توحيد الطاعة والاتباع

بــــــــــــاب
توحيد الطاعة والاتباع

هو أن نفرد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالاتباع فلا نتبع إلا إياه اتباعًا صادقًا، لأن طاعته طاعة لله وحده لا شريك له، فهو المبلغ عن الله البلاغ المعصوم المبين. فالطاعة هى لله ابتداءً. أما طاعة رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله ـ فهي طاعة لله، كما ثبت بالبرهان القاطع، واتباع أمره، هو اتباع لأمر الله.
فهذا التوحيد هو فعل العبد المبني على اعتقاده انفراد الله بالسيادة، والحاكمية، وانفراده بحق التشريع، وتصديقه أن مراد الله إنما يعرف بالوحي إلى الرسل والأنبياء.
وهذا هو معنى: (أشهد أن محمداً رسول الله)
v قال تعالى: }من يطع الرسول فقد أطاع الله{، (النساء؛ 4:81).
v قال تعالى: }قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم. قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين {، (آل عمران؛ 2:31ــ32).
v قال تعالى: }وما أتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا، واتقوا الله، إن الله شديد العقاب{، (الحشر؛ 59:7).
v قال تعالى: }ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى، ويتبع غير سبيل المؤمنين، نوله ما تولى، ونصله جهنم، وساءت مصيرا{، (النساء؛ 4:115).
v قال تعالى: }ألم تر الى الذين يزعمون أنهم أمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا{، (النساء؛ 4:61).
قال القرطبي: [روى يزيد بن زريع عن داود بن أبي هند عن الشعبي قال: كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة فدعا اليهودي المنافق إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، لأنه علم أنه لا يقبل الرشوة. ودعا المنافق اليهودي إلى حكامهم لأنه علم أنهم يأخذون الرشوة في أحكامهم فلما أجتمعا على أن يحكما كاهنا في جهينة، فأنزل الله تعالى في ذلك: }ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم امنوا بما أنزل إليك{، يعني المنافق، }وما أنزل من قبلك{، يعني اليهودي، }يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت{، إلى قوله: }ويسلموا تسليماً{، وقال الضحاك: دعا اليهودي المنافق إلى النبي صلى الله عليه وسلم, ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف وهو «الطاغوت»].
وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: [كان بين رجل من المنافقين ـ يقال له بشر ـ وبين يهودي خصومة، فقال اليهودي: انطلق بنا إلى محمد, وقال المنافق: بل إلى كعب بن الأشرف ـ وهو الذي سماه الله «الطاغوت» أي ذو الطغيان ـ فأبى اليهودي أن يخاصمه إلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى ذلك المنافق أتى معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى لليهودي. فلما خرجا قال المنافق: لا أرضى، انطلق بنا إلى أبي بكر، فحكم لليهودي فلم يرض، وقال: أنطلق بنا إلى عمر فأقبلا على عمر فقال اليهودي: إنا صرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إلى أبي بكر فلم يرض; فقال عمر للمنافق: أكذلك هو ؟ قال: نعم. قال: رويدكما حتى أخرج إليكما. فدخل وأخذ السيف ثم ضرب به المنافق حتى برد، وقال: هكذا أقضي على من لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله، وهرب اليهودي, ونزلت الآية، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنت الفاروق). ونزل جبريل وقال: إن عمر فرق بين الحق والباطل، فسمي الفاروق. وفي ذلك نزلت الآيات كلهـا إلى قولـه: }ويسلموا تسليما{]، قلت: هذه قصة مكذوبة منكرة، ولو وقعت لسارت بها الركبان، ولرواها الثقات الأثبات عن أمثالهم، بل لتناقلتها الكافة عن الكافة. والكلبي عن أبي صالح، من أضعف أسانيد الدنيا، بل هو الكذب المجرد، والاختراع المحض!!
وقال ابن كثير: [هذا إنكار من الله عز وجل على من يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء الأقدمين وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله كما ذكر في سبب نزول هذه الآية أنها في رجل من الأنصار ورجل من اليهود تخاصما فجعل اليهودي يقول بيني وبينك محمد وذاك يقول بيني وبينك كعب بن الأشرف. وقيل في جماعة من المنافقين ممن أظهروا الإسلام أرادوا أن يتحاكموا إلى حكام الجاهلية. وقيل غير ذلك والآية أعم من ذلك كله فإنها ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل وهو المراد بالطاغوت هنا ولهذا قال: }يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت{ إلى آخرها].
v وقال تعالى: }أفحكم الجاهلية يبغون؟!{، (المائدة؛ 5:50).
v قال الله ،تبارك وتعالى: }اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولاتتبعوا من دونه أولياء قليلا ماتذكرون{، (الاعراف؛ 7:3).
v وقال تعالى: }فلا وربك لايؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لايجدوا في أنفسهم حرجامماقضيت، ويسلموا تسليما{، (النساء؛ 4:65).
v وقال تعالى: }وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبينا{، (الاحزاب؛ 33:26).
v وقال تعالى: }ومن يطع الرسول فقد أطاع الله{، (النساء؛ 4:81).
v وقال تعالى: }ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا{، (الجن؛ 72:23).
v وقال تعالى: }تلك حدود الله، ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، وذلك الفوز العظيم، ومن يعصى الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارًا خالدًا فيها وله عذابٌ مهين {، (النساء؛ 4:65).
v وعن عبدالله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وعلى أله وصحبه وسلم قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به»، قال النووي: (حديث صحيح رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح)، قلت: هذا متن في غاية الجودة والاستقامة، أما الإسناد فليس بذاك لأن نعيم بن حماد، وإن كان من شيوخ البخاري، وقد أخرج له البخاري خمسة أحاديث، ليس بذاك الحافظ. المتقن، بل هو كثير الغلط، ومعاذ الله أنت نحتج بمن كثر غلطه.
u فصل: قاعدة في الأسماء والصفات
ومن أهم قواعد وأصول هذا الباب أن لا نسمي ربنا إلا بما سمى به نفسه، أو سماه رسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولا نصفه إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه رسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم: من غير تنديد، ولا مكافئة، ولا تمثيل، ولا تحريف للكلم عن مواضعه، أو إلحاد في أسمائه.
فما يسميه البعض: «توحيد الأسماد والصفات» هو في حقيقته هذه القاعدة، التي هي فرع لـ«توحيد الاتباع والطاعة»، وليس قسما أساسياً مستقلاً من أقسام التوحيد، كما يزعمون!
ولكن القوم تورطوا في مباحث كلامية، وشطحات فلسفية، وابتدعوا مسائل، ما أنزل الله بها من سلطان، أرادوا نصرتها وجعلها ديناً، فلم يجدوا بداً من جعلها توحيداً وإسلاماً، وسل سيف التكفير والتبديع على من خالفهم، كل ذلك ما هو إلا «إرهاب فكري»، وإحداث في الدين، و«ابتداع» : }قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين!{.
v وقال تعالى: }ليس كمثله شىء وهو السميع البصير{، (الشورى؛ 42:11).
v وقال: }ولم يكن له كفوًا أحد{، (الاخلاص؛ 112:3).
v وقال: }فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون {، (البقرة؛ 2:22).
v وقال: }و لله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في اسمائه سيجزون ما كانوا يعملون{، (الأعراف؛ 7:180).
v وقال تعالى في ذم اليهود: }من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه{ ،(النساء؛ 4:67)، وقال: }يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به{، (المائدة؛ 5:13)، وقال: }وقدكان فريق منهم يسمعون كلام الله، ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه، وهم يعلمون{، (البقرة؛ 2:75).
وإنما نثبت له كل اسم، وصفة، أو فعل وردت في الكتاب، أو السنة الثابتة، كما وردت، على الوجه الذي يليق بجلال ربنا وعظيم سلطانه وفق ما تقتضيه اللغة العربية، لغة القرآن.
فنؤمن مثلا بأنه يسمع ويبصر ويتكلم متى شاء، وبما شاء، كيف شاء، وأنه استوي على العرش استواء يليق به: كما قال تعالى: }الرحمن على العرش استوى{ (طه؛ 20:5).
وانه الموصوف بالكمال والجمال والجلال المطلق، كما قال تعالى: }ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم{، (النحل؛ 16:60).
وقال: }وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده، وهو أهون عليه، وله المثل الاعلى في السماوات والارض، وهو العزيز الحكيم{، (الروم؛ 30:27).
ويتناقض مع هذا القسم من التوحيد أنواع من الشرك الكفري المخرج من الملة منها:
(أ)- الاعتقاد بأنه يسع ترك اتباع النبى، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أو أنه يسوغ اتباع غيره، كما فصلناه عند مناقشة توحيد التشريع والحاكمية.
(ب)- رفض اتباع النبى، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والامتناع عن طاعته.
كما يتناقض معه أنواع من الشرك العملي، منها البدع والابتداع، كما سيأتي في فصوله المستقلة.
u فصل: أقسام السنة
ومن أهم قواعد وأصول هذا الباب كذلك الإلتزام بالسنة واجتناب البدعة.
السنة لغة هى الطريقة، واصطلاحا ــ إذا اضُيفت إلى النبي صلوات الله عليه وعلى آله ــ عند الأصوليين هي مجموع أقوال النبي وأفعاله وتقريراته، فهى إذًا ثلاثة أقسام:
(1) سنة قولية، ومنها الإشارة، (2) سنة فعلية، (3) سنة تقريرية.
v قال الله تعالى: }قل إن كنتم تحبون الله، فاتبعوني، يحببكم الله، ويغفر لكم ذنوبكم، والله غفور رحيم v قل أطيعوا الله ورسوله فإن تولوا فإن الله لايحب الكافرين{، (آل عمران؛ 3:31ــ32).
v وقال تعالى: }لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة{، (الاحزاب؛ 33:7).
v وقال تعالى: }وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا{، (الحشر؛ 59:7).
أمّا تركه النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، عمدا تركناه، ولا يعلم تعمد تركه الا بقرينة: كترك بعد فعل راتب كان يواظب عليه، أو نص على العمد بقول، فما تركه على هذا النحو هو فعل من أفعاله فهو سنة فعلية، ومن ذلك تركه عليه الصلاة والسلام الخلوة والتحنث، التى كان يواظب على فعلها قبل البعثه في غار حراء، في ما بقى من عمره الشريف، صلوات الله وسلامه وتبريكاته عليه وعلى آله. وحتى في مثل هذه الأحوال لا يدل الترك إلا على أن الفعل المتروك لم يعد مستحباً، فيعود حلالاً محضاً، إلا أن يأتي برهان على الكراهية أو التحريم، وإلا فلا.
أما الترك المجرد من القرائن فهو عدم فعل، والعدم لا شيء، أي أنه ليس بشئ، ولا يصلح دليلاً لشيء، ولا يوجد في العالم ما يسمونه: «سنة تركية» أصلاً!
بل قد كان نبي الله، عليه وعلى آله صاوت وتسليمات وتبريكات من الله، ربما ترك بعض الأفعال عمدا لاعتبارات منها:
الأول: كان نبي الله، عليه وعلى آله صلوات وتسليمات وتبريكات من الله، قد يترك بعض العبادات والطاعات خشية أن تفرض على الناس فيعجزوا عنها، وقد علله الإمام ابن خزيمة كما جاء في صحيحه: (باب ذكر علة قد كان النبي، صلى الله عليه وسلم، يترك لها بعض أعمال التطوع وإن كان يحث عليها وهي خشية أن يفرض عليهم ذلك الفعل مع استحبابه، صلى الله عليه وسلم، ما خفف على الناس من الفرائض)، وهو ما ثبت بأصح الأسانيد كما جاء في:
v «الجامع الصحيح المختصر» للبخاري: [حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن بن شهاب أخبرني عروة أن عائشة، رضي الله تعالى عنها، أخبرته، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خرج ليلة من جوف الليل فصلى في المسجد وصلى رجال بصلاته فأصبح الناس فتحدثوا فاجتمع أكثر منهم فصلوا معه فأصبح الناس فتحدثوا فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة فخرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فصلى فصلوا بصلاته فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد ثم قال: «أما بعد فإنه لم يخف علي مكانكم ولكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها»، فتوفي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والأمر على ذلك]. وقال البخاري: (تابعه يونس).
v وأخرجه البيهقي مطولا من نفس الطريق في (سنن البيهقي الكبرى) فساقه بنحو من حديث البخاري، إلا أنه أكمل قائلاً بعد قوله «فتعجزوا عنها»: [وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغبهم في قيام رمضان من غير أن يأمرهم بعزيمة أمر فيه فيقول من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك ثم كان الأمر على ذلك خلافة أبي بكر وصدرا من خلافة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما قال عروة وأخبرني عبد الرحمن بن عبد القاري وكان من عمال عمرو رضي الله تعالى عنه وكان يعمل مع عبد الله بن الأرقم على بيت مال المسلمين أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه خرج ليلة في رمضان فخرج معه عبد الرحمن فطاف في المسجد وأهل المسجد أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط قال عمر رضي الله تعالى عنه والله لا أظن لو جمعناهم على قارئ واحد لكان أمثل فعزم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه على أن يجمعهم على قارئ واحد فأمر أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه أن يقوم بهم في رمضان فخرج عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه والناس يصلون بصلاة قارئ لهم ومعه عبد الرحمن بن عبد القاري فقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه نعم البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون يريد آخر الليل وكان الناس يقومون في أوله]، ثم قال البيهقي: (رواه البخاري في الصحيح عن بن بكير دون حديث عبد الرحمن بن عبد القاري وأنما أخرج حديث عبد الرحمن عن حديث مالك عن الزهري)
ــ أما متابعة يونس التي أشار إليها البخاري فهي في صحيح مسلم، فإن أردتها فدونك الملحق، مع مزيد طرق وأسانيد من شتى كتب السنة المعتمدة.
وجاء في بعض الروايات أن بعضهم صاح: (الصلاة)، بل وقرع بعضهم الباب!
فحديث عائشة، أم المؤمنين، رضوان الله وسلامه عليها، من أصح أحاديث الدنيا، تقوم به الحجة القاطعة. وقد جاء هذا المعنى في نفس الواقعة كذلك عن زيد بن ثابت، رضي الله عنه، بأصح الأسانيد وأقواها، كما هو:
v في «صحيح البخاري»: حدثنا عبد الأعلى بن حماد قال حدثنا وهيب قال حدثنا موسى بن عقبة عن سالم أبي النضر عن بسر بن سعيد عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ حجرة قال حسبت أنه قال من حصير في رمضان فصلى فيها ليالي فصلى بصلاته ناس من أصحابه فلما علم بهم جعل يقعد فخرج إليهم فقال قد عرفت الذي رأيت من صنيعكم فصلوا أيها الناس في بيوتكم فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة. وقال البخاري: (قال عفان حدثنا وهيب حدثنا موسى سمعت أبا النضر عن بسر عن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم). وأخرجه مسلم والنسائي بزيادات صحاح يظهر منها أن منهم من (تنحنح)، بل ومنهم من (حصب) الباب تنبيها له، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، على وجودهم، فأهملهم حتى الصباح ثم كلمهم غاضباً، بنحو ما جاء آنفاً. ولعل (حصب) الباب هذا هو الذي ظنته عائشة، رضوان الله وسلامه عليها، قرعاً!
الثاني: كان نبي الله، عليه وعلى آله صلوات وتسليمات وتبريكات من الله، قد يترك بعض العبادات والطاعات التي ثبتت فضيلتها حتى لا يشق على المسلمين، رفقاً بهم، بل كان، صلوات الله وسلامه وتبريكاته عليه وعلى آله، وهو نعم الأسوة، وخير القدوة، يترك الخروج للجهاد، وهو أحب شيء في الدنيا إليه، لكي لا يشق على أمته، أو يحرجهم، كما يظهر مما ثبت عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تضمن الله لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلا جهاداً في سبيلي، وإيماناً بي، وتصديقاً برسلي، فهو علي ضامن أن أدخله الجنة، أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة! والذي نفس محمد بيده: ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته حين كلم: لونه لون دم، وريحه مسك! والذي نفس محمد بيده: لولا أن يشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبداً، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة، ويشق عليهم (وفي رواية: لا تطيب أنفسهم) أن يتخلفوا عني، والذي نفس محمد بيده: لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل»، قلت: هذا حديث غاية في الصحة، من أصح أحاديث الدنيا، أخرجه مسلم، وهذا لفظه،، وأحمد، بطوله، ومالك، والبخاري، والنسائي، وابن ماجه، مفرقاً ومختصراً، بأسانيد غاية في الصحة!
فها هو، صلوات الله وسلامه وتبريكاته عليه وعلى آله، يتخلف عن السرايا، مع أن الخروج في كل واحدة منها، أحب شيء إليه في الدنيا، وقد صرح هو بذلك ونص عليه، وأخبرنا به.
الثالث: وقد نص هو، صلوات الله وسلامه وتبريكاته عليه وعلى آله، على أن أفضل الصيام صيام داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً. ومع ذلك فلم ينقل عنه قط أنه كان يصوم هكذا، فلم ترك الفاضل، وعمل بالمفضول؟! لا ندري، لأنه لم يبين لنا. ونعلم يقيناً أنه لو كان بيان ذلك من الدين، الذي تكفل الله ووعد ببيانه، وأخبرنا بكماله، لو كان الأمر كذلك لبينه لنا، حاشا لله ورسوله من الوعد الخائس، والخبر الكاذب.
فظهر بذلك أن كونه، عليه وعلى اله الصلاة والسلام أفضل رسل الله، وأكرم الخلق على الله، لا يقتضي ضرورة:
(1) أن كل فعل من أفعاله، وكل عبادة من عبادته، جاءت على أفضل الصور لتلك العبادة أو ذاك الفعل. والكمال والفضل على الإجمال، لا يعني الكمال والفضل في كل جزئية متخيلة، إلا في حق الله العزيز الحكيم.
(2) أن غيره من الأنبياء لم يفضلة بجزئية معينة، أو خصوصية معينة. فمما لا شك فيه أن موسى قد اصطفي على الناس، بل على الأنبياء، بتكليم الله له تكليماً مباشراً؛ وعيسى بن مريم كلمة الله، وروح منه، وذاته الشريفة معجزة بنفسها
وأفضلية بلال وأبي ذر على معاذ بن جبل لا يجوز أن يكون فيها شبهة، وليس أي واحد منهما بأعلم من معاذ بتفاصيل الحرام والحلال!
وأكثر الصحابة، لا سيما البدريين والأحديين والشجريين، أفضل من عبد الله بن عباس، وهو أعلى منهم مرتبة في العلم، وهو ترجمان القرآن والحبر البحر، بل كان رضي الله عنه يقريء السابقين الأولين من أمثال عبد الرحمن بن عوف القرآن!
وأفضلية قرن الصحابة في الجملة على سائر قرون الأمة، بل وعلى سائر قرون بني آدم، لا تعني ضرورة أنهم فعلوا كل فضيلة وكل حسنة إلى يوم القيامة، وكل زعم خلاف ذلك شطحات وتعميمات نظرية، ومزاعم عاطفية، أو أكاذيب محضة، لا تصمد للبرهان.
الرابع: ما سبق أن قررناه بأتم بيان وأبلغ تفصيل أن الأصل في الأشياء، أعياناً وأفعالاً، الإباحة؛ وأنه، عليه وعلى آله أزكى صلاة وأتم تسليم، قد اشتد نهيه عن كثرة السؤال، والتردد عليه في الأقضية، مما قد يفضي إلى الهلكة، وأخبرهم أنه هو سيبادرهم بأمر الله ونهيه: }وما كان ربك نسياً{. وقد أثبتنا بذلك أن تركه التعقيب على فعل، أو القيام بعمل يقتضي، ضرورة، إباحة ذلك، لا غير. بل قد قال، عليه وعلى آله أزكى صلاة وأتم تسليم، صراحة: «دعوني ما تركتكم إنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»
وقد يترك النبي بعض العمل لاعتبارات أخرى لا نعلمها. وعلى كل حال فالترك عدم فعل، والعدم لا يصلح دليلاً على شئ مطلقاً، لأنه «لا شئ»، كما بيناه أول هذا المبحث.
نعم، سوف يسارع القوم قائلين: لقد ظلمتمونا بنسبة هذا القول إلينا، فنحن ما قلنا قط أن الترك المجرد شيء أو حجة، وإنما قلنا: الحجة أن يترك النبي، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، الفعل غير الجبلي، مع قيام المقتضى، وانتفاء المانع.
واحتطنا بلفظة (غير الجبلي) عن مثل (السفر إلى الهند) فالناس قد يسافر بعضهم إلى الهند لمصلحة من تجارة، أو سياحة، أو زيارة أحبة وقرابات، إذا كان مقتدرين على ذلك بالبدن والمال، وكانت الطريق آمنة، ونحوه: هذا فعل عادي، تقتضيه الجبلة البشرية؛ بخلاف «التحنث في غار حراء»، هذا خلاف الجبلة البشرية، وليس من عاداتها.
فنقول: هذا لا يغني عنكم شيئاً، لأن ترك النبي، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، للتحنث في غار حراء مثلاً، إنما هو ترك بعد فعل، فهو في حقيقته فعل محسوس، يشاهد، وتتناقله الرواة. ولم يرد عنه بعد يعثته أنه فعله ولا أنه نهى عنه، فوقع مباحاً محضاً: فكيف جعلتموه مكر وهاً، أو حراماً، أو بدعة؟! هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين.
بل الأمر ها هنا أنكى، فهو، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، يقول من تلقاء نفسه، ولم يسأله عن ذلك أحد: «شهدت في الجاهلية مع أعمامي حلفاً ما أود لي حمر النعم وأن أنكثه»، أو كما قال، عليه وعلى آله الصلاة والسلام عن حلف الفضول. فهلا قال مثلاً: (كنت اتحنث في غار حراء قبل البعثة، فلا تفعلوا ذلك أو مثل ذلك!). أما نحن فلا نكذب عليه، فنزعم أنه سكت وهو يعني في الحقيقة ذلك القول، بل نقول سكت وترك، فهو إذاً: لا أمر، ولا نهى، فقط لا غير، من غير زيادة ولا نقصان.
أما اشتراط (وجود المقتضى، وانتفاء الموانع) فلا يغني عنكم شيئاً، لأننا أثبتا في ما سلف وجود موانع عدة، منعته، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، حتى من القيام ببعض المستحبات، التي لا شك في استحبابها. ومن تلك الموانع:
(1) رفع الحرج عن أمته، بتطييب خاطرهم، ودفع المشقة عنهم،
(2) ومنها خشيته أن تفرض عليهم أمور فيعجزوا عنها،
(3) ومنها خشيته الهلكة عليهم نتيجة كثرة السؤال: فنهاهم عن كثرة السؤال صراحة، وقال نصاً: («دعوني ما تركتكم إنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»).
ومعلوم ضرورة أن الترك ليس أمراً، ولا نهياً، ولو كان له قيمة تشريعية، كما زعمتم، لقال، عليه وعلى آله الصلاة والسلام: (وما تركته فاتركوه)، تماماً كما قال: «إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه»، وقال: «وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»، فهذه كلها قواعد كلية، وأصول عامة لا يخرج عنها شيء، وهذا هو وقت البيان وأنسب مقام لمثل تلك الجملة العامة، وأنتم بزعمكم: أهل نظر وقياس، و(موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول)، فأين نظركم وقياسكم؟!
فمهما جئتم به من «ترك» قلنا لكم لعله تركه لهذا المانع أو ذاك، فقد ثبت أنه كان بالفعل مانعاً في واقعة أو وقائع أخرى مشابهة أو مقاربة، فينقلب عليكم عبء البرهان: أي أن تثبتوا أنه ليس بمانع ها هنا، ولا سبيل لكم إلى ذلك إلا بذكر قول أو عمل، فسقط الترك المحض المجرد عن كونه دليلاً، وسقطت الاحتياطات التي ذكرتكم عن كونها منتجة، وعادت تحصيل حاصل أو لغواً لا محصول منه، ولا خير يرجى من ورائه.
على أن السكوت هو من نوع الترك، فالسكوت ترك للقول، والإقرار كذلك ترك، قهو ترك للنهي. فسكوت النبي، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، وكذلك سكوت الوحي كما برهنا عليه في موضعه يقتضي ضرورة الإباحة المطلقة للفعل أو القول المسكوت عنه، وكذلك الإقرار، إلا إذا جاء برهان بخلاف ذلك، أو جاء ناسخ لذلك. وهكذا ينبغي أن يكون الترك.
فالترك في حقيقته من جنس السكوت، وإن كان أعم: لأن السكوت ترك للكلام، فالواجب أن يلحق «الترك» بالإقرار والسكوت، فهو من جنس «السنة التقريرية»، ولا يوجد في العالم «سنة تركية» مطلقاً، كما زعم البعض من أهل الغلو، هواة التبديع.
فالحق إذاً: أن ترك النبي، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، سكوت وإقرار، فما تركه إنما هو على الإباحة الأصلية المطلقة. فلا صحة لقولهم: (ما تركه النبي تركناه)، بل ما تركه النبي استحللناه، فإن شئنا تركناه وإن شئنا فعلناه، إلا ببرهان خلاف ذلك.
غير أن هواة التبديع والتكفير يمارسون أنواعاً من الإرهاب الفكري فتجد أحدهم يقول: كيف تفعل ما لم يفعله النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أو صحابته؟! فإذا سمع السامع من العوام أو صغار طلبة العلم ذكر النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأصحابه انقدح في أنفسهم من التعظيم والإجلال ما يدفعهم إلى التسليم أو في أقل الأحوال يمنعهم من المعارضة، فيفلت المجادل بالباطل بدعواه المكذوبة الداحضة، وسفسطته الساقطة المتناقضة.
وتوجيه الضربة القاضية إلى هؤلاء الدجاجلة سهل ميسور، وذلك بسؤاله: أليس الحكم الأصلي في الأشياء: أعياناً وأفعالاً وعقوداً وشروطاً هو الإباحة المطلقة، كما قامت عليه قواطع الأدلة؟! فكيف جعلت ذلك الشيئ المعين محل جدالنا الآن حراماً أو مكروهاً؟! وهل خان النبي، عليه وعلى اله الصلاة والسلام، الأمانة عندما قال: «دعوني ما تركتكم إنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»، أو عندما قال: «إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وسكت عن كثير من غير نسيان فلا تتكلفوها: رحمة من الله فاقبلوها»، أو عندما قال: «إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين فحرم عليهم من أجل مسألته»، بل قال نصاً: («دعوني ما تركتكم)، وما قال قط: (ما تركته فاتركوه)؟!
وبذلك تبطل حجة كل من أبطل عملاً، أو زعم أنه بدعة لمجرد أن رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم وبارك، لم يفعله. وشر من ذلك، وأولى بالبطلان، من أصدر نفس الأحكام لأن الصحابة، رضوان الله وسلامه عليهم، لم تفعله. كيف: وأقوالهم الصريحة، وأفعالهم الظاهرة، وإقراراتهم ليست بحجة، فكيف يكون تركهم، الذي هو عدم محض، حجة؟! فمن زعم شيئاً من ذلك فهو والله المبتدع الضال، أو السطحي التافه، أو الجاهل المركب، أو لعله، عياذاً بالله، الكافر العنيد.
u فصل: البدعة: حقيقتها، وأنواعها وأحكامها
لفظة البِدْعَة مصدر من الفعل الثلاثي: (بَ دَ عَ). وأصل استخدامها في اللسان العربي المبين الذي خوطبنا به في القرآن، وعلى لسان خاتمة آنبياء الله، عليه وعلى آله صلوات وتسليمات وتبريكات من الله، يأتي لمعنيين:
الأول: الانقطاع والعجز والكلال، ومنه أُبْدِع الراحلة، فهو مبدِعة، إذا كلَّت وعجزت وانقطعت عن السير، وهذا لا يعنيناً كثيراً ها هنا،
والثاني: وهو الذي يعنينا ها هنا: ابتداء الشيء، وصنعه لا على مثال سابق، أي: إحداث شيء لم يكن له من قبل خلق، ولا ذكر، ولا معرفة. فتقول العرب: ابتدع فلان الرَكِيَّ، أي البئر، إذا استنبطها. وتقول: لست ببِدْع في كذا وكذا، أي لست بأول من أصابه هذا، وقال، جل جلاله، وتقدست أسماؤه: }قل: ما كنت بدعاً من الرسل{، أي: لست أول مرسل، بل سبقني رسل كثيرون.
وابتدَع: جاء بأمر محتلف عن سابقه، لا يعرف من قبل، ومنه الابتداع: أي الإحداث للبدعة
والبِدعة: الشيء المخترع المحدث، والمبتدَع أيضاً، وفاعلها مبتدِع، وبديع؛ هذا كله لغة،
أما شرعا، فالبدعة: كل قول أو عمل (بما في ذلك الاعتقادات لأنها أقوال: قول القلب أصلاً، ويتبعه وينبني عليه قول اللسان) أحدث في الدين بعد وفاة النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وهي في ذاتها ضلالة، ومحدثها، ومن تبعه عليها، ومن قلده، كلهم آثم بذلك، مستحق من الله الذم والعقوبة، إلا من قام به مانع من موانع التأثيم المعروفة، كالجهل، والتأويل، والإكراه، وغيرها. وقلنا التأثيم: لأن بعض الابتداع فسق، وبعضه كفر، فليس إثم الابتداع من درجة واحدة.
وهذا التعريف مأخوذ من النصوص الشرعية حرفاً، بحرف، ومنها:
v ما أخرج الإمام النسائي بإسناد صحيح، تقوم به الحجة، عن جابر بن عبد الله، رضي الله عنهما، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله، ثم يقول: «من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له. إن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار!»، ثم يقول: «بعثت أنا والساعة كهاتين،»، وكان إذا ذكر الساعة احمرت وجنتاه، وعلا صوته، واشتد غضبه، كأنه نذير جيش يقول: صبحكم، مساكم، ثم قال: «من ترك مالا فلأهله، ومن ترك دينا أو ضياعا فإلي (أو علي)، وأنا أولى بالمؤمنين»، وأخرج مثله مسلم، وابن ماجه، وأحمد ببعض الاختصار، وجاء مثله من كلام عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، بأصح الأسانيد.
v وجاء في «سنن ابن ماجه»: [حدثنا عبد الله بن أحمد بن بشير بن ذكوان الدمشقي ثنا الوليد بن مسلم ثنا عبد الله بن العلاء يعني بن زبر حدثني يحيى بن أبي المطاع قال سمعت العرباض بن سارية يقول قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فوعظنا موعظة بليغة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقيل يا رسول الله وعظتنا موعظة مودع فاعهد إلينا بعهد فقال: «عليكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن عبدا حبشيا وسترون من بعدي اختلافا شديدا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ: وإياكم والأمور المحدثات، فإن كل بدعة ضلالة»]
قلت: سبق أن قلنا أن في صحة هذا الحديث كلام، إلا أننا نميل إلى تصحيحه، لا سيما لوجود الطرق الأخرى، وكثرة الشواهد، ونظافة المتن، وتصحيح الأئمة الأقدمين: الترمذي، وابن حبان والحاكم وقد أقره الذهبي، ولتصحيح المعاصرين من أمثال: الشيخ ناصر الدين الألباني، والشيخ شعيب الأرناؤوط، ولكن في النفس شيء من فقرة: «سنة الخلفاء الراشدين المهديين»، وهي لا تهمنا ها هنا، والحمد لله رب العالمين.
v عن عائشة رضى الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ماليس منه فهو رد»، وفي لفظ: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» حديث صحيح مشهور رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، وغيرهم.
v وعن عبدالله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «سيلي أموركم بعدي رجال يطفئون السنة، ويعملون بالبدعة، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها»، قلت: يا رسول الله! إن أدركتهم كيف أفعل؟ قال: «تسألني يا ابن أم عبد كيف تفعل؟ لا طاعة لمن عصى الله»، رواه ابن ماجه ــ واللفظ السابق له ــ وأحمد، والطبراني في «الكبير»، والبيهقي في «السنن الكبرى».
ــ أما لفظ احمد فهو: «إنه سيلى أمركم من بعدى رجال يطفؤون السنة، ويحدثون البدعة، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها»، قال ابن مسعود: يا رسول الله: كيف بي إذا أدركتهم؟ قال: «ليس ــ يا ابن أم عبد ــ طاعة لمن عصى الله»، قالها ثلاث مرات، قال عبد الله بن احمد: وسمعت أنا من محمد بن الصباح مثله، وقد صححه الشيخ أحمد شاكر. ومن طريق محمد بن الصباح اخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» بمثله.
ولن نناقش، ها هنا في هذ البحث، الأسانيد بالتفصيل، ونحيل في ذلك إلى الملحق الموسوم بـ «دراسة الأسانيد»، من كتابنا:هذا، حيث أشبعنا فيها، بحمد الله، نقد الأسانيد!
وإسناد الإمام أحمد جيد بمفرده، حسن بذاته، والحديث حسن صحيح، قطعاً، بطرقه، وشواهده، ومتابعاته، تقوم به الحجة يقيناً، والله أعلم.
ــ أما لفظ الطبراني في الكبير فهو: «سيكون عليكم أمراء يؤخرون الصلاة عن مواقيتها، ويحدثون البدع، قال فكيف أصنع إن ادركتهم؟ قال: «تسألني يا ابن أم عبد كيف تصنع؟ لا طاعة لمن عصى الله» وأخرجه كذلك البيهقي بلفظ مماثل0
واسناد الطبراني كذلك جيد، حسن بذاته، صالح للاحتجاج إن شاء الله، والله أعلم. وقال الألباني في السلسلة الصحيحة: إسناده جيد على شرط مسلم، فالحديث قد صححه العلامة احمد شاكر، والشيخ ناصر الدين الألباني، وهو صحيح ثابت قطعاً، كما يظهر من دراستنا في الملاحق المشار إليها آنفاً.
فقوله، عليه وعلى آله الصلاة والسلام: «وكل محدثة بدعة»، وقوله: «وإياكم والأمور المحدثات، فإن كل بدعة ضلالة»، وقوله: «من أحدث في أمرنا هذا ماليس منه: فهو رد»، قضية كلية تنص على أن المحدث في الدين هو ضرورة البدعة، والبدعة هي المحدث في الدين. فلا فرق بين قولك: «بدعة»، وقولك: «أمر محدث، (أي: في الدين)»، «إحداث في الأمر (أي: في الدين)».
ولو أن الشارع لم يستخدم إلا لفظة «الإحداث»، أي الإحداث في الدين، لكان وافياً شافياً، ولكنه، جل وعلا، استعمل لفظ «الابتداع» في الكتاب العزيز، في قوله تعالى: }ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ{، (الحديد؛ 57:27)، لأنها أبلغ وأوضح في بيان المقصود، ولأن لفظة الإحداث قد استخدمت في مواضع أخرى: مثل (الإحداث) الذي يرفع الطهارة التعبدية، ويوجب الوضوء للصلاة، فصار لفظ «الابتداع» مقصوراً على هذا المعنى المراد ها هنا وهو حصراً: (الإحداث في الدين)، فهو إذاً أكثر دقة، وأحسن بياناً؛ فالحمد لله الذي أنزل الذكر، قرآناً وسنة، شفاءً لما في الصدور، وهدىً ورحمة للمؤمنين.
أما كون كل البدع مذموم، ليس منها شيء حسن مطلقاً، فهو النتيجة الحتمية للقضية الكلية: «كل بدعة ضلالة»، أو بصيغة التأكيد: «إن كل بدعة ضلالة»، فلا يخرج عن هذه شيء إلا ببرهان، وما ثمة برهان.
ويؤيد هذا أنه، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، ذكر في مقام الذم أمراء سوء سوف يأتون من بعده، فوصفهم بأنهم: «يعملون بالبدع»، أو ما هو شر من ذلك «يحدثون البدع»، فثبت أن هذه أفعال مذمومة: إحداث البدع والعمل بها، وبين لعبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، كيفية التعامل مع هؤلاء الأمراء المبتدعين المجرمين: أنه ليست لهم أهلية الطاعة، فليس لهم من ثم ولاية، لأنهم عصاة لله تبارك وتعالى.
كما يؤيده أنه قال: «إياكم والأمور المحدثات»، بل قال: «شر الأمور محدثاتها»، قطعي الدلالة في أن الإحداث في الدين منهي عنه مخوف، وأنه في ذاته شر: فكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، قطعاً ويقيناً، لا يخرج من ذلك شيء إلا ببرهان.
وىؤيده كذلك قوله عليه وعلى آله الصلاة والسلام: «من أحدث في أمرنا هذا ماليس منه فهو رد»، والردود المرفوض هو الحرام والباطل فقط، أما الحلال، أو المستحب، أو الواجب، بل وحتى المكروه، فهو مقبول، وليس بمرفوض مردود.
وأما كون البدعة المذمومة في الحديث إنما هي حصراً في «الدين»، فلما سبق أن أشبعناه درساً في أول هذا الكتاب حيث أقمنا قواطع الأدلة على أنه، عليه وعلى اله الصلاة والسلام، عندما قال: «إذا كان شيئا من أمر دنياكم فشأنكم به، وإذا كان شيئا من أمر دينكم فإلي»، قد أحال كل شؤون «الدنيا» إلى الناس، وجعلها شأناً من شؤونهم: دراسة، واطلاعاً، وتجريباً، وتطبيقاً؛ أي من ناحية العلم النظري المكتسب بما فطر الله الناس عليه من الحس، والتجربة، والعقل، ومن التطبيق العملي في المهارات، والحرف، والمهن، والصناعات، والإجراءات، والوسائل، والأساليب: كل ذلك مباح للناس، حلال لهم، يفعلون ما شاؤوا منه، متى شاؤوا، بالكيفية التي يشاؤون.
والكلام هنا عن «الدنيا» في مقابلة «الدين»، وليس عن «الدنيا» أي هذه الدار التي فيها الحياة الأولى، في مقابلة «الآخرة»، أي دار الحياة الثانية الأخيرة، فهذا موضوع آخر، يختلف عن هذا تماما، ولا علاقة له به، لأن الدين والتدين يكون كله في هذه الدار، ثم يترتب عليه ضرورة حساب وجزاء في الدارين: الأولى والآخرة!
والمقصود بـ«الدنيا» هنا في مقابلة «الدين»: العالم المحسوس على ما هو عليه في ذاته، وما فيه من أعيان وصفات وقوى وخواص، وما يتعلق به من علوم ومعارف، وما يترتب على ذلك من مهارات إنسانية، وحرف ومهن وصناعات، وما ينشأ من ذلك كله من مصنوعات أو خدمات. هذا هو تعريف «الدنيا» الصحيح، كما هو ظاهر من النظرة الفاحصة المدققة لواقع النخل، وانقسامها إلى ذكر وأنثى، والحاجة إلى تلقيح الأنثى من الذكر، وقيام الناس بذلك بطريقة منظمة لضمان التلقيح الصحيح الكامل، وجودة الإنتاج، وارتفاع كميته، فلا يعتمدون فيها على الرياح والحشرات التي تفعل ذلك في الحالة الفطرية الأصلية.
أما «الدين» فهو الطريقة المعينة للعيش، أي نظام الحياة، أي الشريعة العامة المتبعة، حقاً كان ذلك أو باطلاً؛ وليس هو فقط مجرد مجموعة العقائد الغيبية، والشعائر التعبدية، والأخلاق والآداب الجميلة، كما هو المفهوم الغربي للدين، الذي يسمونه عندهم، على سبيل المثال، بالإنجليزية: (religion)، بل هو يشمل تنظيم كافة العلاقات، كما أسلفناه أعلاه في فاتحة الكتاب، وذلك لما لا يعد ولا يحصى من الأدلة اليقينية، المعلومة من الدين بالضرورة، والتي ذكرنا طرفاً منها هناك.
ولما كانت شؤون الدنيا كلها قد فوضت إلى الناس يتعاملون معها كما يشاؤون بموجب معطيات الحس والعقل، طبعاً في حدود «الدين»، أي الشريعة العامة، بقوله، عليه وعلى اله الصلاة والسلام: «إذا كان شيئا من أمر دنياكم فشأنكم به، وإذا كان شيئا من أمر دينكم فإلي»، لذلك فإن الابتداع في الدنيا بإيجاد العلوم والمعارف والأبحاث الجديدة، واختراع الأسليب والوسائل، والآلات والعدد، وشتى المعدات والمصنوعات، كل ذلك مباح لا حرج فيه. بل الحق أن ذلك، كما دلت عليه التطورات التاريخية، ضرورة من الضرورات لارتقاء الأمم، وحصولها على وسائل العيش والكفاية لأبنائها، وامتلاك ناصية المخترعات ووسائل القوة، وخاصة أنواع السلاح، للدفاع عن نفسها ومعتقداتها، فأصبح الابتداع في العلوم والمخترعات مستحباً مطلوباً، بل لعله فرض كفاية، لقوله تعالى: }وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ){، (الأنفال؛ 8:60)، وذلك من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
فثبت تعريفنا بلا شبهة، وهو أن [البدعة هي كل قول أو عمل (بما في ذلك الاعتقادات لأنها أقوال: قول القلب أصلاً، ويتبعه وينبني عليه قول اللسان) أحدث في الدين بعد وفاة النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم].
وثبت كذلك يقيناً: (أن كل بدعة ضلالة)، في ذاتها وإن لم يكن في معتقد مخترعها أو العامل بها، لأنها طعن في كمال الدين، وتكذيب لخبر الله في ذلك، ولأنها شرع من الدين ما لم يأذن به الله، مع كون حق التشريع إنما هو حصراً لله، فمن شرَّع من دونه فهو منازع في الربوبية، معتد على مقام الألوهية، لا محالة.
وبمثل قولنا قال بعض الأئمة، فمثلاً قال الإمام أبو محمد علي بن حزم الأندلسي معرفاً البدعة في كتابه العظيم «الإحكام في أصول الأحكام»: (كل ما قيل أو فعل مما ليس له أصل فيما نسب إلى النبي، صلى الله عليه وسلم. وهو في الدين كل ما لم يأتي في القرآن، ولا عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم. إلا أن منها ما يؤجر عليه صاحبه، ويعذر بما قصد إليه من الخير، ومنها ما يؤجر عليه صاحبه، ويكون حسناً، وهو ما كان أصله الإباحة، كما روي عن عمر رضي الله عنه: «نعمت البدعة هذه»، وهو ما كان فعل خير جاء النص بعموم استحبابه، وإن لم يقرر عمله النص! ومنها ما يكون مذموماً، ولا يعذر صاحبه، وهو ما قامت الحجة على فساده، فتمادى عليه القائل به).
ولكن الإمام ابن حزم، على شدة تمسكه بظواهر النصوص، وبالغ تعظيمه للوحي، ورفضه المطلق لتشريع الهوى والعقل، وطول باعه في نقد الآثار، تساهل ها هنا، ولم يميز بين المعنى اللغوي المتضمن مطلق الاختراع والإحداث، والتعريف الشرعي الذي سلف ذكره. تأمل قوله، رحمه الله، في تعريف البدعة «الحسنة»: (... وهو ما كان فعل خير جاء النص بعموم استحبابه، وإن لم يقرر عمله النص!)، ونحن نوافقه على المضمون، ولكن نأبى عليه التسمية: فمثل هذه «سنة» حسنة، وليست« بدعة» مذمومة، وهكذا ينبغي أن تسمَّى كما سمَّاها الله ورسوله، من غير زيادة، ولا نقصان.
وتعريفنا للبدعة هذا الذي أسلفناه ليس قطعياً، ولا هو مما أجمع عليه علماء المسلمين. وتعريفنا هذا أخذ بالوسط المعتدل، فمن العلماء من غلا، وتشدد، في التعريف فجعل البدعة شاملة لكل عمل أو قول أحدث بعد وفاة النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولم ينص عليه بعينه، حتى ولو لم يكن مخالفاً للكتاب والسنة، وحتى لو كان مندرجاً تحت أصل عام: هذا مذهب ساقط باطل، كما سوف يأتي برهانه شيئاً فشيئاً، وهو مع هذا غلو في الدين، والغلو في الدين مهلك، والدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه. ومنهم من تساهل، كأبي محمد علي بن حزم، وإن كان تساهله لفظي محض، على التحقيق.
والإحداث في الدين، الذي هو بعينه البدعة، التي هي كل قول أو عمل (بما في ذلك الاعتقادات لأنها أقوال: قول القلب أصلاً، ويتبعه وينبني عليه قول اللسان) أحدث في الدين بعد وفاة النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم يتصور في أنواع:
النوع الأول من البدع: إحداث قول أو عمل (بما في ذلك الاعتقادات لأنها أقوال: قول القلب أصلاً، ويتبعه وينبني عليه قول اللسان)، جاء خلافاً للكتاب والسنة. ومن أبرز أمثلة هذا النوع «تبديل الشرائع». وتبديل الشرائع هو تشريع وتنظيم مخترع مبتدع، جاء مناقضاً لقطعيات الكتاب والسنة، فهو، في ذاته بدعة من حيث هو إحداث واختراع وابتداع، وهو كفر من حيث كونه مناقضاً للإسلام، فهو إذاً من البدع الكفرية على كل حال، بغض النظر عن حال فاعله. أما فاعله فهو، إن لم يكن معذوراً، بجهل، أو تأويل (والاجتهاد الخاطيء هو من باب التأويل)، أو غير ذلك من الأعذار الشرعية، كافر مرتد. وهذا غالباً لا يكون بقصد القربى، فليس من المتصور أن يستبدل مسلم جلد الزاني بالحبس تقرباً إلى الله.
ومن أمثلة «تبديل الشرائع»: الترخيص للبنوك الربوية، وبيوت الدعارة، وملاهي العري، وجعل التابعية في دار الإسلام تبعاً للإقليمية، أو القومية، أو القبلية، أو جعل الحصول عليها مشروطاً بوافقة الحكام، كما هو في أنظمة التابعية لجميع الدول الموجودة حالياً في بلاد المسلمين، وفي مقدمتها: السعودية، ومصر، وإيران، والسودان، وباكستان، وغيرها. وأنظمة التابعية هذه كلها أنظمة كفرية، تناقض الإسلام كل المناقضة، ومن أسوئها نظام التابعية السعودية العنصري القبلي الملعون، الذي سنته السعودية: «دولة التوحيد»، كما أفحش الألباني!
واستبدال عقوبة قطع يد السارق بالسجن، وعقوبة جلد الزاني بالحبس،... ، وغير ذلك كثير،
وكذلك عضوية المنظمات الكفرية الدولية، كالأمم المتحدة، و«جامعة» (أو بالأحرى «مفرقة» أو «ممزقة») الدول العربية، والإلتزام بمواثيقها المناقضة للإسلام، كما فعلت، وتفعل دولة آل سعود، «الدولة المباركة التي نصر الله بها الحق وأهله» كما افترى ابن باز على الله!
كل ذلك تبديل للشرائع، وكل ذلك تشريع وتنظيم مخترع مبتدع، جاء مناقضاً لقطعيات الكتاب والسنة، فهو، في ذاته، بدعة كفرية، على كل حال، بغض النظر عن حال فاعله. أما فاعله فهو، إن لم يكن معذوراً، بجهل، أو تأويل (والاجتهاد الخاطيء هو من باب التأويل)، أو غير ذلك من الأعذار الشرعية، كافر مرتد.
ومع ذلك فقد يحدث هذا النوع، نادراً، بقصد القربى، في أمثلة كثيرة لا تكاد تنحصر منها:
(أ) من يتعمد النظر إلى العورات التي يحرم النظر إليها بدعوى تأمل جمال الخليقة الدالة على جمال الخالق بزعمه، وهذه قد سمعنا بوقوعها من بعض أدعياء التصوف،
(ب) من يتعمد النظر إلى العورات التي يحرم النظر إليها عند ذكر الله بدعوى «الانجذاب» والترفع عن علائق الجسد والمادة، وهذه قد سمعنا كذلك بوقوعها من بعض أدعياء التصوف،
(ج) من جعل دخول ثلث الليل الآخر سبباً لدخول وقت صلاة الفجر، بدلاً من سببها الشرعي المحدد وهو طلوع الفجر الصادق، لأن ثلث الليل الآخر هو وقت النزول الإلاهي، وهو من ثم أفضل، بزعمه، فهذه أيضاً من تبديل الشرائع، وهي بدعة كفرية، أراد المصلي بصلاته قبل طلوع الفجر المبالغة في التقرب إلى الله. نعم: لم نسمع بوقوع مثل هذه أصلاً، ولكنه ممكن الوقوع.
والقائل بأي شيء من ذلك، وكذلك فاعله، كلهم مرتدون كفار، إلا من قام به مانع من موانع تكفير المعين، كما أسلفنا.
وضابط هذا الباب هو: مخالفة واجب بإسقاطه عن مرتبة الوجوب بتحويله إلى مستحب، وشر من ذلك تحويله إلى مباح، ويزداد الشر والإثم بتحويله إلى مكروه، أو ما هو أفظع: إلى حرام، أو الترخيص بحرام والانتقال به إلى مجرد الكراهية، أو ما هو شر من ذلك بجعله مباحاً، ثم يزداد الإثم والشر بجعله مستحباً، أو حتى واجباً، عياذاً بالله.
وأهل التهمة بإحداث هذا النوع الأول من البدع هم في المقام الأول: السلاطين والحكام والأمراء والمتنفذين، وزعماء القبائل، وقادة المنظمات والأحزاب، وأهل الشوكة والمنعة، وكل من له سلطة أمر ونهي. لذلك تجد فقهاء السلاطين، أخزاهم الله ولعنهم، وأبعدهم وأبادهم، يفرون من ذكر هذا الصنف فرار الأسد: فلا تغترن بهم، وحاذر من مكرهم ومراوغتهم وألاعيبهم، وتنبه وافهم قوله، عليه وعلى آله الصلاة والسلام: «إنه سيلى أمركم من بعدى رجال يطفؤون السنة، ويحدثون البدعة، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها»، فسأله عبد الله بن مسعود فزعاً: (يا رسول الله: كيف بي إذا أدركتهم؟!)، قال: «ليس ــ يا ابن أم عبد ــ طاعة لمن عصى الله»، قالها ثلاث مرات،!
والدوافع هنا: المحافظة على الملك والسلطان، والوجاهة والشرف، والاستكثار من ملاذ الدنيا وشهواتها.
النوع الثاني: القيام بعمل يراد به التعبد والقربى، بدون دليل من الكتاب أو من السنة يدل على كونه قربة. ولا يكون العمل قربة إلا إذا كان مستحباً، أو واجباً بذاته. فالابتداع هنا جاء في قصد القربى، من غير دليل دل على كون ذلك الفعل بعينه قربة. والقيام بالعمل ذلك إنما هو تطبيق وإظهار لقصد القربى، وهذا القصد، قصد القربى، من المحال الممتنع أن يكون عند أحد إلا إذا اعتقد أن العمل موضع النظر مستحب أو واجب، لذلك إن شئت فقل: البدعة هنا من هذا النوع هي الحكم على اعتقاد أو قول أو عمل بأنه مستحب أو واجب (فيكون فعله من ثم قربة) بدون دليل مطلقاً، مع كونه في الحقيقة بأدلة الشرع مباحاً محضاً، أو مكروها، (والمكروه هو الذي يستحق تاركه المثوبة والثناء من الله، ولكن لا إثم ولا ذم لفاعلة)، وكذلك الحكم على عمل بالوجوب مع كونه في حقيقة الأمر مستحباً فقط.
ومن أمثلة هذا النوع الثاني:
ــ مخالفة الجنس الذي حددته الشريعة: كما في الأضحية، والهدي، والعقيقة، فلا يجوز بالخيل، مهما كانت جياداً وغلت أثمانها، لأن الشرع قصر ذلك على بهيمة الأنعام، فقط: الإبل، والبقر (ومنه: الجاموس)، والغنم (ومنها الماعز). ولا شك أن ذبح جياد الخيل وأكلها مباح، وربما كان سفها لما فيه من إضاعة المال، ولكن من ضحى أو أهدى أو عق بها فهو يظن أنه محسن متقرب لأنها أغلى ثمناً وأكثر نفاسة.
ــ مخالفة الكيفية التي حددتها الشريعة: كغسل الرأس في الوضوء بدلاً من مسحه فقط. ولا شك أن غسل الرأس مباح، إلا أن التزامه في الوضوء مخالفة للهيئة الشرعية، وذلك بقصد القربى، وتزداد شناعة هذه البدعة إذا كان ذلك على وجه الإيجاب.
ــ القول بأن استخدام السبحة واجب أو مستحب شرعاً، وهذا باطل، لم يأت به نص. أما لو استحبها إنسان لنفسه لأنها تسهل عليه العدد، أو لضعف ذاكرته وشدة نسيانه، أو لأنها تساعده على حضور الذهن أو التركيز، فلا بأس، لأنها آله مباحة، يجوز استخدامها في كل ما لم يأت النص بحرمته.
ــ تعمد كشف الرأس، إلا في حالة الإحرام، على وجه التعبد والتقرب إلى الله، أي استحباباً (أو إيجاباً وهو أغلظ من ذلك وأشنع). أما كشف الرأس وكذلك تغطيته فهي بذاته من الأفعال مباح.
ــ القول بأن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف واجب، وأن ترك الاحتفال به علامة على بغض النبي وعداوته، فهذا قول باطل، وزعم مجرد، واتهام للنوايا، لا برهان عليه.
وهذا النوع الثاني، عادة، أهون من النوع الأول:
(1) لأن المكروه، والمباح المحض، والمستحب كلها ترك الخيار للمكلف فيها: إن شاء اعتقد أو قال أو فعل، وإن شاء امتنع من غير إثم ولا استحقاق ذم قطعاً، وعلى كل حال، وإنما يرد عليه فلقط: تحصيل ثواب أو ثناء من الله أو فوات ذلك. فالانتقال بالحكم من ذلك إلى الاستحباب أو الوجوب لا يترتب عليه معصية من ترك واجب، أو فعل حرام،
(2) ولأن التقرب إلى الله، وطلب رضوانه، محمود في ذاته، وهو الدافع المعتاد للمبتدعين من هذا الصنف إلا أنهم أساؤوا تطبيقه،
(3) ولأن المكلف له أن يلتزم بحلال أو مستحب فيصبح واجباً عليه إذا نذر ذلك، وهذه شبهة أخرى لأهل هذا الصنف،
(4) ولأن الفروق بين الحلال المحض وبين المستحب قد تكون دقيقة، تزل فيها أقدام العلماء الراسخين، فكيف بغيرهم. وها هو الإمام النووي يستنبط من قوله، عليه وعلى آله الصلاة والسلام: «وفي بضع أحدكم صدقة»، (أن المباحات تصير طاعات، بالنيات الصادقات)، كما قاله، رضي الله عنه، في شرحه على صحيح مسلم، بدلاً من الحق البين، الواضح وضوح الشمس، أن الجماع مستحب لذاته، وقد أسلفنا نقاش هذا مستفيضاً في موضعه.
قلنا أن (هذا النوع، عادة، أهون من سابقه) احتياطاً لأن من فعل هذا عامداً في الشريعة فهو في درجة الإثم والشر كالصنف الأول، مبدلي الشرائع الكفار، وإن كنا نستبعد أن يوجد من يفعل ذلك عامداً من أهل الإسلام، وإن كان يمكن صدوره من أهل النفاق الاعتقادي، الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام.
وأهل التهمة بإحداث هذا النوع الثاني من البدع هم في المقام الأول: المتعبدون والزهاد، لا سيما المنتسبون إلى التصوف وطرقه.
والدوافع هنا المبالغة في التعبد وطلب رضوان الله، مع جهل وقصور في فهم الكتاب والسنة. ويخشى أن ينحرف هذا إلى غلو في الدين، أو إفراط في الزهد، وعزوف عن الدنيا والجهاد وإقامة شرع الله في أرض الله بدعوى الانشغال بـ«الجهاد الأكبر».
النوع الثالث: الحكم على شيء (اعتقاد أو قول أو عمل) بأنه حرام، (ومن ذلك الحكم بأنه بدعة أو أنه انحراف أو ضلالة أو كفر)، بدون دليل له بذلك بعينه، بدعوى المحافظة على حريم الدين، وصيانته من البدع والانحرافات، أي تديناً ولطلب رضوان الله
ومن أمثلة هذا النوع الثالث:
ــ القول بأن السبحة بدعة، وأن استخدامها من ثم حرام شرعاً، بزعم أن السلف لم يستخدمها ولا عرفوها (وهذا في ذاته زعم باطل يدل على جهل قائله بالآثار). وهذا جاء خلافاً للحق المقطوع به لأنها آله مباحة، يجوز استخدامها في كل ما لم يأت النص بحرمته.
ــ القول بأن الذكر الجماعي بدعة، وهذا باطل سنناقشه مستقلاً،
ــ القول بأن المصافحة بعد الصلاة بدعة، وهذا كسابقه في السخف والسقوط، وسنفرده بالنقاش،
ــ القول بأن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف بدعة، وربما قالوا: بدعة نكراء، وأن محاربة الاحتفال به علامة على حسن الإتساء بالنبي وصدق اتباعه، وهذا باطل، وزعم مرسل بني على قواعد باطلة منها: أن ترك النبي دليل على الكراهية أو الحرمة، وكذلك ترك الصحابة، وقد أثبتنا أن هذا باطل. بل الحق أن يوم مولده يوم شريف، وأنه، عليه وعلى اله الصلاة والسلام، أشار إلى ذلك إشارة لطيفة وأرشد إليه، كما سنفرده بالنقاش أيضاً،
وهذا النوع الثالث، عادة، أهون من النوع الأول:
(1) لأن المكروه، والمباح المحض، والمستحب كلها ترك الخيار للمكلف فيها، كما أسلفنا عند مناقشة النوع الثاني من البدع، فالانتقال بالحكم من ذلك إلى التحريم لا يترتب عليه معصية من ترك واجب، أو فعل حرام.
(2) ولأن المحافظة على حريم الدين، وصيانته من البدع والانحرافات مقصد جميل، إلا أن الشريعة بينت كيفيته، ولم تتركه بلا خطام ولا زمام.
وهذا النوع الثالث وإن كان، عادة، أهون من النوع الأول، إلا أنه عادة أشد من النوع الثاني، وأعظم خطراً:
(1) لأن المكلف لا يجوز له الامتناع الدائم المؤبد عن المباح، لا بنذر ولا بيمين، لورود النصوص الصريحة بذلك، من مثل قوله تعالى: }يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك، ... الآية{، ونهيه، عليه وعلى اله الصلاة والسلام، صراحة عن التبتل والرهبانية، وذلك بخلاف الالتزام بفعل حلال أو مستحب بموجب نذر أو يمين.
(2) ولأن التحريم والوصف بالابتداع (وربما بالفسق والكفر)، كما هو الحال في هذا النوع الثالث، أغلظ من مجرد الحكم بالاستحباب، كما هي الحالة المعتادة في النوع الثاني.
ولا شك أن من فعل هذا عامداً فهو في درجة أهل النوع الأول من الإثم والكفر، ولا نراه إلا منافقاً يظهر الإسلام، ويبطن الكفر.
وأهل التهمة بإحداث هذا النوع الثالث من البدع هم في المقام الأول: المنتسبون إلى الحديث والأثر، مع القول بأن النصوص لم تأت بحكم كل شيء، فهناك ثغرات تشريعية تحتاج إلى ملئها بـ: قياس الشبه الفاسد، وسد الذرائع، وحجية عمل الصحابي أو قوله، و«فهم السلف الصالح»، وغير ذلك من الطوام والبلايا. ويغلب على هؤلاء سطحية الفكر، والنظر المتعجل التجزيئي، وعدم اطراد القواعد والالتزام بتطبيقها بكل دقة.
كما أن الواقع العملي أظهر أن فيهم تساهلاً في التبديع والتكفير، المفضي إلى الغلو والمروق والخروج المهلك.
والدافع هنا: الحرص على الدين، المحافظة على حريمه، وصيانته من البدع والانحرافات. وهنا يخشى أن ينحرف هذا إلى غلو في الدين، وانزلاق إلى المروق، فالخروج والقتال، أو الحرص المرضي المهووس على الدين المفضي إلى عقلية الشعور بالحصار، والميل إلى العزلة والهجرة إلى رؤوس الجبال.
أما بخصوص مسألة (الذكر الجماعي) فينبغي أن نعلم أن الله، تبارك وتعالى، لم يحدد للأذكار والألفاظ، ولا للذكر كيفيات مخصوصة، بل حث على الذكر في كل حال، وفي جميع الأوقات، وعلى كافة الهيئات، فقال، في الكتاب العزيز: }فاذكروا الله قياماً، وقعوداً، وعلى جنوبكم{، وقال: }اذكروا الله ذكراً كثيراً v وسبحوه بكرة وأصيلاً{، وقال، على لسان نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله». وكان بعض الصحابة يخترع أذكاراً حسنة فتعجب النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ويقرهم عليها.
ولا يجدي القوم ها هنا أن ذلك كان في حياته، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وبإقراره، فهو سنة مشروعة. نعم: هذا لا يجديهم نفعاً لأنه عليه الصلاة والسلام لم ينكر عليهم عملية الاختراع هذه ذاتها، ولا حذرهم من العودة إلى مثله، أو نحو ذلك. كما أنه لم يطلب منهم قط عرض أدعيتهم عليه، بخلاف طلبه عرض «الرقى» عليه للتأكد من خلوها من الشرك!
كما كانت حلق الذكر، على وقت النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، شائعة مشهورة، وقد أشير إليها في أكثر من حديث في الصحاح (حديث: كيف تركتم عبادي، قالوا تركناهم يسبحون، ويهللون، ويحمدون، ... إلخ؛ وحديث مباهاة الله الملائكة بالذاكرين ... إلخ؛ وغيرها).
وهي كذلك في زمن الصحابة، فمن ذلك:
v ما أخرجه الإمام محمد بن سعد في «الطبقات الكبري»، قال: [أخبرنا يزيد بن هارون قال: أخبرني الجريري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد مولى أبي أسيد قال: [كان عمر بن الخطاب يَعُسُّ المسجد بعد العشاء فلا يرى فيه أحداً إلا أخرجه، إلا رجلاً قائماً يصلي. فمر بنفر من أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فيهم أُبَي بن كعب، فقالك من هؤلاء؟! قال أُبَي: نفر من أهلك يا أمير المؤمنين!، قال: فما خلَّفكم بعد الصلاة؟! قال: جلسنا نذكر الله! قال، فجلس معهم، وقال لأدناهم إليه: خذْ! قال: فدعا. فاستقرأهم رجلاً، رجلاً يدعون حتى انتهى إليَّ، وأنا إلى جنبه، فقال: هات! فحُصِرت، وأخذني من الرعدة أفْكَلٌ، حتى جعل يجد مس ذلك مني! فقال: ولو أن تقول: اللهم اغفر لنا، اللهم ارحمنا! قال: ثم أخذ عمر (يعني في الدعاء)، فما كان في القوم أكثر دمعةً، ولا أشد بكاءً منه، ثم قال: أيهاً الآن! فتفرقوا!]، هذا أثر صحيح، أبو سعيد هو المنذر بن أبي أسيد، ثقة من رجال البخاري، وأبو أسيد هو مالك بن ربيعة بن البدن الساعدي الأنصاري، رضي الله عنه، شهد بدراً.
v وأخرج الإمام الدارمي في «سنن الدارمي»: [أخبرنا عبد الله بن يزيد ثنا عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن عبد الرحمن بن رافع عن عبد الله بن عمرو ان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مر بمجلسين في مسجده فقال: «كلاهما على خير، وأحدهما أفضل من صاحبه: أما هؤلاء فيدعون الله ويرغبون إليه فإن شاء أعطاهم وان شاء منعهم، واما هؤلاء فيتعلمون الفقه والعلم ويعلمون الجاهل، فهم أفضل وإنما بعثت معلما!»، قال: ثم جلس فيهم]
ــ وهو في «مسند الحارث»: [حدثنا محمد بن بكار ثنا عبد الله بن المبارك عن عبد الرحمن بن زياد بن انعم الإفريقي بسنده ونحو متنه إلى منتهاه]
ــ وهو في «مسند أبي داود الطيالسي»: [حدثنا عبد الله بن المبارك عن عبد الرحمن بن زيادبسنده ونحو متنه إلى منتهاه]
ــ وهو في «البحر الزخار (مسند البزار)»: [حدثنا سلمة قال: أخبرنا عبد الله بن يزيد قال: أخبرنا عبد الرحمن بن زياد بن أنعم بسنده ونحو متنه إلى منتهاه]
عبد الرحمن بن زياد بن أنعم من خيار المسلمين، ومن المعروفين بالصدع بالحق عند السلاطين، ومواجهته لأبي جعفر المنصور مشهورة سارت بها الركبان، إلا أنه ليس بالقوي في الحديث، فلا يحتج به وإنما يكتب حديثه للاعتبار والاستئناس. فإن صحت روايته فهي دليل على أن حلق الذكر التي كانت تعقد على عهد النبي، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، ليست هي بعينها حلق الفقه والعلم، خلافا لما زعمه البعض من أنهما شئ واحد.
ثبت بذلك أن الذكر وألفاظه مطلوبة مطلقاً، من غير تحديد كيفية، ولا تحديد ألفاظ، فردياً وجماعياً، في جميع الأوقات، بما في ذلك قبل الصلوات المكتوبة وبعدها، وفي جميع الأوضاع، وبكافة الهيئات، إلا لفظاً، أو هيئة، خالفت الكتاب والسنة:
ــ كقرائة القرآن أو رفع الصوت بالذكر في المراحيض والأماكن النجسة، بدعوى الانجذاب، والترفع عن العلائق المادية والإنسلاخ من الضرورات البشرية،
ــ وكتعمد ذكر الله عند العري، وكشف العورات، عندما يكون الذاكر خالياً بنفسه، أو عند النظر، مصادفة، إلى النساء والمردان الحسان!
ــ أو مخاطبة الله بضمير التأنيث، كما يفعل بعض متصوفة اليهود في «القَبَالة»،
ــ أو بأسلوب مناف للتوقير والأدب، فيه «رفع الكلفة» مثل: «يا صديقي»، أو «يا معشوقي» بدعوى الأنس والقرب!!
ــ أو مخاطبة الله بغير الأسماء الحسنى، أو ذكره بكلام لا معنى له، أو غير تام المعنى، مثل: (يا هوَ، يا هوَ، ...)، نعوذ بالله من الخذلان، ونسأله حسن الأدب في حضرته، لا معتصم إلا به، ولا رب سواه!!
فليس الذكر الجماعي مما جاء النهي عنه في قرآن ولا سنة، ولا هو الذي جاء تحديد كيفية له في قرآن ولا سنة فالسؤال يكون لهؤلاء المهووسين المتكلفين: من أين جعلتم هذه الكيفية أو تلك بدعة ضلالة؟! سيكون الجواب هو المعتاد: لأنها لم تؤثر عن النبي، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، أو عن الصحابة، وهذا احتجاج باطل كما أسلفنا، فضلاً عن كونه ادعاءً محضاً ورجماً بالغيب، كما يظهر من الروايات السابقة.
وربما استشهدوا بأثر عبد الله بن مسعود الذي جاء فيه أنه أنكر على مجموعة من الناس كانوا يجتمعون في ناحية من مسجد الكوفة يسبحون تسبيحاً معلوماً، ويهللون ويكبرون كذلك، (وفي رواية أن أحدهم كان يقول: سبحوا عشراً، هللوا عشراً، ...، وهكذا). هذا الأثر ينسب عادة إلى كتاب:(البدع، والنهي عنها) للإمام ابن وضاح الأندلسي. وليست عندنا الآن نسخة من هذا الكتاب حتى نبحث في الإسناد من ناحية الثبوت، أو ألفاظ الرواية من حيث فهم المعنى، فلا نستطيع الجزم هذه الساعة لا بثبوته، ولا بدلالته على أن الإنكار كان على الذكر الجماعي، وليس على اعتزال أولئك جماعة المسلمين، وظهور نزعة خروج وغلو فيهم، كما أننا لم نجده في أي مرجع آخر بعد.
وحتى لو ثبت ذلك ونقل عن ابن مسعود، رضي الله عنه، نقل تواتر، وكانت الدلالة قاطعة أنه أنكر عليهم الذكر الجماعي نصاً، حتى لو ثبت كل ذلك فليست فيه حجة، لأنه ليس لأحد دون رسول الله، عليه وعلى آله صلوات وتسليمات وتبريكات من الله، حجة. وإن جعلوه ها هنا حجة لزمهم لزوماً لا فكاك منه أن يجعلوه حجة في إنكار قرآنية المعوذتين، وحكه إياها من المصحف، الذي ثبت عنه ثبوتاً لا شك فيه، وإلا فهم كذابون متناقضون: والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما فيما يتعلق بالمصافحة بعد التسليم من الصلاة، والزعم بأنها «بدعة»، فهذه من عجائب المصابين بـ(الهوس التبديعي). وقد فات هؤلاء الحمقى:
ــ أن الصلاة، ذات الكيفية المخصوصة، التي لا يجوز تبديلها أو الاختراع فيها، ختامها التسليم. فإذا سلم الإنسان من الصلاة جاز له عمل كل شيء فوراً، ولو كان في غرفة نومه لجاز له جماع زوجه فور فراغه من التسليم!
ــ وفاتتهم الأدلة المتواترة التي تحث على إفشاء السلام، وتجعله مفتاحاً للتحابب بين المسلمين، وأن الصحابة كان يسلم بعضهم على بعض، حتى ولو بعد فراق يسير، بسبب شجرة في الطريق مثلاً،
ــ وفاتهم أن المصافحة كانت هي التحية المختارة عند سيد المرسلين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، في كل الأوقات، وجميع المناسبات.
ــ ونسوا أو تناسوا أنه إذا التقى المسلمان فتصافحا تحاتت خطاياهما كما يتحات ورق الشجر اليابس إذا عصفت به الريح، فما الذي جعل هذه الفضيلة العظيمة تسقط إذا كانت المصافحة بعد الفراغ من الصلاة، التي أم الفضائل؟!
ــ وفاتهم ما أخرج أبو داود في كتاب الصلاة من «السنن» عن سمرة بن جندب قال: [أمرنا النبي، صلى الله عليه وسلم، أن نردّ على الإمام، وأن نتحاب، وأن يسلّم بعضنا على بعض]، وهذا يتعلق بالصلاة والمساجد خاصة، وأخرج ابن ماجه قطعة منه عنه، صلى الله عليه وسلم: «إذا سلّم الإمام فردوّا عليه»!
ــ ونسوا أو تناسوا غير ذلك كثير!
ترتب على ذلك أن أصبحت مساجدهم كالقبور، لا يكاد يسلم، أو يحيي بعضهم بعضاً، ولو هممت بمصافحة أحدهم، لقفز فزعاً كأن حيةً لدغته، وحصل بذلك التباعد والجفاء بين المسلمين، المفضي إلى فساد ذات البين، وهو منكر عظيم، وشر كبير: ولكن هكذا يضل الله المبتدعة من أهل الغلو والمروق، ويظهر فضيحتهم وعوارهم، وتناقض مذاهبهم!
أما عن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف فالقول بأنه بدعة، وشن الحرب عليه من هؤلاء المهووسين المتكلفين، فنقول: ليس بمستغرب ممن فسد ذوقه واختلت مقاييس الشرع في رأسه حتى سمَّى الدولة السعودية التي بدلت الشرائع، وأظهرت الكفر البواح، وقاتلت تحت الراية الأمريكية الكافرة لتدمير المسلمين وذبحهم: (دولة مباركة نصر الله بها الحق وأهله)، أو ممن وصفها بأنها «دولة التوحيد». وايم الله: إنها لطامة أن يؤتمن أمثال هؤلاء على دين، أو تقبل منهم فتوى!
وحجة القوم المعروفة هي: لم ينقل عن النبي، صلي الله عليه وعلى آله وسلم، ولا عن الصحابة قط أنهم احتفلوا بـ«المولد»، فهو إذاً بدعة. وقد أبطلنا هذه «القاعدة» بما فيه الكفاية، وحتى لو صحت لعاد الاحتفال بـ«المولد» مباحاً محضاً وذلك أنه لم ينقل عن النبي، صلي الله عليه وعلى آله وسلم، ولا عن الصحابة قط أنهم نهوا عن الاحتفال بالمولد، ولا ذكروه بشيء، لا بخير ولا شر، فمن أين جعلتموه مكروهاً، إو حراماً؟!
على أن هذه كلها بواطيل، فيوم المولد الشريف يوم فاضل أهل أن يحتفى به ويحتفل في كل أسبوع، وليس فقط مرة واحدة في السنة، لأن نبي الله، عليه وعلى آله صلوات وتسليمات وتبريكات من الله، قال نصاً: «هو يوم ولدت فيه، ويوم أنزل علي فيه» أو «ذاك يوم ولدت فيه، ويوم بعثت» أو «فيه ولدت، وفيه أنزل علي» أو كما قال، بأبي هو وأمي، مجيباً من سأله عن (صوم يوم الإثنين):
v كما جاء في «صحيح مسلم»: [حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار واللفظ لابن المثنى قالا حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن غيلان بن جرير سمع عبد الله بن معبد الزماني عن أبي قتادة الأنصاري، رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سئل عن صومه قال فغضب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال عمر، رضي الله تعالى عنه: (رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا، وببيعتنا بيعة!)، قال: فسُئِل عن صيام الدهر فقال: «لا صام ولا أفطر»، أو «ما صام وما أفطر»، قال: (فسئل عن صوم يومين وإفطار يوم) قال: «ومن يطيق ذلك؟!»، قال: (وسئل عن صوم يوم وإفطار يومين)، قال: «ليت أن الله قوانا لذلك!»، قال: (وسئل عن صوم يوم وإفطار يوم)، قال: «ذاك صوم أخي داود عليه السلام»، قال: (وسئل عن صوم يوم الإثنين)، قال: «ذاك يوم ولدت فيه، ويوم بعثت، (أو أنزل علي فيه)»، قال فقال: «صوم ثلاثة من كل شهر، ورمضان إلى رمضان: صوم الدهر»، قال: (وسئل عن صوم يوم عرفة)، فقال: « يكفر السنة الماضية والباقية»، قال: (وسئل عن صوم يوم عاشوراء)، فقال: «يكفر السنة الماضية»]، هو في صحيح مسلم» من عدة طرق، وهو أيضاً في «المجتبى من السنن»، وفي «السنن الكبرى»، وكذلك في «مسند الإمام أحمد بن حنبل» من عدة طرق وفي «صحيح ابن خزيمة»، وهو في «صحيح ابن حبان»، كما أنه في «المستدرك على الصحيحين»، وفي «سنن أبي داود»، وقد استوعب الإمام البيهقي أهم طرقه في «سنن البيهقي الكبرى»، وفي غيرها بأصح الأسانيد التي توجد في الدنيا.
قوله، عليه وعلى آله صلوات وتسليمات وتبريكات من الله: «هو يوم ولدت فيه، ويوم أنزل علي فيه»، جواباً لمن سأله: (عن صوم يوم الإثنين) يعني ضرورة أن يوم الأثنين أهل أن يصام فيه لوقوع هذه الأحداث الفاضلة فيه: مولده، عليه وعلى آله صلوات وتسليمات وتبريكات من الله، وبدء نزول الوحي عليه.
هذه حجة قاطعة، لا محيص عنها إلا لمن قال:
ــ ليست هذه وقائع فاضلة، ومن قال هذا فحسبه الكفر!
ــ من زعم أن قوله، عليه وعلى آله الصلاة والسلام: «هو يوم ولدت فيه، ويوم أنزل علي فيه»، يعني: «لا تصم يوم الإثنين، بالرغم من وقوع هذه الأحداث الفاضلة فيه»، ومن قال هذا فحسبه أولاً الكذب، وقلب الحقائق، لأن السياق سيق سؤال عن فضائل الصوم، وليس عن المناسبات التي لا يجوز أو يكره فيها الصيام، ثم حسبه بعد ذلك الكفر لأن هذا اتهام صريح له، عليه وعلى آله صلوات وتسليمات وتبريكات من الله، بالتلبيس وعدم البيان، بل بالتضليل وضد البيان، وتكذيب لوعد الله، تباركت أسماؤه: }ثم إن علينا بيانه{.
ونحن نسأل هؤلاء المهووسين: ما الذي جعل الصوم، وهو عبادة محضة، مستحباً استحباباً خاصاً يوم الإثنين لفضيلة هذا اليوم، ومنع من إلقاء المحاضرات، وعقد الدروس، وإنشاد القصائد فيه، ومد موائد الطعام الفاخر كموائد الأعراس؟! ثم من الذي قصر الفضيلة على يوم الإثنين من كل أسبوع، ومنع منها يوم مولده، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، مرة واحدة في العام؟!
سوف يسارع القوم بالشغب: ما بال خير الأمة، وهم الصحابة، لم يفعلوه؟!
فنقول: فكان ماذا؟! وأين وجدتم في كتاب الله، أو في سنة رسول الله، عليه وعلى آله صلوات وتسليمات وتبريكات من الله، أو في ضرورات الحس والعقل، أن ذلك القرن الفاضل، وهو أفضل قرون بني آدم بدون شك ولا جدال، لا بد أن يقوم بكل فضيلة بعينها؟! اليس فضل الصحبة، وتأسيس الدولة، ووضع أساس الأمة هي رأس الفضائل، فأي شيء في فوات غير ذلك عليهم؟! وهل كان فضل فتح القسطنطينية لهم؟! كلا والله: بل ذهب للأتراك العثمانيين وأميرهم محمد الفاتح، فنعم الجيش ذلك الجيش، ونعم الأمير ذلك الأمير.
أليس من أفضل شهداء الأمة ذلك الذي يقتله عدو الله الدجال؟! فهل جاءت هذه المنقبة بعد، وهل أدركها أحد من أصحاب أبي القاسم، خاتمة أنبياء الله، عليه وعلى آله صلوات وتسليمات وتبريكات من الله؟!
نحن نؤكد لهؤلاء الحمقى أن هذا الزمان، وكذلك مستقبل الأيام، مملوء بفضائل تنقطع دونها الأعناق، وملاحم حربية هائلة، تفوق ملاحم الدنيا كلها منذ نشأتها، سوف يخوضها أبطال الإسلام: الملحمة الكبرى، ملحمة الروم، وقد جاءت مقدماتها وأشراطها متمثلة في الهجمة الأمريكية الشرسة، ثم فتح رومية، ثم نغزوا الدجال، فيهزمه الله، ثم يخرج يأجوج ومأجوج، فيبيدهم الله، فهل بقي من الصحابة أحد ليدرك هذه الفضائل؟!
لذلك لا ينبغي أن تبقى شبهة في أن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف سنة حسنة، ادخرها الله لبطل الإسلام، السلطان المنصور بالله، صلاح الدين الأيوبي، رضي الله عنه، (إن صح أنه هو الذي سنها)، ففاز بأجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة.
ولا نطيل في هذه الرسالة العامة بمناقشة تفاصيل شطحات القوم حول ما يزعمون أنه بدع، فلعلنا نعالج ذلك في رسالة خاصة عن «البدعة: حقيقتها، وأنواعها وأحكامها»، إن بقي في العمر فسحة، والله المستعان، عليه توكل، وبه نتأيد.
وعلى العموم فإن القائلين بـ«سد الذرائع»، و«مآلات الأعمال»، وغيرها من الدجل والهراء، مصدراً للأحكام، قد فتحوا باب هذا النوع من البدع على مصراعيه بدعوى حماية حمى الشريعة، وإحاطة الحرام بسياج محكم، فحرموا أشياء من الحلال بدعوى أنها تؤول إلى الحرام، ولو تدبروا لأدركوا أن الله لم يكن ليعزب عن علمه شيء، وما كان ليفوته شيء: }وما كان ربك نسياً{، ولكن هكذا يكون الحرص المرضي، والهوس الجامح المفضي بأصحابه إلى «الغلو» و«التقديم بين يدي الله ورسوله»، فبئس المذهب هذا الذي يؤول إلى جعلك تعقب على ربك، وتستدرك عليه بعض ما فاته، فتقع في الابتداع والضلالة، وما هي إلا خطوات قليلة، ومسافة يسيرة فإذا بالشيطان يدعوك لتخرج من الإسلام وتدخل في الكفر: عياذاً بالله، تعالى ذكره!
أما فيما يتعلق بـ«البدع الاعتقادية» فهناك إشكاليات تستحق إلقاء الضوء عليها، نشأت من الخلط بين صدق المقولة في ذاتها، وبين هل هي عقيدة تعتقد للتدين والتقرب إلى الله بها، وذلك لأن:
البدعة اعتقادية: هي كل قول «خبري» مخترع، لم يقم عليه الدليل القاطع من الكتاب والسنة، يعتقده القائل به تديناً، أي بنية التعبد والتقرب، وهو من ثم ضرورة يؤثِّم من خالفه.
أما إذا صدق إنسان بصحة قول ما، أو حتى اعتقده صحته اعتقاداً جازماً، أي مطابقته لواقع ما خارج الذهن، ولكنه لا يقول بأن الله افترض علينا الإيمان به، أو كلفنا بالبحث في موضوعه، والوصول إلى رأي معين فيه، ومن ثم فهو لا يؤثِّم المخالف، ولا يفسقه، أو يبدعه، فلا بأس بذلك. ولا بأس بتخطئة المخالف، بل والجزم بخلل عقله، ولا حتى باتهامه بالمكابرة في المعقولات والإنكار للمحسوسات، كل ذلك قد يقبل، حسب أصول المناظرة، ويبرر عقلا، أما التفسيق، والتبديع على وجه الذم، والتكفير، فهي أحكام شرعية، تفتقر دوماً إلى الدليل الشرعي.
وذلك لأن كل قضية خبرية إما أن تكون محررة، لا تحتمل سوى الصدق أو الكذب، أو غير محررة تحتاج إلى توضيح لجزئياتها ومفاهيمها وتفكيكها إلى قضايا محررة من النوع السابق ومن ثم الحكم علي كل واحدة منها.
وكل ذلك، سواء كان تحرير المسائل والقضايا أو إصدار الحكم العقلي عليها، مباح بعمومات الكتاب والسنة، وداخل في مجمل إمتنان الله على الناس بالعقل والحواس، ومطلوب في إطار الدعوة إلى التفكر، والتذكر، والتعقل، والتدبر، والنظر إلى ما في السماوات والأرض، بل أكثر ذلك مستحب، وبعضه واجب! ومنه شيء قليل جاء الشرع بالنهي عن البحث، أو الجدل فيه: كالمراء في القدر أو القرآن، أو بتعلمه: كالسحر، ونحوه!
أما الخروج بقضية خبرية معينة من كونها قضية عقلية، أو حسية، أو أخلاقية، أو فنية، أو جمالية، أو غير ذلك، من إطارها وجعلها قضية دينية شرعية، يتعلق ببحثها، أو بالإيمان بقول معين فيها، بغض النظر عن صحته أو بطلانه في نفسه، من الله الثواب والعقاب، أي جعلها ديناً، يدان الله به، وتطلب إليه القربى بواسطته، من غير دليل شرعي، فلا يجوز، وهو تشريع من الدين ما لم يأذن به الله، وعبادة له بما لم يشرع.
والتشريع من الدين بما لم يأذن به الله، في ذاته، كفر وشرك، كما أسلفنا! ولكن أهل هذا المقام معذورون بالتأويل، وشدة الحرص على صيانة الدين، والدفاع عن حريمه، وطلب القربى والزلفى إلى الله تعالى بذلك، لذلك وجب إخراج أشخاصهم من حكم الكفر إلى حكم التأويل والاجتهاد، أي في ذات الأمر وحقيقته، وإن كان كثير من مرتكبيها في عداد المجتهدين المأجورين، ومنهم الكثير من كبار الأئمة والصالحين؛ ولكن هذه قضايا حساسة لا تصلح مناقشتها إلا بالتفصيل التام المشبع، وإلا كان ضرب الأمثلة أضر من تركه، لذلك نتركه لرسالتنا المستقلة المسماة: «البدعة: حقيقتها، وأنواعها وأحكامها»!
فالبدعة إذن لها مرتبتان: (1) كبرى، و(2) صغرى. وإن شئت فقل (1) مكفرة، و(2) غير مكفرة. وإن شئت فقل: (1) مخرجة من الملة، و(2) غير مخرجة من الملة.
فأما البدعة الصغرى فهي غير مخرجة من الملة، لإنها لا تصل بصاحبها إلى حد الكفر، وأكثرها من نوع ترك المباحات، والتبتل، والرهبانية تقرباً إلى الله.
وأما البدعة الكبرى، وهى المكفرة، وهى المخرجة من الملة، فهى التى تصل بصاحبها الى حد الكفر، وأكثرها من نوع تبديل الشرائع. وهذا النوع من البدع هو الذي يفر من دراسته، وإعلانه، وتنبيه الناس عليه فقهاء السلاطين فرارهم من الأسد، مع شغلهم الأوقات الكثيرة بصغائر البدع، مثل: المولد النبوي، والنصف من شعبان، ويوم الإسراء والمعراج، ونحو، إن صح أنها بدع أصلاً، ولم تكن أقوال فقهية مرجوحة أو حتى راجحة، أو سنناً حسنة، كما بينا آنفاً بالنسبة لبعضها
فإذا رأيتهم، أخي المسلم الكريم، يتقعرون في نقد صغائر «البدع» هذه، فسألهم: وماذا عن البنوك الربوية، والمنظمات الكفرية الدولية، التي تنتمي اليها دولتهم «السعودية» المباركة، التي نصر الله بها الحق وأهله، كما زعم مفتيها بن باز، «دولة التوحيد» كما أفحش الألباني؟! ثم أعرض عنهم، وذرهم في طغيانهم يعمهون!
u فصل : التحذير من البدع، ومن الغلوّ في الدين
v عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»، وهذا هو اللفظ المعتمد، المتفق عليه، وفي رواية لمسلم «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد».
v عن جابر بن عبدالله رضى الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا خطب يقول: أما بعد: «فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة»، حديث صحيح، أخرجه مسلم، والنسائي، وابن ماجه، وأحمد، والدارمي، بأسانيد صحاح، وزاد النسائي بإسناد صحيح: «وكل ضلالة في النار».
v وعن العرباض بن سارية، رضي الله عنه، مرفوعاً: «وإياكم والأمور المحدثات: فإن كل بدعة ضلالة». هذا الحديث أخرجه ابن ماجه بهذا اللفظ بإسناد في صحته كلام، كما ناقشناه سابقاً، وآبو داود، وأحمد، والدارمي، بلفظ مقارب، بإسانيد أيضاً فيها نظر، إلا أن هذه الفقرة تصح بشواهدها.
v وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، مرفوعاً: «وإياكم ومحدثات الأمور: فإن شر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة»، أخرجه ابن ماجه بإسناد محتمل.
v وعن عمرو بن عوف المزني، رضي الله عنه، مرفوعاً: «ومن ابتدع بدعة ضلالة، لا ترضي الله ورسوله، كان عليه مثل آثام من عمل بها، لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئاً»، أخرجه الترمذي، وقال: «هذا حديث حسن»، ولعله لا يصل إلى تلك المرتبة بذاته، ولكن بشهادة غيره!
وكما جاء النهي عن الإبتداع والإحداث في الدين بلفظه هكذا صريحاً، في نصوص قليلة، جاءت نصوص كثيرة، أقوى ثبوتاً، وأصرح دلالة بالنهي عن «الغلو»، و«التعمق»، و«التنطع» في الدين. فمن ذلك:
v قوله تعالى: }يا أهل الكتاب، لا تغلوا في دينكم غير الحق ..{، (المائدة؛ 5:77).
v وقوله، تقدست أسماؤه: }يا أهل الكتاب، لا تغلوا في دينكم، ولا تقولوا على الله إلا الحق ..{، (النساء؛ 4:171).
v وقوله: }وما جعل عليكم في الدين من حرج، ملة أبيكم إبراهيم{، (الحج؛ 22:78).
v وقوله: }ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج، ولكن يريد ليطهركم{، (المائدة؛ 5:6).
v وقوله: }يريد الله بكم اليسر، ولا يريد بكم العسر{، (البقرة؛ 2:185).
v وأخرج البخاري في صحيحه، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إن الدين يسر، ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه: فسددوا، وقاربوا، وأبشروا! واستعينوا بالغدوة، والروحة، وشيء من الدلجَة».
v كما أخرج فيه بأسناد غاية في الصحة، عن أنس، رضي الله عنه، عن النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: «يسروا، ولا تعسروا! وبشروا، ولا تنفروا!».
v وأخرج البخاري عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لن يدخل أحدا عمله الجنة!»، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: «لا، ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة؛ فسددوا، وقاربوا! ولا يتمنين أحدكم الموت: إما محسنا فلعله أن يزداد خيرا وإما مسيئا فلعله أن يستعتب»، حديث صحيح، غاية في الصحة.
v وأخرج البخاري كذلك بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن ينجي أحدا منكم عمله!»، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة! سددوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا!».
v وأخرج البخاري: حدثنا آدم بن أبي إياس قال: حدثنا شعبة قال: حدثنا محارب بن دثار قال: سمعت جابر بن عبدالله الأنصاري قال: [أقبل رجل بناضحين وقد جنح الليل فوافق معاذا يصلي فترك ناضحه وأقبل إلى معاذ فقرأ بسورة البقرة أو النساء، فانطلق الرجل، وبلغه أن معاذاً نال منه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فشكا إليه معاذا؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا معاذ أفتان أنت؟!!» (أو أفاتن؟!!)، ثلاث مرار، «فلولا صليت بسبح اسم ربك، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى! فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة!». هذا حديث غاية في الصحة! وقال البخاري: وتابعه سعيد بن مسروق ومسعر والشيباني قال عمرو وعبيدالله بن مقسم وأبو الزبير عن جابر قرأ معاذ في العشاء بالبقرة، وتابعه الأعمش عن محارب.
v وأخرج البخاري نفس القصة، بلفظ آخر فيه فوائد، بإسناد صحيح آخر عن جابر بن عبدالله أن معاذ بن جبل رضي الله عنه كان يصلي مع النبي، صلى الله عليه وسلم، ثم يأتي قومه فيصلي بهم الصلاة، فقرأ بهم البقرة، قال فتجوز رجل فصلى صلاة خفيفة، فبلغ ذلك معاذا فقال: إنه منافق، فبلغ ذلك الرجل فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إنا قوم نعمل بأيدينا، ونسقي بنواضحنا، وإن معاذاً صلى بنا البارحة، فقرأ البقرة، فتجوزت، فزعم أني منافق! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا معاذ أفتان أنت؟!»، ثلاثا، «اقرأ: والشمس وضحاها، وسبح اسم ربك الأعلى، ونحوها». وأخرج قريباً منه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وأحمد بأسانيد غاية في الصحة.
v وأخرجها أحمد بإسناد صحيح عن أنس بن مالك قال: [كان معاذ بن جبل يؤم قومه، فدخل حرام، وهو يريد أن يسقي نخله، فدخل المسجد ليصلي مع القوم، فلما رأى معاذا طوّل، تجوز في صلاته، ولحق بنخله يسقيه؛ فلما قضى معاذ الصلاة قيل له إن حراما دخل المسجد فلما رآك طولت تجوز في صلاته، ولحق بنخله يسقيه، قال: إنه لمنافق! أيعجل عن الصلاة من أجل سقي نخله؟! قال: فجاء حرام إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومعاذ عنده، فقال: يا نبي الله! إني أردت أن أسقي نخلا لي، فدخلت المسجد لأصلي مع القوم، فلما طول، تجوزت في صلاتي، ولحقت بنخلي أسقيه، فزعم أني منافق؟! فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على معاذ فقال: «أفتان أنت؟! أفتان أنت؟! لا تطول بهم! اقرأ بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، ونحوهما!».
v وأخرج البخاري في «الصحيح» قصة مماثلة، ولعلها نفس القصة جاءت مختصرة من زاوية أخرى، بإسناد غاية في الصحة عن أبي مسعود الأنصاري قال: قال رجل: (يا رسول الله! لا أكاد أدرك الصلاة مما يطول بنا فلان؟!)، فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في موعظة أشد غضبا من يومئذ فقال: «أيها الناس إنكم منفرون! فمن صلى بالناس فليخفف فإن فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة!».
v كما أخرج فيه عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن جده (أبي موسى الأشعري) قال: لما بعثه النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومعاذ بن جبل (إلى اليمن) قال لهما: «يسرا، ولا تعسرا؛ وبشرا، ولا تنفرا، وتطاوعا». قال أبوموسى: يارسول الله! إنا بأرض يصنع بها شراب من العسل، يقال له البتع، وشراب من الشعير، يقال له المزر؟! فقال رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «كل مسكر حرام». أي أن التيسير لا يعني مواقعة الحرام، بل مواقعة الحرام هي الحرج والعسر نفسه!
v وأخرج البخاري عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: [ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما، ما لم يكن إثما، فإن كان إثما، كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه، إلا أن تنتهك حرمة الله، فينتقم لله بها]، حديث صحيح، غاية في الصحة، وأخرج مثله مالك، في «الموطأ»، ومسلم، وأبو داود بأسانيد غاية في الصحة.
v وأخرج أحمد عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: [ما لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلما من لعنة تذكر؛ ولا انتقم لنفسه شيئا يؤتى إليه، إلا أن تنتهك حرمات الله عز وجل؛ ولا ضرب بيده شيئا قط، إلا أن يضرب بها في سبيل الله؛ ولا سُئِل شيئا قط فمنعه، إلا أن يسأل مأثما فإنه كان أبعد الناس منه؛ ولا خير بين أمرين قط إلا اختار أيسرهما؛ وكان إذا كان حديث عهد بجبريل عليه السلام يدارسه، كان أجود بالخير من الريح المرسلة]، هذا حديث غاية في الصحة.
v وأخرج البخاري في الصحيح قصة الأعرابي الذي بال في المسجد، فهم الناس أن يبطشوا به، فنهاهم النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقال: «دعوه! وهريقوا على بوله سجلا من ماء (أو ذنوباً من ماء)! فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين»، هذا حديث صحيح أخرجه كذلك الترمذي، والنسائي، وأبو داود، وأحمد.
قلت: اتهم حاج من إيران على ايام طاغوت الجزيزة الأسبق، عميل الإنجليز، الملك عبد العزيز آل سعود، بأنه أراد تلويث المسجد الحرام بـ«الغائط» فضربت عنقه فوراً، من غير تحقيق معتبر، ولا اتهام يعتد به، ولا بينة ولا محاكمة، بدعوى أنه «رافضي» وأن هؤلاء مشهورون بتعمد تلويث مشاعر الإسلام. أما إدراك أنه قل من يسلم من الأوبئة والأمراض في الحج، وأنه لا يكاد أحد ينجو من نوبة «إسهال»، وأن ذلك الرجل في الأرجح أحس بذلك فحاول الخروج عدواً من المسجد قبل وقوع «المصيبة» فغلبته بطنه، فظنوه هارباً بعد ارتكاب «الجريمة»، كل هذا الاحتمالات الراجحة لم تخطر لهم على بال: نعم هكذا يكون الاتباع «الحسن» لسيدي أبي القاسم، عليه وعلى آله الصلاة والسلام؟!
v كما أخرج فيه، عن الأزرق بن قيس، قال: (كنا على شاطيء نهر بالأهواز قد نضب منه الماء، فجاء أبو برزة الأسلمي على فرس، فصلى، وخلى فرسه، فانطلقت الفرس، فترك صلاته، وتبعها حتى أدركها، فأخذها. ثم جاء فقضى صلاته، وفينا رجل له رأي، فأقبل يقول: انظروا إلى هذا الشيخ، ترك صلاته من أجل فرس! فأقبل فقال: ما عنفني أحد منذ فارقت رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وقال: إن منزلي متراخ. فلو صليت، وتركت، لم آت أهلي إلى الليل! وذكر أنه صحب النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فرأى من تيسيره).
v وعن ابن عباس أنه التقط حصيات صغار، كحصى الخذف، لنبي الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وذلك لرمي الجمرات، فحسَّن فعله، وقال: «بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين»، حديث صحيح، لا شك في صحته، رواه النسائي، وابن ماجه، وابن خزيمة، وابن حبان، والبيهقي، وأحمد، والضياء المقدسي في «المختارة»، والحاكم وقال: (صحيح على شرط الشيخين)، ووافقه الذهبي، وقال الألباني: (على شرط مسلم فقط)!
لاحظ أنه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، استنكر الغلو، وحذر منه في أيسر الأمر وأسهله: اختيار حصوات رمي الجمار، فمن باب أولى فيما هو أكبر وأعظم!
v وعن عبد الله بن مسعود، عن رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «هلك المتنطعون»، قالها ثلاثاً. حديث صحيح أخرجه مسلم، وأبو داود، وأحمد.
v وعن أنس مرفوعاً: «إن فيكم قوماً يتعبدون حتى يعجبوا الناس، ويعجبهم أنفسهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية»، حديث صحيح أخرجه أبو يعلى الموصلي، فيه بيان العلة المهلكة المدمرة عند الخوارج الغالية: (الإعجاب بالنفس، وتزكيتها، وطلب إعجاب الناس وثنائهم).
وقد تواتر النقل بذم الخوارج الغالية، المارقين من الدين مروق السهم من الرمية، كما جاء في العديد من الأحاديث، بعشرات الطرق الصحيحة عن جمع من الصحابة، منها:
v أخرج البخاري بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، قال بعث علي، رضي الله عنه، إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذهيبة، فقسمها بين الأربعة: الأقرع ابن حابس الحنظلي ثم المجاشعي، وعيينة بن بدر الفزاري، وزيد الطائي ثم أحد بني نبهان، وعلقمة بن علاثة العامري ثم أحد بني كلاب، فغضبت قريش والأنصار، قالوا: (يعطي صناديد أهل نجد ويدعنا؟!)، قال: «إنما أتألفهم!»، فأقبل رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناتئ الجبين، كث اللحية، محلوق، فقال: (اتق الله يا محمد!)، فقال: «من يطع الله إذا عصيت؟!! أيأمنني الله على أهل الأرض، فلا تأمنوني؟!!»، فسأله رجل قتله (أحسبه خالد بن الوليد)، فمنعه، فلما ولى قال: «إن من ضئضئ هذا (أو في عقب هذا) قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان، لئن أنا أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد».
v وأخرج البخاري من طريق أخرى فيها فوائد وزيادات، بإسناد آخر صحيح، غاية في الصحة، عن أبي سعيد، رضي الله عنه، قال: بينما نحن عند رسول، الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقسم قسما، أتاه ذو الخويصرة، وهو رجل من بني تميم، فقال: (يا رسول الله اعدل!)، فقال: «ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل؟!! قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل!!»، فقال عمر: (يا رسول الله ائذن لي فيه فأضرب عنقه)، فقال: «دعه! فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رصافه، فما يوجد فيه شيء ،ثم ينظر إلى نضيه (وهو قدحه) فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث والدم! آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة، أو مثل البضعة تدردر، ويخرجون على حين فرقة من الناس». قال أبو سعيد: (فأشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه، فأمر بذلك الرجل فالتمس، فأتي به حتى نظرت إليه على نعت النبي صلى الله عليه وسلم الذي نعته).
v وأخرج البخاري في رواية أخرى بإسناد صحيح عن أبي سعيد، رضي الله عنه، يقول: بعث علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن بذهيبة في أديم مقروظ لم تُحَصَّل من ترابها. قال فقسمها بين أربعة نفر، بين: عيينة بن بدر، وأقرع بن حابس، وزيد الخيل، والرابع إما علقمة وإما عامر بن الطفيل. فقال رجال من أصحابه: (كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء!)، قال: فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ألا تأمنوني، وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحاً ومساءً؟!!»، قال: فقام رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، مشمر الإزار، فقال: (يا رسول الله، اتق الله!)، قال: «ويلك! أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله؟!»، قال: ثم ولى الرجل. قال خالد بن الوليد: (يا رسول الله، ألا أضرب عنقه؟!)، قال: «لا، لعله أن يكون يصلي!»، فقال خالد: (وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه؟!)، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم!»، قال: ثم نظر إليه وهو مقف فقال: «إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب الله رطبا، لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين، كما يمرق السهم من الرمية!»، وأظنه قال: «لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود». والصحيح أن الرابع هو علقمة بن علاثة، كما ثبت في الروايات الأخري الصحيحة، أما عامر ابن الطفيل فقد هلك قبل ذلك بمدة، كان حرباً على الله ورسوله، وله مشاركة في قتل القراء يوم بئر معونة، أصابته غدة كغدة البعير بدعوة النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، عليه، فمات كافراً، عياذاً بالله من النار!
v وأخرج البخاري في رواية أخرى مختصرة بإسناد صحيح عن أبي سعيد، رضي الله عنه، أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يخرج فيكم قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وعملكم مع عملهم، ويقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية: ينظر في النصل فلا يرى شيئا، وينظر في القدح فلا يرى شيئا، وينظر في الريش فلا يرى شيئا، ويتمارى في الفوق». وقد أخرج الإمام مالك في الموطأ مثل هذا بإسناد متصل صحيح.
v وأخرج البخاري بإسناد صحيح، غاية في الصحة، عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، قال: إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا فوالله لأن أخر من السماء أحب إلي من أن أكذب عليه، وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم، فإن الحرب خدعة، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «سيخرج قوم في آخر الزمان: أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين، كما يمرق السهم من الرمية؛ فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم يوم القيامة!».
v وأخرج مسلم، بإسناد صحيح، عن يسير بن عمرو قال: [سألت سهل بن حنيف: (هل سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الخوارج؟!)، فقال: سمعته، وأشار بيده نحو المشرق، قوم (وفي لفظ: يخرج أقوام) يقرءون القرآن بألسنتهم، لا يعدو تراقيهم: يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية]، وأخرج أحمد مثله، بإسناد لا بأس به، وزاد: [قلت: (هل ذكر لهم علامة؟!)، قال: هذا ما سمعت، لا أزيدك عليه!].
v وأخرج مثله الترمذي، بإسناد صحيح، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «يخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يقولون من قول خير البرية، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية!»، قال أبو عيسى الترمذي: (وفي الباب عن علي وأبي سعيد وأبي ذر؛ وهذا حديث حسن صحيح؛ وقد روي في غير هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث وصف هؤلاء القوم الذين يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية إنما هم الخوارج الحرورية وغيرهم من الخوارج).
v وأخرج ابن ماجه، وأحمد، كل منهم، بإسناده الصحيح، عن أبي سلمة قال: قلت لأبي سعيد الخدري: هل سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يذكر في الحرورية شيئا؟! فقال: سمعته يذكر قوما يتعبدون (وقال أحمد: يتعمقون في الدين) يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصومه مع صومهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية: أخذ سهمه فنظر في نصله، فلم ير شيئا، فنظر في رصافه، فلم ير شيئا، فنظر في قدحه، فلم ير شيئا، فنظر في القذذ: فتمارى هل يرى شيئا، أم لا؟!
v كما أخرج ابن ماجه، بإسناد صحيح، غاية في الصحة، عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «إن بعدي من أمتي (أو سيكون بعدي من أمتي) قوم يقرءون القرآن لا يجاوز حلوقهم، يمرقون من الدين، كما يمرق السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه. هم شرار الخلق والخليقة!»، قال عبد الله بن الصامت: فذكرت ذلك لرافع بن عمرو أخي الحكم بن عمرو الغفاري، رضي الله عنهما، فقال: وأنا أيضا قد سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أخرج أحمد حديث أبي ذر كذلك بإسناد صحيح.
v وأخرج الإمام أحمد، بإسناد صحيح، عن عاصم بن كليب عن أبيه قال كنت جالسا عند علي، رضي الله عنه، فقال: إني دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس عنده أحد إلا عائشة، رضي الله عنها، فقال: «يا ابن أبي طالب! كيف أنت وقوم كذا وكذا؟!»، قال: قلت: الله ورسوله أعلم! قال: «قوم يخرجون من المشرق، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، فمنهم رجل مخدج اليد كأن يديه ثدي حبشية». وزاد في رواية صحيحة، أن علي قال: (أنشدكم بالله هل أخبرتكم أن فيهم، ...) فذكر الحديث بطوله.
v وأخرج الإمام أحمد، بإسناد صحيح، عن يزيد الفقير قال: قلت لأبي سعيد الخدري: (إن منا رجالا هم أقرؤنا للقرآن، وأكثرنا صلاة، وأوصلنا للرحم، وأكثرنا صوما، خرجوا علينا بأسيافهم؟!)، فقال أبو سعيد: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يخرج قوم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية».
v وأخرج الإمام أحمد، بإسناد صحيح، عن أنس قال: ذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ولم أسمعه منه): «إن فيكم قوما يعبدون ويدأبون حتى يعجب بهم الناس، وتعجبهم نفوسهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية!»
v وأخرج الإمام أحمد، بإسناد صحيح، عن أنس بن مالك وأبي سعيد الخدري، وقد حدثناه أبو المغيرة عن أنس عن أبي سعيد، ثم رجع إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: «سيكون في أمتي خلاف وفرقة: قوم يحسنون القيل، ويسيئون الفعل، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، لا يرجعون حتى يرتدوا على فوقه، هم شر الخلق والخليقة! طوبى لمن قتلهم وقتلوه! يدعون إلى كتاب الله، وليسوا منه في شيء، من قاتلهم كان أولى بالله منهم!»، قالوا: (يا رسول الله ما سيماهم؟!)، قال: «التحليق».
v وأخرج الإمام أحمد، بإسناد حسن، عن جابر بن عبد الله قال كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الجعرانة وهو يقسم فضة في ثوب بلال للناس، فقال رجل: (يا رسول الله، اعدل!)، فقال: «ويلك! ومن يعدل إذا لم أعدل؟! لقد خبت إن لم أكن أعدل!»، فقال عمر: (يا رسول الله! دعني أقتل هذا المنافق؟!)، فقال: «معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي! إن هذا وأصحابه يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم أو تراقيهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية»، وأخرج مثله بأسانيد حسان إلى جابر، فالحديث عن جابر صحيح بمجموعها. ولعل هذه قصة أخرى، لأن القصة المشهورة الأخرى ما كانت عام الجعرانة، وكان المقسوم ذهيبة بين أربعة من زعماء القبائل من نجد، أو لعل القصتين اختلطتا على جابر، رضي الله عنه!
v وأخرج الإمام أحمد: حدثنا علي بن إسحاق، حدثنا عبد الله (يعني ابن المبارك)، قال حدثنا حرملة بن عمران، قال حدثني عبد العزيز بن عبد الملك بن مليل السليحي (وهم إلى قضاعة) قال: حدثني أبي قال: كنت مع عقبة بن عامر جالسا قريبا من المنبر يوم الجمعة فخرج محمد بن أبي حذيفة فاستوى على المنبر فخطب الناس ثم قرأ عليهم سورة من القرآن قال وكان من أقرإ الناس، قال: فقال عقبة بن عامر: (صدق الله ورسوله! إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليقرأن القرآن رجال لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية!»)، هذا إسناد صحيح.
v وأخرج الإمام أحمد، بإسناد لا بأس به، عن شريك بن شهاب قال: كنت أتمنى أن ألقى رجلاً من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، يحدثني عن الخوارج، فلقيت أبا برزة في يوم عرفة في نفر من أصحابه، فقلت: يا أبا برزة! حدثنا بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله في الخوارج! فقال أحدثك بما سمعت أذني ورأت عيناي: أتي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بدنانير فكان يقسمها وعنده رجل أسود مطموم الشعر عليه ثوبان أبيضان بين عينيه أثر السجود فتعرض لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأتاه من قبل وجهه، فلم يعطه شيئا، ثم أتاه من خلفه، فلم يعطه شيئا، فقال: والله يا محمد، ما عدلت منذ اليوم في القسمة؟! فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبا شديداً، ثم قال: «والله لا تجدون بعدي أحداً أعدل عليكم مني!»، قالها ثلاثا، ثم قال: «يخرج من قبل المشرق رجال، كأن هذا منهم، هديهم هكذا: يقرءون القرآن، لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، لا يرجعون إليه!»، ووضع يده على صدره: «سيماهم التحليق! لا يزالون يخرجون، حتى يخرج آخرهم، فإذا رأيتموهم فاقتلوهم!»، قالها ثلاثا، «شر الخلق والخليقة»، قالها ثلاثا.
v وأخرج الإمام أحمد، بإسناد صحيح، عن أبي بكرة قال أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بدنانير، فجعل يقبض قبضة، قبضة، ثم ينظر عن يمينه، كأنه يؤامر أحدا، ثم يعطي؛ ورجل أسود، مطموم عليه ثوبان أبيضان، بين عينيه أثر السجود، فقال: (ما عدلت في القسمة؟!)، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «من يعدل عليكم بعدي؟!»، قالوا: (يا رسول الله ألا نقتله؟!)، فقال: «لا!»، ثم قال لأصحابه: «هذا وأصحابه يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية لا يتعلقون من الإسلام بشيء». وقد زادنا أبو بكرة نفيع بن الحارث، رضي الله عنه، فائدة جميلة ها هنا، وهي أن أمين من في السماء، صلوات الله وسلامه وتبريكاته عليه وعلى آله، كان (ينظر عن يمينه، كأنه يؤامر أحداً)، فلعله كان يوآمر جبريل عليه الصلاة والسلام!
هذا نقل تواتر، يوجب العلم اليقيني، الذي لا يتطرق إليه شك أو تشوبه شائبة، وإنما كان ذلك الذم الشديد، والله أعلم، لأمور منها: أن اكثر الإبتداع والإحداث يرجع، حقيقة، إلى الغلو في الدين، والحرص المَرَضِيِّ عليه، والمبالغة في التعبد، والهوس في الزهد، كما فصلناه أعلاه. ومنها: أن الغلو والتشدد ينفر الناس من الدين ويصدهم عنه غالباً، بخلاف التقصير والتساهل، كما معلوم محسوس بشهدة الواقع وأحداث التاريخ المتواترة، لذلك جاء من الذم لأهل الغلو، وبالأخص الخوارج الغالية، من الأزارقة والنجدات والصفرية المكفرين بالذنوب، الذين يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، ما هو أكثر بكثير مما جاء في ذم أهل التفريط والتساهل!
لذلك كان الإفراط في الحكم بالتبديع على الناس، وعلى الأفعال، من الصفات المميزة لأهل الغلو والإبتداع أنفسهم. فلا يجوز للمسلم العاقل، الذي يؤمن بالله واليوم الآخر، أن يحكم على فعل بأنه بدعة إلا بعد إشباع البحث، والتأكد، بيقين، من عدم تقديم قائلها لدليل أو لشبهة دليل، وإلا وقع هو نفسه في الغلو والإبتداع! ويتدرج الحال بهذا وأمثاله، من العُجْب، وتزكية النفس، والغرور بها، وإساءة الظن بالمسلمين، حتى يبدع الناس جميعاً، ما عدا نفسه، وفرقته التي على نفس رأيه، بحذافيره. فتجده يقول بلسان الحال، بل ربما بلسان المقال: (ابتدع الناس؛ ضل الناس؛ فسدت عقائد الناس؛ هلك الناس؛ ..إلخ) فينطبق عليه الوعيد الشديد الذي ثبت عن النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إذا سمعت الرجل يقول: هلك الناس، فهو أهلكهم»، كما أخرجه مسلم في صحيحه، والبخاري في «الأدب المفرد» بإسناد صحيح عن أبي هريرة.
ولأهل الغلو نكت، وطرائف، وعجائب، لا تعد ولا تحصى، من أهمها، وأبرزها: الغلظة على العوام، والسكوت والتساهل مع «ساداتهم وكبرائهم» من الحكام. فهذا (الشيخ الدكتور) صهيب حسن، وهو «مبتدع» من رؤوس أدعياد «السلفية» والسنة والحديث في بريطانيا يبسط لسانه في عرض «جماعة التبليغ» فيقول، في ما روته عنه «الهدي النبوي»، في عددها الثامن لشهر شعبان 1417هـ: (لا يجوز للمسلم السني الدخول إلى هذه الجماعة لما فيها من «البدع الغليظة»، ولا يجوز الخروج معهم لأن ذلك نصر للبدعة وإشاعة لها)!
الله أكبر: «بدع غليظة»، هكذا قال بصوت مرتفع، فض الله فاه! من غير بيان لها، أو تفصيل، ومن غير دليل شرعي، بل هكذا إرسالاً، يتبعه المبتدعة بحق، من المقلدة العميان إتِّباع دواب الحمير لقائدها. فإذا وصل الكلام إلى أعداء الله وأعداء رسله، مبدلي الشرائع، المتولين للكفار، من امثال «آل سعود»، الذين يمدونه وجماعته بالمال، فلا تجد إلا الصمت المطبق، والسكوت المريب، والاعتذار بـ«الحكمة»، المزورة، واجتناب «الفتنة» المكذوبة المزعومة: }ألا في الفتنة سقطوا، وإن جهنم لمحيطة بالكافرين{، أما ما يأتيهم من أموال، وما يرفلون فيه من حلل حسان، وما يرتحلون من سيارات فارهة، وما يسكنون من قصور أو بيوت منيفة، فكله إنما أعطاه آل سعود لـ«وجه الله» وأخذه هؤلاء لـ«مصلحة الدعوة»، ولم لا؟! أليست دولة آل سعود هي «دولة التوحيد» بنص «الإمام» الألباني وهي «الدولة المباركة التي نصر الله بها الحق وأهله» بنص «الإمام» عبد العزيز بن باز؟!
بل إن الحق أن الخوارج الحرورية أكثر فحولة ورجولة وإخلاصاً من هؤلاء، فأدعياء السلفية هؤلاء فيهم كل صفات الخوارج إلا قوة الشكيمة، والرجولة والشجاعة، فلعل خير مسمَّى لهم هو: «مخانيث الخوارج»!
ومن فواقرهم: وصفهم مصافحة المسلمين لبعضهم بعضاً، بعد التسليم من الصلاة، بأنه بدعة! وقد ناقشنا ذلك وأبطلناه فيما سلف.
بل إن الظن ليسوء جداً بهؤلاء، نظراً لعلاقة أكثرهم الوثيقة بفجرة الحكام، وأن دوافعهم الحقيقية هي تعمد «إفساد ذات البين» بين المسلمين، وتفريق صفهم، حتى يتسنى للكفار، والمنافقين من فسقة الحكام، وعملائهم من المتنفذين ورجالات الأدب والإعلام، وزنادقة المشايخ، حتى يتسنَّى لهؤلاء بسط هيمنتهم، وفرض تسلطهم على الأمة التي تم تمزيق شملها، وتصديع صفوفها، بجلوسهم على أفواه السكك: يمتحنون الناس بغوامض المسائل، ودقائق مشكلات الاعتقاد! ثم يصنفون الناس: هذا مبتدع، وذاك كافر، والثالث، «سلفي»، والآخر «خلفي»، وهذا «صوفي»، وذلك «طرقي»، والإمام الحافظ الفقيه الأصولي النظار الحجة ابن حزم «جهمي»، وهذا مستحق للهجر، والإمام الحافظ الحجة قاضي القضاة ابن حجر «أشعري»: أهل لأن تحرق كتبه، والنووي، نصف أشعري: عقيدته «وسط!» مشكوك فيها، ووجه الإمام الشهيد سيد قطب، لأنه حليق وفق مذهبه في جواز حلق اللحية، يشبه وجوه اليهود والنصارى،.. إلخ، إلى غير ذلك من شطحاتهم الخبيثة الملعونة، أخزاهم الله، وأبعدهم، ولعنهم، وأبادهم.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق