تعريف «عبادة الله» شرعًا

بـاب
تعريف «عبادة الله» شرعًا

«العبادة»، بمعناها العرفي الاصطلاحي الضيق، هي، كما أسلفنا، توجيه الأقوال والأفعال، الظاهرة والبانة، الدالة على التعظيم والمحبة والخضوع لمن يعتقد أنه «إله»، أي من يعتقد فيه استحقاقها لأمر ذاتي فيه. فليس السجود والركوع، والوقوف والقنوت، والصمت والخشوع، والرهبنة والصيام، والطواف والسعي، وإطلاق المجامر وإيقاد الشموع، والسمع والطاعة، ليس شيء من ذلك عبادة إلا إذا صرف لمن تعتقد فيه الألوهية، أي من تعتقد فيه صفات معينة تجعله بذاته أهلاً لكل ذلك أو لبعض ذلك.
أما «عبادة الله»، جل وعز، فهي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
وما يحبه الله من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة لا يعرف إلا بالوحي، فلا بد من الرجوع إلى الوحي، وقبوله، وتمام الخضوع والتسليم له. فالعبادة هي إذن شرعاً: تحقيق قوله تعالى: }إن الحكم إلا لله{، اعتقاداً، وقولاً، وعملاً، وهذا يقتضي ضرورة تمام القبول، والخضوع والتسليم لأمر الله ونهيه، ظاهراً وباطناً، ولا يكون ذلك عبادة شرعية مقبولة عند الله، منجية في الآخرة، تحقق الهدف من الوجود وغايته: }وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون{، إلا إذا قام ذلك علي محبة الله ورسله ودينه، وتوقير الله ورسله ودينه.
أو بلفظ آخر: «عبادة الله» هي الطاعة لأوامر الله ونواهيه، فليست هي ذات الركوع والسجود، والقيام والقعود، والذبح والنذر، بل هي «الطاعة للأمر» بذلك: فلا فرق مطلقاً بين قوله: }أقيموا الصلاة{، وقوله: }كتب عليكم القتال وهو كره لكم{، وقوله: }وأحل الله البيع وحرم الربا{. كلها واجبة الطاعة على حد سواء.
وقد أسلفنا في موضع سابق أن جميع أفعال الإنسان الإختيارية هى محل الحكم الشرعي سواء:
(أ) قصد بها محض التعبد، والتقرب الى الله، أي تحقيق قصد أو قيمة «تعبدية»: (الشعائر التعبدية المحضة مثل الصلاة، والذكر، والدعاء، والذبح، والنذر، وتقديم القرابين، والصدقة ... إلخ).
(ب) أو قصد بها تحقيق قيمة «خلقية»: (الأخلاق، مثل الصدق، والأمانة، والكرم، وحتى الرفق بالحيوان).
(ج) أو قصد بها تحقيق قيمة «إنسانية»: (مثل إغاثة الملهوف، وإنقاذ الغريق بموجب إنسانيته، وبغض النظر عن لونه، ودينه، وقوميته، وجنسه)
(د) أو أراد بها الانسان كسبًا «معنويًا» أو «أدبياً»: (كالحصول على المجد، والفخار، والثناء، والشرف والرياسة).
(هـ) أو أراد تحصيل منفعة، أو قيمة «مادية»: (كالنقود، بالتجارة ونحوها).
والفصيلة الأولى من الأفعال، المرقومة (أ)، هي التي جرت العادة السيئة لبعض الفقهاء، لا سيما المتأخرين منهم، على تسميتها «عبادات»، مما ساهم في تضخيم بعض الإشكاليات التي ذكرناها في الباب السابق، حيث ظن بعض الناس أن فيها أمراً ذاتياً يجعلها «عبادات»، ويميزها عن غيرها تمييزاً ذاتياً ماهوياً، كما يتميز «الحجر» عن «الشجرة».
والحق، الذي قررناه آنفاً، أنها أفعال مجردة، من انقباض عضلة وانبساطها، وتحرك مشاعر معينة في النفس، ومن المحال الممتنع أن يكون فيها شيء ذاتي يلزم أحداً بالقول: هذه «عبادة» وتلك لسيت بـ«عبادة»، وإنما هي ممارسات الناس وتعودهم عبر عصور متطاولة التي ربما سببت هذا الوهم، الذي هو من نوع «خداع البصيرة»، تماما كـ«خداع البصر»، والذي يحتاج إلى مجاهدة شديدة لكشفه وفضحه.
ويساعدك على إدراك ذلك، مثلاً، أن «إيقاد الشموع» ليس من شعائر أهل الإسلام التعبدية، في حين أنه يحتل مكانة مركزية في اليهودية والنصرانية، وعلى العكس من ذلك «السجود» يكاد يكون عند المسلمين النموذج العياري لأفعال البدن التعبدية، وهو ليس معروفاً، ولا مصنفاً من العبادات عند اليهود والنصارى، ولا هو جزء من صلاتهم، في حين أن «الذبح» أي «النسك» هو رأس العبادات عند اليهود، وهو عبادة عند المسلمين، وإن كانت ثانوية تمارس في أحايين قليلة، في حين يستقبحها النصارى وينفرون منها!
فإذا تأملت الفقرة السابقة، مع ما سبق تحريره في الباب السابق، انكشفت عن عينيك الغشاوة، ورأيت الحق اليقيني، وهو أنه ليس في تلك الشعائر التعبدية أمر ذاتي جعلها كذلك بوصفها أفعالاً مجردة، وإنما هو أمر الله ونهيه، الذي جعل بعض ذلك شعيرة يتقرب بها إليه في شريعة ما، وجعل البعض الآخر شعيرة يتقرب بها إليه في شريعة أخرى، فقط لا غير، من غير زيادة ولا نقصان.
وكل هذه الأعمال، بشتى فصائلها، محل الحكم الشرعى، والإلتزام بالحكم الشرعي هو الجانب الروحى التعبدى فيها، فإذا أدرك الإنسان أنه متعبد لله في جميع أحواله، والتعبد هنا يعني: القبول، والتسليم، والرضا، والطاعة لأمر الله، المنبنية على تعظيم الله ومحبته، والتزم الحكم الشرعي في جميع أعماله، أصبح روحانيًا عابدًا، مستحقًا على هذا الجانب الروحى التعبدي من الله المثوبة والثناء، وذلك بغض النظر عن نوع الحكم الشرعي، فلا فرق بين إيجاب واجب، واستحباب نافلة، وإباحة فعل، أو كراهية آخر، أو تحريم ثالث، أو تقرير سبب، أو اعتماد شرط أو مانع.
لذلك قال بعض العلماء: (إن العادات تنقلب إلى عبادات إذا صلحت النية). وهذا كلام ليس بدقيق، لأن العادات، أو بلفظ أدق: المباحات، لا تنقلب إلى مستحبات أو واجبات، ولكن وجود «وعي» معين أو «نية» معينة، هو الذي قد يستحق عليه الإنسان المثوبة، بل وربما العقوبة، لا على ذات الفعل، من حيث هو فعل مجرد، الذي هو مباح كما كان، لا ثواب لفاعله أو عقاب عليه، من حيث هو فعل مجرد، وقد فصلنا هذا وأشبعناه تدليلاً وبحثاً في فصل سابق.
u فصل: أقسام العبادة الشرعية
(1) عبادات اعتقادية: وذلك أن يعتقد المسلم أن الله عز وجل هو الخالق الرازق المحيي المميت المدبر لشئون عباده. المستحق للعبادة وحده لا شريك له من دعاء وذبح ونذر وغير ذلك، وأنه الموصوف بصفات الجلال والكمال والكبرياء والعظمة، إلى غير ذلك من أنواع الاعتقاد.
ويشترط أن يكون ذلك الاعتقاد على وجه التعبد والتدين الذي يراد به وجه الله، وليس لأن تلك الأقوال حق في ذاتها، وهي كذلك قطعاً ولا جدال، ولكن لأنها دين يدان الله به، ويتقرب إليه باعنقاده! أي أن يعتبر معتقده هذا قضية دينية شرعيه، وليس مجرد قضية معرفية، أو فلسفية، أو أخلاقية، أو علمية، أو خبرية، أو فنية، أو جمالية، أو ما شاكل.
أي لا يكفي أن يعتقد الإنسان أن ذلك حق مطابق لواقعه فحسب، بل لا بد أن يدين الله بذلك الإعتقاد، ويتقرب إليه به، وإلا كان ذلك مجرد قضية خبرية، أو فلسفية، أو نحوه، ربما أهَّل ذلك القائل به لعضوية أكاديمية أفلاطون الفلسفية في أثينا، أما أن يكون عبادة شرعية فلا. وليس هذا تقولاً منا أو اجتهاداً، بل هو نص قول أبي القاسم محمد بن عبد الله، رسول الله وخاتم النبيين، عليه وعلى آله صلوات وتسليمات وتبريكات من الله، كما هو في حديث عتبان، المشهور، الصحيح، الصريح، الذي أخرجه الشيخان: «فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله»!
وهناك قضية مهمة جداً، لا بد هنا من مراعاتها، وهي أن الله، تقدست أسماؤه، إنما يعبد بما شرع، فلا يجوز من ثم أن يتعبد ويتقرب إليه بمعتقد أو قول لم يشرع اعتقاده، حتى ولو كان ذلك المعتقد أو القول حقاً في ذاته. وقد وقع كثير من أهل القبلة في هذه الورطة فكلما تيقن أحدهم أو غلب على ظنه أن مقولة فلسفية، أو كلامية، أو علمية حق في ذاتها جعلوا اعتقاد ذلك دينا لازماً ورموا المخالف بالكفر أو البدعة، وهم بفعلهم هذا إلى البدعة، وربما إلى الكفر أقرب، وذلك بغض النظر عن صحة المقولة أو بطلانها.
هذا الداء الوبيل استشرى في المتكلمين والفلاسفة خاصة، ولكن لغيرهم ممن ينتسب إلى الفقه أو التصوف، بل ومن المنتسبين إلى السنة والحديث، شناعات مماثلة، بل لعل شرها أعظم، والفتنة بها أكبر، لأن الأمة بهم أوثق، وللاقتداء بهم أقرب، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، نسأل الله العظيم أن يعيد الأمة إلى دينها الحق عوداً جميلاً عاجلاً.
(2) عبادات لفظية: وذلك كالتلفظ بشهادة أن لا اله إلا الله محمدًا رسول الله، وكتلاوة القرآن والدعاء، والأذكار النبوية إلى غير ذلك من أنواع العبادات اللفظية.
(3) عبادات بدنية: وذلك كالقيام والركوع والسجود في الصلاة، وكالصوم وأعمال الحج والهجرة والجهاد إلى غير ذلك من العبادات البدنية.
(4) عبادات مالية: كالزكاة والصدقة وغير ذلك.
(5) عبادات تركية: هي أن يترك المسلم جميع المحرمات من الكفر والشرك، ومن الفسوق، ومن العصيان، وكذلك البدع، امتثالا لشرع الله، وتعظيماً لأمر الله، فهذه منه عبادة تركية.
ويؤجر المسلم على كل فعل وترك بما في ذلك فعل المباحات إذا فعل ذلك على وجه الإمتثال والطاعة لشرع الله، تعظيماً لأمر الله، وابتغاء لوجه الله. ويؤجر كذلك على فعل المباحات، مستحلاً لها بشرع الله، مستعينًا بها على طاعة الله عز وجل.
u فصل : لا يقبل أي عمل إلا بشرطين
من مجموع ما سبق نعلم يقينا أن الله لا يقبل أي عمل من أي عامل إلا بشرطين اثنين أساسيين وهما كما يلى:
الاول: أن يكون العمل خالصًا لله، فلا يبتغي به صاحبه إلا وجه الله.
قال تعالى: }إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق، فاعبد الله مخلصًا له الدين! ألا لله الدين الخالص{، (الزمر؛ 39:2).
وقال تعالى: }قل إنى أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين{، (الزمر؛ 39:11).
وقال تعالى: }قل الله أعبد مخلصًا له ديني{، (الزمر؛ 39:14).
وسيأتي زيادة بيان لهذا عند الكلام عن الرياء، وهذا هو تمام معنى: «أشهد أن لا إله الا الله».
والثاني : أن يكون موافقاً لهدي رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» أخرجه البخاري ومسلم. وفي رواية لمسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»، وهذا هو تمام معنى: «أشهد أن محمدًا رسول الله».
u فصل: فضل التوحيد
v قال الله تعالى: }الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلمٍ أولئك لهم الأمن وهم مهتدون{، (الانعام؛ 6:82). وأخرج البخاري بإسناد صحيح أن ذلك قد شق على الصحابة الكرام فقالوا: (أينا لا يظلم نفسه؟!)، فبين لهم رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم. أن الظلم المقصود في الآية هو: الشرك، وتلا قوله تعالى: }وإذ قال لقمان لا بنه وهو يعظه: يا بنى لا تشرك بالله، إن الشرك لظلم عظيم{.
v وقال تقدست أسماؤه مثنياً على إبراهيم، صلوات الله وسلامه وتبريكاته عليه وعلى آله: }إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً وما كان من المشركين{، (المؤمنون؛ :59). الأمة: الإمام القدوة معلم الناس الخير، ولقد كان كذلك، صلوات الله عليه، عندما كان المسلم الوحيد في عصره؛ القانت: هو المداوم على الطاعة، الملازم لها؛ الحنيف: لغة هو المائل أو المنحرف، وهو هنا المقبل على الله، المعرض المنحرف المائل عما سواه، لا يداهن في دين الله، ولا يبالي في طاعة الله بسخط أعداء الله، ليس على طريقة فقهاء السلاطين وأمثالهم من المفتونين، قاتلهم الله.
v عن عبادة ابن الصامت قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبدالله ورسوله، وكلمته ألقاهاإلى مريم، وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل»، حديث صحيح، أخرجه الشيخان.
v ولهما في حديث عتبان، المشهور، الصحيح: «فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله».
v وعن أنس، عن معاذ مرفوعاً: «من مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، صادقاً من قلبه، دخل الجنة»، حديث صحيح، أخرجه أحمد، والنسائي، وقال الألباني: (إسناده صحيح على شرط الشيخين).
v وعن معاذ رضي الله عنه مرفوعاً: «ما من نفس تموت وهي تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، يرجع ذلك إلى قلب موقن، إلا غفر لها»، أخرجه ابن ماجه، وابن حبان، وأحمد، والحميدي، بإسناد لا بأس به، وهو صحيح ثابت من طرق أخرى.
v وعن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «قال موسى عليه السلام: يارب علمني شيئًا أذكرك وأدعوك به، قال: قل يا موسى: لا اله إلا الله، قال: كل عبادك يقولون هذا؟ قال: يا موسى لو أن السموات السبع وعامرهن، والأرضين السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفة، مالت بهن لا إله إلا الله»، حديث صحيح، رواه أبن حبان، والحاكم وصححه، والترمذي وحسنه.
v وفي مسند الإمام أحمد بن حنبل عن أبي ذر قال: حدثنا الصادق المصدوق، صلى الله عليه وسلم، فيما يروى عن ربه، عز وجل، انه قال: }الحسنة بعشر أمثالها أو أزيد؛ والسيئة بواحدة أو اغفر؛ ولو لقيتني بقراب الأرض خطايا ما لم تشرك بي لقيتك بقرابها مغفرة{»، هذا حديث صحيح، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، قال الذهبي في التلخيص: صحيح، وأخرج أحمد آخره، موضع الاستشهاد، وكذلك ابن حبان، والبخاري في «خلق الأفعال» بأسانيد صحاح وحسان.
v وأخرج الترمذي بإسناد حسن عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: «قال الله: يا بن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي؛ يا بن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي؛ يا بن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة»، قال أبو عيسى الترمذي: (هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه)، وصححه الألباني، وهو كذلك بشواهده.
v وأخرج أحمد، بإسناد محتمل، عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «إن الله تبارك وتعالى، يقول: يا عبادي كلكم مذنب إلا من عافيت فاستغفرونى أغفر لكم، ومن علم منكم أنى ذو قدرة على المغفرة فاستغفرنى بقدرتي غفرت له ولا أبالي! وكلكم ضال إلا من هديت فسلوني الهدى أهدكم! وكلكم فقير إلا من أغنيت فسلوني أرزقكم! ولو أن حيكم وميتكم وأولاكم وأخراكم ورطبكم ويابسكم اجتمعوا على قلب أتقى عبد من عبادي لم يزيدوا في ملكي جناح بعوضة، ولو أن حيكم وميتكم وأولاكم وأخراكم ورطبكم ويابسكم اجتمعوا فسأل كل سائل منهم ما بلغت أمنيته وأعطيت كل سائل ما سأل لم ينقصني إلا كما لو مر أحدكم على شفة البحر فغمس أبره ثم انتزعها: ذلك لأني جواد ماجد وأجد، أفعل ما أشاء، عطائي كلامي، وعذابي كلامي، إذا أردت شيئا فإنما أقول له كن فيكون».
v وفي «المعجم الكبير»: [حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة حدثنا إبراهيم بن إسحاق الصيني حدثنا قيس بن الربيع عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن بن عباس قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «قال الله عز وجل: بن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك؛ ولو أتيتني بقراب الأرض خطايا لقيتك على الأرض مغفرة ما لم تشرك بي، ولو بلغت خطاياك عنان السماء ثم استغفرتني لغفرت لك»]، ولكن هذا إسناد ضعيف بسبب إبراهيم بن إسحاق الصيني، لا تقوم به الحجة، ولا يثبت به الحديث عن ابن عباس، رضي الله عنهما، ولكن المتن صحيح ثابت عن أبي ذر وأنس، رضي الله عنهما.
v وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إن الله يستخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً، كل سجل مثل هذا (وأشار من الأفق إلى الأفق)، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئاً؟! أظلمك كتبتي الحافظون؟! فيقول: لا، يا رب! فيقول: ألك عذر؟! فيقول: لا، يا رب! فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنة، وإنه لا ظلم اليوم! فيخرج بطاقة فيها: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله)، فيقول (الرجل): يا رب! ما هذه البطاقة، مع هذه السجلات؟! فقال (الرب): إنك لا تظلم! قال (أي النبي): «فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة! ولا يثقل مع اسم الله شئ!». هذا حديث صحيح، أخرجه الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. وأخرجه أحمد، وابن المبارك في «الزهد»، والترمذي، وقال: حسن غريب.
v قال أحمد: [حدثنا سريج حدثنا هشيم أخبرنا حصين بن عبد الرحمن قال: كنت عند سعيد بن جبير قال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟! قلت: أنا! ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة، ولكني لدغت! قال: وكيف فعلت؟! قلت: استرقيت! قال: وما حملك على ذلك؟! قلت: حديث حدثناه الشعبي عن بريدة الأسلمي أنه قال: لا رقية إلا من عين أو حمة! فقال سعيد (يعني ابن جبير): قد أحسن من انتهى إلى ما سمع. ثم قال: حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عرضت علي الأمم: فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل، والنبي وليس معه أحد. إذ رفع لي سواد عظيم فقلت هذه أمتي؟! فقيل: هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق، فإذا سواد عظيم، ثم قيل انظر إلى هذا الجانب الآخر، فإذا سواد عظيم، فقيل هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب»؛ ثم نهض النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل، فخاض القوم في ذلك فقالوا: (من هؤلاء الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب؟!)، فقال بعضهم: (لعلهم الذين صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم!)، وقال بعضهم: (لعلهم الذين ولدوا في الإسلام، ولم يشركوا بالله شيئا قط!)، وذكروا أشياء، فخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ما هذا الذي كنتم تخوضون فيه؟!»، فأخبروه بمقالتهم، فقال: «هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون». فقام عكاشة بن محصن الأسدي فقال: (أنا منهم يا رسول الله؟!)، فقال: «أنت منهم!»، ثم قام الآخر فقال: (أنا منهم يا رسول الله؟!)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبقك بها عكاشة!»؛ وحدثنا شجاع حدثنا هشيم مثله]. هذا حديث صحيح، غاية في الصحة، أخرجه البخاري، والنسائي في «الكبرى»، والترمذي باختصار يسير، وقال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح وفي الباب عن ابن مسعود وأبي هريرة)، وكذلك ابن حبان في صحيحه، وأخرجه مسلم باختصار كبير، كلهم بأسانيد صحاح عن عبد الله بن العباس، رضي الله عنهما.
v وقال أحمد: حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن قتادة عن الحسن عن عمران بن حصين عن ابن مسعود قال أكثرنا الحديث عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ثم غدونا إليه فقال: «عرضت علي الأنبياء الليلة بأممها فجعل النبي يمر ومعه الثلاثة، والنبي ومعه العصابة، والنبي ومعه النفر، والنبي ليس معه أحد، حتى مر علي موسى معه كبكبة من بني إسرائيل فأعجبوني فقلت: من هؤلاء؟! فقيل لي: هذا أخوك موسى معه بنو إسرائيل! قال: قلت: فأين أمتي؟! فقيل لي انظر عن يمينك! فنظرت فإذا الظراب قد سد بوجوه الرجال، ثم قيل لي: انظر عن يسارك! فنظرت فإذا الأفق قد سد بوجوه الرجال، فقيل لي: أرضيت؟! فقلت رضيت يا رب، رضيت يا رب! قال: فقيل لي: إن مع هؤلاء سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب!»؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فدا لكم أبي وأمي: إن استطعتم أن تكونوا من السبعين الألف فافعلوا، فإن قصرتم فكونوا من أهل الظراب، فإن قصرتم فكونوا من أهل الأفق! فإني قد رأيت ثم ناسا يتهاوشون»؛ فقام عكاشة بن محصن فقال: (ادع الله لي يا رسول الله أن يجعلني من السبعين!)، فدعا له، فقام رجل آخر فقال: (ادع الله يا رسول الله أن يجعلني منهم؟!)، فقال: «قد سبقك بها عكاشة»، قال: ثم تحدثنا فقلنا: من ترون هؤلاء السبعون الألف؟! قوم ولدوا في الإسلام لم يشركوا بالله شيئا حتى ماتوا؟! فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون». هذا كذلك حديث صحيح، غاية في الصحة، وأخرجه أحمد كذلك من طرق صحاح وحسان مطولاً ومختصراً عن ابن مسعود، رضي الله عنه، كما أخرجه البخاري في «الأدب المفرد»، وابن حبان في صحيحه، كل بإسناد صحيح. كما أخرجه ابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني»، والحاكم في المستدرك وصححه، ووافقه الذهبي، والطبراني في «الكبير» مطولاً ومختصراً، وفي «الأوسط» مختصراً، وابن حبان في صحيحه، وأبو داود الطيالسي، وأبو يعلى، أكثرهم عن ابن مسعود، وبعضهم عن عمران بن حصين مرفوعاً.
u فصل: خطر الشرك بالله
v قال الله تعالى: }إن الله لايغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، ومن يشرك بالله فقد افترى إثمًا عظيمًا{، (النساء؛ 4:48).
v وقال تعالى: }إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيدًا{، (النساء؛ 4:116).
v قال تعالى: }حنفاء لله، غير مشركين به، ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء، فتخطفه الطير، أو تهوى به الريح في مكان سحيق{، (الحج؛ 22:31).
v وقال تعالى: }وإذ قال لقمان لا بنه وهو يعظه: يا بنى لا تشرك بالله، إن الشرك لظلم عظيم{ (لقمان؛ 31:13).
v وقال تعالى: }ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون{ (الانعام؛ 6:88).
v وقال تعالى: }ولقد أوحى اليك، وإلى الذين من قبلك، لئن أشركت ليحبطن عملك، ولتكونن من الخاسرين v بل الله فاعبد، وكن من الشاكرين{ (الزمر؛ 39:65).
v وقال تعالى: }ولا تكونن من المشركين{ (الانعام؛ 6:14& يونس؛ 10:105& القصص؛ 28:87).
v وقال تعالى: }منيبين إليه، واتقوه، وأقيموا الصلاة، ولا تكونوا من المشركين{ (الروم؛ 30:31).
v وقال تعالى حاكياً قول عبده ورسوله السيد الوجيه المقرب عيسى بن مريم، مسيح الله المهدي، صلوات الله وسلامه عليه وعلى والدته: }لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم؛ وقال المسيح: يا بني إسرائيل، اعبدوا الله ربي وربكم: إنه من يشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنة، ومأواه النار، وما للظالمين من أنصار!{، (المائدة؛ 5:72).
v عن جابر بن عبدالله ــ رضى الله عنه ــ قال: أتى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم رجل فقال: يا رسول الله ما الموجبتان؟ فقال: «من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار»، حديث صحيح، أخرجه مسلم.
v عنه أيضًا رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: «من لقى الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به دخل النار»، حديث صحيح، أخرجه أيضًا مسلم .
v وعن ابن مسعود رضى الله عنه، أن رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: «من مات وهو يدعو لله ندًا دخل النار»، حديث صحيح، رواه البخارى.
هذه الآيات والأحاديث الشريفة المعصومة ليست رخصة في ارتكاب المعاصي، والإدمان على الذنوب، كيف لا والمعاصي والذنوب قد تستفحل بالإنسان حتى ينتكس قلبه، فيرتد منافقاً خالصاً، فيحبط عمله، أو تضعف بصيرته فيعبث الشيطان بعقله فيكذب على الله، ويتألى عليه فيقول: }لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة{، كما قال ضلال بني إسرائيل فأكذبهم الله بقوله: }أتخذتم عند الله عهداً؟! فلن يخلف الله عهده، أم تقولون على الله ما لا تعلمون v بلى: من كسب سيئة، وأحاطت به خطيئته، فأولئك أصحاب النار، هم فيها خالدون{. أو قد يتبلد حسه، فلا ينكر المعصية والمنكر، ثم يتدرج إلى كراهة ما أنزل الله، أو السخرية والاستهزاء به فيرتد كافراً يحبط عمله. ولقد أحسن بعض العارفين عندما قال: (المعاصي بريد الكفر).
وعلى كل حال يمكن تقسيم الشرك من وجهة نظر أخرى كما يلي:
شرك أكبر: هو شرك الاعتقاد، وهو مخرج من الملة، وهي الأنواع السبعة السابق ذكرها أعلاه. ويقابله الشرك الأصغر الذي لا يخرج من الملة.
شرك اعتقادي: وكله من الشرك الاكبر، وهو مخرج من الملة، والعياذ بالله.
شرك عملى: وهو كل عمل حكم عليه الشرع الاسلامي بالشرك كالذبح لغير الله، والنذر لغير الله، وغير ذلك، ومنه ما يخرج من الملة، ومنه ما لا يخرج.
شرك القصد والارادة: هو أن يريد الانسان ببعض عمله غير الله، ويقصد به غير وجه الله، فهذا شرك القصد والإرادة وأكثر هذا من الشرك الخفي، أي الرياء، أو الشرك الاصغر. أما إذا أراد الإنسان بكل عمله الدنيا، فو لا يذكر الله، ولا تخطر له الآخرة على بال، فهذا لا يكون إلا من من اختل اعتقاده على نحو يناقض الإسلام كل المناقضة، ويخرج من كان قبل ذلك مسلماً من الملة. ومن كان هذا حاله فهو مشرك كافر، قد أعرض عن الله وعبد النيا وهواه، فتعساً له: ما أضل عمله، وأعظم شقاوته.
شرك أصغر: وهو الرياء، وهو غير مخرج من الملة، ولكنه إثم قبيح، وخلق ذميم، تجب مجاهدة النفس للتغلب عليه، وتجب التوبة مما سلف منه.
شرك خفي: وهو أن يعمل الرجل لمكان الرجل، وهو الرياء أيضًا، وهو غير مخرج من الملة.
شرك لفظي: هو كل لفظ حكم عليه الشرع الاسلامي بالشرك كالحلف بغير الله، وكقول بعض الناس: مالي إلا الله وأنت، وتوكلت على الله وعليك، ولولا الله وفلان لكان كذا وكذا إلى غير ذلك من الألفاظ الشركية.
الشرك إذًا ينقسم إلى اعتقادي وعملي: فالاعتقادي هو الأكبر، والعملي أكثره من الأصغر، والاعتقادي مخرج من الملة، والعملي، عادة، لا يخرج منها.
فالشرك الاعتقادي: هو الشرك الأكبر المخرج من الملة أي هو شرك الكفر!
أما الشرك العملي: فأكثره من الشرك الأصغر، الذي لا يخرج عن الملة، ومنه الرياء، أي الشرك الخفي، وأكثر شرك القصد والإرادة، وكذلك الشرك اللفظي.
u فصل: فضل الدعوة إلى الإسلام والتوحيد
v قال الله تعالى: }قل هذه سبيلى أدعو إلى الله على بصيرة{، (يوسف؛ 12:108).
v وقال تعالى آمراً نبيه بتلخيص دعوته في كلمات يسيرة: }قل: إنما أمرت أن أعبد الله، ولا أشرك به، إليه أدعوا، وإليه مئاب{، (الرعد؛ 13:36)
v وعن ابن عباس رضى الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما بعث معاذاً إلى اليمن قال: «إنك تأتي قومَا من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله» وفي رواية: «إلى أن يوحدوا الله»، «فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله أفترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك، فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب»، حديث صحيح، أخرجه الشيخان.
v ولهما عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: «لأعطين الراية غدًا رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه»، فبات الناس يدوكون ليلتهم، أيهم يعطاها، فلما أصبحوا غدوا على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: «أين علي بن أبي طالب؟» فقيل: هو يشتكي عينيه، فأرسلوا إليه فأتي به، فبصق في عينيه، ودعا له فبرىء، من فوره، كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية فقال: «انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لئن يهدى الله بك رجلاً واحدًا خير لك من حمر النعم»، حديث صحيح، وفيه أكثر من آية من آيات نبوته صلى الله عليه وعلى آله وسلم.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق