ذكوان الدمشقي ثنا الوليد بن مسلم ثنا عبد الله بن العلاء يعني بن زبر حدثني يحيى بن أبي المطاع قال سمعت العرباض بن سارية يقول قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فوعظنا موعظة بليغة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقيل يا رسول الله وعظتنا موعظة مودع فاعهد إلينا بعهد فقال: «عليكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن عبدا حبشيا وسترون من بعدي اختلافا شديدا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم والأمور المحدثات فإن كل بدعة ضلالة»]
قلت: هذا إسناد ظاهره الصحة، إلا أن الإمام دحيم شكك في سماع يحيى بن أبي المطاع، وهو ثقة معروف، من العرباض بن سارية، رضي الله عنه، وذكر الألباني اعتراض دحيم، ولكنه صحح الحديث، وللأستاذ حسان عبد المنان رسالة كاملة يناقش فيها هذا الحديث من كافة طرقه وحكم بانقطاع هذا الإسناد، وحكم على الحديث، بعد تتبع الطرق، بعدم الصحة، خصوصا فقرة: (وسنة الخلفاء الراشدين المهديين)لعدم وجود متابعات يعتد بها، أو شواهد تقويها.
والحديث أخرجه الترمذي من طرق أخرى وقال: حسن صحيح، وكذلك أحمد من طرق، وأبو داود من طريق أحمد، والدارمي، والحاكم وقال: (هذا حديث صحيح ليس له علة)، ووافقه الذهبي، وصححه ابن حبان، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: (إسناده صحيح)، وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير ومسند الشاميين من طرق أخرى، كما رواه البيهقي في «سنن البيهقي الكبرى»، ولكن تجنب الإمامان البخاري ومسلم إخراجه في الصحيحين.
ولكن الأئمة الترمذي وابن حبان والحاكم معروفون بالتساهل في التصحيح، والإمام الذهبي إنما كتب تعليقاته على «المستدرك» في أول طلبه للعلم، قبل نضوج شخصيته العلمية واستكمال مداركه النقدية. أما الألباني فهو مضطرب لا يستقر على وتيرة واحدة، وليس هو بالمتقن، والشيخ شعيب الأرناؤوط أحسن من الألباني حالاً بكثير، إلا أن قوله ها هناك (إسناده صحيح) إنما هو بالإشارة فقط إلى إسناد بن حبان وهو عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي وحجر بن حجر الكلاعي قالا أتينا العرباض بن سارية، فظن أن ذكر حجر بن حجر الكلاعي متابعة لعبد الرحمن بن عمرو السلمي يصحح بها حديث هذا الأخير، لأنه ليس ممن يصح حديثه إلا إذا توبع، ولكن الأرجح أن ذكر حجر بن حجر الكلاعي ليس ثابتا، وإنما هو زيادة شاذة من أوهام بعض الرواة، فلا تطمئن النفس إلى الاعتداد بها.
وعلى كل حال فإن أردت استزادة من الدرس فعليك برسالة الأستاذ حسان عبد المنان القيمة المعنونة: (حوار مع الشيخ الألباني: في مناقشة لحديث العرباض بن سارية)، الطبعة الثانية 1416هـ، الموافق 1995م، إصدار مكتبة المنهج العلمي في بيروت، إلا أننا نميل إلى تصحيح الحديث، لا سيما لوجود الطرق الأخرى، وكثرة الشواهد، ونظافة المتن، ولكن في النفس شيء من فقرة: «سنة الخلفاء الراشدين المهديين»، فعل أحد طلبة العلم يتفرغ لدراسته!
فها هو، صلوات الله وسلامه وتبريكاته عليه وعلى آله، يأمر بالتمسك بسنته، والعض عليها بالنواجذ، ويغلظ الوعيد على من أحدث في الدين، وابتدع فيه، بأنه على طريق ضلالة تردي صاحبها في نار جهنم. وسنته، صلوات الله وسلامه وتبريكاته عليه وعلى آله، هي أقواله، وأفعاله، وتقريراته، كما برهنا عليه آنفاً، لا يجوز أن تكون غير ذلك.
أما سنة الخلفاء الراشدين المهديين، إن صحت تلك الفقرة من الحديث، فهي هديهم العام المبني على إرجاعهم كل شيء إلى القرآن والسنة، لا غير، والتزامهم أحكام الله في كل حال: في الحرب والسلم، والعسر واليسر، والغنى والفقر. وفي جمع المال من حقه، وصرفه في مستحقه. وفي إقامة حدود الله على القريب والبعيد، والعدو والصديق. هذه سنتهم التي يجب التمسك بها، وليست هي كسنته، صلوات الله وسلامه وتبريكاته عليه وعلى آله، التي هي جميع أقواله وأفعله وإقراراته، لأنه نبي معصوم، وهم بشر يخطؤون ويصيبون، وينسون ويتذكرون، وتكون منهم المعاصي والذنوب، وقد اختلفت أحكامهم في المسألة الواحدة بما يستحيل شرعاً وعقلاً أن يكون حقاً كله. وعلى كل حال فلا يجوز الاستشهاد بهذه الفقرة لورود الطعن المعتبر في ثبوتها، وعدم ورود متابعات أو شواهد على صحتها، ولأنها لا تفهم إلا بشيء من التأويل والتقييد كما أسلفناه، فحتى لو ثبتت فلابد من بعض تقييد وتأويل، كما سلف.
v وقال الإمام الطبراني في «المعجم الكبير»: [حدثنا أحمد بن النضر العسكري ثنا أحمد بن النعمان الفراء المصيصي ثنا عبد الرحمن بن عثمان الحاطبي عن أبيه عن عبد الله بن محمد الجهني عن عبد الله بن الحسن بن علي عن أبيه قال: صعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، المنبر يوم غزوة تبوك فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أيها الناس إني والله ما أمركم إلا بما أمركم الله به، ولا أنهاكم إلا عما نهاكم الله عنه،فأجملوا في الطلب! فوالذي نفس أبي القاسم بيده إن أحدكم ليطلبه رزقه كما يطلبه أجله فإن تعسر عليكم شيء منه فاطلبوه بطاعة الله عز وجل»]، وهذا ليس فيه جديد، وإنما هو زيادة شرح وبسط لنصوص القرآن آنفة الذكر، وهو عين قولنا أنه، صلوات الله وسلامه وتبريكاته عليه وعلى آله، لا يأمر إلا بما أمر الله به، ولا ينهى إلا عما نهى الله عنه، ولا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.
v وأخرج الإمام الشافعي في مسنده: أخبرنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب عن المطلب بن عبد الله بن حنطب أن النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: «ما تركت شيئا مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به، ولا تركت شيئا مما نهاكم عنه إلا وقد نهيتكم عنه،.وإن الروح الأمين قد نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها: فأجملوا في الطلب!». هذا مرسل صحيح، مؤيد لما سبقه من كون أمره ونهيه ليس إلا أمر ونهي من الله، لا غير، وفيه زيادة فائدة أنه أكمل البلاغ عن الله، فما بقي خير من واجب أو مستحب إلا أمربه، ولا شر من حرام إلا نهى عنه، فلا يجوز أن يكون فاته شيء، ولا يجوز أن يستدرك عليه شيء.
v وعن طلحة بن نضيلة، رضي الله عنه، قال: قيل لرسول الله في عام سنة: (سعِّر لنا، يا رسول الله!)، فقال: «لا يسألني الله عن سنة أحدثتها فيكم، لم يأمرني بها؛ ولكن اسألوا الله من فضله!». وهذا حديث صحيح، مؤكد لما أسلفناه من كونه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لا يأمر بشيء ولا ينهي عن شيء من عند نفسه، وإنما يبلغ فقط عن ربه، جل وعز، في كل صغيرة وكبيرة. والحديث رواه ابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني»، والبيهقي في «المدخل»، والطبراني من طرق، والنصر المقدسي في كتاب «الحجة»، وابن قانع، وابن السكن، وغيرهم.
v وعن عائشة قالت: قال رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «ستة لعنتهم، لعنهم الله، وكل نبي مجاب: المكذب بقدر الله؛ والزائد في كتاب الله؛ والمتسلط بالجبروت يذل من أعز الله، ويعز من أذل الله؛ والمستحل لحرم الله؛ رالمستحل من عترتي ما حرم الله؛ والتارك لسنتي»، حديث صحيح، أخرجه الحاكم وقال: (هذا حديث صحيح، ولا أعرف له علة، ولم يخرجاه)، واضطرب فيه الذهبي فوافق الحاكم على تصحيحه في موضع، وسكت في موضع، واعترض في موضع ثالث، ثم أخرجه في «الكبائر»، بعد أن استكمل طلبه للعلم، ونضجت شخصيته العلمية رحمه الله، وقال إسناده صحيح، وهو الحق كما سنبينه في الملحق! وجاء من طرق حسان عن الأئمة زين العابدين علي بن الحسين، عن أبيه، عن جده، رضوان الله وسلامه عليهم. وله متابعة في الطبراني عن عمرو بن سعواء اليافعي، رضي الله عنه، ولكنه زاد سابعاً: «والمستأثر بالفيء».
والحديث حجة قاطعة على أن ترك السنة من أكبر الكبائر الموبقة الشنيعة: في مرتبة واحدة مع الزيادة في كتاب الله، واستحلال محرمات الله، وكل ذلك كفر وشرك بالله، على طرف نقيض من الإسلام، والإيمان، والتوحيد.
v وكان عبد الله بن عمرو بن العاص يكتب عن رسول الله، في مجالسه، مباشرة، فانتهره رجال من قريش فقالوا: (تكتب عن رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وإنما هو بشر يغضب كما يغضب البشر؟!). قال عبد الله: فأتيت رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقلت: (إن قريشاً تقول كذا وكذا)! فأومأ إلى شفتيه الشريفتين فقال: «والذي نفسي بيده! ما يخرج مما بينهما إلا الحق! فاكتب!». هذا حديث صحيح، أخرجه الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، وهذا لفظه من طريق عبد الواحد بن قيس عن عبد الله بن عمرو. وأخرج نحوه من طريق ثانية، هي طريق يوسف بن ماهك عنه بإسناد صحيح كذلك، وهي نفس الطريق الصحيحة الثانية التي أخرجها أحمد في مسنده. فالنبي، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، معصوم من أن يقول إلا الحق في حالتي الغضب والرضا، على حد سواء. وهو كذلك في حالتي الجد والمداعبة، على حد سواء، كما سيأتي فوراً.
v عن أبي هريرة عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «إني لا أقول إلا حقا!»، قال بعض أصحابه: (فإنك تداعبنا، يا رسول الله؟!)، فقال: «إني لا أقول إلا حقا». هذا حديث صحيح، أثبتنا صحته في الملحق.
v وأخرج أبو داود، عن العرباض بن سارية السلمي، رضي الله عنه، بإسناد جيد قوي، تقوم به الحجة بذاته، صححه الإمام الحجة علي بن حزم الأندلسي، وحسنه الألباني، وهو صحيح يقيناً، ولا شك، بشواهده، ومتابعاته، كما سيأتي. قال العرباض بن سارية السلمي، رضي الله عنه: [نزلنا مع النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، خيبر، ومعه من معه من أصحابه، وكان صاحب خيبر رجلاً مارداً منكراً، فأقبل إلى النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال: (يا محمد! ألكم أن تذبحوا حُمُرنا، وتأكلوا ثمرنا، وتضربوا نساءنا؟!!)، فغضب النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقال: «يا ابن عوف! اركب فرسك ثم نادي: إن الجنة لا تحل إلا لمؤمن، وأن اجتمعوا للصلاة!»، قال: فاجتمعوا للصلاة، فصلى بهم رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثم قام خطيباً فقال: «أيحسب أحدكم (وفي رواية: لا أجد أحدكم) متكئاً على أريكته قد يظن أن الله لم يحرم شيئاً إلا ما في القرآن؟!! ألا وإني، والله، قد أمرت، ووعظت، ونهيت عن أشياء: إنها مثل هذا القرآن، أو أكثر! وإن الله، عز وجل، لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب، إلا بإذن، ولا ضرب نسائهم، ولا أكل ثمارهم، إذا أعطوكم الذي عليهم»].
تأمل هذا الحديث الجميل الجليل، الذي هو من دلائل نبوته، بأبي هو وأمي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم:
ــ ففي الأول نادى النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، في الناس بأن الجنة حرام على الكفار، ولن يدخلها إلا مؤمن، فليحذر لذلك كل امريء لنفسه، وليفتش عن صدق إيمانه!
ــ ودعاهم إلى الاجتماع للصلاة، ولما خطبهم نبَّه على أن الله، عز وجل، حلل، وحرم، ووعظ، ونهى عن أشياء كثيرة على لسانه هو، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، في خارج القرآن، ولم ترد في القرآن، وأنها في الحجية كالقرآن، سواء بسواء، وأنها في العدد مثل القرآن، أو حتى أكثر.
ــ وبعد هذه القاعدة الكبري، أصل قاعدة صغرى: الحرمة الكاملة لكرامة، وأعراض، ودماء، وأموال، وبيوت أهل الذمة، مثل حرمة المسلمين سواء بسواء، ما داموا يخضعون لنظام الإسلام، ويدفعون ما عليهم من خراج، وجزيه، ونحوه. وهذا بيان لقوله تعالى: }حتى يؤتوا الجزية عن يد وهم صاغرون{، (التوبة؛ 9:29). فلفظة «صاغرون» في الآية الكريمة ها هنا: لا تعني الإذلال والمهانة، وانتقاص الحرمة والكرامة، وهو معنى جائز لهذه اللفظة في لغة العرب، كما قال رب العزة، جلت قدرته، لإبليس اللعين: }... فاخرج، إنك من الصاغرين{، (الأعراف؛ 7:13)، وهو ما قال به بعض أئمة الفقه الأعلام، من أمثال الإمام الأعظم أبي حنيفة، وإنما تعني: خاضعون، أي ما داموا يخضعون لنظام الإسلام، ويدفعون ما عليهم من خراج وجزيه ونحوه، ولولا هذا البيان المعصوم القاطع، لوجب علينا فهم «صاغرون» بكل ما تقتضيه في لغة العرب، أو البقاء في حيرة من أمرنا: ماذا نرجح، وهذه ورطة لا أدري كيف يخرج منها «القرآنيون»؟!
v وأخرج أبو داود كذلك عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه عن النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: «لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته، يأتيه الأمر من أمري، مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا ندري! ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه». هذا حديث صحيح، غاية في الصحة. كما رواه ابن ماجه، والترمذي وقال: حديث حسن، وقد قصر رحمه الله في ذلك تقصيراً بيناً، إلا أن يكون سقط التصحيح بغلط من النساخ، فقد أخرجه الحاكم بأسانيد صحاح من طريق سفيان بن عيينة، وآخر من طريق مالك، وثالث من طريق الليث بن سعد، وكفاك بهذه الأسانيد قوة، كما أخرجه الطبراني من طرق، لا سيما مع الشواهد التالية:
v وعن المقدام بن معدي كرب الكندي، رضي الله عنه، قال: حرَّم النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أشياء يوم خيبر، منها الحمار الأهلي، وغيره، فقال رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «يوشك أن يقعد الرجل منكم على أريكته يحدَّث بحديثي فيقول: (بيني وبينكم كتاب الله: فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه، وما وجدنا فيه حراماً حرمناه). وإن ما حرم رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كما حرم الله!»، هذا حديث صحيح، في غاية الصحة، إسناده مسلسل بالأئمة الثقات الأثبات، أخرجه الحاكم، وصحح إسناده، وأخرجه كذلك أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وأحمد من عدة طرق، وابن حبان في صحيحه، والطبراني من عدة طرق، والطحاوي في «شرح الآثار»، وصححه الألباني ونسبه كذلك إلى عباس الترقفي في «حديثه»، وعدد طرقاً كثيرة له صحاح وحسان.
v وعن أبي هريرة قال، قال رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «لا أعرفن أحداً منكم أتاه عني حديث، وهو متكيء في أريكته، فيقول: اتل عليّ به قرآناً!»، أخرجه أحمد بإسناد فيه إمام المغازي أبو معشر السندي، وهو صدوق فيه ضعف، وهو عند ابن ماجه من طريق أخرى مستقلة، لكنها أضعف. فلعل أصل الحديث عن أبي هريرة، ومنه هذا الجزء من الحديث، يُحَسًَّن بمجموعهما، وبالشواهد السابقة.
فهذا إذاً نقل تواتر أنه، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، قد أوتيَ «القرآن، ومثله معه»، كما هو لفظ بعض طرق الحديث أو أنه: «قد أمر، ووعظ، ونهى عن أشياء: إنها مثل هذا القرآن، أو أكثر!»، أو «إن ما حرم رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كما حرم الله!»، ونحو ذلك من المعاني المتواترة المتطابقة.
v عن الحسن البصري قال: [بينما عمران بن حصين، رضي الله عنه، يحدث عن سنة نبينا، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إذ قال رجل: يا أبا نجيد! حدثنا بالقرآن! فقال له عمران: أنت وأصحابك يقرأون القرآن، أكنت محدثي عن الصلاة، وما فيها، وحدودها؟! أكنت محدثي عن الزكاة في الذهب، والإبل، والبقر، وأصناف المال؟! ولكن قد شهدتُ وغبتَ! ثم قال: فرض علينا رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، في الزكاة كذا، وكذا! وقال الرجل: أحييتني أحياك الله!] وقال الحسن البصري، رحمه الله: [فما مات ذلك الرجل حتى صار من فقهاء المسلمين]، هذا كذلك أثر صحيح، أخرجه الحاكم وقال صحيح الإسناد.
قلت: قد أحسن الحسن: وهل يتصور فقه من غير سنة سيد ولد آدم، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهديه؟! ومن كان في شك من ذلك فلينظر في «فقه» الخوارج المعروفين بإهمالهم للسنة، وما اشتهروا به من غلو شنيع، وانحراف بغيض، ومن أراد الاستزادة فعليه بأقول «القرآنيين» منكري السنة، وهي أقول مضحكة، بالغة من السخف والتهافت غاية النهاية، تشبه أحياناً أقوال السكارى والمجانين!
فثبت بالأدلة المذكورة أعلاه، يقيناً، وبغيره من البراهين القاطعة الكثيرة المتضافرة، التي يكفر منكرها، ويخرج من الإسلام بجحدها، أن السنة النبوية الشريفة وحي من الله في مقام القرآن في حجيتها وإلزاميتها، سواء بسواء، وإنما تميز القرآن بأنه وحي الله المتلو، أي أنه كلام الله بلفظه، جل وعلا، وبعجز الجن والإنس أن يأتوا بمثله، وبالتعبد بتلاوته.
فحجية السنة النبوية الشريفة، وإلزاميتها لجميع الثقلين إلى يوم القيامة هو جوهر شهادة أن (محمداً رسول الله)، لا يشك في ذلك إلا كافر خبيث ملعون، لا علاقة له بالإسلام، ولا نصيب له من الإيمان، أو جاهل مركب، حماره أعلم منه وأعقل، كجمهور «القرآنيين»، ومن سلك مسلكهم من الحمقى والمغفلين!
u فصل: الذكر، قرآناً وسنة، محفوظ
أسلفنا أن القرآن هو كلام الله المنزل على سيدنا محمد، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بعين لفظه، كما هو مكتوب في المصاحف، محفوظ في الصدور، متلو بالألسنة، مسجل في الأشرطة، وغيرها من وسائل الحفظ والنقل، منقول عنه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كتلبة ومشافهة نقل تواتر، نقل الكافة عن الكافة، المفيد للعلم القطعي الضروري للناس جميعاً، مسلمهم، وكافرهم. وقد حاول الزنادقة قديماً، ورؤوس الكفر الدجاجلة، من أدعياء العلم، من «المستشرقين»، ودعاة التنصير والتغريب حديثاً، على مدى قرون متطاولة الطعن في ثبوت القرآن، ففشلوا، وارتدوا خائبين، واستقر القول عند الناس جميعاً، مسلمهم وكافرهم، أنه هكذا جاء من محمد، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، هكذا كما هو بين الدفتين، فلله الحمد والمنة!
وإنما بقي الذين كفروا في مرية من مجيئه من عند الله، ولكنهم لا يشكون لحظة في أنه ثابت عن محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بكامله كما هو بين الدفتين! ولو أنصفوا وتدبروا لعلموا أنه من عند الله: }... ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً{. ولو كانوا جادين في تكذيبهم لقبلوا التحدِّ ي: }فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين{، }وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا، فأتوا بسورة من مثله، إن كنتم صادقين v فإن لم تفعلوا، ولن تفعلوا، فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة، أعدت للكافرين{.
فلما عجزوا عن قبول التحدي، بالرغم من التقريع الشديد، والذم العظيم، علمنا أنهم كاذبون مكابرون، أعمت بصائرهم العصبيات القبلية، والعنصرية، والقومية، أو تقليد الآباء والأجداد، أو حب الدنيا، وما فيها من الشهوات، والمصالح، والرياسات، أو الكسل والإقبال على الدنيا مع الإعراض التام عن الآخرة. وسترى في هذه الرسالة، على صغرها، ومحدودية موضوعها، العديد من دلائل النبوة، وأنوار الهداية إلى صدق نبوة سيد ولد آدم محمد بن عبد الله الهاشمي العربي الأمي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم وبارك.
فالحق أن ما بين الدفتين، المسمى قرآناً، هو كلام الله يقيناً. والحق أن الله تكفل، في الكتاب العزيز، بحفظ «الذكر» كله، قال، تباركت أسماؤه: }إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون{، (الحجر؛ 15:9) وذلك في الدرجة العليا من التأكيد، الذي تسمح به اللغة العربية!
فأما القرآن، ومنه آية «الحفظ» المذكورة آنفاً، فقد ثبت حفظه بالأدلة الحسية والعقلية القاطعة، لكونه نقل إلينا نقل تواتر، نقل الكافة عن الكافة، مورثاً علم اليقين الضروري. وإذا كانت هذه الآية من عند الله، ونحن نؤمن، ونشهد أنها من عند الله: لقيام البراهين القاطعة، والأدلة الملزمة القاهرة على ذلك، أي على نبوة سيدنا محمد بن عبد الله، خاتمة أنبياء الله، عليه وعلى آله صلوات وتسليمات وتبريكات من الله، كما سيأتي لمحة لبعضه في الباب المخصوص لـ(أدلة التوحيد)، لزم ضرورة أن يكون ما بين دفتي المصحف كله محفوظاً، وأنه ليس بعض القرآن، وإنما هو كل القرآن، لم يفقد منه شئ، ولا حتى حرف واحد أو حركة واحدة، ولا حُرِّف منه شئ، ولا زيد فيه شيء، ولا حتى لفظة واحدة أو حرف واحد، وإلا كان وعد الله بحفظه كاذبا خائساً، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً!
ولكن هذا ليس هو كل ما تثبته آية الحفظ! فقد تكفل الله بحفظ «الذكر» كله. وقد أقمنا البرهان القاطع، من القرآن نفسه، على أن السنة النبوية الشريفة قسم من أقسام الذكر، فهي قسيمة القرآن، ومثيلته في الحجية، وهي أكثر منه في العدد والبيان!
وأيضا فإن السنة التبوية الشريفة، كما نعلم من الاستقراء ضرورة، مبينة للقرآن، أي أنها: مفسرة لمجمل القرآن، مخصصة لعموماته، مقيدة لإطلاقاته. فإذا كان الحال هكذا، وهو كذلك يقيناً، فما الفائدة من حفظ القرآن وحده؟! ولو لم تكن السنة محفوظة كذلك، وكان الوحي المتلو، أي القرآن، هو وحده المحفوظ، لما تمت بذلك نعمة، ولا حسنت به منة، ولا قامت لله على عباده حجة، وكان حفظه مع ضياع بيانه، كضياع عينه سواء بسواء، ولا فرق.
فالسنة النبوية الشريفة محفوظة، قطعاً، بجملتها إلى يوم القيامة، فلا يجوز أن يضيع منها شئ، ولا أن يدخل فيها ما ليس منها على نحو لا يتبين، أو لا يتميز أبداً. ولا يجوز أن يحفظ المنسوخ أو المجمل أو العام أو المطلق، ويضيع الناسخ أو المفسر أو المخصص أو المقيد!
ولما كانت أدلة القرآن القاطعة، والسنة المتواترة قد برهنت على وجوب قبول خبر الثقة الواحد في البلاغ، والنذارة، والشهادة، والبيان، وبينت أن هذه هي كيفية تلقي العلم، ورواية السنة إلى يوم القيامة، كما انعقد عليه إجماع الصحابة المتيقن، كما فصله العلماء في كتب علوم التوحيد، وعلوم أصول الفقه، وعلوم الحديث، لذلك وجب قبول ما رواه الثقات الآحاد، بعضهم عن بعض متصلاَ، ما دام ذلك النقل سليماً من الشذوذ والعلل، حسب قواعد وضوابط ذلك العلم الشريف!
لا يقولن قائل أن الثقة ليس بمعصوم من الكذب، والوهم، والخطأ، فلا بد من نقل التواتر فحسب، الذي تقتضي ضرورة العقل التسليم بثبوته، لا يقولن ذلك قائل، لأن الله تكفل بحفظ الذكر، مع أمره بقبول رواية الآحاد الثقات، وهذا يقتضي ضرورة: أنه، جل جلاله، قد تكفل بفضح من كذب على النبي، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، ولو مرة واحدة، وضمن تيسير الإمارات والقرائن التي تكشف، لا محالة، وهم الواهمين في الرواية، وأخطاء المخطئين في الحديث: من مخالفة غيره من الثقات، وهذا هو الشذوذ، أو بقوادح خفية، تسمى العلل، أصَّلها أهل الصنعة بتوفيق الله، ومنته، فأسسوا علما كاملاً ضخماً متكاملاً، تفردت به الأمة المحمدية. وسوف ترى في ثنايا هذا الكتاب، وفي الملحق المخصص لدراسة الأسانيد، نماذج قليلة لدقة هذا العلم الشريف، وكيفية تطبيقه، ودرجة الحيطة في التصحيح والتضعيف ونقد الرجال، التي قد تصل إلى حد التقعر والغلو أحياناً!
كما أن ضرور ة التاريخ تثبت أيضاً أن السنة بمجملها إنما نقلت هكذا: روايات آحاد مسلسلة إلى منتهاها، مع التحقيق والتمحيص الذي قام به علماء الحديث، ولم تنقل بغير هذه الكيفية أصلاً، وجب أن تكون هذه الكيفية هي التي أختارها الله لحفظ السنة، بوصفها بعض الذكر. فلا بد أن تكون السنة بمجملها محفوظة بحفظ الله لها.
فالسنة النبوية، في جملتها، محفوظة لا شك، كما دلت عليه الأدلة اليقينية المذكورة أعلاه، وغيرها مما أفاض العلماء في بسطه، وبيانه، وتأصيله في مواضعه. وهي تتمثل في الأحاديث الثابتة الصحاح، وهي حجة يقينية قاطعة كالقرآن، والسنة المتواترة، سواء بسواء!
واللغة العربية محفوظة كذلك كحفظ الذكر، أو أشد، لأنها وإن كانت ليست من الذكر لأنها ليست منزلة تنزيل القرآن والسنة، إلا أنها شرط ضروري لفه الذكر، أي فهم القرآن والسنة. فالقرآن والسنة لا تفهم، ولا قيمة لها بدون العربية، لذلك لا يتصور أن يكون الذكر محفوظاً بدون حفظ اللغة العربية. إذا لا بد من الجزم بأن الله قد تكفل بحفظ اللغة العربية أيضاً عندما تكفل بحفظ الذكر. فاللغة العربية، نحواً وصرفاً ولغة وبياناً وبديعاً وبلاغة، محفوظة كحفظ القرآن والسنة، أو أشد.
وهذا هو الذي وقع تاريخياً بالفعل، وهو موضع إجماع المسلمين وغيرهم. وحتى غلاة المستشرقين والمنصرين من أمثال جولتسيهر وشاخت الذين زعموا أن السنة النبوية كلها زائفة موضوعة، لم يصدر منهم أي شئ يطعن في حفظ اللغة العربية، ولو فعلوا لافتضح أمرهم، ولصنفهم الناس على الفور في عداد المجانين والمعتوهين، وهو، وايم الله، على كل حال، التصنيف الحق، اللائق بهم، والمناسب لهم ولأمثالهم.
u فصل: لمحة خاطفة عن تدوين السنة
ولعلنا نلمح تلميحاً مختصراً سريعاً إلى الكيفية التي تم بها تدوين السنة الشريفة، وذلك لأن الكثير من عوام الناس، بل من خواصهم، وكذلك أدعياء «العلم» من المستشرقين، ومقلدتهم من «القرآنيين»، ظنوا أن استخدام لفظ التحديث في أغلب طرق الحديث النبوي، أي قول المحدث: «حدثنا» أو «حدثني»، يدل أو يقتضي أن تكون السنة النبوية إنما نقلت مشافهة، من غير كتابة ولا تدوين، حتى بدأ تدوينها فيما يسمَّى بـ«عصر التدوين»، عندما نشر الإمام مالك موطأه، وأصدر الحمادان والسفيانان وسعيد بن أبي عروبة، ومعمر بن راشد، وغيرهم، سننهم ومصنفاتهم الأولى، وذلك بعد إلحاح الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور عليهم بتعاطي ذلك والتعجيل به، كما هو في تاريخ الطبري.
هذا كله وهم لا حقيقة له. بل الصحيح أن «التدوين» كتابة بدأ في العهد النبوي الشريف، فقد كتب عبد الله بن عمرو بن العاص صحيفته، التي كان يسميها «الصادقة»، والتي اشتملت على أكثر من ألفي حديث، من في النبي. صلى الله عليه وعلى آله وسلم، مباشرة. وكان يحافظ عليها أشد المحافظة في صندوق مغلق، لا يخرجها إلا للمراجعة أو الإملاء على التلاميذ، وقد ورث أبناؤه وحفدته تلك الصحيفة، وقد سبق قريباً اعتراض قريش على كتابته، ومشاورته للنبي، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، في الموضوع وإقراره له على كتابة كل ما يسمع.
وهناك صحيفة إمام الهدى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، التي كان يحافظ عليها معلقة في قائم سيفة. شاملة لأحكام الزكاة، وقواعد دستورية أخرى مهمة، وبعض أحكام «صحيفة المدينة» الدستورية الشهيرة، كما هو محرر في كتبنا: (طاعة أولي الأمر: حدودها وقيودها).
وهناك صحائف عدة أملاها أبو القاسم، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، لغير واحد من ولاته عند تنصيبهم حكاما أو قضاة أو جباة زكاة في البعيد من المناطق تشمل عادة أحكام الزكاة وتفاصيل مقاديرها، مع وصايا أخري، وأحكام عامة، وتكاليف وتوجيهات معينة فمن ذلك: صحيفة عمرو بن حزم الأنصاري، الذي استعمله النبي، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، على نجران، وصحيفة أنس، عندما استعمله النبي، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، على زكوات البحرين، وغيرهما.
وعندما عجز أبو شاة، وهو رجل من أهل اليمن، أن يحفظ، عن ظهر قلب، خطبة النبي العصماء التي ألقاها يوم الفتح المكي المجيد، اشتكى ذلك إلى سيدي أبي القاسم، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، فأمر الحفاظ المتقنين الأثبات، الذين كانوا يحفون به، ولا يغادرون رفقته، بأن يكتبوا لأبي شاة: فهذه صحيفة أبي شاه.
وعندما عاد حافظ الإسلام وراويته الأول أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر من البحرين، التي كان فيها قائما ببعض أعمال الولاية ومعاوناً لواليها العلاء بن الحضرمي، إلى المدينة في أول خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فما كان من هذا إلا أن اشتد في محاسبته، فضربه، وصادر ماله إلا ما كان عطاءً ثابتاً، كما أثبتناه في الملحق في الفصل المعنون:(فصل: ضرب أبي هريرة، وانتزاع ماله)، فاعتزل أبو هريرة الأعمال العامة، فلم يقبل من عمر بعد ذلك عملاً، وأقبل على تعلم الكتابة والقراءة حتى أتقنها، وحفظ القرآن، وكتب محفوظاتة عن النبي، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، ولعلها تنوف على أربعة آلاف حديث. ثم خصص جزءً من كل ليلة لمراجعتها، وتثبيت حفظها، حتى توفاه الله. وقد وردات روايات متعددة تفيد مراجعنه لها عند شكه في بعض المحفوظ، وهي وقائع نادرة جداً لتمتعه، رضي الله عنه، بحافظة جبارة. هذه كتابة مبكرة جداً في حدود عشر سنوات من تاريخ السماع مباشرة، من المستمع المتلقي نفسه.
وصحيفة جابر بن عبد الله الأنصاري معروفة مشهورة وكانت تحتوي نحواً من خمسمائة حديث نبوي شريف. إلا أننا لا نعلم هل كتبها من في النبي، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، مباشرة فور السماع والمشافهة، كما فعل عبد الله بن عمرو بن العاص، أم كتبها بعد وفاة النبي، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، كما فعل أبو هريرة، وهذا هو الأرجح.
هذا بعض ما كتب من الحديث النبوي الشريف فوراً أو بعد مدة يسيرة من السماع المباشر، وهو شطر كبير من الحديث النبوي الشريف، لعله يبلغ الثلثين مما هو في أيدينا من المتون، وهو بالقطع فوق النصف مما هو في أيدينا الآن.
نعم: كان الغالب على عهد الصحابة هو الحفظ والنقل مشافهة، وهذا هو الحال بالنسبة للمخضرمين، الذين فاتهم شرف الصحبة، ولكنهم أدركوا الجاهلية والإسلام، وكذلك الحال الطبقة الأولى من الرواة بعد الصحابة أي كبار التابعين. كما كان يكثر في هذه الطبقة التحديث في المناسبات، والتعليق على النوازل، والفتوى، بالإضافة إلى حلقات الدرس، وجلسات العلم المخصصة لرواية الحديث النبوي الشريف.
ولكن حلقات الدرس، وجلسلت التحديث المخصوصة، وكتابة الحديث في مذكرات خاصة، يكتب كل عالم وطالب علم لنفسه، وإملاء الشيخ على التلاميذ، أو قراءة تلميذ جيد الإلقاء، جهوري الصوت من مذكرة الشيخ، والشيخ يتابع ما يقرأ في نسخته، أو من ذاكرته، وبقية الحضور يكتبون، كل ذلك أصبح السمة الغالبة في طبقة أوساط التابعين وصغارهم. بل إن المكتبة الخاصة لبعض كبار المحدثين كانت تنقل معه على عدة أباعر، كما هو مشهور عن الإمام محمد بن شهاب الزهري، وهو من طبقة صغار التابعين (وهي الطبقة التي أدركت بعض من تأخرت وفاته من صغار الصحابة)، حيث كان هذا يراجع كتبه دوما إذا خلى بنفسه، حتى تضجرت زوجه من ذلك، وقالت ما معناه أن تلك اللكتب أشد عليها من الضرائر، أو كلاماً هذا معناه.
كما أن الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه، بدأ عملية كتابة وجمع للحديث، وخاصة حديث عمرة بنت عبد الرحمن، راوية أم المؤمنين عائشة، وأمر قاضي المدينة أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، حفيد عمرو بن حزم عامل النبي، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، على نجران، وهو من سادات التابعين: إمام فقيه، ومحدث ثقة، بمباشرة ذلك بنفسه، وذلك في العام 100 هـ، أو حواليه.
وبنت الطبقات التالية، طبقات كبار الأتباع وأوساطهم، على هذا الأسلوب وعمقته فأصبحت الرواية علماً «أكاديمياً»، وأصبحت لجلسات التحديث والإملاء آداب وإجراءات، وتسجيل للحضور، وحصول على التواقيع، ...إلخ. وقلت الرواية العفوية، ولم يعد يعتد بما يرويه الوعاظ، والقصاص، وخطباء الجمعة إلا إذا كانت مسندة من محدث راسخ القدم، وهذا قليل جداً على كل حال.
إذا كان هذا هو الحال، وهو يقيناً كذلك، فما معنى لفظة أو مصطلح: «عصر التدوين» آنفة الذكر؟! المعنى يتضح فوراً إذا سمينا ذلك العصر باسمه الصحيح: «عصر النشر والوراقين»، ولعلنا نزيد هذا إيضاحاً فنقول:
مع أواخر القرن الهجري الأول وبداية القرن الهجري الثاني انتشرت صناعة الورق في العالم الإسلامي من موطنها الأصلي في سمرقند، التي أخذ أهلها ذلك من قبل من أهل الصين. وما كاد ثلث القرن الثاني ينصرم، وأمر الدولة العباسية يستتب، إلا وصناعة الورق بجودة عالية وأثمان معقولة قد انتشرت في كل مكان، وأصبح نشر الكتب وبيعها على الجمهور بأسعر مقبولة من أوساط الناس أمراً عادياً، وانتشرت بالفعل كتب الشعر والأدب والعربية، وكتابات الأدباء من أمثال ابن المقفع، وترجمات كليلة ودمنة، وغيرها من الأدب الفارسي والهندي. وهكذا نشأت مهنة «الوراق»، وهو الذي يوظف جهازاً كاملاً من النساخ والمراجعين يقوم بنسخ الكتب بأعداد وفيرة، تعرض للبيع على العامة. أي أن «الوراق» في الصطلاح القديم هو «الطابع والناشر» في اللفظ الحديث.
لكن علماء الحديث لم يرحبوا بذلك لأن ما ينتجه «الوراق»، على جودته، وقلة أغلاط النساخ فيه، لا يصل في الوثاقة إلى مرتبة ما يتلقاه التلميذ من شيخه إما إملاءً أو عرضاً، فخشوا أن تضيع أصول الرواية المنضبطة المسندة المتشددة، وتنتشر النسخ المحرفة أو المزورة، كما حدث عند أهل الكتابين السابقين: اليهود والنصارى. ولكن أبا جعفر المنصور لم يقتنع بذلك وأصر على أن من حق عوام المسلمين، من غير المتفرغين لعلوم الحديث، الحق في الاطلاع على الحديث النبوي، واقتناء كتبه في مكتباتهم الخاصة. أما طلبة العلم فأمامهم المحدثون المعتبرون يتلقون منهم مباشرة، أو يصححون ما اشتروه من نسخ الوراقين بالقراءة أو العرض على علماء الحديث المسندِين.
قلت: وقد أصاب أمير المؤمنين أبو جعفر في ذلك فإن الرواية المسندة المنضبطة استمرت لعدة قرون بعد ذلك، واستمر جمع السنن فجاءت بعد موجة النشر الأولى، التي يقع فيها الموطأ، وما ألفه السفيانان: سفيان الثوري وسفيان بن عيينة، والحمادان: حماد بن زيد بن د رهم وحماد بن سلمة بن دينار، وسعيد بن أبي عروبة، وغيرهم، ويمكن تأريخها حول عام 145 هـ،
موجة ثانية: فيها مصنف عبد الرزاق، وسنن الحميدي، ومسند الطيالسي، ومؤلفات الواقدي، وغيرهم، وهي حوالي العام 190 هـ،
وموجة ثالثة: اشتملت على المسانيد والجوامع الكبرى: مسند أحمد بن حنبل، ومسند إسحاق بن راهويه، ومسند بقي بن مخلد في الأندلس، ومصنف بن أبي شيبة، وسنن سعيد بن منصور، وطبقات بن سعد، وسنن الدارمي ولعلنا نؤرخها حوالي: 230 هـ.
وفي موجة رابعة: حوالي العام 250 هـ جاءت الصحاح المباركة: البخاري ومسلم، ومعهما أو بعدهما بقليل سنن أبي داود، والترمذي، وابن ماجه، وكذلك مسانيد أبي يعلى والبزار، ثم سنن النسائي.
بهذا نضج جمع الحديث النبوي ونشره فلم يعد ثم ما يستدرك إلا قليلاً، ولكن الجمع والتدوين استمر في الموجة الخامسة: معاجم الطبراني، ثم صحيح ابن حبان. فسنن الدارقطني، فمستدرك الحاكم، وكتب الرجال التي تكثر من ذكر مروياتهم بأسانيدها مثل «الكامل في الضعفاء» للإمام ابن عدي، وغيرها. وأكثر هذه الكتب والمصنفات قد انتشر في الآفاق، وكثرت نسخه حتى أصبح منقولاً نقل تواتر لا تضر معه أغلاط النساخ، لأنها، بدون شك، ممكنة التصحيح، ولا تزوير المزورين، لأنها مفضوحة لا محالة.
ومع ذلك بقيت أحاديث يسيرة، وطرق أخرى لأحاديث معلومة لا تجدها إلا في ثنايا الموجات التالية من كتب الفقه وأصوله، وكتب الحديث، وكتب التواريخ ونقد الرجال، ومن أهم تلك المصادر: «الإحكام في أصول الأحكام»، و«المحلى» وكلاهما للإمام المتقن الحجة أبي محمد علي بن حزم، و«تاريخ بغداد» للإمام الكبير الخطيب البغدادي، وغيرها. ولعل ذلك كله تم في حدود 450 هـ.
واستمرت رواية الحديث بعد ذلك برواية كتبه في جلسات الإملاء والتحديث حتى القرن التاسع الهجري في جميع أنحاء العالم الإسلامي تقريباً، وما زال بعض ذلك متصلاً في الديار الهندية، وفي المغرب الأقصى إلى ساعة كتابة هذه السطور.
وفي هذه الأيام، في عصرنا هذا، تم إدخال أكثر تلك الكتب القيمة في الحاسوب، هذا حفظ جديد، وإن كانت بعض تلك النصوص ليست على أعلى درجات النظافة، ولم تستند بعد على أفضل المخطوطات، إلا أن ذلك سيكون إن شاء الله، في القريب من مستقبل الأيام، شيئاً فشيئاً، بجهود طلبة العلم، والمحققين من الباحثين، الذين انتخبهم الله لهذا الشأن.
وحال السيرة النبوية، لا سيما العهد المدني منها الذي حفل بالمغازي، هو كحال الحديث أو أفضل، خلافاً لما يظنه بعض الجهال، فقد بدأ التصنيف فيها، غالباً تحت مسمَّى «المغازي» مبكراً، قبل التصنيف في السنن والمسانيد بمدة طويلة، ونشر هذا كذلك على عامة الناس مبكراً. هذا هو الواقع التاريخي، المطابق لما عرف عوام الناس به من حب السير والقصص والتواريخ، وتفضيلهم ذلك على الأسلوب العلمي «الجاف» الذي تتسم به كتب السنن والمسانيد. بل إن عقد حلقات مخصوصة لـ«المغازي» بدأ مبكراً في عهد الخلفاء الراشدين، لشحذ همم الجنود، وتحريض المؤمنين على الجهاد، وكانت تلك الحلقات تسمَّى حلقات «القص»، يتحدث فيها «القصاص».
وقد ألفت «مغازي» مستقلة في عهد مبكر، فمن ذلك «مغازي عروة» من تأليف الإمام التابعي الكبيرعروة بن الزبير بن العوام، رضي الله عنهما، المتوفى في أواخر القرن الهجري الأول، وهي مروية من عدة طرق. وقد طبعت مؤخراً بعناية فضيلة الشيخ المحدث العلامة محمد مصطفى الأعظمي، حفظه الله، طبعة جيدة مقارنة لبعض طرق روايتها.
وكذلك ألف الإمام التابعي أبان بن عثمان بن عفان، رضي الله عنهما، في «المغازي»، ولكنه أخطأ خطأً عظيما بعرضها على الطاغية المجرم الوليد بن عبد الملك بن مروان، الذي استنكر ما فيها من الحقائق «المسيئة» لبني أمية، فأمر بتمزيقها! ولم تتجه همة أبان بن عثمان بعد تلك الصدمة لإعادة كتابتها مرة أخرى، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
ولا شك أن غير هؤلاء كثير قد ألَّف في «المغازي» وصنف، كما فعل الإمام الكبير محمد بن شهاب الزهري، بعد تلك الطبقة مباشرة، ثم نهض إمام المغازي والسير محمد بن إسحاق بن يسار، المتوفى 150 هـ، فألف سيرته الشاملة الكبيرة فجمع وأوعى، ولكنه ضمنها ما هب ودب، وكثير منه غير ثابت، ثم اخثصرها وهذبها الإمام اللغوي الشهير بن هشام فأصبحت «سيرة بن هشام» تكاد تكون علما على «السيرة النبوية» أو مرادفة للفظة «السيرة» إذا أطلقت هكذا من غير تفصيل أو زيادة بيان.
وما زال التأليف والتنقيح والمراجعة مستمرة حتى هذا يومنا هذا، حتى كتب الشيخ صفي الرحمن المباركفوري، حفظه الله وأثابه، في زماننا هذا سيرته المحققة الرائعة: «الرحيق المحتوم»، التي حصلت بحق على الجوائز العالمية، وترجمت إلى اللغات الكثيرة، فلله الحمد والمنة.
وقد يقول قائل: فلم لا يحتج بجزئيات «السيرة» في قضايا التشريع والعقيدة، مع كونها تعطي صورة تاريخية صحيحة في الجملة؟! وجواب ذلك أن طريقة التأليف التاريخي ترغم المؤلف، عادة، على حذف الأسانيد، وتركيب الروايات المختلفة في سياق واحد متماسك: هذا ينتج تأريخا وقصصا جيداً، أي صورة كلية صحيحة، لكنه لا يحدث يقيناً بثبوت جزئية معينة على النحو الذي تقوم به الحجة، وتطمئن إليه النفس.
لذلك قال علماء الحديث، بطريقتهم الصارمة المتشددة: السير والتاريخ لا أصل لها، وهم لا يقصدون إلا أن مفرداتها لا تثبت مفردة مفردة على نحو تقوم به الحجة في العقيدة والتشريع. تماما كما أن أقوال الصحف، وروايات محطات الإذاعة والتلفاز وإن كانت ربما أعطت صورة الحدث العامة، إلا أنها لا تقبل عادة في الترافع القضائي، بل لا بد من شهود العيان، والأدلة المادية المحسوسة، والوثائق المعتبرة أو الرسمية، وصمود كل ذلك للنقد، والاستجواب «التقاطعي» (cross examination)، والخلو من المعارضة، وإلا فلا.
وأمور العقيدة والشريعة هي قطعاً، بلا شك، أهم من ملكية منزل أو ثبوت دَين في ذمة، والتشدد فيها أولى وأوجب!
هذه لمحة خاطفة، في أسلوب أشبه بالبرقيات، وإلا فإن تفصيل ذلك يحتاج إلى المجلدات، ويكفي من ذلك الرسالة التاريخية القيمة التي حصل بها فضيلة والدنا الشيخ المحدث العلامة الأستاذ الدكتور محمد مصطفى الأعظمي، حفظه الله، على درجة الدكتوراه من جامعة «كامبريدج» في بريطانيا، أتى فيها على بنيان «المستشرقين» من القواعد، فخر عليهم السقف من فوقهم، فمزق مزاعمهم، وأبطل نظرياتهم، ومزق دعاويهم الكاذبة تمزيقاً، بل طحن دعاويهم وافتراءاتهم طحناً، فلله الحمد والمنة.
وليس هذا فحسب، بل إن أكثر المنصفين من المستشرقين قد تراجعوا عن مقولات جولتسيهر وشاخت السخيفة. وما زالت الأبحاث الرصينة، والمؤلفات تتوالى بتقوية السنة عموماً، والتأكيد على ثبوتها في الجملة بأدلة أكاديمية بحتة، من غير إحالة إلى البرهان العقائدي الذي ذكرنا أعلاه. وكلما تطاول الزمن لم تزل الأدلة على صدق القرآن، وأنه من عند الله تتوالى تترا، كما وعد الله، جل جلاله، وسما مقامه، بذلك عندما قال قولاً كريماً: }سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ vأَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ{، (فصلت؛ 41:53-54). نعم: لقد وقع هذا في زمن قريش، وبعدها، وفي زمننا هذا، ولا يزال يتحقق شيئاً بعد شئ، يوماً بعد يوم إلى يوم القيامة الكبرى: }أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ؟!{، (فصلت؛ 41:53).



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق