بعض ما يجوز على الأنبياء، وما لا يجوز عليهم

ولعله من المناسب هنا، بناءً على ما سبق، تلخيص ما يجوز للأنبياء، وبخاصة نبينا محمد، عليه وعلى اله الصلاة والسلام، وما لا يجوز من جوانب القصور الإنساني الطبيعي:
(1) يجوز عليه، وعلى إخوانه من الأنبياء السابقين، ما يجوز على سائر البشر من من ظهور العدو وانتصاره عليهم، والتعرض للأذى، والإهانة، والتعذيب، والسجن، والإخراج من الوطن، وقطع الأطراف، والقتل، وغيره. وقد وقع كثير من ذلك عياناً، ومقتل يحيى بن زكريا، صلوات الله وسلامه عليهما، إرضاءً لعاهرة، مشهور معروف! وعصم بعض الأنبياء من ذلك: مثل موسى وهارون، صلوات الله وسلامه عليهما، من أول أمرهما، ونبينا محمد، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، في أواخر العهد المدني عندما عُصِم أخيراً من الناس: فصرف الحرس، وكان قبل ذلك يُحْرَس، وقد تعرض قبل ذلك للأذى فرجمه سفلة ثقيف بالحجارة حتى أدموه، وألقى سفهاء قريش على ظهره الشريف القذر، وشج رأسه، وكسرت رباعيته يوم أحد، إلى غير ذلك من أنواع الأذى، قبل عصمته من الناس!
(2) ويجوز عليه، وعلى إخوانه من الأنبياء السابقين، ما يجوز على سائر البشر من المرض في البدن بكل أنواعه، خفيفاً أو شديداً، منفراً أو غير منفر، إلا ما يمن الله على بعضهم بالسلامة منه، كأمن نبينا محمد، صلوات الله وسلامه عليه، أن يصاب بذات الجنب، ونحوه. بل لعل ابتلاء الأنبياء بالوعك والألم أشد، حتى يقتدي بهم، ويتسلى بمصابهم أشد المبتلين.
أما مرض العقل أو النفس فلا يجوز عليهم، لأن ذلك يقتضي «رفع القلم» وسقوط التكليف، ولأن النبوة تقتضي، ضرورة، سلامة العقل والنفس، بل وكمالهما!
(3) ويجوز عليه، وعلى إخوانه من الأنبياء السابقين، بداهة سائر المصائب الكونية من فقد الأهل والأحبة، وذهاب الأموال، وضيق ذات اليد، بل والفقر، وقلة الناصر، وخذلان الأهل والعشيرة، بل لعل ابتلائهم بذلك أشد من ابتلاء غيرهم به، فيكون في ذلك العزاء لأهل البلاء من غيرهم، والقدوة في الصبر الجميل بِمَثَلِهم.
(4) ويجوز عليه، وعلى إخوانه من الأنبياء السابقين، إدراك الواقع المحسوس مباشرة، أو المنقول إليهم رواية، على خلاف حقيقته، التي هو عليها في نفسه، بكل سبب ممكن يحدث به ذلك عند سائر البشر:
(أ) كخداع حواس، أو تخييل بشعوذة، أو خفة يد أو سحر: }فخيل إليه من سحرهم أنها تسعى{، وكذلك لمرض بدني يفسد ذوق الطعام، أو الاحساس بالحر والبرد.
(ب) أو لكذب الرواة أو خطئهم، وكذلك الشهود في مجلس القضاء، أو تزوير الوثائق، أو بسبب الأيمان الكاذبة، وغيره. أو لعدم وجود البينات الازمة لإثبات الحق، مع ثبوته في نفس الأمر في علم الله، وما شاكل ذلك.
فهذا أفضل رسل الله، خاتمة أنبياء الله، المعصوم بعصمة الله، عليه وعلى آله صلوات وتسليمات وتبريكات من الله، لم يعصم من أن يخدع بكذب كاذب، أو يحكم بالظاهر بناءً على شهادة فاجر، أو حسن بيان محاجج جدلي ماهر:
v لما ثبت من قوله، عليه وعلى آله الصلاة والسلام: «إنما أنا بشر، وإنه يأتيني الخصم، فلعل بعضكم أن يكون أبلغ (وفي رواية: ألحن) من بعض، فأحسب أنه صدق، فأقضي له بذلك! فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو فليتركها»، كما هو في حديث غاية في الصحة، أخرجه البخاري، وهذا لفظه، والإمام مالك، وأحمد، وأبو داود وغيرهم بأسانيد غاية في الصحة، تقوم بها الحجة اليقينية القاطعة. وهذا الحديث يؤكد عدة حقائق في غاية الأهمية أن الباطل قد يحسن صاحبه عرضه، والتدليل عليه، حتى ينخدع به المعصوم، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، نفسه، فمن باب أولى قد يحصل بلا شك لمن هو دونه من الناس.
لذلك كان إخبار الأنبياء عن أمور «الدنيا»، أي الواقع المحسوس، خواصه العامة، وحوادثه العينية، كإخبار سائر البشر محتملاً للصواب والخطأ، لا سيما ما كان بصيغة الشك أو الظن: كقوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، عن تأبير النخل: «ما أظن ذلك يغني شيئاً» أو «لو لم يفعلوا لصلح»، ونحوه.
وكثير مما يسميه الناس زوراً وبهتاناً «الطب النبوي»، ونحوه. وهذا الباب يحتاج إلى تدقيق واحتياط شديد حتى لا ينسب إلى الوحي ما ليس منه، فيكون كذباً، وقولاً على الله بغير علم، وهو جريمة شنعاء؛ ولا يخرج منه ما هو منه: فيضيع علم صحيح، وخير كثير.
(5) ويجوز عليه، وعلى إخوانه من الأنبياء السابقين، ترك الأنسب من المباحات، واختيار غيره، وكله مباح محض، كاختيار موقع معين للقتال، أو اسلوب إداري معين، أو استخدام آلة دون آلة أخرى، وغيره أنسب لتحقيق الغرض، وقد يوفق أهل الخبرة من غيرهم إلى ما هو أنسب، فيرجع النبي إلي قولهم، ويترك اختيار نفسه، كما كان من الحباب بن المنذر في موقعة بدر الكبرى، وكلامه المشهور عن تغيير موقع الجيش. ولا شك أن النبي، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، يبذل الجهد، ويستفرغ الوسع، كسائر عقلاء البشر، بل أشد، للوصول إلى الأنسب في ذلك، وقد يسمّي بعض الناس ذلك اجتهاداً، وهو كذلك بلا شك لغة، وليس هو الاجتهاد بالمعني الاصطلاحي، الذي لا يجوز على النبي، كما سيأتي.
(6) قد يقع منه، ومن إخوانه من الأنبياء السابقين، ما هو خلاف الأولى شرعاً، أي فعل ما هو مكروه شرعاً، أو ترك ما هو مستحب شرعاً، لأسباب منها:
(أ) لبيان الحكم التشريعي، بعد ورود نهي، أي أنه مكروه: يثاب تاركه، ولا يعاقب فاعله، وليس حراماً. وكذلك بالمثل بالنسبة للمستحبات، ولا يكون ذلك كله إلا بوحي من الله، معصوم.
وحكمة ذلك، والله أعلم، أن من البشر أصنافاً من أهل الغلو والتنطع لا يقنعهم إلا البيان العملي مقروناً بالبيان اللفظي، كما أن ثمة أنواع من الأحكام لا يكتمل بيانها إلا بالفعل، لا باللفظ.
(ب) لغلبة جانب الرحمة، كفعل النبي، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، في مسألة أسرى بدر؛
(ج) أو لغلبة جانب الحرص على مصلحة الدعوة، وإيصالها إلي أهل المنعة والقوة، كفعله في قصة: }عبس، وتولَّى{.
هذان النوعان، (ب) و(ج)، وكذلك:
(1) ما قد يقوم بنفسه الشريفة من الهم بغير الحق،
(2) والدعاء على من لا يستحق على عادة العرب، كقول: عقرى، حلقى، ثكلته أمه، تربت يداه، ونحوه؛
هذه الأنواع هي التي أتى العتاب من الله في بعضها، وسمّاها الله في حق نبيه «ذنوباً»، ثم تفضل الله بالغفران الشامل لما تقدم منها وما تأخر، أخيراً، بعد الحديبية، إذ قال: }إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً v ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر، ويتم نعمته عليك، ويهديك صراطاً مستقيماً v وينصرك الله نصراً عزيزاً{.
لا يقال هذه ليست ذنوباً، وإنما هي مكروهات، يثاب تاركها، ولا يعاقب فاعلها، لا يقال ذلك لأن هذا هو حكمها بالنسبة لأمته، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أما هو فمفترض عليه تركها، كما افترض عليه قيام الليل من دون أمته، وخصوصيات أخرى. وهذا هو موضع الشبهة التي أسلفنا الإشارة إليه، والذي ظن بعض الحمقى أنه يوجب وقوع الصغائر منه، بل والكبائر كما زعم من لا عقل له من الخوارج كذي الخويصرة التميمي، وأشباهه من الملاعين الهلكى. ولكن المغبون من كانت دابته، التي يركبها، أكبر منه عقلاً، وأكثر منه لله ذكراً، وأبلغ منه تعظيما لمقام الألوهية السامي الرفيع، ومقامات الأنبياء والرسل، وأقل منه جفاءً!
(7) ولا يجوز على النبي، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، أن يفعل حراماً، صغيرة كان أو كبيرة، ولا أن يترك واجباً، صغيراً كان أو كبيراً البته. بل إن فعله برهان يقيني قاطع على عدم الحرمة، ونحتاج إلى بيان آخر لمعرفة كونه مكروهاً، أو مباحاً، أو مستحباً، أو واجباً، كما أسلفنا؛ وتركه برهان يقيني قاطع على عدم الوجوب، ونحتاج إلى بيان زائد لمعرفة كونه مستحباً، أو مباحاً، أو مكروهاً، أو محرماً. ولم يظهر لنا برهان عقلي أو شرعي لهذا بالنسبة لإخوانه من الأنبياء السابقين، بل لعل قصة يونس، وإباقه إلى الفلك، تثبت أن الأمر بالنسبة لهم ليس هو كما كان بالنسبة لمحمد بن عبد الله، خاتمة أنبياء الله، عليه وعلى آله صلوات وتسليمات وتبريكات من الله.
(8) كما لا يجوز أن يكون خبره، في غير «أمور الدنيا»، إلا حقاً، وكذلك خبره عن الأمم السابقة، والوقائع الماضية، من غيرة رواية أو إسناد أو شهادة من غيره ينقلها هو، لا بد أن يكون حقاً جاء به الوحي؛ وكذلك المستقبل الذي لم يقع بعد، فهو غيب محض، لا يعلمه ذاتياً إلا الله، ولا يُعْلَم إلا بتعليم من الله، وإلا جاز أن يتطرق الخلل، كذباً كان أو خطأً، إلى الوحي: فتسقط حجة الله على العباد، وتفقد الرسالة معناها، ويصبح عدمها ووجودها سواء.
(9) وكذلك قوله الإنشائي، بالأمر والنهي، لا يكون إلا وحياً، لأنه لا ينطق عن الهوى، ولا ينذر إلا بالوحي، فلو جاز أن يكون أي واحد من أمره ونهيه من عند نفسه، وليس من عند الله، جاز ذلك في الكل، وفقدت الرسالة معناها، وأصبح كلام الله كذباً.
(10) كما لا يجوز عليه أن يسكت على منكر، لأنه مأمور بالبلاغ، والأمر بكل معروف، والنهي عن كل منكر، لذلك كان سكوته عن أي فعل، إقرار لذلك الفعل ضرورة، فلا يكون حراماً البتة، ثم نحتاج إلى بيان آخر زائد لمعرفة كونه مكروهاً، أو مباحاً، أو مستحباً، أو واجباً.
(11) ولا يجوز عليه الاجتهاد، أي استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، لأنه هو صاحب النص: قوله نص، وفعله نص، وإقراره نص. فهو المشرع، أي الذي ينشيء الأحكام إنشاءً، بوحي الله وعصمته، وغيره يستنبطها استنباطاً!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق