بــــــــــاب
توحيد المحبة والولاء
توحيد المحبة والولاء هو إفراد الله بالمحبة والموالاة لاستحقاقه الذاتي لذلك، فتكون كل محبة ونصرة وموالاة ناشئة من ذلك متفرعة منه، وليست أصلا مستقلاً بنفسه.
واستحقاق الرب، تباركت أسماؤه، للمحبة في أقصى درجاتها، وأخلص أنواعها، ضرورة عقلية فطرية، جاء الشرع مؤكداً لها، ومنبهاً إليها. ذلك لأن الإنسان لا يحب شيئاً، أو شخصاً إلا بدافعين:
الأول: : لاتصاف الشيء أو الشخص المحبوب بصفات جمال، وكمال يدركها العقل، أو يميل إليها الطبع.
والله، تباركت أسماؤه، وتقدست صفاته، هو الموصوف بالكمال والجمال التام المطلق، الفائق لحدود إدراك العقول، المتجاوز لآفاق الوهم والخيال. فأي شيء أولى من الله بأقصى درجات المحبة لهذا الاعتبار؟!
الثاني: لما يأتي من الشيء أو الشخص المحبوب من الإنعام، أو العطايا والمنح، أو جلب النفع ودفع الضر، أو المعونة في النوازل والشدائد، أو التلطف في المعاملة وحسن الصحبة والمعشر، أو الحماية من الأعداء والنصرة عليهم.
والله سبحانه وتعالى هو المنعم الأول على الإنسان ابتداء: بمنح الوجود بعد العدم؛ والحياة بعد الموت؛ وجعل السمع والبصر، وسائر الحواس، والتمييز، والعقل؛ ومنِّه بحرية الإرادة والاختيار، والقدرة على الفعل والإبداع والابتكار؛ ثم التكريم والتفضيل على أكثر الخليقة تفضيلاً؛ ونعمه الظاهرة والباطنة تترى وتتوالى آناء الليل، وأطراف النهار. فأي شيء أولى من الله بأقصى درجات المحبة لهذا الاعتبار؟! فمن أولى أن يعترف له بالفضل والجميل، ويتقدم إليه بالشكر؟!
فهو جل وعلا مستحق، لذاته وبذاته، لغاية الحب، حباً يفوق حب النفس، والولد، والوالد، والزوج، وجميع متاع الدنيا ولذاتها، والناس أجمعين.
ويترتب على ذلك، لا محالة، إن كانت المحبة صادقة، حب من يحب، وحب كل ما يقرب إليه ويزيد في محبته، كما يترتب عليها، بداهة، طاعة أمره، واتباع رسله؛ وبالضرورة بغض أعدائه، وبغض من يبغضه، وبغض كل ما يبعد عنه.
وفي مقدمة محبوبيه، بل هو رأسهم، سيدنا وحبيب قلوبنا محمد بن عبدالله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي العربي، خاتم النبيين، وسيد المرسلين، وخليل رب العالمين، وإمام المتقين، الذي قال ناصحاً، مشفقاً: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده، ووالده، والناس أجمعين»! لذلك كان لا بد من محبته، وتوقيره، ونصرته، وطاعته، واتباعه. كما قيل في معنى شهادة «أن محمداً رسول الله»: (طاعته فيما أمر v وتصديقه في ما أخبر v واجتناب ما نهى عنه وزجر v وأن لا يعبد الله إلا بما شرع وقرر v وأن يُحَبّ أكثر من النفس والزوج والولد والوالد وسائر البشر v وأن يوقَّر ويعزَّر ويُنْصَر)
ثم ينشأ من ذلك ويترتب عليه لا محالة:
(1) نصرته، أي نصرة الله: بنصرة دينه، وكتبه، ورسله؛ والدعوة إليهم، والصبر على الأذى فيهم، والجهاد والقتال في سبيلهم؛
(2) موالاة أوليائه وأحبائه: بمحبتهم وصدق الود لهم؛ واحترامهم وإكرامهم؛ وحسن عشرتهم وصحبتهم؛ وإخلاص الصداقة والمشورة والنصح لهم؛ والتعاون معهم على كل بر وتقوى؛ وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر؛ ونصرتهم بالمال والنفس والولد؛ والتجمع معهم في جماعة واحدة، أي الانتماء إلى تابعية واحدة معهم، أي العيش معهم في ظل كيان سياسي واحد!
وأخص خصائص الموالاة، وجوهرها: التحالف، والإنتماء، والتكتل، والتقرب، والنصرة، والإعانة، والصداقة، والتودد.
(3) معاداة أعدائه، والمعاداة هي الضد التام للموالاة، فهي ضدها من كل وجه: ببغضهم، وقطع حبال المودة معهم، وعدم مناصرتهم، والانعزال عنهم، والهجرة من ديارهم، ومقاتلتهم، كل ذلك من غير ظلم ولا عدوان. ولا يستثنى من ذلك إلا ما أذن به الرب، جل وعلا، من الإحسان إليهم، والبر، والصلة، والموادعة، والمهادنة، والمصالحة، وحقوق التابعية لأهل ذمة الله، وذمة رسوله، ولغيرهم من المسالمين والموادعين.
أمَّا أعداء الله من الكفرة الحربيين فلهم كل البغض، وكل المقت، وكل العداء، وكل الإبعاد، وكل الخذلان، وكل القتال. وقد أشبعنا جزئيات ذلك وفقهه في كتابنا المسمَّى: (المولاة والمعاداة)، فليراجع.
v قال تعالى: }مالهم من دونه من ولي، ولا يشرك في حكمه أحداً{، (الكهف؛ 18:26).
v وقال: }أم اتخذوا من دونه أولياء؟! فالله هو الولى{، (الشورى؛ 42:9).
v وقال الله تعالى: }ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله، والذين أمنوا أشد حبًا لله{، (البقرة؛ 2:165).
v قال تعالى: }إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا{، (المائدة؛ 5:55).
v وقال: }لا تتخذوا أباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان{، (التوبة؛ 9:23).
v وقال: }لاتجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله، ولوكانوا آباءهم، او أبناءهم، أو إخوانهم، أو عشيرتهم، أولئك كتب في قلوبهم الإيمان{، (المجادلة؛ 58:22).
v وقال: }قل: إن كنتم تحبون الله، فاتبعوني يحببكم الله، ويغفر لكم ذنوبكم، والله غفور رحيم v قل أطيعوا الله والرسول، فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين{، (آل عمران؛ 3:31-32).
v وقال: }لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء، إلا أن تتقوا منهم تقاة ، ويحذركم الله نفسه، وإلى الله المصير{، (آل عمران؛ 3:28).
v وجعل، تباركت أسماؤه، اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين الصفة الرئيسية المميزة للمنافقين نفاقاً اعتقادياً مخرجاً من الملة، أهل الدرك الأسفل من النار، فقال: }بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً v الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، أيبتغون عندهم العزة؟! فإن العزة لله جميعاً{، إلى قوله، جل من قائل: }يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين! أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً؟! v إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار، ولن تجد لهم نصيراً{، (النساء؛ 4:138-145).
v وقال، جل من قائل، مثنياً على إبراهيم وصحبه: }قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه، إذ قالوا لقومهم: إنا برءاء منكم، ومما تعبدون من دون الله، كفرنا بكم، وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوابالله وحده{، (الممتحنة؛ 60:4).
v وقال تعالى: }يا أيها الذين آمنوا: من يرتد منكم عن دينه، فسوف يأتي الله بقوم يحبهم، ويحبونه: أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله، ولا يخافون لومة لائم{، (المائدة؛ 5:54). ذكر لهؤلاء المحبين لله، المحبوبين من الله؛ وهذا هو المطلب المهم: أن يكون المرء محبوباً من الله، ذكر لهم أربع علامات:
الأول: الذلة على المؤمنين: وهي تمام الرحمة والشفقة والعطف والرقة والتواضع. قال الإمام التابعي عطاء المكي، رحمه الله: (كالولد مع والده، والعبد المملوك مع سيده).
الثاني: العزة على الكافرين: وهي هنا الترفع، والشدة، وتأكيد الهوية والشخصية، بل والغلظة في مواضعها، وليست هي البطر والغطرسة والعجب بالنفس، كلا؛ كما قال، تقدست أسماؤه، في موضع آخر مثنياً على أصحاب نبيه، صلى الله عليه وسلم: }أشداد على الكفار، رحماء بينهم{، وقال تعالى، آمراً نبيه، صلى الله عليه وسلم: }جاهد الكفار والمنافقين، واغلظ عليهم!{.
الثالث: الجهاد في سبيل الله بالنفس، والمال، وباليد، واللسان، فبذلك تتحقق دعوى المحبة.
الرابع: أنهم لا يخافون في الله لومة لائم: وهذه علامة صحة المحبة.
فمن زعم أنه يحب الله فليفحص نفسه ويختبرها: فإن كان متصفاً بتلك الصفات الأربع فليستبشر بمبادلة الله له حباً بحب، وإلا فلا يغرنَّ نفسه بالأماني الكاذبة، والدعاوى العريضة، وليشتغل في تقويم نفسه، وإصلاح شخصيته، حتى يصبح أهلاً لمحبة الله، التي هي غاية الغاية، ومنتهى النهاية!
لاحظ كذلك أن المحبة هنا ليست محبة سلبية قلبية محضة فحسب، محبة الرهبان «المزعومة» المنعزلة في الصوامع والأديرة، بل هي كذلك: ولاء وبراء، أي موالاة ومعاداة، وجهاد وكفاح، وأفعال وأنشطة ظاهرة!
v عن أنس أن رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده، ووالده، والناس أجمعين»، حديث صحيح، أخرجه البخاري، ومسلم، وأحمد، وغيرهم.
v وأخرج البخاري بإسناد صحيح عن عبدالله بن هشام، رضي الله عنه، قال: كنا مع النبي، صلى الله عليه وسلم، وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال له عمر: (يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي!)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا، والذي نفسي بيده: حتى أكون أحب إليك من نفسك!»، فقال له عمر: (فإنه الآن، والله، لأنت أحب إلي من نفسي)، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: «الآن يا عمر». ؤأخرج أحمد مثله بإسناد قوي.
v ولهما عن أنس، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب اليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار»، حديث صحيح. وفي رواية صحيحة أخرى: «لا يجد أحد حلاوة الايمان حتى ...» إلى آخره. وقد أخرج مثله الترمذي وقال: حسن صحيح، والنسائي، وابن ماجه، وأحمد، وابن حبان في صحيحه،
حلاوة الإيمان: ما يحصل في القلب من اللذة والبهجة والنعيم والسرور، الذي يجده أهل الإيمان، ويعرفونه، ويذوقونه، ولا تستطيع الكلمات حده ووصفه، بل لا بد من تجربته! ويترتب على ذلك التلذذ بالطاعات، والتمتع بتحمل المشاق وتجنب الشهوات في رضى المحبوب، جل وعز.
ولن يجد أحد حلاوة الإيمان كاملة إلا إذا أكمل المحبة، ودفع ضدها، وجردها:
(1) فإكمال المحبة يكون: بأن يكون الله ورسوله أحب إلى العبد مما سواهما، فلا يكفي مجرد الحب، بل لا بد أن يكون الله ورسوله أحب من كل محبوب آخر. ومحبة الله تستلزم محبة طاعته، لأن الله يحب من عبده الطاعة، أي العبودية، والمحب بحق يحب ما يحب محبوبه، لا محالة، إن كانت محبته صادقة.
(2) ودفع ضدها: بأن يكره ضد لوازم المحبة والإيمان، أي أن يكره الكفر والفسوق والعصيان، كما يكره أن يقذف في النار.
(3) وتجريدها: أن يحب المرء، لا يحبه إلا لله. وتجريد المحبة لا يتأتى إلا بعد إكمالها، ودفع ضدها، لذلك جاء الحديث التالي بها منفردة، لأن وجودها، يقتضي ضرورة، سبق كمالها، ودفع الضد لها:
v عن أبي هريرة مرفوعاً: «من سرَّه أن يجد طعم الإيمان فليحب المرء لا يحبه إلا لله»، حديث صحيح، أخرجه أحمد، والطيالسي، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، وإسناده حسن صحيح قوي على شرط مسلم، تقوم به الحجة على كل حال، وهو قطعاً في غاية الصحة بشواهده.
v وعن أنس أن رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب للناس ما يحب لنفسه، وحتى يحب المرء لا يحبه إلا لله، عز وجل»، حديث صحيح، غاية في الصحة، أخرجه أحمد، وغيره.
v وعن أبي أمامة عن رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: «من أحب في الله، وأبغض في الله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان»، أخرجه أبو داود بإسناد حسن قوي لذاته، والطبراني في «الأوسط»، والضياء المقدسي، والبيهقي في «شعب الإيمان»، وابن عساكر. والحديث صحيح قطعاً، بمجموع طرقه، ومتابعاته، وشواهده، ومنها:
v عن معاذ بن أنس الجهني، رضي الله عنه، أن رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: ««من أعطى لله، ومنع لله، وأحب لله، وأبغض لله، وأنكح لله، فقد استكمل إيمانه». هذا حديث صحيح، أخرجه الترمذي وأحمد بإسناد صحيح، وكذلك أحمد بإسناد آخر فيه نظر. وقد روى ابن أبي شيبة في «الإيمان» مثله، شاهداً له، عن كعب بن مالك موقوفاً.
v أخرج أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبيد بن أبي الدنيا في «الإخوان» عن البراء بن عازب قال: كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أتدرون أي عرى الإيمان أوثق؟!»، قلنا: (الصلاة)، قال: «إن الصلاة حسنة، وما هي بها!»، فذكروا شرائع الإسلام، فلما رآهم لا يصيبون قال: «أوثق عرى الإيمان أن تحب في الله، وتبغض في الله عز وجل»، كما أخرجه كذلك أحمد، وأبو داود الطيالسي، وهو حديث حسن، كما سنبرهنه في الملحق، إن شاء الله.
v وجاء في المعجم الكبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لأبي ذر: «أي عرى الإيمان (أظنه قال:) أوثق؟!»، قال: (الله ورسوله أعلم!)، قال: «الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله». وهذا كذلك حديث صحيح، كما هو مبين في الملحق.
v أخرج الطبراني في «المعجم الكبير» عن عبد الله بن مسعود قال: [قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا بن مسعود!»، قلت: (لبيك!)، ثلاثا؛ قال: «هل تدرون أي عرى الإيمان أوثق؟!»، قلت: (الله ورسوله أعلم!)، قال: «الولاية في الله، والحب في الله، والبغض في الله!»، قال: «يا بن مسعود!»، قلت: (لبيك يا رسول الله)، قال: «أي المؤمنين أفضل؟!»، قلت: (الله ورسوله أعلم!)، قال: «إذا عرفوا دينهم، أحسنهم عملا!»، ثم قال: «يا بن مسعود، هل تدري أي المؤمنين أعلم؟!»، قلت: (الله ورسوله أعلم!)، قال: «إذا اختلفوا (وشبك بين أصابعه) أبصرهم بالحق، وإن كان في عمله تقصير، وإن كان يزحف زحفا!»، ثم قال: «يا بن مسعود، هل علمت أن بني إسرائيل افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة لم ينج منها إلا ثلاث فرق: فرقة أقامت في الملوك والجبابرة فدعت إلى دين عيسى فأخذت فقتلت بالمناشير، وحرقت بالنيران، فصبرت حتى لحقت بالله؛ ثم قامت طائفة أخرى لم تكن لهم قوة، ولم تطق القيام بالقسط، فلحقت بالجبال فتعبدت وترهبت وهم الذين ذكرهم الله فقال: }ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله إلى وكثير منهم فاسقون{، وفرقة منهم آمنت فهم الذين آمنوا وصدقوني وهم الذين رعوها حق رعايتها؛ وكثير منهم فاسقون: وهم الذين لم يؤمنوا بي ولم يصدقوني ولم يرعوها حق رعايتها وهم الذين فسقهم الله!». هذا حديث صحيح، كما هو مبين في الملحق.
v وجاء في مسند الإمام أحمد بن حنبل عن أبي ذر قال خرج إلينا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: «أتدرون أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل؟!»، قال قائل: الصلاة، والزكاة، قال قائل: الجهاد؛ قال: «ان أحب الأعمال إلى الله عز وجل: الحب في الله والبغض في الله»، كما أخرجه أبو داود مختصراً.
v وأخرج الطبراني مرفوعاً، وكذلك أحمد، بإسانيدهم، عن عمرو بن الجموح، رضي الله عنه، عن النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بلفظ: «لا يحق للعبد حق صريح الإيمان حتى يحب لله تعالى، ويبغض لله تعالى، فإذا أحب لله، وأبغض لله فقد استحق الولاء من الله، ...إلخ».
v أخرج الإمام ابن جرير الطبري، والإمام محمد بن نصر المروزي بأسانيدهم من كلام ابن عباس: (من أحب في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك! ولن يجد عبد طعم الإيمان، وإن كثرت صلاته وصومه، حتى يكون كذلك! وقد صارت مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئاً)، وأخرج ابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم الجملة الأولى منه فقط.
v أخرج ابن أبي الدنيا في «الإخوان»: عن ابن عباس قال: [أحب في الله، وأبغض في الله، ووال في الله، وعاد في الله! فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولا يجد عبد طعم الإيمان، وإن كثرت صلاته وصيامه، حتى يكون كذلك]. هذا أثر حسن، كما هو مبرهن في الملحق.
لاحظ ان الأثر السابق من كلام ابن عباس، لله دره، ليس إلا اتباعاً للأحاديث قبله، وإعمالاً للفهم الصحيح لها، ولغيرها من نصوص الكتاب والسنة المتضافرة، حاشا لابن عباس أن يكون مبتدعاً، أو أن يقدم بين يدي الله ورسوله، فلم يكتف بذكر «الحب»، و«البغض»، بل أكد على «الموالاة»، و«المعاداة». فلا يكفي مجرد «الحب»، و«البغض» القلبيين المجردين، بل لا بد من «الموالاة» وهي الإنتماء، والنصرة، والتحالف، والإعانة، والكينونة مع المحبوبين ظاهراً، وباطناً، ولا بد من ضدها وهو «المعاداة»: الشاملة للمقت، والتحقير، والمفاصلة، والهجر، والمقاتلة بالسلاح، والبراءة من المبغوضين، والكفر بهم، ونبذهم، والبعد عنهم ظاهراً، وباطناً!
v أخرج ابن ماجه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا وكيع وأبو معاوية وابن نمير، كلهم، عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده: لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا! أو لا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟! أفشوا السلام بينكم»، حديث صحيح، في غاية الصحة، ومثله في صحيح مسلم، ومسند إسحاق بن راهويه، وفي الأدب المفرد للبخاري، ومسند الإمام أحمد بن حنبل، وسنن أبي داود، وسنن البيهقي الكبرى، وفي صحيح ابن حبان.
v كما أخرج الطبراني عن أبي أمامة أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: «لا إيمان لمن لا أمانة له! !والذي نفسي بيده: لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنون حتى تحابوا، ولا تحابون حتى يذهب الغل من صدوركم! ألا أخبركم بأمر إذا فعلتموه تحاببتم؟!»، قالوا: (بلى)، قال: افشوا السلام!». هذا حديث صحيح، كما هو مفصل في الملحق.
v أخرج الطبراني في المعجم الكبير عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا! ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحابيتم؟! إفشاء السلام بينكم». هذا حديث حسن، كما هو مفصل في الملحق.
v وجاء في المستدرك على الصحيحين عن أبي موسى الأشعري، رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: «لن تؤمنوا حتى تحابوا! أفلا أدلكم على ما تحابوا عليه؟!»، قالوا: (بلى، يا رسول الله!)، قال: «افشوا السلام بينكم تحابوا! والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تراحموا!»، قالوا: (يا رسول الله كلنا رحيم؟!)، قال: «إنه ليس برحمة أحدكم، ولكن رحمة العامة، رحمة العامة!». وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي في التلخيص: صحيح، ولعله لا يصل إلى تلك المرتبة، ولكنه حسن، على كل حال، كما هو مبين في الملحق.
v أخرج الإمام أحمد بن حنبل عن الزبير بن العوام، رضي الله تعالى عنه، ان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: «دب إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء؛ والبغضاء هي الحالقة: لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين! والذي نفسي بيده (أو: والذي نفس محمد بيده): لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا! أفلا أنبئكم بما يثبت ذلك لكم؟! أفشوا السلام بينكم!». فيه مولى آل الزبير مجهول، وبقيت رجاله ثقات أثبات. وأخرجه الترمذي، والطيالسي، وأبو يعلى، والبيهقي في الكبرى، وعبد بن حميد.
v جاء في سنن ابن ماجه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا هريرة! كن ورعا تكن أعبد الناس، وكن قنعا تكن أشكر الناس، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنا، وأحسن جوار من جاورك تكن مسلما، وأقل الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب». قال الألباني: صحيح، وهو كما قال.
v وفي الصحيحين عن أنس مرفوعاً: «(والذي نفسي بيده)، لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه (أو قال: لجاره)، ما يحب لنفسه (من الخير)». هو من أصح أحاديث الدنيا، أخرجه أهل السنن كلهم: الترمذي وقال: حسن صحيح، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي، وأحمد، والطيالسي، وابن حبان، وأبو يعلى، والطبراني في «الصغير»، والشهاب القضاعي في مسنده، وغيرهم.
v وعن يزيد بن أسد بن كرز، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «يا يزيد بن أسد! أتحب الجنة؟!»، قلت: (نعم)، قال: «فأحب لأخيك المسلم ما تحب لنفسك!»، حديث صحيح، أخرجه أحمد، وأبو يعلى، وابن حبان، والطبراني في «الكبير»، وعبد بن حميد في «المنتخب»، كما أخرجه الحاكم في «المستدرك»، وصححه، ووافقه الذهبي.
v وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري مرفوعاً: «المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضاً»، ثم شبك بين أصابعه الشريفة، كما أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح، والنسائي، وأحمد، والطيالسي، والحميدي، وعبد بن حميد في «المنتخب»، وابن حبان، وأبو يعلى، والبيهقي في «الكبرى»، والشهاب القضاعي، وغيرهم!
v وفي الصحيحين عن النعمان بن بشير مرفوعاً: «ترى المؤمنين في تراحمهم، وتوادهم، وتعاطفهم كمثل الجسد (الواحد): إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى». هذا من أصح أحاديث الدنيا، وأخرجه كذلك أحمد من طرق كثيرة، والبيهقي في «الكبرى»، وابن حبان، وأبو داود الطيالسي، والطبراني في «الصغير» وفي «مسند الشاميين»، والحميدي، والشهاب القضاعي، وابن الجعد.
ــ ومن ألفاظ أحمد بإسناد صحيح: «المؤمنون كرجل واحد: إذا اشتكى رأسه اشتكى كله، وإن اشتكى عينه اشتكى كله»، ولعل هذا هو اللفظ الأصلي، أي أنه، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، سمَّى أعضاءً منها الرأس، والعين، وغيرها فاختصره بعض الرواة، فقال: «إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى»، أو قاله، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، مرة مبسوطاً، وأخرى مختصراً.
v وفي الصحيحين مرفوعاً: «آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار».
v وفي الصحيحين مرفوعاً: «الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق؛ فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله».
v وعن أنس مرفوعاً: «ما تحابَّ رجلان في الله إلا كان أحبهما إلى الله، عز وجل، أشدهما حباً لصاحبه»، أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» بإسناد صحيح، وابن حبان، والحاكم في «المستدرك» وقال: (صحيح الإسناد)، ووافقه الذهبي والعراقي، وفي إسناد الحاكم نظر، ولكن إسناد البخاري صحيح بلا شك! وله متابعة قوية، أخرجها الخطيب البغدادي، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير مرفوعاً.
v وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إن الله يقول يوم القيامة: أين المتحابين بجلالي؟! اليوم أظلهم في ظلي، يوم لا ظل إلا ظلي»، وهو كذلك في مسند أحمد، والموطأ.
v وعن أبي إدريس الخولاني قال: جلست مجلساً فيه عشرون من أصحاب محمد، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإذا فيهم شاب حسن الوجه، حسن السن، أدعج العينين، أغر الثنايا، فإذا اختلفوا في شئ، أو قالوا قولاً انتهوا إلى قوله، فإذا هو معاذ بن جبل، رضي الله عنه، فلما كان من الغد جئت، فإذا هو يصلي عند سارية، فخفف صلاته ثم احتبى، فسكت، فقلت: إني لأحبك في جلال الله! فقال: آلله! فقلت: آلله! فقال: [فإن المتحابين في الله في ظل الله، (قال أبو إدريس: أحسب أنه قال:) يوم لا ظل إلا ظله، (ثم قال أبو إدريس: لا أشك في بقيته) يوضع لهم كراسي من نور، يغبطهم بمجلسهم من الرب تبارك وتعالى، النبيون، والصديقون، والشهداء]. قال أبو إدريس: فحدثت بها عبادة بن الصامت فقال: لا أحدثك إلا ما سمعت على لسان رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أنه قال: «حقت محبتي للمتحابين فيَّ، وحقت محبتي للمتباذلين فيَّ، وحقت محبتي للمتصادقين فيَّ، وحقت محبتي للمتزاورين فيَّ، وحقت محبتي للمتواصلين فيَّ»، وشك شعبة في «المتواصلين»، و«المتزاورين»، وقد ثبتت من طرق أخرى صحاح، فزال شك شعبة! هذا حديث صحيح، صححه الحاكم وقال: (على شرط الشيخين)، ووافقه الذهبي.وله طرق أخرى صحاح بطوله مع كامل القصة، أو مختصراً، ثبتت فيها اللفظتان التي شك فيها الإمام الحافظ الحجة، الثبت المتقن المأمون، أمير المؤمنين في الحديث، شعبة بن الحجاج بن الورد، رضي الله عنه.
v وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إن من عباد الله لأناساً ما هم بأنبياء، ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله عز وجل»، قالوا: (يا رسول الله! تخبرنا من هم؟!)، قال: «هم قوم تحابوا بروح الله، على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها. فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم على نور: لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس»، ثم قرأ، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، هذه الآية: }ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم، ولا هم يحزنون{.
v وعن زيد بن أسلم عن أبيه: أن عمر خرج إلى المسجد يوماً فوجد معاذ بن جبل عند قبر رسول الله يبكي، فقال ما يبكيك؟! قال: يبكيني حديث سمعته من رسول الله يقول: «اليسير من الرياء شرك! ومن عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة! إن الله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء الذين إن غابوا لم يفقدوا، وإن حضروا لم يعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى، يخرجون من كل غبراء مظلمة!». حديث صحيح، لا علة له. قاله الحاكم، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا.
v وعن عبدالله بن مسعود، رضي الله عنه، قال: جاء رجل إلى إلى رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال: (يا رسول الله! كيف تقول في رجل أحب قوماً ولم يلحق بهم؟) فقال رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «المرء مع من أحب!»، أخرجه الشيخان، وهذا الرجل السائل هو، على الأرجح، أبو ذر الغفاري، رضي الله عنه، كما يظهر من الحديث التالي:
v وعن أبي ذر، رضي الله عنه، قلت: (يا رسول الله! الرجل يحب القوم ولم يستطع أن يلحق بهم؟) فقال رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «أنت، يا أبا ذر، مع من أحببت!». قلت: (إني أحب الله ورسوله!) قال: «أنت مع من أحببت، يا أبا ذر!». هذا حديث صحيح أخرجه البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود، وهو من مناقب أبي ذر الغفاري العظيمة، أصدق خلق الله لهجة، وما أكثرها!
v ولهما عن أنس أن رجلاً سأل النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (متى الساعة، يارسول الله؟) قال: «ما أعددت لها؟»، قال: (ما أعددت لها من كثير صلاة، ولا صوم، ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله)، قال: «أنت مع من أحببت!»، حديث صحيح، أخرج مثله الترمذي، والبخاري في الأدب المفرد.
فيا لها من بشارة عظيمة لمن أحب الله ورسوله، حباً صادقاً! من أمثال أبي ذر، رضي الله عنه، وطبقته. والحب الصادق هو الذي يصمد للمحك، ويجوز الامتحان الإلهي:
ــ أولاً: }قل: إن كنتم تحبون الله، فاتبعوني يحببكم الله،...{،
ــ وثانياً: }لاتجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله، ولوكانوا آباءهم، او أبناءهم، أو إخوانهم، أو عشيرتهم، أولئك كتب في قلوبهم الإيمان ...{،
ــ وثالثاً: }يا أيها الذين آمنوا: من يرتد منكم عن دينه، فسوف يأتي الله بقوم يحبهم، ويحبونه: أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله، ولا يخافون لومة لائم{!
v وفي «مجموع الفتاوى»، (ج: 5 ص: 510 وما بعدها): [قال تعالى واذا سألك عبادى عنى فانى قريب أجيب دعوة الداع اذا دعان وقال من تقرب الى شبرا تقربت اليه ذراعا وهذه الزيادة تكون على الوجه المتفق عليه بزيادة تقريبه للعبد اليه جزاء على تقربه باختياره فكلما تقرب العبد باختياره قد شبر زاده الرب قربا اليه حتى يكون كالمتقرب بذراع فكذلك قرب الرب من قلب العابد وهوما يحصل فى قلب العبد من معرفة الرب والايمان به وهو المثل الأعلى وهذا أيضا لا نزاع فيه وذلك ان العبد يصير محيا لما أحب الرب مبغضا لما ابغض مواليا لمن يوالى معاديا لمن يعادى فيتحد مراده مع المراد المأمور به الذى يحبه الله ويرضاه وهذا مما يدخل فى موالاة العبد لربه وموالاة الرب لعبده فان الولاية ضد العداوة والولاية تتضمن المحبة والموافقة والعداوة تتضمن البغض والمخالفة وقد ثبت فى صحيح البخارى عن ابى هريرة رضى الله عنه عن النبى أنه قال يقول الله تعالى: (من عادى لى وليا فقد بارزنى بالمحاربة وما تقرب الى عبدى أداء ما افترضته عليه ولا يزال عبدى يتقرب الى بالنوافل حتى أحبه فاذا احببته كنت سمعه الذى يسمع به وبصره الذى يبصر به ويده التى يبطش بها ورجله التى يمشى بها فبى يسمع وبى يبصر وبى يبطش وبى يمشى ولئن سألنى لأعطينه ولئن استعاذنى لأعيذنه وما ترددت فى شىء انا فاعله ترددى عن قبض نفس عبدى المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه)، فأخبر سبحانه وتعالى أنه يقرب العبد بالفرائض ولا يزال يتقرب بالنوافل حتى يحبه الله فيصير العبد محبوبا لله كما قال تعالى قل ان كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله وقال تعالى فسوف يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه وقال تعالى وأحسنوا ان الله يحب المحسنين وقال تعالى وأتموا اليهم عهدهم الى مدتهم ان الله يحب المتقين وقال فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ان الله يحب المتقين وقال تعالى ان الله يحب التوابين ويحب المتطهرين وقال تعالى ان الله يحب الذين يقاتلون فى سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص وقال تعالى فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين وقال تعالى وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين]
v وقال في «مجموع الفتاوى»، (ج: 11 ص: 160 وما بعدها) بعد أن ساق الحديث القدسي الشهير: «ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، .. الحديث»: [وهذا أصح حديث يروي في الأولياء، فبين النبي أنه من عادى وليا لله فقد بارز الله بالمحاربة وفي حديث آخر وإني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب أي آخذ ثأرهم ممن عادهم كما يأخذ الليث الحرب ثأره وهذا لأن أولياء الله هم الذين أمنوا به ووالوه فأحبوا ما يحب وأبغضوا ما يبغض ورضوا بما يرضى وسخطوا بما يسخط وأمروا بما أمر ونهوعما نهى وأعطوا لمن يحب أن يعطى ومنعوا من يحب أن يمنع كما في الترمذي وغيره عن النبي أنه قال أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله وفي حديث آخر رواه أبوداود قال ومن أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان والولاية ضد العداوة، وأصل الولاية المحبة والقرب، وأصل العداوة البغض والبعد وقد قيل أن الولى سمى وليا من موالاته للطاعات اى متابعته لها والأول اصح والولى القريب فيقال هذا يلى هذا أى يقرب منه ومنه قوله صلى الله عليه وسلم ألحقوا الفرائض بأهلها فما ابقت الفرائض فلأولى رجل ذكر أى لأقرب رجل إلى الميت واكده بلفظ الذكر ليبين انه حكم يختص بالذكور ولا يشترك فيها الذكور والاناث كما قال فى الزكاة فابن لبون ذكر فاذا كان ولى الله هوالموافق المتابع له فيما يحبه ويرضاه ويبغضه ويسخطه ويأمر به وينهى عنه كان المعادى لوليه معاديا له كما قال تعالى لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة فمن عادى اولياء الله فقد عاداه ومن عاداه فقد حاربه فلهذا قال ومن عادى لي وليا فقد بارزنى بالمحاربة.
وأفضل اولياء الله هم أنبياؤه وأفضل أنبيائه هم المرسلون منهم وأفضل المرسلين اولو العزم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وعليهم وسلم وقال تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذى أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى ان اقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه{]
v والموالاة لا تنقطع بما يقد يقع بين المؤمنين من تظالم وقتال وشر، بموجب ضعف الطبيعة البشرية، وغلبة الشهوات والوساوس الشيطانية، قال تعالى: }وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله، فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا! إن الله يحب المقسطين v إنما المؤمنون إخوة، فأصلحوا بين أخويكم! واتقوا الله لعلكم ترحمون{، (الحجرات؛ 49:9). يقول الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية شارحاً: (على المؤمن أن يعادي في الله، ويوالي في الله. فإن كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه ــ وإن ظلمه ــ فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية، قال تعالى: }وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، ...{، فجعلهم إخوة مع وجود القتال والبغي، وأمر بالإصلاح بينهم. فليتدبر المؤمن: أن المؤمن تجب موالاته، وإن ظلمك واعتدى عليك؛ والكافر تجب معاداته، وإن أعطاك وأحسن إليك. فإن الله سبحانه بعث الرسل، وأنزل الكتب، ليكون الدين كله لله، فيكون الحب لأوليائه، والبغض لأعدائه، والإكرام والثواب لأوليائه، والإهانة والعقاب لأعدائه)، (مجموع الفتاوى: ج28/208).
هل سمعتم وتدبرتم يا أعداء الله، فقهاء السلاطين، يا إخوان الحمير، حملة الأسفار، يا إخوان الكلاب الغاوية، مثل كلب الأعراف، الذين أفتيتم باستقدام القوات الأجنبية الكافرة، والقتال تحت رايتها لدفع «ظلم» العراق المزعوم للكويت، بدعوى الضرورة المزيفة الكاذبة، بل وسميتم جريمتكم النكراء «جهاداً»؟!
لقد أبى الله إلا فضيحتكم، وفضيحة ساداتكم وكبرائكم من الحكام، فانتهى الأمر باستعمار بلادكم، ووقوعكم تحت هيمنة الكفار: يقتلون المسلمين ويحاصرونهم، وينهبون خيرات بلادكم، ويمكنون صهاينة اليهود المعتدين من رقابكم، ويؤبِّدون اغتصابهم لفلسطين، وتسلطهم على بيت الله المقدس، وينشرون الربا، والزنا، واللواط، وسائر الفواحش والفتن في بلادكم! وأنتم ساكتون، سكوت الشياطين الخرس، فبعداً لكم، وتعساً لكم: أخزاكم الله، ولعنكم، وأضل أعمالكم!
v وفي صحيح البخاري مرفوعاً: «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً»، قيل: (أنصره مظلوماً، فكيف أنصره ظالماً؟!)، قال: «تمنعه عن الظلم، فذلك نصرك إياه!»، أو كما قال، بأبي هو وأمي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
v وفي الصحيحين مرفوعاً: «المسلم أخو المسلم: لا يظلمه، ولا يسلمه! من كان في حاجة أخيه، كان الله، عز وجل، في حاجته! ومن فرج عن مسلم كربة، فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة! ومن ستر مسلماً، ستره الله يوم القيامة!».
v كما أخرج البخاري في «الأدب المفرد»، وأبو داود، بإسناد حسن، مرفوعاً: «المؤمن مرآة أخيه. والمؤمن أخو المؤمن: يكف عليه ضيعته، ويحوطه من ورائه».
v وقال أحمد: حدثنا إسماعيل أخبرنا بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: أتيت النبي، صلى الله عليه وسلم، حين أتيته، فقلت: والله ما أتيتك حتى حلفت أكثر من عدد أولاء، أن لا آتيك، ولا آتي دينك، (وجمع بهز بين كفيه)، وقد جئت امرأ لا أعقل شيئا إلا ما علمني الله تبارك وتعالى ورسوله، وإني أسألك بوجه الله، بم بعثك الله إلينا؟! قال: بالإسلام، قلت: وما آيات الإسلام؟! قال أن تقول: أسلمت وجهي لله، وتخليت، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، كل مسلم على مسلم محرم: أخوان نصيران! لا يقبل الله من مشرك أشرك بعد ما أسلم عملاً! وتفارق المشركين إلى المسلمين! ما لي أمسك بحجزكم عن النار؟! ألا إن ربي عز وجل داعيَّ وإنه سائلي: هل بلغت عباده؟! وإني قائل: رب إني قد بلغتهم! فليبلغ الشاهد منكم الغائب! ثم إنكم مدعوون، مفدمة أفواهكم بالفدام، ثم إن أول ما يبين عن أحدكم لفخذه وكفه! قلت: يا نبي الله، هذا ديننا؟! قال: هذا دينكم، وأينما تحسن يكفك»]، وهذا إسناد حسن، إن شاء الله تعالى.
v وفي «السيرة النبوية» بتهذيب ابن هشام (ج: 3 ص: 30): [قال ابن إسحاق: ثم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس مرة أخرى فقال: إن الحمد لله أحمده وأستعينه نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إن أحسن الحديث كتاب الله، تبارك وتعالى، قد أفلح من زينه الله في قلبه، وأدخله في الإسلام بعد الكفر، واختاره على ما سواه من أحاديث الناس: إنه أحسن الحديث وأبلغه. أحبوا ما أحب الله، أحبوا الله من كل قلوبكم، ولا تملوا كلام الله وذكره، ولا تقس عنه قلوبكم، فإنه من كل ما يخلق الله يختار ويصطفي، وقد سماه الله خيرته من الأعمال، ومصطفاه من العباد، والصالح من الحديث، ومن كل ما اوتي الناس الحلال والحرام فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا واتقوه حق تقاته وأصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم، وتحابوا بروح الله بينكم، إن الله يغضب أن ينكس عهده، والسلام عليكم»]
فمحبة الله لذاته، ومحبة رسله وأوليائه ودينه تبعاً لذلك، هي النتيجة الطبيعية لمعرفة الله، والتصديق الجارم بما جاء به الوحي من أسمائه الحسنى، وصفاته العلى، والاعتراف بنعمه الكثيرة، وآلائه الجسيمة. وهي بالإضافة إلى ذلك واجب ديني، وفريضة شرعية، وليست هي مجرد موقف نفسي أو تنظير فلسفي، لا بد أن تستشعر بوعي وإدراك، وتوجه إرادة وقصد ونية، بل هي ركن من أركان الإيمان، فلا يخلو منها بالكلية إلا الكافر، ولا ينخلع منها تمام الانخلاع إلا من ارتد كافراً، إن كان دخل في الإسلام والإيمان من قبل، وحبط عمله، وخاب سعيه، فتعساً له!
u فصل: مظاهر وحقوق المحبة والموالاة للمؤمنين
المحبة والموالاة الحقة للمؤمنين، على المستوى الفردي المحض، لها مظاهر وحقوق بعضها أعلى من بعض، محلها المعتاد كتب الأدب والفضائل، ولكن جهل الناس اليوم بها، وإعراضهم عنها، مع أهميتها لسلامة إيمان كل مسلم، يلزمنا بعرضها ها هنا على وجه الاختصار، فمنها:
(1) المواساة وحسن الصحبة: فينزل المسلم أخاه المسلم منزلة الصاحب لديه، فيقوم بحاجته من فضل ماله، إذا احتاج، ولا ينتظر سؤاله. فإن ألجأه إلى السؤال فهو دليل على تقصيره في حق أخيه. وإذا انحط المسلم عن هذه المرتبة فهو مقصر مذنب، يحتاج إلي فحص نفسه، وتهذيبها، والتوبة إلى الله!
روي أن رجلا جاء إلى أبي هريرة فقال: إني أريد أن أواخيك في الله! فقال: أتدري ما حق الإخاء في الله؟! قال له: عرفني! قال: أن لا تكون أحق بدينارك ودرهمك مني! فقال الرجل: لم أبلغ هذه المنزلة بعد! فقال أبو هريرة: فدعك عني. وليس هذا من بنات أفكار أبي هريرة، فقد روى ابن ماجه مثل هذا المعنى عن عبد الله بن عمر بن الخطاب حين قال: (لقد رأيتنا على عهد رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وما منا أحد يرى أنه أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم)!
أما الإنزال في منزلة النفس، بحيث تسمح نفسه بمشاركتهم في ماله ومنزله! فهذه مرتبة مستحبة، وهي أعلى من سابقتها.
ثم قد يرتفع بعض المؤمنين الصادقين إلى مرتبة الإيثار، فيقدم إخوانه على نفسه، فيلحق بأولئك الأفذاذ الذين خلدهم الله في القرآن العظيم حين قال: }يؤثرون على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة{، فيصبح من المفلحين، الذين يغبطهم الشهداء والنبيون! ومن هذا النوع من الإيثار، الذي يعجز الزمان أن يأتي بمثله، ما حصل بين المهاجرين والأنصار عندما آخى رسول الله بينهم بعد الهجرة. فقد روى البخاري في صحيحه أن رسول الله آخى بين عبد الرحمن بن عوف المهاجري، وسعد بن الربيع الأنصاري، فقال سعد بن الربيع: (إنني أكثر الأنصار مالاً، فأقسم مالي نصفين! ولي امرأتان، فانظر إلى أعجبهما إليك، فسمها لي، فأطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها!!) قال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك، ومالك! أين سوقكم؟! فدلوه على سوق اليهود، فزاحمهم وبزهم في ميدانهم، فما لبث غير قليل حتى كسب مالاً، وتأهل من ماله، ولم يرزأ سعداً بشيء! لقد كان عبد الرحمن بن عوف عفيفاً، ولكن تعجز النساء أن يلدن مثل سعد بن الربيع!
هذه مرتبة مستحبة، وليست هي بواجبة أو فريضة محتومة كما كانت في دين السيد الوجيه المقرب عيسى بن مريم، صلوات الله وسلامه وتبريكاته عليه وعلى والدته، مسيح الله وروحه، إذ قد روي أن أتباعه كانوا يخرجون من أموالهم ويضعونها في صندوق مشترك تصرف منه أمراؤهم على كافة أفراد الجماعة، فلله درهم!
(2) قضاء الحاجات، والسعي بالشفاعة الحسنة، على قدر الاستطاعة والقدرة، مع البشاشة والفرح، وإظهار السرور والبشر. وكان بعض السلف الصالح يتفقد عيال أخيه في الله بعد موته عشرات السنين، فيقضي مصالحهم، ويلبي مطالبهم، ويتودد إليهم، ويتابع شؤونهم، كأنهم أولاده، وكأنهم لم يفقدوا من الوالد إلا ذاته!
(3) ستر العيوب والامتناع عن: الغيبة، والغمز، واللمز والهمز: فالتشهير وكثرة النقد والغمز واللمز والهمز، والتنابز بالألقاب مما ينافي الأخوة الإيمانية الصادقة، والولاية الدينية الحقة! وإن كان لابد من نصح، أو مشورة، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر فبتلطف، وسرية! وشر من ذلك، وأوغل في الضلالة، وأبعد عن الأخوة الإيمانية، والولاية الدينية: السعي بالنميمة، والتجسس، الناشرة للريبة، والمفسدة لذات البين!
(4) اجتناب الظن السيء، «فإن الظن أكذب الحديث»، وحمل أفعال الإخوة وأقوالهم على أحسن المحامل، ما أمكن. والتشدد في ذلك، إلا بدليل يقيني، وبينة موثقة قاطعة. وعلى العكس من ذلك تماماً: إساءة الظن بالكافرين، لا سيما المحاربين منهم، وعدم الانخداع بمعسول كلامهم، وجعل ذلك، أي سوء الظن وعدم الثقة، الأساس في التعامل معهم!
(5) ذكر المحاسن وإشاعتها، بما يحبب إلى النفوس، وىؤلف القلوب، ويقوي أواصر الأخوة، ويصلح ذات البين! وعلى العكس من ذلك: ذكر قبائح الكفار، وابتدائهم المسلمين بالعدوان والقتال، وسعيهم لاستعمار بلاد المسلمين، ونهب خيراتهم، واجتهادهم في إخراج المسلمين من دينهم، واعتدائهم على حرمات السلمين وأعراضهم، بحيث تتضح صورة العدو في بصيرة المسلمين، ويتبلور ذوقهم على معاداتهم، وبغضهم!
(6) البشاشة في الوجه، والمبادرة بالتسليم، لأن إفشاء السلام يورث المحبة، ومقابلة الإخوان بوجه طلق من أفضل المعروف!
(7) الإهداء من غير تكلف، وقبول الهدية مهما كانت، وقبول الدعوى، والتهنئة في المناسبات: في الأعياد، والأعراس، والقدوم من السفر، والقيام من مرض وغيره. وكذلك المشاطرة والمواساة في الأتراح، والتعزية في الموتى، وتشييع الجنائز!
(8) المدافعة عن عرض الإخوان بظهر الغيب، وإسكات من يغتابهم، أو يعتدي عليهم بقذف أو بهتان، فإن لم يستطع الإسكات، فليقم، فليترك مجالسهم حتى يخوضوا في حديث غيره.
(9) الامتناع عن سب المسلم، أو ذمه، لا سيما إذا كان هذا دفاعاً عن منافق، أو كافر. دليل ذلك ما رواه الإمام مسلم في صحيحه أن أبا سفيان مر على سلمان وصهيب وبلال في نفر من الصحابة، فقالوا: (ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها!) فأنكر عليهم أبو بكر قائلاً: (أتقولون هذا لشيخ قريش، وسيدهم؟!). ثم أتى رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فأخبره، فقال: «يا أبا بكر! لعلك أغضبتهم؟! لئن كنت أغضبتهم، لقد أغضبت ربك!». فأتاهم أبو بكر فقال: (يا إخوتاه! أغضبتكم؟!) قالوا: (لا، يغفر الله لك، يا أخي!). وذلك لأنهم إنما قالوا ما قالوه تولياً لله ورسوله، ومعاداة لأعدائه، وليس لحظ النفس أو شهوة الانتقام، شهد بذلك خاتمة أنبياء الله، عليه وعلى آله صلوات وتسليمات وتبريكات من الله!
فكيف يكون حال وسائل الإعلام، التابعة للأنظمة المتسلطة على رقاب المسلمين هذه الأيام، التي تمدح الكفار والمرتدين والمنافقين، والفسقة، والزناة، واللوطيين، والمأبونين، والقوّادين، ليل نهار، وتسخر من المؤمنين وتسبهم وتصفهم بأقذع النعوت من: التطرف، والإرهاب، والجمود، والتخلف، والظلامية؟! أليس هؤلاء قد عظموا بذلك الكافرين، وعادوا المؤمنين، وأغضبوا رب العالمين؟!
(10) إقالة العثرات، والعفو عن الهفوات. ذلك أن الهفوة والزلة قد تكون:
(أ) تقصيراً في حقك، فالأولى والأفضل والأعلى درجة: المغفرة والصفح، وترك المعاملة بالمثل، وإحسان الظن، والتماس العذر. وإن كان لا بد من القصاص، فالعدل، العدل!
(ب) خللاً في دينه بمعصية الله، بفعل محرم، أو ترك واجب. فإن كان قد ندم عليها، وتاب، وأقلع فالواجب الصفح والعفو.
ولكن ما العمل إذا كان مقيماً على الذنب متلبساً به؟! لقد اختلف الصحابة، والتابعون من بعدهم في معاملة أهل المعاصي والبدع، فمنهم من رأى المقاطعة والهجر، بل والمعاداة، ومنهم من لم يرها.
والصحيح أن الأخوة، ومن ثم الموالاة ثبتت بعقد الإسلام، وتبقى حتى بعد الاقتتال والبغي، بالدليل القاطع: }وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله، فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا! إن الله يحب المقسطين v إنما المؤمنون إخوة، فأصلحوا بين أخويكم! واتقوا الله لعلكم ترحمون{، فلا تنقطع إلا بالكفر. أما الهجر، كما حصل للثلاثة الذين خلفوا، فهو عقوبة شرعية محددة على جريمة معينة، فلا يقاس عليها! ورسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لم يطبقها على خوالف المنافقين الكاذبين، أعداء الله ورسوله، وطبقها على ثلاثة من خيرة المسلمين، فما هي علة القياس ها هنا، إن كان حقاً، يا أولي الألباب!
وكذلك ذم صحبة الفاسقين، وتشديد النصوص الشرعية على من كان «قعيدهم»، و«جليسهم»، و«خليطهم» لا يقتضي، بالضرورة، الهجر، ولا المعاداة، ولا يتناقض مع المبادرة بالسلام، والمقابلة بوجه طلق، وقتال العدو ــ أي الكفار ــ تحت راية واحدة! فالأمر ليس كما يظن أهل الغلو: إما مخالطة تامة، ورضى بالفعل، بحيث يكون الإنسان «قعيداً»، و«خليطاً»، و«جليساً» للفساق، وإما هجر تام، وامتناع عن إلقاء السلام! سبحان الله! فأين المرتبة المتوسطة: إظهار السخط على المعصية، ونقدها، واجتناب المخالطة التامة، والصداقة الحميمة، فلا يكون الإنسان له «قعيداً»، أو «جليساً»، أو «خليطاً»، لا سيما في حالة مباشرة المعصية، مع مواصلة الأخ العاصي، والتلطف معه، والسلام عليه، والدعاء له، بالهداية والتوبة، في حضوره، وغيبته، وزيارتة في مرضه، وتهنئته في مناسباته، وتشييع جنازته، ونصرته على عدوه، ... إلخ؟!
(11) الدعاء للإخوان في حياتهم بالنصر والتمكين، وبعد مماتهم بالمغفرة والرضوان، فقد ورد في الحديث الصحيح: «ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال الملَك: ولك، بمثل». ولا يجوز أن يعجز عن هذه المرتبة مسلم، ولا أحسب أن في قلب من قصر عنها، عمداً، مثقال حبة خردل من إيمان، أو إسلام، أو توحيد!
فكيف يكون حال الدولة «السعودية»، التي سماها كبير كهنتها ابن باز :(دولة مباركة نصر الله بها الحق وأهله)، التي حرمت على أئمة المساجد الدعاء للمجاهدين الشيشان، أو القنوت لهم، إلا بعد استحصال إذن «ولي الأمر»، (وهو إذن ما صدر ولن يصدر أبداً!)؟!
صدر هذا في تعميم رسمي من وزير أوقافهم «الشيخ» صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ جاء فيه نصاً: [فقد بلغنا قيام بعض أئمة المساجد بالقنوت للمسلمين الشيشان، وحيث أن هذا يتطلب إذن ولي الأمر. فاعتمدوا إبلاغ الأئمة بالامتناع عن ذلك. والرفع لنا عمن لا يلتزم به]. صالح هذا هو حفيد مؤسس الدعوة الوهابية الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب. ووالله الذي لا إله إلا هو ما هو بصالح، بل هو «طالح». والرجل قد طلب من العلم الشرعي ما يجعله يعلم علم يقين أن دعاء المؤمنين بعضهم لبعض بظهر الغيب لا يحتاج إلى إذن نبي مرسل، ولا ملك مقرب. وحري به أن يعلم أن «ولي أمره» فهد بن عبد العزيز آل سعود، المنافق القذر السافل، الأشيمط الزاني بمحارمه، ما هو إلا «ولي للشيطان» بتوليه الكفار، وتبديله الشرائع، وحكمه بالكفر، وأكله الربا جهاراً، وعهره ودنسه وفسقه، وأن حقه أن يقتاد ذليلاً مهاناً إلى «محكمة المظالم»، فتحكم بخيانته وردته، واستحقاقه أن تضرب عنقه، لا أن يطاع أمره. ولكن «الشيخ» صالح يفتري على الله الكذب، فتعساً له، وأولى له!
(12) المداومة على المحبة والموالاة حتى الموت، وذلك لأنها عبادة يتقرب بها العبد إلى الله رب العالمين، وليس للعبادة أجل دون الموت، قال تعالى: }واعبد ربك حتى يأتيك اليقين{!
u فصل: حقيقة «موالاة الكفار» وماهيتها
المُوَالاة: مصدر من (وَالَى)، على وزن فَاعل، يوالي، موالاة. والولاء هو الدنو والقرب. والموالاة، لكونها على وزن مُفَاعَلَة، تتضمن معاني المبادلة والمقابلة: هذا يتخذا ذاك ولياً. وذاك يبادله الفعل فيتخذه ولياً. فـ«الموالاة» هي «اتِّخَاذ الوَلِيّ».
والأصل الثلاثي لـ«الموالاة» هو: (و ل ي)، والمصدر هو: «الوَلْي»، بسكون اللام، ويعني القرب والدنو. و«الوَلِي» هو القريب، حسياً أو معنوياً، في قرابة النسب مثلاً، و«الأولى» الأقرب، حسياً أو معنوياً، كما هو في حديث المواريث: «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر»، أو كما قال، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، أي لأقرب الذكور إلى الميت، نسباً أو بولاء عتق أو نحوه.
إلا أن العرب كانت تستخدم، عادة، لفظة «قريب»، أو «ذو قربى»، لقرابة النسب، وقلَّ أن تستخدم لفظة «ولِي» في ذلك، ثم كادت أن تقصر لفظة «ولِي» علي قرابة «الحلف». وكان الحلف يعقد للحماية المتبادلة والنصرة، فيصبح الحليف قريباً ممن حالفه قرابة كقرابة النسب، بكل ما لتلك القرابة في المجتمع القبلي من ميزات تشمل عادة التوارث، والنصرة بدون قيد أو شرط، ظالماً أو مظلوماً، على طريقة أهل الجاهلية، بل وحمل اسم القبيلة: فهذا زهري نسباً، وذاك زهري ولاءً. فالموالاة في جوهرها إذا «انتماء» وقرابة كقرابة النسب.
هذه «الموالاة» أو هذا «الحلف» له جانب «دستوري» مهم قد لا يلاحظه كثير من الناس، وهو أنه يتضمن كل المعاني التي تشملها مفاهيم: «حمل التابعية» أو «المواطنة» في العصر الحديث. وذلك لأن القبائل العربية كانت بمثابة دول: كل قبيلة بمثابة دولة.
وما قد يظهر أن «الحلف» أو «الموالاة» تتضمن أمواً إضافية كالتوارث في أحوال مخصوصة، فهو من ثم أقوى من «حمل التابعية» أو «المواطنة» في العصر الحديث، هو في الحقيقة مظهر لكون الدولة في الأصل قبيلة تقوم على النسب، وليست كالدولة الحديثة التي لا تقوم على قبيلة واحدة أو شعب من عنصر واحد محض، فما ثمة زيادة حقيقية، وإنما كان ذلك نتيجة حتمية لطبيعة تلك الدول بوصفها دولة تتكون من قبيلة واحدة فقط، وتقوم أصلاً على قرابة النسب، ثم وسَّعت تابعياتها فأدخلت فيها الحلفاء والموالي.
فـ«الحلف» أو «الموالاة» إذا تتضمن معاني «حمل التابعية» أو «المواطنة» في دول العصر الحديث، بل لعلها هي بعينها.
هذا العرف المطرد المستقر جعل معانى النصرة والحلف والانتماء والإعانة والمعونة والتأييد جزءً جوهريا لبعض ما تدل عليه لفظة «ولِي»، حتى كأنه نقل إليها، وكاد المعنى الأصلي، وهو «القرب» و«الدنو»، أن يتراجع إلى الوراء وينسى، فأصبحت «الموالاة» مرادفة لـ«المحالفة» و«المناصرة»، أو كادت. وعلى هذا نزل القرآن فأقر الاصطلاح العرفي في جوهره، وأضاف اليه معاني وقيود شرعية، كما هو بما لا مزيد عليه في كتابنا: (الموالاة والمعاداة)، والحمد لله رب العالمين.
و«المَوْلَى»، على وزن مَفْعَل، تستخدم مرادفاً ترادفاً تامَّآ للفظة: «الوَلِي»، بل لعلها الأكثر انتشاراً لسهولتها على اللسان في مقابل ثقل الياء المشددة في لفظة «الوَلِي»، فتجد الناس تقول عن الرجل: (مولى آل فلان)، ولا تكاد تسمع: (ولَِي آل فلان)!
ومن أسماء الله الحسنى: «الولِي» بمعنى «الناصر» في المقام الأول، ولكنها تتضمن معنى «القريب» أيضاً، وكلاهما، أي «الناصر»، «القريب» من الأسماء الإلاهية الحسنى أيضاً.
و(التَوَلِّي)، على وزن تَفَعُّل، وهو من صيغ المبالغة، وهي صيغة مبالغة للفعل الثلاثي: «وَلِيَ»، بمعني (اقترب من) أو (دنا من)، وتعني الاستغراق في «التقرب»، والمبالغة فيه. أي بلفظ آخر: اتخاذ «الولي»، فقولك: (تولَّى زيد عمراً) يعني بالضبط: (اتخذ زيد عمراً ولياً)، وهذا هو استخدام القرآن، من غير زيادة ولا نقصان. وإذا تولى عمرو زيداً أيضاً، كما هو في الأحوال العادية، صار بين الإثنين «موالاة»، أي حلف وانتماء وتناصر. فـ(الموالاة) إذاً هي تبادل (التَوَلِّي): زيد يتولَّى عمراً، أي يتخذه ولياً، وعمرو يتولَّى زيداً.
فليس (التَوَلِّي)، على وزن تَفَعُّل، مبالغة من (والى)، فلا تعني إذاً: (الاستغراق في «الموالاة»، والمبالغة فيها) أو (الاستغراق والإنقطاع التام في نصرة الولي، ومحالفته، وإعانته، ودعمه، وتأييده»، وتقريبه) أو هي: (الموالاة المطلقة العامة)، فليس «التولي» إذاً هو أعلى مراتب «الموالاة»، كما زعم، ويزعم، رجالات الدعوة «الوهابية»، ففرقوا تبعاً لذلك بين (الموالاة) المحرمة فقط، وبين (التَوَلِّي) المكفِّر المخرج من الملة.
هذه «الموالاة» أو هذا «الحلف» له جانب «دستوري» مهم قد لا يلاحظه كثير من الناس، وهو أنه يتضمن كل المعاني التي تشملها مفاهيم: «حمل التابعية» أو «المواطنة» في العصر الحديث. وذلك لأن القبائل العربية كانت بمثابة دول: كل قبيلة بمثابة دولة، وتحالفات القبائل بمثابة اتحاد فيدرالي أو كونفيدرالي. فـ«الحلف» أو «الموالاة» إذا تتضمن معاني «حمل التابعية» أو «المواطنة» في دول العصر الحديث، بل لعلها هي بعينها.
هذا العرف المطرد المستقر جعل معانى النصرة والحلف والانتماء والإعانة والمعونة والتأييد جزءً جوهريا لبعض ما تدل عليه لفظة «ولِي»، حتى كأنه نقل إليها، وكاد المعنى الأصلي، وهو «القرب» و«الدنو»، أن يتراجع إلى الوراء وينسى، فأصبحت «الموالاة» مرادفة لـ«المحالفة» و«المناصرة»، أو كادت. وعلى هذا نزل القرآن فأقر الاصطلاح العرفي في جوهره، وأضاف اليه معاني وقيود شرعية. هذا بحث في غاية الأهمية، ولكنه معقد لتعلقه بدقائق الفقه، وهو أيضاً طويل جداً، فلابد من الإحالة إلى كتابنا: (الموالاة والمعاداة)، حيث تجده مفصلاً في موضعه هناك.
و«المعاداة» هي الضد التام لـ«الموالاة»: والولاء ضد العداء. والولاية ضد العداوة. والوَلِيّ ضد العدو. والموالاة تدور حول معاني: الحلف، والنصرة، والمتابعة، والدعم، والتأييد، والقرابة، و«المعاداة» هي ضدها التام، وليس مجرد عدم وجودها، فمن وقف على «الحياد»، أي المحايد، ليس ولياً، ولا هو عدواً، أي لا يرد في حقه المعاملة كالعدو ولا المعاملة كالولي. فمن وقف على «الحياد»، أي المحايد، ليس ولياً، ولا هو عدواً، أي لا يرد في حقه المعاملة كالعدو ولا المعاملة كالولي. فالعلاقة بين الموالاة والمعاداة هي علاقة تضاد تام، والضدان محال أن يجتمعا، ولكنهما قبد يرتفعا، وذلك في حالة «الحياد»، لا موالاة ولا معاداة. وليس العلاقة بينهما علاقة تناقض لأن النقيضين لا يجتمعان أبداً، ولا يرتفعان مطلقاً.
يقول الإمام أبو محمد علي بن حزم، رضي الله عنه، في «المحلَّى» على وجه التلخيص، بعد نقاش طويل، واستعراض لكافة الأدلة: [من لحق بدار الكفر والحرب مختاراً محارباً لمن يليه من المسلمين: فهو بهذا الفعل مرتد، له أحكام المرتد كلها: من وجوب القتل عليه متى قدر عليه، ومن إباحة ماله، وانفساخ نكاحه، وغير ذلك.
وأما من فر إلى أرض الحرب لظلم خافه، ولم يحارب المسلمين، ولا أعان عليهم، ولم يجد من المسلمين من يجيره، فهذا لا شيء عليه، لأنه مضطر مكره.
أما من كان محارباً للمسلمين، معيناً للكفار بخدمة أو كتابة فهو كافر.
وإن كان إنما يقيم هنالك لدنيا يصيبها، وهو كالذمي لهم، وهو قادر على اللحاق بجمهرة المسلمين وأرضهم، فما يبعد عن الكفر، وما نرى له عذراً، ونسأل الله العافية]. ثم يقول الإمام أبو محمد علي بن حزم، رضي الله عنه: (ولو أن كافراً مجاهداً [يعني: مقاتلاً] غلب على دار من دور الإسلام، وأقر المسلمين بها على حالهم، إلا أنه هو المالك لها، المنفرد بنفسه في ضبطها، وهو معلن بغير دين الإسلام: لكفر معه كل من عاونه، وأقام معه، وإن ادعى أنه مسلم ــ لما ذكرنا]، انتهى، فراجعه هناك فإنه قيم جداً!
إلا أننا نسارع بالتنبه على أن قول الإمام أبي محمد علي بن حزم، رضي الله عنه: (من وجوب القتل عليه متى قدر عليه) غير صحيح، بل الصحيح هو: (من جواز قتله متى قدر عليه، ولم يكن قد تاب قبل أن يقدر عليه) كما هو حال جميع أهل المحاربة بموجب آية (المحاربة) من سورة المائدة، وببيان النبي، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، ذلك بفعله في قصة عبد الله بن سعد بن أبي سرح.
u فصل: الحرمة القاطعة لـ }اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين{
v قال الرب، جل جلاله، وتقدست أسماؤه: }لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء، إلا أن تتقوا منهم تقاة ، ويحذركم الله نفسه، وإلى الله المصير{، (آل عمران؛ 3:28). قوله: }ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء{، يعني انقطاع صلته بالله كلية، وهذا لا يكون إلا لمن خرج من الإسلام، وارتد عنه، ودخل في الكفر، أما الفاسق الملَّي فله بالله بقية صلة، لوجود أصل الإيمان، واسم الإسلام:
ــ كما قال الإمام الكبير أبو جعفر محمد بن جرير الطبرى، رضي الله عنه، في تفسيره لهذه الآية: [وهذا نهي من اللّه عز وجل للمؤمنين عن أن يتخذوا الكفار أعوانًا وأنصارًا وظهورًا، ولذلك كسر يتخذ لأنه في موضع جزم بالنهي، ولكنه كسر الذال معه للساكن الذي لقيه ساكن. ومعنى ذلك: لا تتخذوا أيها المؤمنون الكفار ظهرًا وأنصارًا توالونهم على دينهم، وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين وتدلونهم على عوراتهم، فإنه من يفعل ذلك فليس من اللّه في شيء، يعني بذلك فقد برئ من اللّه، واللّه برئ منه بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر. }إلاّ أن تتقوا منهم تقاة{، إلاّ أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم وتضمروا لهم العداوة، ولا تشايعوهم علي ما هم عليه من الكفر، ولا تعينوهم على مسلم بفعل]، انتهى كلام الإمام الطبري، رحمه الله. قلت: سنتكلم عن «التقاة» فيما بعد، إن شاء الله.
ــ وقال الإمام ابن جرير الطبري، رحمه الله، في موضع آخر: [من اتخذ الكفار أعواناً وأنصاراً وظهوراً يواليهم على دينهم ويظاهرهم على المسلمين فليس من الله في شيء، أي قد برئ من الله وبرئ الله منه بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر]، ثم قال: [ومن تولى اليهود والنصارى من دون المؤمنين فإنه منهم، أي من أهل دينهم وملتهم. فإنه لا يتولى متولٍ أحداً إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راض، وإذا رضيه ورضي دينه فقد عادى ما خالفه وسخطه، وصار حكمه حكمه].
ــ ويقول الإمام أبو محمد علي بن حزم، رضي الله عنه، في «المحلَّى» على وجه التلخيص، بعد نقاش طويل، واستعراض لكافة الأدلة: [من لحق بدار الكفر والحرب مختاراً محارباً لمن يليه من المسلمين: فهو بهذا الفعل مرتد، له أحكام المرتد كلها: من وجوب القتل عليه متى قدر عليه، ومن إباحة ماله، وانفساخ نكاحه، وغير ذلك.
وأما من فر إلى أرض الحرب لظلم خافه، ولم يحارب المسلمين، ولا أعان عليهم، ولم يجد من المسلمين من يجيره، فهذا لا شيء عليه، لأنه مضطر مكره.
أما من كان محارباً للمسلمين، معيناً للكفار بخدمة أو كتابة فهو كافر.
وإن كان إنما يقيم هنالك لدنيا يصيبها، وهو كالذمي لهم، وهو قادر على اللحاق بجمهرة المسلمين وأرضهم، فما يبعد عن الكفر، وما نرى له عذراً، ونسأل الله العافية.) ثم يقول: (ولو أن كافراً مجاهداً [يعني: مقاتلاً] غلب على دار من دور الإسلام، وأقر المسلمين بها على حالهم، إلا أنه هو المالك لها، المنفرد بنفسه في ضبطها، وهو معلن بغير دين الإسلام: لكفر معه كل من عاونه، وأقام معه، وإن ادعى أنه مسلم ــ لما ذكرنا]، انتهى، فراجعه هناك فإنه قيم!
ــ وقال الإمام الحجة ابن حزم رحمه الله: [صح أن قوله: }ومن يتولهم منكم فإنه منهم{، إنما هو على ظاهره، بأنه كافر من جملة الكفار، وهذا حق لا يختلف فيه اثنان من المسلمين]، قلت: أبو محمد من أهل الاستقراء لمسائل الإجماع، وله مصنف قيم في هذا، وهو متشدد في دعوى الإجماع، فقوله: (وهذا حق لا يختلف فيه اثنان من المسلمين) نص صريح في أنه إجماع يقيني لكافة الأمة.
أما «موالاة الكفار»، أي }اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين{، فهي، حصراً:
(1) التحالف مع الكفار الحربيين ضد المسلمين، أو نصرة الكفار الحربيين على المسلمين بقول أو فعل (بما في ذلك الفتيا، والخطابة، والدعاية، والشعر، والغناء، والموسيقى، والتمثيليات أو المسرحيات، والمشورة، وكافة أنواع النصرة والتأييد والمعونة)، وأشد ذلك، وأفظعه: القتال تحت راية الكفار الحربيين ضد المسلمين، أو القتال مع الكفار الحربيين ضد المسلمين؛
(2) إفشاء أسرار المسلمين العسكرية والأمنية إلى الكفار، حربيين كانوا أو غير حربيين، وما كان في حكم ذلك؛
(3) أو ما هو شر من إفشاء أسرار المسلمين العسكرية والأمنية إلى الكفار: كتحريضهم وحثهم على حرب المسلمبن، أو إعانتهم على التحضير أو الاستنفار أو الإعداد لحرب المسلمين.
فهي حصرا متعلقة بنصرة الكفار الحربيين ضد المسلمين، أو نصرة الكفار في ما هو من لوازم الإعداد للحرب، حتى ولو كان هذا قبل وقوعها: من تجسس وإفشاء للأسرار العسكرية والأمنية، والتحريض على الحرب والتحريش لها، والإعانة في كل ما هو لازم للإعداد للحرب، ونحوه.
ودليل الحصر هو الذكر المنزل المحفوظ المعصوم، كما هو في صدر سورة الممتحنة:
v حيث قال الرب، جل جلاله، وتباركت أسماؤه: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ v إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ v لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ v قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ v رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ v لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ v عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ v لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ v إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ{، (الممتحنة؛ 60:1-8).
نعم، وايم الله: في هذه الآيات المحكمات فصل الخطاب، من عند رب الأرباب، إذ هي تتضمن قسمة حاصرة لجميع الكفار إلى صنفين:
الصنف الأول: المحاربون: وهم كل من قاتالنا في الدين، أو أخرجنا من ديارنا، أو ظاهر على إخراجنا، مثل قريش على زمن نبي الله، عليه وعلى آله صلوات وتسلينات وتبريكات من الله، ومثل الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل والهند في وقتنا الحاضر. وفي هؤلاء وأمثالهم، فقط لا غير، حصر النهي والتحريم لـ«الموالاة»، لأن قوله، جل وعز: }إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ{ من صيغ الحصر، ومن فعل ذلك فهو من الظالمين. وظلمه هذا ظلم أكبر، أي ظلم الكفر، كما تبينه الآيات الأخرى في الكتاب العزيز، وكما هو مفصل في كتابنا: (الموالاة والمعاداة).
الصنف الثاني: المسالمون: وهم كل من ليس بحربي، أي كل كافر لا يندرج تحت الصنف الأول، وهم أنواع:
(1) ذميون: أهل ذمة الله وذمة رسوله، وهؤلاء عادة وفي الأصل من المواطنين المقيمين في دار الإسلام، الحاملين للتابعية الإسلامية، ومن كان في حكمهم. وهؤلاء هم الأقرب والأكثر حقوقاً عند الدولة الإسلامية، وعند المسلمين، بل هم «أمة» أو «أمم» مع المسلمين، كما عبرت عنه صحيفة المدينة بأنهم «أمة» مع المؤمنين.بل لهم من الحقوق على الدولة الإسلامية ما لا يتمتع به المسلمون من غير حملة التابعية الإسلامية، المقيمين إقامة دائمية في دار الكفر.
(2) معاهدون: أهل العهود والميثاق، كمواثيق حسن الجوار، وعدم الاعتداء، والتبادل التجاري والفني، وغير ذلك.
(3) الموادعون: من لم يكن بينهم وبين المسلمين حرب قط، ومع ذلك لم يتم أي تعاقد أو ميثاق. وذلك كحال الحبشة على زمان النبي، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، ولقرون تالية بعد ذلك. وحال الدول المحايدة مثل السويد في العصر الحاضر، وأكثر دول أفريقيا التي نشأت البارحة، وأكثر دول أمريكا الجنوبية، إلا من اشترك في العدوان الدولي على العراق أو أفغانستان. فهذا يكون عادة في الأقطار البعيدة عن دار الإسلام، أو البعيدة عن بلاد المسلمين.
(4) المهادنون: وهم الذين كانوا البارحة محاربين، ثم تم التعاقد معهم فقط على وقف إطلاق النار، أي على وقف القتال، وما يتعلق به، كحال قريش في هدنة الحديبية بعد انعقادها، وحتى لحظة انتقاضها.
فهؤلاء «المسالمون» لم يرد نهي عن البر بهم والإقساط إليهم:
الإقساط: وهو مصدر من لفظة «أقسط» أي تعدى على غيره بالقسط، وهو العدل، أي عامل بالعدل. فهو المعاملة بالعدل والقسط. ولما كانت جميع النصوص تنص قطعاً على وجوب العدل، وتحريم الظلم، وتغليظ القول فيه، وتشديد الوعيد عليه، صار هذا النص دليلاً على وجوب المعاملة بالعدل والقسط، بلا محاباة أو هوادة، وليس على مجرد الرخصة في ذلك، كما قد يتوهم من فسد ذوقه الشرعي، أو ضعف فهمه لطرائق العرب في كلامها، ولم يجمع جميع نصوص الباب فيمضيها على عمومها وإطلاقها فلا يخصصها أو يقيدها إلا ببرهان منها.
أما البر: فهو بمعناه العام: كل إحسان. والبر هو الضد التام للفجور والإثم، بنص كلام الله، جل جلاله: }إن الأبرار لفي نعيم v وإن الفجار لفي جحيم{، وبنص كلام نبيه الخاتم: «البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك، ..الحديث»، وفي صحيفة المدينة مكررا بكثرة: «وأن البر دون الإثم»، وغيرها كثير متواتر.
أما الإحسان الواجب، وهو العدل، فقد مضى، وهو فريضة لا تنازل عنها، ولا محيص منها، فبقي كل إحسان مستحب زائد على مجرد العدل. فالترخيص بالإحسان يعني ها هنا ضرورة استحبابه، والإثابة عليه. وفاعل البر مثاب، لأن البر مندوب إليه أو واجب، وكل ذلك محل الثناء والمثوبة من الله، جل جلاله. لا فرق بين بر لمسلم، أو كافر، ولا فرق بين رفق بإنسان أو دابة، ما دام براً، وقد سمَّاه الله براً، ومن أصدق من الله قيلاً؟!
و«موالاة الكفار» بالمعنى المحدد أعلاه كفر وردة، وليس مجرد جريمة شنعاء، وكبيرة من كبائر الذنوب، كما هو ظاهر النصوص، وكما أوضحه الإمامان أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، وأبو محمد علي بن حزم الأندلسي، وكلاهما مجتهد مطلق، وكلاهما ثقة متثبت متقن حجة، وقد خالف البعض في ذلك بما لا يعتد به من الشبهات التي أشبعناها بحثاً وإبطالاً في رسالتنا: (الموالاة والمعاداة)، وفيها أيضاً البرهان المفصل على أن «موالاة الكفار» أي }اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين{، المحرمة، إنما هي ما ذكرناه حصراً أعلاه، لا غير.
أما «تولي الكفار»، أو بلفظ آخر «الموالاة المطلقة العامة للكفار»، فهي تستلزم أعلى درجات نصرتهم، والدفاع عنهم، وإعانتهم بالمال، والنفس، والرأي. وهذا يقتضي بالضرورة الشك في صدق الإسلام، أو جحوده، أو بغضه، أو احتقاره والسخرية منه، أو نبذه والإعراض عنه إعراضاً كلياً، أو عدم المبالاة به، بحيث لا يعتد به، ولا يقام له وزن، وكل ذلك كفر صريح يخرج من الملة الإسلامية، لا محالة، فلا يجوز أن يكون في ذلك خلاف، بل هو إجماع يقيني لأهل الإسلام.
u فصل: أمور أدخلت خطأً في «موالاة الكفار»، وليست هي منها.
لما كانت «ولاية الله» تقوم ضرورة على «المحبة» و«التعظيم»، لأنه «تقرب» و«تودد» و«تذلل» محض من جانب العبد تجاه الرب، جل جلاله، و«تقرب»، و«تودد»، و«رضوان،» و«نصرة» و«إعانة» و«تأييد» من الرب تجاه العبد، وليس بين العباد والرب وراء ذلك نسب أو قرابة، لما كان الأمر كذلك فقد زلت القدم ببعض الباحثين فظن أن مفهوم «الموالاة» يتضمن ضرورة مفاهيم «المحبة» و«الاحترام»، وهو ليس كذلك، ثم طبقوا ذلك على «الموالاة» بين العبد والعبد، غافلين عن الفرق الجوهري المطلق بين علاقات العبد بالعبد، وعلاقة العبد بالرب، فترتب على ذلك تقاسيم عجيبة، ما أنزل الله بها من سلطان، وإدخال أمور في «موالاة الكفار» وهي ليست منها لا في صدر ولا ورد.
v قال الإمام ابن تيمية في «مجموع الفتاوى»، (ج: 11 ص: 160): [والولاية ضد العداوة، وأصل الولاية المحبة والقرب، وأصل العداوة البغض والبعد. وقد قيل أن الولى سمى وليا من موالاته للطاعات اى متابعته لها، والأول اصح. والولى القريب، فيقال هذا يلى هذا أى يقرب منه ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «ألحقوا الفرائض بأهلها فما ابقت الفرائض فلأولى رجل ذكر»، أى لأقرب رجل إلى الميت]، وجاء هذا بنحوه في «الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان».
قلت: قوله: (أصل الولاية المحبة والقرب) كلام غامض: فإن كان المقصود منشؤها فهو صحيح، وإن كان المقصود جوهر معناها وحقيقة ماهيتها فهو ليس بصحيح، وهذا الثاني هو، للأسف، مقصود الشيخ الإمام كما يترجح من النص التالي:
v كما هو في «مجموع الفتاوى»، (ج: 5 ص: 510): [وذلك ان العبد يصير محيا لما أحب الرب مبغضا لما ابغض مواليا لمن يوالى معاديا لمن يعادى فيتحد مراده مع المراد المأمور به الذى يحبه الله ويرضاه وهذا مما يدخل فى موالاة العبد لربه وموالاة الرب لعبده فان الولاية ضد العداوة، والولاية تتضمن المحبة والموافقة، والعداوة تتضمن البغض والمخالفة]، انتهى كلام الإمام.
قلت: هذا خطأ صريح فالولاية تنشأ عادة من المحبة والموافقة، وتقوم عليهما، ولكنها مفهوم مغاير لهما، وقد أسلفنا شرحها كما هي في اللسان العربي. أما شرعاً فالمؤمن يتولى المؤمن محبة لله، وتعظيما لأمر الله، حتى لو كان يبغضه لشحناء دنيوية، أو لا يحترمه لعيوب في شخصيته، وحتى لو كانت بينهم مقاتلة وبغي: فموالاة المؤمن للمؤمن تقوم على محبته لله، وتعظيمه لأمر الله، وهما منشؤها، ولكنها ليست عين ذلك، بل هي شيء مختلف. وليس هذا تحذلقاً أو تقعراً، بل هو دقة واجبة في المفاهيم يترتب على إهماله أخطاء فادحة، بل مهلكة قاتلة، وانحرافات جسيمة، كما سنبينه بعد قليل.
v وتتكرر الأخطاء نفسها، بل تتضخم وتستفحل، كالعادة المؤسفة، في كتابات أئمة الدعوة الوهابية من أمثال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ، حيث يقول في «الرسائل والمسائل النجدية»، (ج 3 ص 290): [وأصل الموالاة الحب، وأصل المعاداة البغض، وينشأ عنهما من أعمال القلوب والجوارح ما يدخل في حقيقة الموالاة والمعاداة، كالنصرة والأنس والمعاونة، وكالجهاد والهجرة]، فها هنا نقل الشيخ عبد اللطيف كلام الإمام ابن تيمية المتعلق أساساً بـ«ولاية الله» وطبقه على «موالاة المؤمنين»، و«معاداة الكافرين»، فجعل الأصل فرعاً، والفرع أصلاً، فلا عجب أن تنشأ تقاسيم وتفريعات مدهشة، لا خطام لها ولا زمام، كما سيأتي قريباً.
v وفي رسالة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب: «أوثق عرى الإيمان» زلَّت بالشيخ الإمام القدم فذكر بعض «صور الموالاة» الخاطئة، سنذكرها قريباً.
وقد أخطأ أقوام آخرون تبعاً لذلك فأدخلوا في «الموالاة» ما ليس منها مما سبب خلطاً قبيحاً في الأحكام، وتشويشاً جسيماً في المفاهيم. فمن ذلك ما ذهب إليه الدكتور محمد بن سعيد القحطاني في كتابه: «الولاء والبرا في الإسلامء» حيث عرَّف الموالاة بأنها: (إصطلاحاً: هي النصرة والمحبة والإكرام والاحترام والكون مع المحبوبين ظاهراً وباطناً!)، فأدخل فيها: والمحبة والإكرام والاحترام،. كما أنه قلَّد الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، من غير نقد ولا تفكير، في مجمل ما أورده في «أوثق عرى الإيمان».
ولم ينفرد الدكتور محمد بن سعيد القحطاني بتلك الأخطاء بل شاركه في أغلبها أكثر المؤلفين في هذا الباب مثل محماس الجلعود في كتابه: «الموالاة والمعاداة»، وإن كان هذا الكتاب الكبير أفضل من سابقه، وأحسن تقسيماً وتفريعاً، على الرغم من كثرة استطراداته.
وحاول الدكتورعبد الله بن إبراهيم الطريقي أن يسلك في كتيبه: «الولاء والعداء في علاقة المسلم بغير المسلم» مسلكاً وسطاً، إلا أنه لم ينجح لأنه لم يستطع إفلاتاً من إدخال «المحبة» في تعريف «الموالاة» حيث قال: (وخلاصة القول: إن الموالاة تعني: المحبة والنصرة والاتباع، وهي تشعر بالقرب والدنو من الشيء)، ولم يتخلص من التقاسيم العجيبة للإمام محمد بن عبد الوهاب، التي سنذكرها الآن، بل زاد في تفريعها، وأضاف إليها!
والآن إليك بعض «صور الموالاة» الخاطئة كما ذكرها الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب في «أوثق عرى الإيمان»:
ــ (الصورة الرابعة: مداهنتهم ومداراتهم) أهـ. وهذا خطأ مجرد، فوق كون المداهنة تختلف جذرياً عن المداراة، وكلاهما لا علاقة لهما بالنصرة أو القرب أو الحلف أو الإعانة، لا من قريب ولا من بعيد:
ــ «المداراة»، وتسمَّى أيضاً «المجاملة»، وربما قصرت لفظة «المجاملة» على أعلى درجات المداراة وحسن المعاملة، فهي، كما قال القرطبي تبعاً للقاضي عياض: (بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو لكليهما)، قلت: لعل الأدق أن يقال: (بذل الدنيا، وحظوظ النفس، لصلاح الدنيا أو الدين أو لكليهما)، وهي مباحة، وقد تكون في أحوال معينة مستحبة. ومن ذلك سهم «المؤلفة قلوبهم» يعطى للأقوياء من الكفار لاستمالتهم إلى الإسلام، وهذا للدين، أو لاكتفاء شرهم، ودفع خطرهم عن المسلمين، وهذا لمصلحة الدنيا والدين معاً. وعلى المستوى الفردي إعطاء المال، والمعاملة الحسنة لأفراد الكفار، لا سيما في دار الكفر، إما لاستمالة قلوبهم أو لتحسين صورة الإسلام والمسلمين في عيونهم أو لاكتفاء شرهم. وكل هذا حسن جميل.
ــ أما «المداهنة» فهي: (ترك الدين، أو بذل الدين لمصلحة الدنيا)، وهي محرمة قطعاً بموجب نصوص القرآن والسنة المتضافرة، لا فرق بين مداهنة مسلم فاسق، أو حاكم مسلم ظالم، أو مداهنة كافر، وإن كانت مداهنة الكافر أفظع من بعض الجوانب. ومن أمثلتها إقدام بعض رجال الأعمال من المسلمين على مجالسة نظرائهم من التجار الكفار على موائد تدار عليه الخمر، أو تحضرها الغانيات الكاسيات العاريات، حتى لو لم يشارك في شرب أو زنا، وذلك لمصلحة صفقة تجارية مثلاً. و«المداهنة» هذه مع حرمتها القطعية، كذلك ليست من باب «الموالاة» في صدر ولا ورد، وإن كانت نوعاً من النفاق العملي، لا سيما في مواجهة المسلم. والنفاق العملي يؤدي لفسق صاحبه، وربما إلى النفاق الاعتقادي، المخرج لصاحبه من الملة، المردي له في الدرك الأسفل من النار، والعياذ بالله تعالى.
وهي، أي المداهنة، علامة على ضعف الشخصية أو ذوبانها، وفقدان عزة المؤمن بدينه، وضعف توكله على ربه، وكل ذلك منكر شنيع إلا أنه ليس من باب «نصرة الكافر الحربي على المسلم أو إعانة الكافر في الإعداد لحرب المسلم»، ولا من جنسه، ولا علاقة له به.
ــ (الصورة الثامنة: استعمالهم في أمر من أمور المسلمين، أي أمر كان) أهـ. وهذا هكذا على إطلاقه خطأ محض، لأن الأصل هو جواز استخدام الكفار في شتى الأمور، وقد بوب الإمام البخاري في صحيحه لذلك فقال: (استئجار المشركين عند الضرورة، أو إذا لم يوجد أهل الإسلام، وعامل النبي، صلى الله عليه وسلم، يهود خيبر)، كما ذكر استئجار النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأبي بكر لابن أبي أريقط، رجل من المشركين، دليلاً على الطريق في الهجرة. ونبادر فنقول أن تقييد الإمام البخاري ذلك بـ«الضرورة» غير مستقيم، ولا نعلم دليلاً عليه هكذا على عمومه، وقد قال الإمام ابن قدامه: (ويجوز أن يتولى الكافر ما كان قربة للمسلم كبناء المساجد والقناطر)، (المعني مع الشرح الكبير؛ 11/16). فاستخدام الكافر من قبل المسلم لا غبار عليه، حتى في القتال تحت الراية الإسلامية، كما مبرهن عليه في كتابنا: (الموالاة والمعاداة)، فالمسلم يكون حينئذ هو السيد المخدوم المنصور، والكافر هو الخادم الناصر. وإنما البلاء، كل البلاء في خدمة المسلم للكافر الحربي، وإعانته ونصرته، لا سيما في قتاله، أي قتال الكافر، للمسلمين، فيكون المسلم هو الخادم الناصر، والكافرالحربي هو السيد المخدوم المنصور ضد المسلمين: هذا هي «الموالاة» المهلكة المخرجة من الإسلام إلى الكفر، المفضية إلى اللعنة السرمدية، المردية في نار جهنم الأبدية، عياذاً بالله.
ــ (الصورة العاشرة: مجالستهم، ومزاورتهم، والدخول عليهم) أهـ. وهذه زلة أخرى، بل هي أشنع من سابقتها: فالمسلم قد يتزوج النصرانية أو اليهودية ويحتاج لا محالة إلى مصاحبتها، ومصاحبة أهلها بالمعروف، بل بالإحسان، وهو مأمور بصلة الرحم خاصة والإحسان إلى بني البشر عامة، فكيق يتأتى هذا؟! على أن الإمام البخاري قد بوب لزيارة المريض المشرك فقال: (باب: عيادة المشرك) وذكر فيه عيادة النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، للغلام اليهودي، التي ترتب عليها الخير العظيم. وكذلك زيارة اليهوديات لعائشة، رضي الله عنها، في مناسبات كثيرة شتى، وذكر إحداهن لعذاب أو لفتنة القبر في الحديث المشهور ، ..إلخ، إلخ. هذه كلها مزاوراة ومجالسات ودخول عليهم، ودخولهم علينا. وقد ناقش الإمام ابن القيم شيئاً من هذا في «أحكام أهل الذمة».
ــ (الصورة الحادية عشر: البشاشة لهم، والطلاقة) أهـ. وهذه، والله، قاصمة الظهر:
أولا: هذه ليست صورة مستقلة، بل البشاشة والطلاقة نوع من أنواع المجاملة والمداراة، بل هي أيسرها على الإطلاق،
وثانياً: هذه المداراة اليسيرة، التي لا تغرم فاعلها مالاً، ولا تكلفه جهداً: هذه المجاملة مباحة، بل مستحبة، لما يترتب عليها من تأليف القلوب، وإزالة الوحشة، ومن ثم تبادل الحديث الطيب الذي يؤدي، لا محالة مهما طال الزمن، إلى ذكر الإسلام وأدلته ومحاسنه، ودعوة الكافر إليه، فيهدي به الله من يشاء من عباده: هذه هي الحنيفية السهلة السمحة التي بعث بها محمد بن عبد الله، رسول الله وخاتم النبيين، عليه وعلى آله صلوات وتسليمات وتبريكات من الله، وليست اليهودية المتشددة العنصرية المُفْرِطة الغالية المتجهمة، أو المسيحية البولصية المحرفة المتميِّعة المفَرِّطَة.
ــ (الصورة الثالثة عشر: استئمانهم وقد خونهم الله) أهـ. وهذا، وإن كان أكثره مذموماً محرماً، إلا أن المحرم منه لا يندرج تحت «الموالاة»، وإنما هو من باب «اتخاذ البطانة» الذي نهى الله عنه عندما قال: }يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم، قد بدت البغضاء من أفواههم، وما تخفي صدورهم أكبر، قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون{، (آل عمران؛ 3:118). نعم: هؤلاء، وأشباههم ممن دلت القرائن على بغضائهم وحقدهم، أو من عرفوا بنقض عهودهم ومواثيقهم، أو من استشعرنا منه أنه لا يألونا خبالاً، أو من }قد بدت البغضاء من أفواههم{، هم الذين خونهم الله. أما بقية المشركين فمنهم من هو ثقة مؤتمن، ومنهم من هو ملتزم بعهوده ومواثيقه. وها هو ابن أبي أريقط يدل النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، على طريق المدينة ليفلت من قريش، وقد كان، وايم الله، أميناًً أهلاً للثقة.
وعلى كل حال «البطانة» نتخذها نحن، وهم تحت سلطاننا، وهم الذين يبذلون الدعم والمعاونة لنا، أو يتظاهرون بذلك في الأقل، وليس بالعكس. أي أنهم هم الذين يخدموننا، وهم الذين تولَّونا، وتقدموا ببذل العون والنصرة والدعم لنا، ربما ضد إخوانهم في الدين أو بني جلدتهم، ولسنا نحن الذين توليناهم فأعناهم على المسلمين. فالنهي عن اتخاذ الحاقدين والخونة منهم، أو من هم مظنة ذلك منهم، «بطانة» موضوع مستقل تماماً عن موضوع «الموالاة»، بل لعله الصورة العكسية له: أي أنه نهي لنا عن قبول موالاتهم لنا ضد أقوامهم، وحث على عدم الاغترار بتقربهم، لا سيما إذا وجدت مظنة الخيانة منهم.
وعلى كل حال فإن وصف الكفار جميعاً بالخيانة والمنع من استئمانهم ظلم وجور، على ما فيه من مخالفة الشرع، ومكابرة المحسوسات والعقل، ولكن: قاتل الله الغلو، والحرص المرضي على الدين المفضي إلى الهوس، ثم الإضرار بالدين، والتنفير منه: (ودين الله وسط بين الجافي عنه، والغالي فيه).
ــ (الصورة السابعة عشر: مصاحبتهم ومعاشرتهم) أهـ. وقد سبق الكلام عن جواز المداراة، ووجوب مصاحبة الوالدين بالمعروف، واستحباب الإحسان، والمجالسة والمزاورة وعيادة المريض مما يبطل كون هذا النوع من المحرمات أصلاً، فضلاً عن كونه ليس من الموالاة في صدر ولا ورد.
هذا الذي سلف هو بعض ما ذكره الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب في «أوثق عرى الإيمان»، حيث زلَّت به القدم زلة شنعاء مهلكة.
وذكر قوم «التشبه بالكفار» في أنواع «الموالاة»، وزعموا نسبة ذلك إلى الإمام ابن تيمية. وهذا خطأ أيضاَ: فقول ابن تيمية هو: أن «التشبه بالكفار، وهو محرم لذاته بدلالة العشرات بل المئات من النصوص الشرعية، قد يتدرج بصاحبه إلى «الموالاة» المكفرة المهلكة، وليس هو بذاته من «الموالاة».
والصحيح أن «التشبه بالكفار» ظاهراً قد يفضي إلى الإعجاب بكفرهم باطناً، والرضى بباطلهم، أو النفور من الإسلام وأحكامه وكراهيتها، وهذا «كفر» محض كما هو، حتى ولو لم يتولهم، فإذا زاد على ذلك بأن تولاهم، أي نصرهم وأعانهم وتحالف معهم أو قاتل تحت رايتهم ضد المسلمين، أو حرضهم على قتال المسلمين، ونحوه، زاد في «الكفر»، الذي هو قد دخل فيه قبل ذلك. فالخطر حقيقة قد جاء من مدخل آخر هو «الرضا بالكفر»، وقد تنضم «الموالاة» إلى ذلك فتكون زيادة في الكفر، أي مصيبة إضافية طارئة، وليست أصلاً.
ولم يستطع الدكتورعبد الله بن إبراهيم الطريقي في كتيبه: «الولاء والعداء في علاقة المسلم بغير المسلم» تحرير الموضوع، بل أضاف إلى «الموالاة» أقساماً وألواناً لا تمت إليها بصلة، فمن ذلك:
أولاً: طاعتهم في التثبيط عن الدعوة إلى الإسلام: ومثَّل له بمفاوضة قريش للنبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، في ترك الدعوة إلى الله وتوحيده في مقابل ما يشاء من ملك أو جاه أو مال أو نساء.وليس هذا قسماً جديداً فقريش إنما طلبت منه أن «يداهن»، كما هو نص القرآن الصريح: }ودوا لو تدهن فيدهنون{. وقد سلف الكلام عن قبح «المداهنة» وحرمتها، ولكنها ليست من «الموالاة»، ولا من بابها.
ثانياً: طاعتهم في التحليل والتحريم: ومثل لذلك بقول الله، جل جلاله: }ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه، ..إلى قوله: وإن أطعتموهم إنكم لمشركون{، (الأنعام؛ 5:121)، ثم قال: (فهذه الموالاة شرك إن صدرت عن رضا). قلت: أما أن هذا شرك وكفر، فهو أمر لا شك فيه، ولا في حرمته وشناعته، وهلاك فاعله وخسارته، وهو أيضاً نص الآية الصريح، وواقع الفعل البين، ولكن كيف أصبحت «موالاة»؟! لا أدري، ولعل الدكتور الفاضل يوضحه لنا!
ثالثاً: اتباع أهوائهم في أي من مسائل الدين: ومثَّل لها بنهي القرآن العظيم: }ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون{، (الجاثية: 22:18)، ثم قال: (وهذه كسابقتها)، قلت: صدق الدكتور، هذه كسابقتها، لا علاقة لها بالنصرة والولاء، على قبحها وشناعتها، بل هي إما مداهنة محرمة وإما شرك مكفر، أو كليهما، وقد سبق نقاشهما.
ثم زاد الدكتور ضغثاً على إبالة فذكر الدكتور «اتخاذ البطانة» وتابع الإمام محمد بن عبد الوهاب في تصنيفه الخاطيء لها تحت عنوان «الموالاة». وأتبع هذا بـ«المداهنة» وعرفها بأنها: (المصانعة والملاينة والمداراة)، وهذا خطأ على خطأ: فليست هذه الثلاث مداهنة، بل المداهنة غيرها، وقد سلف شرح ذلك، وكل ذلك كما بينا ليس من الموالاة والنصرة في شيء، وإن كان بعضه محرماً.
ثم، بعد جهد جهيد، وصل إلى بيت القصيد: (نصرتهم ضد المسلمين)، فقال وهذا من أشد أنواع الموالاة وأخطرها بإجماع العلماء، وذكر أن الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب عده من نواقض الإسلام. هذا في مجمله صحيح، وإن كانت هذه هي «الموالاة»، لا غير، وليست من أشد ولا أخف أنواعها، لأنها نوع واحد. وكأن الدكتور لم يصبر على الصواب كثيراً فانغمس في تقاسيم عجيبة، فذكر الصور التالية:
(1) الصورة الأولى: أن ينضم المسلم إلى لواء الكفار ليقاتل معهم المسلمين. ثم قال: (فهذا من أعظم صور الموالاة على الإطلاق، وهو خيانة عظمى لله ورسوله والمؤمنين، وصاحبه مارق من الدين، كافر به، إلا إن كان جاهلاً أو مكرها)، فهذا في جوهره صواب، وهذه هي بحق «موالاة الكفار» المهلكة المكفرة، إلا أنه نسي أن يذكر العذر بالتأويل، وذكر بدلاً منه الإكراه، وهو لا يرد ها هنا، لأنه من المحال الممتنع أن يكره الإنسان على قتال، وإن أمكن احضاره إلى صف القتال مكرهاً، ثم لو أكره على حضور صف القتال لم يجز له قصد المسلمين بالقتل، بل يتعمد أن يخطيء فلا يصيبهم، وهذا في معمعة القتال ممكن. وعلى كل حال لا يجوز أن ينقذ نفسه بقتل غيره من المعصومين، كما نص عليه شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية، مصيباً للحق في هذه المسألة، موافقاً للجمهور، بل للإجماع:
v حيث قال الإمام، رضي الله عنه، في «الفتاوى الكبرى»، (ج: 4 ص: 351): [....، فلا ريب أن هذا يجب عليه إذا أكره على الحضور أن لا يقاتل وإن قتله المسلمون كما لو أكرهه الكفار على حضور صفهم ليقاتل المسلمين، وكما لو أكره رجل رجلا على قتل مسلم معصوم، فإنه لا يجوز له قتله باتفاق المسلمين، وإن أكرهه بالقتل فإنه ليس حفظ نفسه بقتل ذلك المعصوم أولى من العكس، فليس له أن يظلم غيره فيقتله لئلا يقتل هو، ..]، إلى آخر كلامه النفيس الذي سنسوقه بطوله في مكان آخر من هذا البحث.
(2) الصورة الثانية: الاستنصار بهم لقتال المسلمين، والقيادة له: فياللعجب كيف أصبه «الاستنصار»، «نصرة»؟! ومن هو هذا المنصور هنا؟! هذا مسلم يقاتل مسلمين آخرين بحق أو باطل، وله راية، وهو صاحب القيادة: فالقتال قتاله، والقضية قضيته، والراية رايته، والكفار هم الذين نصروه وخدموه، فهم الجنود والخدم والمعاونون، وهو القائد والسيد والمخدوم. وفي هذه الحالة لا ترد مسألة «الموالاة»، وإنما يجب السؤال: هل هذا قتال مشروع أم لا؟! وإن كان مشروعاً فهل تجوز الاستعانة بالكفار في القتال، تحت الراية الإسلامية والقيادة الإسلامية، أم لا؟! ثم أوغل الدكتور في التنقسيم بما يعسر نقده في هذه الرسالة المختصرة، فنحيل إلى كتابنا: (الموالاة والمعاداة) حيث أشبعنا الموضوع، بحمد الله تمحيصاً ودرساً.
(3) الصورة الثالثة: تحريضهم ضد المسلمين. وذكر بعده كلام غامض، بعض معانيه حق وبعضه باطل. وكله يحتاج إلى نقاش طويل نحيل فيه إلى كتابنا: (الموالاة والمعاداة).
ثم ذكر الدكتور بعد ذلك أنواعاً عجيبة، وتقاسيم غريبة، منها:
ــ الخضوع والتذلل ــ القيام بأعمال دنيئة خدمة للكافر ــ العمل مع كافر مع وجود الإهانة ــ الدخول في سلطانهم، والعمل تحت ولايتهم بدون قصد شرعي، أو وجود حاجة ــ الانحناء لهم عند اللقاء، أو الوقوف عندهم وهم جالسون ــ المبالغة في مخاطبتهم بألفاظ التبجيل والتعظيم، أو مدحهم والثناء عليهم بما لا يستحقون ــ مشاركتهم في أعمالهم الدينية، يعني الشعائر التعبدية ونحوه.
قلت: هذا كله لا علاقة له بـ«الموالاة»، مع كون بعضه محرماً، لا شك في حرمته. ولكن من أراد تفصيل النقاش وتحرير المسائل فعليه بكتابنا: (الموالاة والمعاداة)!
لذلك فإن من اعتبر المداراة، والمجاملة، والمسامحة، والمسالمة، والمعاشرة الجميلة في الدنيا، وحسن المعشر، والصحبة بالمعروف، والمعاملة بالحسنى، وتبادل المصالح والمنافع قسما مباحاً من «الموالاة»، من اعتبر ذلك كذلك قد زلت به القدم زلَّةً شنعاء، وأخطأ خطأً فادحاً، وتجاوز النص الشرعي، وعرف العرب الاصطلاحي، وحتى المعنى اللغوي الأصلي، نعوذ بالله من «زلات العلماء، وجدل المنافقين بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين»!
وكذلك تصنيف «المداهنة للكفار» أو «اتخاذ البطانة»،أي استئمان الخونة أو المشبوهين من الكفار، أو «التشبه بالكفار»، أو «مشاركة الكفار في شعائرهم الدينية»، على بشاعتها وحرمتها، على أنها نوع محرم من «موالاة الكفار» خطأ جسيم، وخلط في المفاهيم خطير يفضي إلى القول بأن من «موالاة الكفار» ما هو «محرم» لا يخرج من الملة، ومنها ما هو «مكفر» يخرج من الملة، وهو خطأ كبير، بل ضلال عظيم لأن «موالاة الكفار» لا تكون إلا مكفرة، مخرجة من الملة، والعياذ بالله تعالى، كما أسلفنا، وكما هو مبرهن عليه في كتابنا: (الموالاة والمعاداة)، بما لا مزيد عليه، فارجع إليه.
وأي شيء في ذلك يدل من قريب أو بعيد على }اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين{، الذي هو، حصراً:
(1) التحالف مع الكفار الحربيين ضد المسلمين، أو نصرة الكفار الحربيين على المسلمين بقول أو فعل (بما في ذلك الفتيا، والخطابة، والدعاية، والشعر، والغناء، والموسيقى، والتمثيليات أو المسرحيات، والمشورة، وكافة أنواع النصرة والتأييد والمعونة)، وأشد ذلك، وأفظعه: القتال تحت راية الكفار الحربيين ضد المسلمين، أو القتال مع الكفار الحربيين ضد المسلمين،
(2) إفشاء أسرار المسلمين العسكرية والأمنية إلى الكفار، حربيين كانوا أو غير حربيين،
(3) تحريض الكفار، حربيين كانوا أو غير حربيين، وحثهم على حرب المسلمبن، أي التحريش بينهم وبين المسلمين، أو إعانتهم على التحضير أو الاستنفار أو الإعداد لحرب المسلمين.
نعم: أي شيء في ما سلف يتضمن هذه الموبقات المهلكة، والذنوب المكفرة؟! إن تسمية ذلك «موالاة» يفتح باب الموالاة المحرمة حرمة مغلظة لأنها في الحقيقة ردة وكفر. وهو كذب في نفس الأمر، وتحريف للكلم عن مواضعه. والله، تباركت أسماؤه، هو خالق البشر، وهو الذي يسمي الأشياء بأسمائها. وقد سمى الله ورسوله ذلك: قسطاً، وبراً، وإحساناً، وصلة، ومداراة، ومداهنة، واتخاذ بطانة، وتشبُّه بالكفار، وغير ذلك، ولم يسمه أبداً: «تولياً»، أو «موالاة»، ومن أحسن من الله حديثاً، ومن أصدق من الله قيلاً؟!
والمعاملة بالعدل والقسط، واجتناب الغش والخيانة واجب محتوم على كل حال، وذلك في كل المعاملات المشروعة من: بيع وشراء، وتعليم وتعلم وتدريب، وإجارة، وشراكة، وتبادل للمنافع، والبضائع، والخدمات والمنافع، وغيرها.
أما الإحسان، والبر، والصلة فواجب للوالدين، ولذوي القربى، ومستحب لغيرهم، وذلك يشمل الصدقة، والهدية، والزيارة، وعيادة المرضى، والتهنئة في المناسبات الخاصة: كالأعراس، واجتياز الاختبارات، والولد، والعودة من السفر، والقيام من المرض، والسلامة من المكاره، ونحوه.
بل قد تكون الأعطيات والهدايا لهم من أثمن الهدايا، وأعظم الأعطيات بدلالة إهداء عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، لأخيه من أمه، وهو مشرك في مكة، حلة سيراء «ملكية» ثمينة من حرير خالص، أرسلها له النبي، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، لينتفع بها، وقد بيع أمثالها في السوق بألفي درهم:
v كما جاء في «صحيح مسلم»: [وحدثنا شيبان بن فروخ حدثنا جرير بن حازم حدثنا نافع عن بن عمر قال رأى عمر عطاردا التميمي يقيم بالسوق حلة سيراء وكان رجلا يغشى الملوك، ويصيب منهم، فقال عمر: (يا رسول الله إني رأيت عطاردا يقيم في السوق حلة سيراء، فلو اشتريتها، فلبستها لوفود العرب إذا قدموا عليك، (وأظنه قال ولبستها يوم الجمعة)، فقال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة»، فلما كان بعد ذلك أتى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بحلل سيراء فبعث إلى عمر بحلة، وبعث إلى أسامة بن زيد بحلة، وأعطى علي بن أبي طالب حلة، وقال: «شققها خمرا بين نسائك!»، قال فجاء عمر بحلته يحملها فقال: (يا رسول الله بعثت إلي بهذه وقد قلت بالأمس في حلة عطارد ما قلت؟!)، فقال: «إني لم ابعث بها إليك لتلبسها، ولكني بعثت بها إليك لتصيب بها!»، وأما أسامة فراح في حلته، فنظر إليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، نظرا عرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنكر ما صنع فقال: (يا رسول الله: ما تنظر إلي فأنت بعثت إلي بها؟!)، فقال: «إني لم أبعث إليك لتلبسها ولكني بعثت بها إليك لتشققها خمرا بين نسائك»]، وهو في «الجامع الصحيح المختصر» باختصار طفيف وبدون ذكر عطارد، وفي «موطأ الإمام مالك» بعين نص البخاري، وفي «مسند الشافعي»، و في «سنن أبي داود»، وفي «صحيح مسلم» من عدة طرق، وفي «المجتبى من السنن» للإمام النسائي، وكذلك في «السنن الكبرى» له، وفي «مسند الإمام أحمد بن حنبل» من عدة طرق، وفي «صحيح ابن حبان»، وفي «الأدب المفرد»، وهو أيضاً في «مسند أبي يعلى». والحديث كذلك عند البيهقي، وغيره، من طرق شتى، وهو من أصح أحاديث الدنيا. وجاء في بعض الطرق أنه باعه في السوق بألفي درهم، والظاهر أنه عرضه للسوم فجاء بهذا السعر، ثم بعثه لأخيه من أمه هديةً، أو أن البيع لحلة أخرى مثل هذه التي أهداها لأخيه المشرك بمكة. وعلى كل فالحلة حلة سيراء من حرير خالص من أفخر الثياب، ألبسة الملوك، وتباع بأغلى الأثمان: هذا فعل عمر بن الخطاب، سلام الله عليه، الذي اقترح ضرب أعناق أسرى بدر، عمر بن الخطاب «الفظ» «الغليظ»!
وكذلك الإبتداء بالتحية والسلام، إلا لطائفة مخصوصة من المعتدين في ألفاظ السلام، المحرفين للكلم عن مواضعه، كيهود المدينة على زمن النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وقد أثبتنا في كتابنا: (الموالاة والمعاداة) أن الأمر النبوي الشريف بعدم بدء أهل الكتاب بالسلام قد جاء معللاً بأنهم معتدون وأن سلامهم بلفظ: (السام عليكم)، والسام هو الموت والهلاك، وذلك بتقصي طرق الحديث وألفاظه. ومعلوم ضرورة أن الحكم الذي جاء معلاً يدور مع علته وجوداً وعدماً، فصار بذلك بدء الكفار بالسلام مشروعاً حسناً بموجب الأدلة العامة التي تحث على التسليم على كل أحد، عرفناه أو لم نعرفه، وتحث على إفشاء السلام، وغيرها، خلافاً لمن لم يستوعب دراسة المسألة فلم يعطها حقها من الدراسة المتأنية المفصلة.
وكذلك تجوز التعزية بصيغ والفاظ مناسبة لا يظهر منها الإقرار لكفرهم، ولعقائدهم الفاسدة، وربما كان فيها موعظة لطيفة مناسبة للمقام، ولكن هذه مباحث خطبرة مهمة، وقعت فيها أخطاء وإشكالات، تحتاج إلى نقاش مستفيض، وتحليل عميق، كما هو مفصل في كتابنا الموسوم بـ (الموالاة والمعاداة)، فليراجع هناك.
u فصل: هل تجوز «موالاة» الكفار المسالمين؟!
لقد وقعت أكثر الأخطاء في الكتب آنفة الذكر، وغيرها من كتب ورسائل الدعوة الوهابية، في جانب «الغلو والإفراط» بتحريم ما ليس بحرام مثل: المداراة، والمجاملة، والمسامحة، والمسالمة، والمعاشرة الجميلة في الدنيا، وحسن المعشر، والصحبة بالمعروف، بزعم أن ذلك «موالاة للكفار».
ووقعت أخطاء أخرى، من نوع آخر، عند الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي في «الحلال والحرام»، وفي «القول المبين، في حكم المعاملة بين الأجانب والمسلمين»، للعدوي، وكذلك في تفسير القاسمي، وغبرها من كتب المعاصرين. هذه الأخطاء في مجملها وقعت في جانب «التساهل والتفريط» وذلك بجعل بعض أنواع «الموالاة» مباحاً، وبعض ما جوَّزوه مباح بحق، بل لعل بعضه مستحب مرغوب فيه، ولكنه ليس من «الموالاة» في صدر ولا ورد، ولا يدخل في بابها حتى يلج الجمل في سم الخياط، أو قصر تحريم «الموالاة» فقط على الحربيين، وهو الحق، وتجويزها للكفار غير الحربيين، وهذا باطل، لأنها لا توجد في العالم قط، ولا يمكن تصورها، ولا يتشكل في عقل مفهومها في حق غير المحاربين أو المعدين للحرب كما يتضح من مناقشة أكثر الأمثلة إيغالاً في الخيال والمبالغة، كما هو مفصل في كتابنا: (الموالاة والمعاداة)، فلتراجع. وإنما غلط من غلط لأنه لم يعرف «الموالاة» تعريفها الصحيح، فأدخل فيها أموراً كالتسامح أو المجاملة أو حتى المداهنة، فأظلمت القضايا في ذهنه واختلط عليه الشرق والغرب. ومن اختلط عليه المشرق والمغرب، ولم يعرف شمالاً من جنوب، فأنى له أن يجد الطريق أو أن يصل إلى هدى؟!
فمقولتنا السابقة وهي: (كون «الموالاة» المنفية عن المحاربين، أو المعدين للحرب، لا وجود لها، ولا يمكن أن تكون في العالم، في حق المسالمين) إذاً بينة واضحة بضرورة الحس والعقل، وقد أيدها الشرع في التنزيل الحكيم، عندما قال، جل جلاله،وسمى مقامه، حاصراً «الموالاة» في الله ورسوله والمؤمنين: }إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا: الذين يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، وهم راكعون v ومن يتولَّى الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون{، (المائدة؛ 5:55)، فحصر «الموالاة» في الله ورسوله والمؤمنين، فلا تكون في غيرهم أو لغيرهم مطلقاً.
ولا يجوز أن يقال أن ما سمَّوه «موالاة» إنما هو اصطلاح، ولا مشاحة في الاصطلاح، لا يقال ذلك لأن الشرع حدد ما هي «موالاة الكفار» التي هي «اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين» وحكم على فاعلها بالكفر، فقط لا غير: فلا يجوز إدخال ما ليس منها فيها، ولا إخراج ما هو منها خارجها، لأن في هذا هدم للحكم وإبطال له، وهو في غاية الشناعة، وقد يفضي إلى تكفير المسلم، أو الحكم بإسلام كافر، وهذا كله في غاية الشناعة أيضاً.
فالتحريم القاطع لموالاة الكفار، إلا في حالة (التقاة) كما هو منصوص عليه في الكتاب العزيز، وكما هو مفصل في كتابنا الموسوم بـ (الموالاة والمعاداة)، وقصر الموالاة حصراً على المؤمنين لا يتناقض مع التسامح، والتعامل بالحسنى، والمداراة، والمجاملة، والمسالمة، والمعاشرة الجميلة في الدنيا، وحسن المعشر، والصحبة بالمعروف، والبر، إلى غير المحاربين من الكفار. أما المحاربون من الكفار، الذين هم أعداء الله الظالمون المعتدون، كالعدو الصهيوني المغتصب في فلسطين، والعدو البراهماني الوثني المغتصب لكشمير، والعدو الروسي الصليبي المغتصب في القوقاز، والولايات المتحدة الأمريكية المعتدية على العراق وأفغانستان وغيرها، وغيرهم من الحربيين، فلهم كل المقت، والبغضاء، والعداوة، والسيف، لا غير. فالناس إذاً ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: المسلمون، وهؤلاء موالاتهم واجبة، ومعاداتهم محرمة وهي من أكبر الكبائر المحرمة، بل هي من الكفر: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر»، ولا يبعد أن يكون هذا، أي معاداة المؤمن ومقاتلته، كفراً ينقل عن الملة، ويحبط به العمل كله: أوله وآخره، وظاهره وباطنه، عياذاً بالله.
الصنف الثاني: الكفار المسالمون، وهؤلاء موالاتهم غير واردة أصلاً، لأنها محال لا وجود له في العالم، كما فصلناه في كتابنا: (الموالاة والمعاداة)، ولهم كل التسامح، والعدل، والقسط وجوباً، والتعامل بالحسنى، والمداراة، والمجاملة، والمسالمة، والمعاشرة الجميلة في الدنيا، وحسن المعشر، والصحبة بالمعروف، والبر، استحباباً. وإن شئت فقل: أن العلاقة معهم علاقة «حياد»: لا موالاة ولا معاداة. وهو «حياد إيجابي» لأنك تعاملهم بالقسط والبر.
الصنف الثالث: الكفار الحربيون، أو الكفار المعدون للحرب، فهؤلاء معاداتهم فريضة قطعية واجبة، وموالاتهم محرمة مكفرة يخرج فاعلها عن الملة، ويرتد عن الإسلام إن كان مسلماً قبل ذلك، بل هو على التحقيق حينئذ مرتد حربي، تسري عليه جميع أحكام المرتد الحربي المفصلة في مواضعها من كتب الفقه والعقائد، وإليك أهمها:
(1) هدر دمه، واستحقاقه للقتل، لأنه محارب لله ورسوله كما هو في آية المائدة، إذا قدر عليه، ولم يكن تاب قبل القدرة عليه.
(2) انفساخ نكاحه فوراً، وسقوط ولايته على القاصرين من أولاده وذوي قرابته، وسقوط ولايته في النكاح عن من كانت له ولاية نكاح عليهن من النساء من ذوي قرابته.
(3) إباحة ماله، ووجوب استيفائه، عند القدرة، إلى بيت مال المسلمين، أو أخذه غنيمة من قبل المجاهدين. فلا تجوز للمسلمين وراثته، ولا يرث هو (أو هي) من المسلمين.
(4) عدم جواز دفنه في مقابر المسلمين، لأن الدفن مع المسلمين كرامة لا يستحقها إلا المسلم، وهو (أو هي) كافر حربي مرتد، وليس بمسلم.
(5) ومعلوم أن المسلمة لا تحل لكافر، لا فرق بين مرتد وأصلي، وأن المرتدة ليست كتابية، فلا تحل لمسلم.
(6) معاملته بالمعاداة والبغضاء والمقت التي يستحقها كل كافر حربي.
(7) لا فرق بين الرجال والنساء في هذا الحكم. فالمرأة الحربية، المباشرة للقتال فعلاً، يهدر دمها كالرجل الحربي سواء، ولو كانت محاربتها تقتصر على الغناء أو إلقاء الشعر أو التمثيل، كما عامل النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قينات قريش المحاربات له فقط بالغناء والشعر، فأهدر دمائهن، وأمر بقتلهن، وأمر برمي المرأة التي وقفت على سور الطائف، أثناء حصارها، فكشفت عورتها استهزاءً بالمسلمين. كل ذلك مع نهيه العام عن قتل النساء، وتشديده في ذلك.
(8) ويكفر كل من أظهر الرضا بحاله، أو استحل مصاهرته، إذا بلغه هذا الحكم، واطلع على أدلته، وقامت عليه الحجة فيه، ولم يكن معذوراً بإكراه ملجئ.
u فصل: هل يبغض الكافر المسالم لذاته؟!
إن بغض الكفر والفسوق والعصيان ينشأ طبيعياً عند المؤمن السوي، ضرورة، لأنه يعلم أن الله، تباركت أسماؤه، لا يرضاها، ويبغضها، ولا يحب أهلها. فلا يمكن أن تجتمع محبة الله في قلب، ومحبة الكفر أو الفسوق والعصيان. فإذا ازدادت محبة الله في قلب العبد، وكثر تأمله في قبح الكفر والفسوق والعصيان، زاد نفوراً وكرهاً للكفر والفسوق والعصيان حتى يصطبغ بذلك عقله وفكره، ويتبلور ذوقه وتستقر ميوله على ذلك، فتصبح تصرفاته وفق ذلك: أي يصبح راشداً، والراشد هو العاقل الذي تم عقله، وتحكَّم هذا العقل في أفعاله وتصرفاته ومشاعره، قال، تقدست أسماؤه، ممتناً: }ولكن الله حبب إليك الإيمان، وزينه في قلوبكم، وكرَّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان، ألئك هم الراشدون v فضلاً من الله ونعمة، والله عليم حكيم{، (الحجرات؛ 49:7-8). فحب الإيمان وحلاوته وزينته في القلب، وكره الكفر والفسوق والعصيان نشأت طبيعياً، أي بفعل الله في العبد، وليس بفعل إرادي مباشر من العبد.
والسوال المهم هنا في هذا المبحث يكون حينئذ: إذا كان ما ذكرنا حقاً، فما هو الموقف من الكافر المسالم؟! هل بغضه لذاته، كالحربي تماماً، أم يبغض فقط ما فيه من كفر وفسوق وعصيان، تماما ًكما يبغض ما في المؤمن من الفسوق والعصيان والخصال الذميمة، لكنه يحب ويآخى لذاته بوصفه مؤمناً عنده أصل الإيمان، ويوالى وينصر بوصفه مسلماً يحمل اسم الإسلام؟!
وبتأمل ما ذكرنا آنفاً يتضح أن الكافر المسالم لم يحصل منه ما يوجب أن يبغض لذاته، أي لشخصه، فلم يكن منه عدوان أو محاربة، أو مظاهرة لمحارب أو معتدي، فهو في أقل أحواله محايد، لا يأتي منه شر، ليس «معنا» ولا هو «علينا»، هذا إن لم يكن معنا في الدار، مشاركاً في الوطن، ومكثراً لسواد المسلمين، معاشراً لهم بالحسنى، فيكون حينئذ «معنا». فضلاً على كون الشريعة المطهرة قد حثت وأبانت عن عظيم أجر من اهتدى على يده إنسان واحد، وأن ذلك خير من ثروات الدنيا كلها: «لإن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم». وكذلك جاء الدعاء لهم بالهداية، وإرادة كل أنواع الخير الدنيوي والأخروي، في نصوص كثيرة، لا تعد ولا تحصى. ولا شك أن لهم «أخوّة» في الإنسانية، لها حقها ومكانتها، وهي رحم معتبرة لها حرمتها، وإنما قطعها الحربي بمحاربته، كما فعل ابن آدم المجرم عندما قتل أخاه في أول جريمة قتل في تاريخ الإنسانية فانقلب من الخاسرين. وهذا كله بخلاف تعاملك مع الحربي: فهمُّك إن لقيته في ميدان القتال أن تضرب عنقه، وتقضي عليه، لا غير، لأنك مبغض له بذاته، فأنت تسعى إلى القضاء عليه وإهلاكه، وإتلاف ذاته، ما دام حربياً.
وقد أبطلنا فيما قبل التقاسيم الباطلة التي زلت بها قدم الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، وبعض أتباعه أو مقلدته، عندما أدخلوا في «الموالاة» ما ليس منها، لذلك نقرر، ما هو، إن شاء الله، الصواب من القول، وهو:
أن الكافر المسالم إنما يبغض ما فيه من كفر فحسب، أما هو لذاته فلا يحب المحبة الإيمانية، لأنه ليس بمؤمن، ولا «يتولّى» لأن الموالاة محال ممتنع لا وجود لها أصلاً، ولا تتصور في حقه كما أسلفنا، ولكنه يجوز أن يحب المحبة الإنسانية الطبيعية، من جنس محبة المؤمن لأخيه الكافر، ويستحق التسامح، والرحمة، والإحسان، والرفق بموجب الأخوة الإنسانية، والرحِم الآدمية. أمَّا المسلم، فيحب لذاته «المحبة» الإيمانية، ويتولَّى بذاته «الولاية» الإسلامية، على كل حال، ولو كان من أفسق الفاسقين، وإنما يبغض ما فيه من الفسوق والظلم والانحراف والبدعة، وليس البغض له بذاته.
هذا هو المعنى الصحيح لقول بعض العلماء، وعلى رأسهم الإمام ابن تيمية: (يبغض الفاسق بقدر ما فيه من فسق، والمبتدع بقدر ما فيه من بدعة، ويتولَّى كل واحد منهما بقدر ما فيه من إيمان، ويعادى بقدر ما فيه من فسق وبدعة)، وإن كانوا أساؤوا التعبير، وهذه الإساءة بالغة في الجملة الأخيرة المتعلقة بـ«المعاداة»، لأن المعاداة لا تعقل ولا تنصرف إلا إلى ذات مشخصة. والأولى عدم استخدام هذه التعبيرات المائعة، والإطلاقات الخطرة.
فصحة القول إذاً هي: (يحب المسلم لذاته، ويتولَّى لذاته، بوصفه مسلماً، ويبغض ما فيه من الفسوق، والعصيان، والخصال الذميمة، والعادات القبيحة، والبدع والانحراف عن الحق)، لاحظ أننا لم نستخدم لفظة «المعاداة» مطلقاً لأنها إنما تنطبق عادة على الذوات المشخصة، وليس على الصفات، لأن الصفات إنما تذم وتبغض فقط.
وليس تحرينا الدقة في التعبير منشؤه الوسوسة، أو توهم مخاطر لا وجود لها، أو حب التقعر وتشقيق الكلام، كلا، والله، بل لأن الواقع يفرض هذا علينا فرضاً: فنحن نرى الكثيرين ممن يدعي اتباع الإمام ابن تيمية أو من هو من مقلدته، لا سيما من أدعياء «السلفية» المشهورين بتزكية أنفسهم زاعمين أنهم أهل «العقيدة الصحيحة» وأنهم هم فقط لا غير «الفرقة الناجية» و«الجماعة المنصورة»، قد ظهر فيهم من معاداة بعض أهل الإسلام لبدعة أو فسوق ما يفوق معاداتهم للكفار، بل ربما ترخص بعض هؤلاء المفتونين في إعانة الكفار عليهم فلحقوا بالخوارج الهلكى: الذين يقتلون أهل الإسلام، ويذرون أهل الأوثان، هذا على تقديم حسن الظن بهم والاعتذار لهم بالجهل أو التأويل، وإلا فمثل هذه الإعانة للكفار على المسلم، مهما كان فسق هذا المسلم وبدعته، في ذات الأمر كفر وردة، كما أسلفنا، وكما هو مبرهن عليه في كتابنا: (الموالاة والمعاداة) بما لا مزيد عليه، والحمد لله رب العالمين.
وليس قولنا الذي بيناه آنفاً هذا بدعاً من القول، بل قد قال به كثير من أهل العلم قديماً وحديثاً، وهو قول الإمام ابن المرتضى في «إيثار الحق على الخلق». وقد جاء النص بذلك صريحاً:
v حيث أخرج النسائي بإسناد صحيح عن جرير قال: [أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبايع فقلت: يا رسول الله ابسط يدك حتى أبايعك واشترط علي فأنت أعلم! قال: «أبايعك على أن تعبد الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتناصح المسلمين، وتفارق المشركين»]، وأخرجه أحمد بإسناد صحيح آخر، إلا أنه قال: المسلم، والمشرك.
فذكر المسلم بمقابلة المشرك برهان صريح على قولنا، أنها لكل مسلم، حتى لو كان من أفسق الفاسقين، وأظلم الظالمين، ما دام مسلماً.
v وقال أحمد: [حدثنا إسماعيل أخبرنا بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: أتيت النبي، صلى الله عليه وسلم، حين أتيته، فقلت: (والله ما أتيتك حتى حلفت أكثر من عدد أولاء أن لا آتيك، ولا آتي دينك)، وجمع بهز بين كفيه: (وقد جئت امرأ لا أعقل شيئا، إلا ما علمني الله، تبارك وتعالى، ورسوله؛ وإني أسألك بوجه الله: بم بعثك الله إلينا؟!)، قال: «بالإسلام!»، قلت: (وما آيات الإسلام؟!)، قال: «أن تقول أسلمت وجهي لله وتخليت، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، كل مسلم على مسلم محرم: أخوان نصيران! لا يقبل الله من مشرك أشرك بعد ما أسلم عملا! و«تفارق» المشركين إلى المسلمين. ما لي أمسك بحجزكم عن النار؟! ألا إن ربي عز وجل داعي وإنه سائلي هل بلغت عباده وإني قائل رب إني قد بلغتهم فليبلغ الشاهد منكم الغائب؛ ثم إنكم مدعوون، مفدمة أفواهكم بالفدام، ثم إن أول ما يبين عن أحدكم لفخذه وكفه»، قلت: (يا نبي الله: هذا ديننا؟!)، قال: «هذا دينكم: وأينما تحسن يكفك»]، وهذا إسناد حسن جيد، إن شاء الله تعالى. وها هنا أيضاً: المسلم في مقابلة المشرك، فهو صحيح لكل مسلم، مهما كان فسقه وظلمه، إلا إذا خرج عن الإسلام، ولحق بالكفار المشركين فأصبح من الهلكى الخاسرين
وبغض ما في الكافر من كفر ينشأ منه نوع من «المفارقة» المعنوية، و«المفاصلة» الشعورية، و«التباعد» العقائدي، و«الحذر» السياسي، وهذا في غاية الأهمية لأنه يجعل المسلم جاهزاً مستعداً لمقتهم ومقاتلتهم فور خروجهم من المسالمة إلى الحرب، فلا يبقى مذهولا، وهو يذبح ولا يدري ماذا يجري، كما حصل لأهل البوسنة والهرسك في الماضي القريب، وهو مع ذلك، من جانب آخر، مواظب على دعوتهم إلى الإسلام، ومتقبلاً لمحبتهم وموالاتهم ومآخاتهم فور إسلامهم. أي أن المسلم كأنه على «الحياد الإيجابي»، فهو على أتم الاستعداد للتحرك فوراً في الاتجاه المناسب الذي تملية تطورات الموقف.
هذا هو الذي تأتلف به النصوص كلها، فلا يهمل منها شيء، ولا يترك شيء لشيء، بل تعمل كلها، وتعظم كلها، وتطاع كلها.
u فصل: }إلا أن تتقوا منهم تقاة{
هذا بحث مهم يدور حول قوله تعالى: }لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ، ومن يفعل ذلك فليس من اللّه في شيء، إلا أن تتقوا منهم تقاة، ويحذركم اللّه نفسه و إلى الله المصير{، قال في القاموس المحيط: (والتقية الكلاءة والحفظ، واتقيت الشيء وتقيته اتقيته واتقيه تقى وتَقِيّة وتِقَاء، ككِسَاء: حذرته) فهذا النص في الآية يعين موضوعها وهذا المعنى اللغوي لكملة (تُقْيَة) أو (تقاة) يعين ما تعينه هذه الكلمة في هذه الآية من معني لأنه لم يثبت لها معنى شرعي فيتعين تفسيرها بالمعنى اللغوي، وعلى هذا الأساس وحده تفهم الآية جملة وتفصيلاً.
أما ورد في أسباب نزول الآية من أحاديث فإنها، إن صحت، ترشد إلى تفصيلات ما ورد في الآية، ولكنها لا تغير موضوعها، ولا معاني جملها حسب مدلولات اللغة والشرع. وإذا وردت آية أو أحاديث في موضوع معين تكون خاصة في هذا الموضوع، ولا تشمل غيره، فالقضية قضية }اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين{ التي قد جاءت الآية تنهى عنها نهيًا مغلظاً جازمًا.
وموضوع الآية الواضح في جملها هو «موالاة الكفار»، أي أي }اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين{، التي هي كما أسلفنا، حصراً:
(1) التحالف مع الكفار الحربيين ضد المسلمين، أو نصرة الكفار الحربيين على المسلمين بقول أو فعل (بما في ذلك الفتيا، والخطابة، والدعاية، والشعر، والغناء، والموسيقى، والتمثيليات أو المسرحيات، والمشورة، وكافة أنواع النصرة والتأييد والمعونة)، وأشد ذلك، وأفظعه: القتال تحت راية الكفار الحربيين ضد المسلمين، أو القتال مع الكفار الحربيين ضد المسلمين،
(2) إفشاء أسرار المسلمين العسكرية والأمنية إلى الكفار، حربيين كانوا أو غير حربيين، وما كان في حكم ذلك: كتحريضهم وحثهم على حرب المسلمبن، أو إعانتهم على التحضير أو الاستنفار أو الإعداد لحرب المسلمين.
فهي كما أسلفنا حصرا متعلقة بنصرة الكفار الحربيين ضد المسلمين، أو نصرة الكفار، حربيين وغير حربيين، في ما هو من لوازم الإعداد للحرب، حتى ولو كان هذا قبل وقوعها: من تجسس وإفشاء للأسرار العسكرية والأمنية، والتحريض على الحرب والتحريش لها، والإعانة في كل ما هو لازم للإعداد للحرب، ونحوه.
وفي الآية نص قاطع على أن اللّه تعالى قد نهى «موالاة الكفار»، أي }اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين{، وقرن هذا النهي بالجزم القاطع بأن من يفعل ذلك فيتخذ الكافرين أولياء فإن اللّه بريء منه، وقد انقطعت صلته بالله، مما يعني ضرورة أنه خرج من الإسلام إلى الكفر. وهذا تحريم بات، مطلق، أبدي، لكل موالاة للكفار، أي لكل معنى من معاني الموالاة في العرف الشرعي وفق اللغة العربية، كما أشبعناه تفصيلاً فيما سلف، واستكملنا براهينه وأدلته في رسالة مستقلة: (الموالاة والمعاداة)، ثم استثنى من هذا النهي الجازم حالة واحدة: وهي أن يحذر المؤمن من الكافر أذىً فإنه يجوز له موالاة الكافر دفعًا لهذا الأذى، وهذا استثناء منقطع، أي أن المستثنى ليس في الحقيقة من جنس ما استثني منه، كما سنبين قريباً.
هذه الحالة المستثناة لا تتصور إلا إذا كان المسلم تحت سلطان الكافر مغلوبًا على أمره، أي أن الحذر من الكافر يجيز موالاته في تلك الحالة فقط، فإذا ذهب الحذر حَرُمت الموالاة بجميع أشكالها ومظاهرها مطلقاً. وعلى ذلك فإن القضية ليست إظهار «المودة» وإبطان غيرها، ولا هي «المداهنة» الخبيثة المحرمة التي يسميها البعض «تقية» ويزعمون شرعيتها، ولا هي التلفظ بالكفر تحت الإكراه الملجيء، وهو مشروع لا بأس به، ليست هي شيء من ذلك، بل القضية إستثناء حالة حذر المؤمن للكافر حين يكون المسلم مغلوبًا على أمره، مقيماً تحت سلطان الكافر من عموم تحريم موالاته له.
وذلك لأن الآية نزلت في شأن المؤمنين الذين كانت لهم صلات بالمشركين في مكة فهي تنهى الذين في المدينة عن موالاة المشركين في مكة، وتنهى جميع المؤمنين، وتستثني من ذلك المؤمنين الذين كانوا في مكة فإنهم كانوا مغلوبين على أمرهم تحت سلطان الكفار، فاستثنتهم لوجود حالة خوف لديهم من أذى الكافرين.
هذا هو موضوع الآية، وهذا هو معناها، وهذا هو الحكم الشرعى الذي يُستنبط منها، وهو تحريم موالاة المؤمنين للكفار بجميع أنواع الموالاة من تحالف، ونصرة، وإعانة، ودعم، وانتماء، وغير ذلك، لأن كلمة أولياء في الآية جاءت عامة فتشمل جميع معانيها في لغة العرب، وجواز موالاتهم في حالة حذرهم، أي خوف بطشهم وأذاهم، عندما يكون الكفار غالبين على المسلمين، ويكون المسلمون مغلوبين على أمرهم، تمامًا كحالة المسلمين المستضعفين المقيمين في مكة مع المشركين الحاكمين لها والمسيطرين عليها، ولا يوجد للآية معنى آخر، ولا يستنبط منها أي حكم سوى هذا الحكم.
فالرخصة في «التقاة» محصورة في واقع معين هو حالة المسلمين الذين كانوا فى مكة بين المشركين، أي محصور في حالة وجود المسلمين تحت سلطان الكفار، أي إقامة المسلمين في دار الكفر، ولا قبل لهم بإزالة سلطانه، فهم مغلوبين على أمرهم، فإنه يجوز لهم موالاة الكفار حذرًا مما يُحذَر منه عليهم، سواء أكان على دينهم، أو نفوسهم أو أموالهم أو أعراضهم أو مصالحهم، ففي هذه الحالة فقط يجوز اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، بهذا المعنى المحدود، وفي حدود الضرورة أو الحاجة فقط، مع بقاء الحرمة المغلظة لإعانتهم أو نصرتهم أو محالفتهم ضد المسلمين بقول أو فعل. فكل ما كان داخلاً تحت هذه الحالة يجوز للمسلمين فيه أن يتخذوا الكافرين أولياء، وما عداه فلا يجوز.
فالقضية هي بيان الحالة التي يجوز فيها للمؤمنين أن يوالوا الكافرين، وهي إذا كان المسلمون مغلوبين على أمرهم أمام الكفار بأن كانوا تحت سلطانهم أو في ديار حكمهم، وليست شيئًا آخر مطلقًا.
v قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبرى في تفسيره: (القول في تأويل قوله: }لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء{، إلى قوله: }إلا أن تتقوا منهم تقاة{، قال أبو جعفر: وهذا نهي من اللّه عز وجل للمؤمنين عن أن يتخذوا الكفار أعوانًا وأنصارًا وظهورًا، ولذلك كَسَرَ يتخذ لأنه في موضع جزم بالنهي، ولكنه كسر الذال معه للساكن الذي لقيه ساكن. ومعنى ذلك: لا تتخذوا أيها المؤمنون الكفار ظهرًا وأنصارًا توالونهم على دينهم، وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين وتدلونهم على عوراتهم، فإنه من يفعل ذلك فليس من اللّه في شيء، يعني بذلك فقد برئ من اللّه، واللّه برئ منه بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر. }إلاّ أن تتقوا منهم تقاة{، إلاّ أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم وتضمروا لهم العداوة، ولا تشايعوهم علي ما هم عليه من الكفر، ولا تعينوهم على مسلم بفعل. كما:
v حدثني المثني قال: حدثنا عبد اللّه بن صالح قال: حدثني معاوية بن صالح عن علي عن ابن عباس قوله: }لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين{ إلاّ أن يكون الكفار ظاهرين فيظهرون لهم اللطف، ويخالفونهم في الدين وذلك قوله: }إلاّ أن تتقوا منهم تقاة{).
v إلى أن يقول، رحمه الله: (حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة فى قوله: }لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء{. قال لا يحل لمؤمن أن يتخذ كافرًا وليًا في دينه، وقوله: }إلاّ أن تتقوا منهم تقاة{، أن تكون بينك وبينه قرابة فتصله لذلك!
قال أبو جعفر: [وهذا الذي قاله قتادة في تأويل له وحده، وليس بالوجه الذي يدل عليه ظاهر الآية، إلاّ أن تتقوا من الكافرين تقاة فالأغلب من معاني هذا الكلام إلاّ أن تخافوا منهم مخافة، فالتقية التى ذكرها اللّه في هذه الآية إنما هي تقية من الكفار لا من غيرهم، ووَجَّهه قتادة: إلاّ أن تتقوا اللّه من أجل القرابة التي بينكم وبينهم تقاة فتصلون رحمها، وليس بذلك الغالب على معنى الكلام. والتأويل في القرآن على الأغلب الظاهر من معروف كلام العرب المستعمل فيهم] إنتهى كلام الطبري، وهو يدل على أن إجماع المفسرين قبله، ما عدا الإمام قتادة، رضي الله عنه، هو على الرأي الذي بينا.
أما رأي قتادة فهو شاذ، لا دليل عليه، بل هو مخالف لبيان السنة والسيرة لمعنى الآية، فضلا عن كونه أشد وأضيق في تعريف (التقاة)، فقصرها على صلة ذوي القربى، بدافع تقوى الله، وحرم سائر أنواعها، وهو خلاف ظاهر الآية، وعادة العرب في لغتها، لأن العرب تقول حينئذ: (إلا أن تتقوا فيهم الله تقاة)، أو (إلا أن تتقوا فيهم تقاة)، «فيهم» وليس «منهم» التي جاءت في الآية. وهو قول جاء خلاف الروايات المتواترة عن علاقة المسلمين في مكة بالكفار من أهلها، فوجب الإعراض عنه، وعدم الأخذ به، فهو من زلات العلماء، غفر الله لقتادة، وأعاذنا الله من زلته.
v وقال أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي في كتابه «مجمع البيان في تفسير القرآن»: [قوله تعالى: }لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، ومن يفعل ذلك فليس من اللّه في شيء، إلاّ أن تتقوا منهم تقاة، و يحذركم اللّه نفسه، وإلى اللّه المصير{. قرأ يعقوب وسهل (تقية) وهو قراءة الحسن ومجاهد، والباقون تقاة. لما بيّن سبحانه أنه مالك الدنيا والآخرة، والقادر على الإعزاز والإذلال، نهى المؤمنين عن موالاة من لا إعزاز عندهم، ولا إذلال، من أعدائه ليكون الرغبة فيما عنده، وعند أوليائه المؤمنين دون أعدائه الكافرين فقال: }لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء{ أي لا ينبغي للمؤمنين أن يتخذوا الكافرين أولياء لنفوسهم، وأن يستعينوا بهم، ويلتجئوا إليهم، ويظهروا المحبة لهم كما قال في عدة مواضع من القرآن نحو قوله: }لا تجد قومًا يؤمنون باللّه واليوم الآخر يوادون من حادَّ اللّه و رسوله{ الآية، وقوله: }لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء{، }لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء{، وقوله: }من دون المؤمنين{ معناه يجب أن تكون الموالاة مع المؤمنين، وهذا نهي عن موالاة الكفار، ومعاونتهم على المؤمنين. وقيل نهي عن ملاطفة الكفار. عن ابن عباس: والأولياء جمع الولي، وهو الذي يأمر من ارتضى فعله بالمعونة والنصرة، ويجري على وجهين: أحدهما المعين بالنصرة، والآخر المعان. فقوله: }اللّه ولي الذين آمنوا{، معناه معينهم وناصرهم بنصرته، ويقال:المؤمن ولي اللّه، أي معان بنصرته. وقوله: }ومن يفعل ذلك{ معناه من اتخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين }فليس من اللّه في شئ{ أي ليس هو من أولياء اللّه، واللّه برىء منه. وقيل ليس هو من ولاية اللّه في شيء. ثم استثنى فقال: }إلاّ أن تتقوا منهم تقاة{ والمعنى: إلاّ أن يكون الكفار غالبين، والمؤمنين مغلوبين، فيخافهم المؤمن إن لم يظهر موافقتهم، ولم يحسن العشرة معهم، فعند ذلك يجوز له اظهار مودتهم بلسانه، ومداراتهم تقية منه، ودفعًا عن نفسه من غير أن يعتقد ذلك)]،هكذا قال الطبرسي، موافقاً في الجملة للطبري.
وعلى هذا يتبين من كلام المفسرين المذكورين: الطبري (وهو مجتهد مطلق من أهل السنة والحديث) والطبرسي (وهو من كبار علماء الشيعة الأثني عشرية) وهما من فريقين إسلاميين مختلفين، اتفاقهما على شرح معنى الآية كما وردت من أنها نهي عن موالاة المؤمنين للكافرين واستثناء حالة خوف المؤمنين من أذى الكافرين من هذا النهي، أنظر قول الطبري: (إلاّ أن تتقوا منهم تقاة، إلاّ أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم فتظهروا لهم الولاية بالسنتكم). وانظر قول الطبرسي: [ثم استثنى فقال }إلاّ أن تتقوا منهم تقاة{ والمعنى إلاّ أن يكون الكفار غالبين والمؤمنون مغلوبين فيخافهم المؤمن إن لم يظهر موافقتهم، ولم يحسن العشرة معهم، فعند ذلك يجوز له إظهار مودتهم بلسانه، ومداراتهم تقية منه ودفعًا عن نفسه]، فالمفسران متفقان على أن الموضوع استثناء من النهي عن موالاة المؤمنين للكافرين وأنه محصور في ذلك.
وأنت ترى أن إجماع المفسرين من الصحابة، وهو وحده الإجماع المعتبر، والتابعين ما عدا قنادة، هو على الذي ذكرناه: أن الرخصة هي فقط لمن كان تحت سلطان الكفار وفي أرض دولتهم وديارهم. ويشهد لذلك ذم الله الشديد لمن والاهم، وهو ليس تحت سلطانهم، خوفاً من ضرر أو دائرة، قال عز وجل: }فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيه، يقولون: نخشى أن تصيبنا دائرة{، (المائدة؛ 5:52). فخشية الإنسان أن تصيبه دائرة هو أمر طبيعي معقول، وهو مما يحذر منه، ومع ذلك لم تأت فيه رخصة، فثبت ضرورة أن الرخصة في قوله تعالى: }إلاّ أن تتقوا منهم تقاة{، إنما هي لفئة مخصوصة، وليست لكل أحد، فوجب البحث عن هذه الفئة، فإذا هي تلك التي ذكرنا أعلاه من الواقعين تحت سلطان الكفر والكفار في مكة، كما فسرها ترجمان القرآن الإمام الحجة عبد الله بن العباس، رضي الله عنهما، ويصدقه النقل المتواتر، وقصة حاطب بن أبي بلتعة، المدروسة بالتفصيل في كتابنا: (الموالاة والمعاداة)، فلتراجع.
لذلك كله لا يجوز أن تبقى أدنى شبهة في التحريم المغلظ المطلق لموالاة الكفار، بكل أنواعها، وألوانها، وأحوالها، إلا ما ثبت استثناؤه من الله ورسوله، كما فصلنا بعضه أعلاه. ولما كان الأصل هو التحريم المغلظ المطلق الأبدي، وجب الاقتصار على الحد الأدنى والأيسر من الموالاة في حالة الأخذ بالرخصة، وبقدر الضرورة أو الحاجة، لا غير.
وهذا الحد الأدني الكافي لدفع الضرر عن النفس والأهل والولد والمال والمصالح، أي لاتقاء ما يحذر منه، في عصرنا العاصر، لا سيما في الدول «الديموقراطية»، هو حمل تابعية دار الكفر، أو الحصول على أمانهم وحق الإقامة في ديارهم، أو التمتع بحق اللجوء السياسي في ديارهم، وفي المقابل عدم محاربتهم أو تهديد أمنهم. نعم: في هذا كفاية، وفوق الكفاية، للتمتع بالحماية القانونية للنفس والأهل والمال والمصالح، وللسلامة مما يحذر منه، وذلك بمشاركة أهل تلك الدار في أكثر حقوقهم الأساسية التني يحتاجونها في حياتهم اليومية.
نعم: قد يستغرب بعض من لا يعرف من الإسلام إلا الجوانب الشعائرية والعاطفية والروحانية، مع الجهل بالجوانب السياسية والجتماعية والدولية، من إدخال «حمل التابعية» في باب «الموالاة والمعاداة»، ولو بمعنى من المعاني، ولكننا سبق أن أوجزنا الكلام على ذلك عند مناقشة معنى «الموالاة» في عرف العرب الاصطلاحي في أوائل هذا البحث، وسنبرهن على صحة ذلك، من الناحية الشرعية، في الملحق الموسوم: «تابعية دار الإسلام»، من كتابنا: (الموالاة والمعاداة)، فليراجع لتحرير هذه القضايا.
وقد يقول قائل بحق إن ما ذكرتم أعلاه من جواز حمل تابعية دار الكفر أو الاستمتاع بأمانهم، ونحوه، وما قاله القدامى من: (إلاّ أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم وتضمروا لهم العداوة، ولا تشايعوهم علي ما هم عليه من الكفر، ولا تعينوهم على مسلم بفعل)، أو (إظهار اللطف، والمخالفة في الدين)، وما جرى مجراه، ليس في حقيقته إعانة أو نصرة أو تحالف معهم ضد المسلمين على نحو فعلي مباشر، بل غايته، في أسوأ الأحوال، أن يكون تركاً لنصرة المؤمنين على الكافرين، من غير إعانة للكفار على المسلمين، أو نصرة وتحالف مع الكفار ضد المسلمين بلسان أو قلم أو مال أو يد أو نفس، فهو «ترك» فحسب، لا عمل فيه، وهو «موقف سلبي»، فقط لا غير، فما معنى الاستثناء إذاً في قوله تعالى: }إلا أن تتقوا منهم تقاة{؟! أهو استثناء منقطع؟!
فنقول أنه، على الصحيح، استثناء منقطع، لأن حمل التابعية أو الإقامة الدائمية في دار الكفر ليس هو من جنس «الموالاة» المكفرة المذمومة في هذه الآية، ألا وهي }اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين{، التي هي، حصراً:
(1) التحالف مع الكفار الحربيين ضد المسلمين، أو نصرة الكفار الحربيين على المسلمين بقول أو فعل (بما في ذلك الفتيا، والخطابة، والدعاية، والشعر، والغناء، والموسيقى، والتمثيليات أو المسرحيات، والمشورة، وكافة أنواع النصرة والتأييد والمعونة)، وأشد ذلك، وأفظعه: القتال تحت راية الكفار الحربيين ضد المسلمين، أو القتال مع الكفار الحربيين ضد المسلمين،
(2) إفشاء أسرار المسلمين العسكرية والأمنية إلى الكفار، حربيين كانوا أو غير حربيين، وما كان في حكم ذلك: كتحريضهم وحثهم على حرب المسلمبن، أو إعانتهم على التحضير أو الاستنفار أو الإعداد لحرب المسلمين.
بل هو نوع ثان مستقل من «الولاية» بنص الآيات في آخر سورة الأنفال (راجع الملحق الموسوم: «تابعية دار الإسلام»، في كتابنا: «الموالاة والمعاداة»)، وهذا النوع الثاني هو المستثنى في الآية استثناءً منقطعاً دفعاً لوهم أو شبهة كونه من الصنف الأول، وهو في الحقيقة ليس منه أصلاً، ولا من جنسه، وليس حكم هذا من حكم ذاك. وهذه الشبهة قد تنشأ لتشابه اللفظ والاشتراك في مادة الأصل اللغوي: «و ل ي»، ووجود معنى «القرب» أو «التقرب» في النوعين الإثنين، ولما جرت عليه عادة الناس في اعتبار «ترك نصرة طرف» ما كما لو كانت «نصرة للطرف الآخر»، مع كونها ليست كذلك بالضرورة.
ونزيد هذا إيضاحاً فنقول: إذا حصرنا معنى «الموالاة» المكفرة المذمومة في هذه الآية في النوع الأول، ألا وهو: }اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين{، التي هي، حصراً:
(1) التحالف مع الكفار الحربيين ضد المسلمين، أو نصرة الكفار الحربيين على المسلمين بقول أو فعل (بما في ذلك الفتيا، والخطابة، والدعاية، والشعر، والغناء، والموسيقى، والتمثيليات أو المسرحيات، والمشورة، وكافة أنواع النصرة والتأييد والمعونة)، وأشد ذلك، وأفظعه: القتال تحت راية الكفار الحربيين ضد المسلمين، أو القتال مع الكفار الحربيين ضد المسلمين،
(2) إفشاء أسرار المسلمين العسكرية والأمنية إلى الكفار، حربيين كانوا أو غير حربيين، وما كان في حكم ذلك: كتحريضهم وحثهم على حرب المسلمبن، أو إعانتهم على التحضير أو الاستنفار أو الإعداد لحرب المسلمين.
إذا فعلنا ذلك بقرينة كفر فاعل ذلك على كل حال، إذا فعلنا ذلك فإن الاستثناء يصبح منقطعاً، وهذا وجه حسن قوي مقبول في اللغة العربية على كل حال، ويكون تقدير الكلام في الآية الكريمة حينئذ:
[أن من اتخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، بالمعني الحصري الموضح أعلاه، من فعل ذلك الجرم الشنيع فقد بريء منه الله وبريء هو من الله بارتداده عن الإسلام، ودخوله الكفر، ولكن من أقام إقامة دائمية في دار الكفر أو استمتاع بأمانهم ولم ينابذهم أو يحاربهم، وفق ميثاقه معهم، حتى ولو كانوا هم في حالة حرب مع المسلمين، وذلك «تقية» أي حذراً مما يحذر منه، فليس هو من هذا الصنف، ولا يسري عليه هذا الحكم، أما إذا تجاوز حدود «التقية» هذه، ونصر الكفار فعلياً بلسان، أو مال، أو يد، أو سلاح، أو نفس، أي بأن يكون متوطاً في:
(1) التحالف مع الكفار الحربيين ضد المسلمين، أو نصرة الكفار الحربيين على المسلمين بقول أو فعل (بما في ذلك الفتيا، والخطابة، والدعاية، والشعر، والغناء، والموسيقى، والتمثيليات أو المسرحيات، والمشورة، وكافة أنواع النصرة والتأييد والمعونة)، وأشد ذلك، وأفظعه: القتال تحت راية الكفار الحربيين ضد المسلمين، أو القتال مع الكفار الحربيين ضد المسلمين،
(2) إفشاء أسرار المسلمين العسكرية والأمنية إلى الكفار، حربيين كانوا أو غير حربيين، وما كان في حكم ذلك: كتحريضهم وحثهم على حرب المسلمبن، أو إعانتهم على التحضير أو الاستنفار أو الإعداد لحرب المسلمين.
فيكون حينئذ عمله هذا من أعمال «الموالاة» المذكورة في الصنف الأول، ويكفر بذلك كما كفروا].
هذا الحد الأدني المذكور أعلاه، وهو الكافي لدفع الضرر عن النفس والأهل والولد والمال والمصالح، أي لاتقاء ما يحذر منه، هو المتعين شرعاً.
فالـ«المولاة» المرخص بها حالة «التقاة» تنطبق عليها الشروط التالية:
(1) ماهيتها: هي «حمل تابعية» الدولة الكافرة الحربية، أو «المواطنة» فيها، أو «الإقامة الدائمية» بأمان تحت سلطانها، ويترتب على ذلك ضرورة الامتناع عن مقاتلتهم.
(2) أهلها: المقيمون هناك، المغلوبون على أمرهم تحت سلطان الكفار الحربيين.
(3) حدها: ملاحظة الأمان وعدم خرقه، أي الامتناع عن الفعاليات القتالية ضدهم.
أما تجاوز ذلك بفعل أو قول فلا يجوز، وتبقى (نصرة الكفار الحربيين، ومحالفتهم، وإعانتهم، وتأييدهم على المسلمين، أو التجسس لهم على عسكر المسلمين، أو إفشاء أسرار المسلمين الأمنية إلى الكفار، أو تحريض الكفار على قتال المسلمبن أو إعانة الكفار في الإعداد لحرب المسلمين) ممنوعة محرمة تحريماً باتاً مطلقاً، مفضية إلى كفر صاحبها، وارتداده عن الإسلام فيصبح بذلك: مرتداً كافراً حربياً.
وعلى ذلك يكون الانخراط في أحزاب الكفار الحربيين السياسية التي تتبنى أفكار ومفاهيم ومعالجات الكفر، وتطبقها عند الوصول إلى الحكم، وتتبنى سياسات معادية للإسلام والمسلمين في الداخل والخارج، وربما شاركت في قمع المسلمين، واضطهادهم، واحتلال بلادهم، كما هو حال أحزاب الهند الرئيسية، أو الكيان الصهيوني المغتصب في فلسطين، أو ما هو شر من ذلك: الانخراط في قواتهم المسلحة وجيوشهم، ومحاربة المسلمين تحت رايتهم، كما فعلت الهند وتفعل في كشمير، وفعلت أمريكا وتفعل في العراق وأفغانستان، كل ذلك تجاوز لحد «التقاة» المرخص به، فكل ذلك نصرة فعالة لهم، ولا يكون ذلك إلا من كافر حربي، ملعون في الدنيا ولآخرة، ومن كان مسلماً قبل ممارسته لذلك، فإنه يصبح بذلك كافراً مرتداً حربياً، تسري عليه جميع أحكام المرتد الحربي، وقد سلف بعضها.
فكل أولئك الهنود، المنتسبين للإسلام، المنخرطين في أحزاب الهند الكافرة، المقرين لاحتلال الهند لكشمير، كلهم كفار مرتدون، إن كان صح لهم عقد الإسلام من قبل، إلا من قام به مانع من موانع التكفير المعروفة.
ومن باب أولى قد كفر وارتد كل من انخرط في القوات المسلحة الهندية أو مثيلتها الأمريكية والبريطانية والإسرائيلية بمجرد مشاركته في أي عمل من أعمال القتال ضد المسلمين، أو إقدامه على التجسس لصالح الكفار الحربيين على أسرار المسلمين العسكرية والأمنية، إلا من قام به مانع من موانع التكفير المعروفة.
كل أولئك أصبح مرتداً حربياً، قد هُدِر دمه، ووجبت مجاهدته وقتاله. وهو إن مات على ذلك غير معذور بعذر معتبر مات كافراً قد حبط كل عمله: منتهياً إلى اللعنة الأبدية، والنار السرمدية، هي حسبه وقراره، فتعساً له!
u فصل: هل الله «محبة»، كما تزعم النصرانية البولصية المحرفة؟!
بقيت مسألة واحدة يكرر دعاة النصرانية ترديدها، والإحالة إليها، وهي: أن الصلة بالله تبارك وتعالى تقوم في الإسلام على الخوف والتعظيم، فحسب، وليس للمحبة دور يذكر، بخلاف النصرانية التي تقوم على «المحبة»، بل تقول أن (الله محبة)، وتخاطب الله عز وجل، كما يخاطب الوالد المحب المشفق: (أبانا الذي في السماء تقدس اسمك، ...إلخ)، وهذا فيه من معاني القرب وحسن الصلة والمودة ما لا يوجد في غيره.
هكذا قالوا: وهذا زعم باطل، وجهل مطبق، أو كذب صريح من قائله، كما ظهر يقيناً من النصوص السابقة، فمحبة الله ركن أساس تقوم عليه العبودية، التي خلق الخلق لها، ولكنها ليست الركن الوحيد فكذلك تعظيمه وتوقيره ركن صلب آخر، والتذلل له والخضوع والتسليم لأمره، ركن آخر. وتحت ذلك كله أساس صلب وفرشة عريضة من الإيمان الصادق، واليقين الراسخ، والتصديق الجازم، المبني على العقل والبرهان، وليس مجرد التسليم والاتباع.
وهي مع هذا ليست مجرد محبة سلبية مدفونة في أغوار النفس، وأعماق الضمير، بل هي فعالة مؤثرة في العلاقات كلها: العلاقة بالله، والعلاقة بالذات، والعلاقة بالغير. هذا ما يظهر بوضوح في قضايا «الموالاة والمعاداة» التي لا يكاد يوجد في النصرانية البولصية لها مثيل، حيث اكتفى القوم بالشعارات واللافتات من مثل: (الله يحبك)، أو (عيسى يحبك)، أو أنا (أحب الرب)، أو أنا (أحب عيسى)، وربما كتب ذلك على العمائم والقمصان، وليس وراء ذلك كثير مواقف أو كبير عمل!
ثم ما الذي جوَّز أن نقول: أن الله «محبة»، ولم يجوز أن نقول أنه «عظمة»، و«جلالة»، و«قدرة»، و«علم». وما الدافع إلى تغليب صفة على صفة، أو اعتبار على اعتبار: أهو الوحي، فأبرزوه لنا، أم هو الهوى والمزاج، وازدواجية المقاييس، والكيل بمكيالين؟!
أليس من أبسط حقوق الله «المحبوب» على عبيده «المحبين» أن «يحبوه» كما هو في ذاته، لا كما هو في خيالاتهم أو تصوراتهم أو فرضياتهم، المبنية على مزاجهم وهواهم؟! وهل يسوغ لأحد أن يقول لمحبوبه: أحبك فقط لكذا وكذا، أما صفاتك الأخرى فلا أريدها، ولا أقبلها؟! هذا في حقيقته حب المحب لذاته ونفسه، وللصورة الخيالية التي قامت في ذهنه، وليس حباً للمحبوب المظلوم. وهل هذا هو التعامل الائق مع الله، رب العالمين، الرؤوف الودود، القريب المجيب، الغني الحميد، اللطيف الخبير؟!
نعم: لقد تجنبت الرسالة الخاتمة الإفراط في استخدام لفظ «المحبة»، وامتنعت تماماً عن مخاطبة الله، جل وعز، بلفظ «أبانا»، أو تسميته بـ«الأب»، كما هو الحال في النصرانية، وكذلك إلى حدما في اليهودية، ذلك، والله أعلم، لما وقع في تلك الديانتين من تفريط وتجاوز في هذا الخصوص: فالذنوب تبرر، وتبديل الشرائع يعتذر له، والسكوت على الظلم والعدوان والباطل، والتخاذل عن نصرة المظلومين، يتحول، بأعجوبة، إلى فضيلة وبر بدعوى أن «المحبة» مقدمة على كل شئ، وحاكمة على كل شئ: (أليس الله محبة؟!)، (أليس الله أبو الجميع؟!). واليهود والنصارى يرددون ليل نهار: (نحن أبناء الله وأحباؤه)، والمقصود هو الإفلات من المساءلة، والتساهل في ارتكاب الجريمة، ولو كانوا كذلك بحق، أي محبين لله بمقام الأبناء البررة، لتصرفوا تصرف الإبن البار مع أبيه، والمحب مع حبيبه، ولكن واقع تصرفاتهم: من إماتة شرائع الله، والتساهل في حرمات الله، والخذلان لأولياء الله يبرهن أنهم من ذلك على طرف نقيض.
كما أن التساهل في استخدام ألفاظ الإبن والأب أدى فيما يتعلق خاصة بالسيد الوجيه المقرب عيسى بن مريم، سيد الوجاهة والمجد، مسيح الله، عليه وعلى والدته صلوات وتسليمات وتبريكات من الله، إلى الخروج من المعنى المجازي الذي قصد بها إلى صرفها إلى «بنوة حقيقية» ومساواة «الإبن» لـ«أبيه» في الجوهر، أي أنه ذو جوهر إلهي، وعنصر أزلي، ...إلخ، ومن ثم الوقوع في شرك الذات الذي ناقشناه آنفاً، ثم الفرار منه بالقول بالتثليث، ثم إشكالات لا نهاية لها حول طبيعة المسيح وكيف ينسجم الإلهي مع البشري في ذات واحدة: تساهل وغلو يقود إلى خطأ، وخطأ يستفحل فيؤدي إلى أخطاء أخرى، ثم إلى بحر متلاطم من المستحيلات المتناقضة، والتخيلات الشاطحة المهلكة.
فهذه الرسالة الخاتمة جاءت، والحمد لله، بتشريعات متوازنة، وضمانات قوية تحمي جناب التوحيد، وصفاء المعتقد، وتقلل من خطر الوقوع في حبائل الشيطان، وتوصد الباب أمام الهوس، والغلو، والإفراط، وتحقق التوازن العقلي والشعوري والعاطفي: فتعظيم الله لا يطغى على محبته، وخشيته لا تطغى على رجاء رحمته ومغفرته، واستشعار هيبته وجلالته لا يطغى علي إدراك قربة والأنس بحضرته، لا إله إلا هو القريب الودود. ولم يكلف الناس لإدراك هذا التوازن إلا تكاليف سمحة سهلة، واحتياطات لفظية قليلة ميسورة: مكاسب كثيرة جليلة في مواجهة تكليفات قليلة ضئيلة.
وسيظهر هذا مفصلاً في رسلتنا هذه شيئاً فشيئاً، إضافة إلى ما ظهر من ذلك حتى هذه اللحظة، فالحمد لله على هذه النعمة التامة، وعلى هذا الدين السمح السهل الميسور المتوازن الكامل، وعلى هذا الرسول النبي الأمي العربي: محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله، سيد الرفعة والعز، صاحب لواء الحمد، الإنسان الخالص، والعبد الفاضل الكامل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق