توحيد التشريع والحاكمية

بــــــــــــاب
توحيد التشريع والحاكمية

«توحيد التشريع والحاكمية»: هو الاعتقاد الجازم بأن لله وحده لا شريك له حق التشريع ابتداء واستقلالا، وسلطة الأمر والنهي الذاتية النهائية العليا، وحق الطاعة لذاته، وليس لغيره أن يأمر وينهى، أو أن يستحق الطاعة إلا بإذنه، جل وعز، مع قيام الدليل الشرعي القاطع على وجود هذا الإذن، فهو وحده الحكم، لا حكم غيره، وهو المتفرد بالحكم، المستأثر به، فلا يفوضه لغيره أصلاً.
فهو وحده، بموجب كونه الإله الأحد، والرب ذاتي الربوبية والسيادة، هو الذي يحدد الحرام والحلال، والحسن والقبيح، والمصلحة والمفسدة، ويضع موازين الأخلاق والقيم.
وهو صاحب الربوبية العليا، والسيادة النهائية، فلا توجد سلطة فوق سلطته، ولا مرجعية بعده، لا من عقل أو غيره. فهو: }يحكم لا معقب لحكمه{، (الرعد؛ 13:41)، وهو: }لا يسأل عما يفعل، وهم يسألون{، (الأنبياء؛ 21:23)!
هذه الحقيقة يعبر عنها أحيانا بلفظ: «توحيد الحاكمية» أي أن حق الحكم والتشريع لله سبحانه وتعالى، منفرداً به، وحده لا شريك له، وربما عبر عنها بمبدأ: «السيادة للشرع» أى أن الشرع المنزل من الله تعالى له السيادة النهائية، والهيمنة العليا على جميع تصرفات العباد.
وهذا التعبير الثاني، أي «سيادة الشرع»، أفضل من الناحية العملية لأنه يبين الكيفية العملية لتحقيق هذا القسم من التوحيد ألا وهى: الرجوع إلى الوحي، أي الشرع المنزل، المتمثل في نصوص الكتاب والسنة، وما دلا عليه دلالة قاطعة من الأدلة التفصيلية الفرعية التبعية كالإجماع، والقياس المبني على علة شرعية، أي على علة منصوص عليها أو مستنبطة من النصوص، ونحو ذلك مما قامت عليه قواطع الأدلة.
ومادة (ح ك م) تأتي في اللغة العربية، وكذا في القرآن، والسنة بمعاني عدة، منها:
(1) وضع الأمور في مواضعها، وهي (الحِكْمة)، وفاعل ذلك (حكيم)،
(2) إتقان الصنعة، وبلوغ الفعل إلى غايته، وهو (الإحكام)، وفاعل ذلك (مُحْكِم)، و(حكيم)،
(3) الحكم على أفعال الناس يوم القيامة، وتصفية نزاعاتهم بصفة نهائية أبدية. وهذا إنما هو لله وحده، والآيات في ذلك كثيرة مشهورة.
(4) الفتيا، وإبداء الرأي الذي يعتقد قائله صحته، أي الحكم على القضاياالدينية، والحسية، والعقلية، والجمالية، والأخلاقية، وغيرها. فنحن (نحكم) ببطلان التناسخ، وبطلان التثليث، وقبح الكذب عقلاً، وحرمته شرعاً، إلا في أحوال قليلة منصوص عليها، ... إلخ. ومنه قوله، جل وعلا: }أفنجعل المسلمين كالمجرمين؟! ما لكم، كيف تحكمون؟!{.
(5) فض النزاع، والفصل في الخصومات، على وجه الإلزام. أي القضاء، وهو إحدى سلطات الدولة الرئيسية (السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية، والسلطة القضائية).ويسمى القاضي أيضاً (حاكما)، وما يتلفظ به: (حُكْماً).
(6) رعاية الشؤون، والإدارة، والتنفيذ، أي السلطة التنفيذية في الدولة، ويسمى القائم بذلك: (حاكماً)، كما قد يسمى (والياً)، أو (ولي أمر)، أو (سلطاناً)، أو حتى (ملكاً). وقد شاع في العصور المتأخرة استخدام لفظ (حكومة) لقمة السلطة التنفيذية، أي لمجلس الوزراء، وكذلك بمعنى جهاز الحكم في الدولة.
(7) التشريع، وسن الدساتير، والقوانين، والأنظمة، واللوائح، أي ما تقوم به السلطة التشريعية في الدولة،
بل ويندرج تحت هذا حتى وضع مباديء الأخلاق، والسلوك، والآداب، والأعراف الاجتماعية، لأنه في حقيقته تشريع، وتحديد للقيم. وإن كانت السلطات الدنيوية في الدول والحكومات لا تمارس هذا عادة، وإنما قد يمارسه الناس بمجموعهم بوصفهم مجتمعاً، أي جماعة تقوم بين أفرادها علاقات دائمية.
وهذه المعاني، أو الأنواع الأربعة الأخيرة هي التي تعنينا في هذا البحث: الفتيا، والقضاء، والتنفيذ، والتشريع. وهي كذلك التي يجب حمل النصوص الشرعية عليها كلها، إلا إذا وردت قرينة مخصصة. فإذا قال عليه الصلاة والسلام: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب، فله أجران، ... إلخ» فلا يجوز أن يقال هذا خاص بالقاضي، أو ولي الأمر، بل هو عام لكل من طلب حكم الله في القضية لمعرفته مجرداً:
ــ (1) كالمجتهد والمفتي، فهذا حاكم؛ أو
ــ (2) لتطبيقه في نزاع كالقاضي، فهذا كذلك حاكم؛ أو
ــ (3) لرعاية الشؤون كالإمام:
(أ) إما تنفيذاً في حالة عينية مشخصة، فهو بهذه الصفة حاكم؛
(ب) وإما تشريعاً، أي تبنياً لحكم شرعي في مسألة خلافية، وسنها نظاما عاما ملزما للكافة، وهو بهذه الصفة كذلك حاكم.
والإحتكام، أو التحاكم هو: طلب الحكم من أي نوع كان، من نوع: الفتيا، أو القضاء، أو التنفيذ، أو التشريع.
ولفظ (الحاكميّة) من الألفاظ المولّدة القائمة على غير مثال سابق في اللغة العربية، تماماً كألفاظ (الخالقية) و(الرازقية)، وأول من استخدمها في خطابه السياسي، المبني على العقيدة الإسلامية، هو العلامة الشهير أبو الأعلى المودودي، رحمه الله، مؤسس (الجماعة الإسلامية) في الديار الهندية، ثم أخذها عنه الأستاذ الإمام سيد قطب، فبثها في كتاباته كمَعْلَم من معالم العمل الإسلامي الذي جاد بنفسه في الدعوة إليه، والتركيز عليه،، حتى نال الشهادة، وظي بالكرامة، رضي الله عنه، ورفع درجته. فـ(الحاكمية) إذاً هي كون الله هو الحاكم، تماماً مثل (الخالقية) كون الله خالقاً، جل جلاله، وسما مقامه!
و«شرك التشريع والحاكمية» هو إذاً، بداهة، كل قول أو اعتقاد مناقض لـ«توحيد التشريع والحاكمية».
هذا الشرك، أي «شرك التشريع والحاكمية»، هو الأكثر انتشارا في العالم الغربي اليوم لتبنيه « الدنيوية»،، أو «الزمنية»، (secularism) التي تسمّى خطأً: «العلمانية»، والتي تجعل حق التشريع للإنسان، والسيادة، بزعمها للشعب.
ولما كان العالم الغربي، الآن في هذا العصر، هو الأكثر تقدما في مجالات العلوم والتقنية، وهو المهيمن على مصائر الأمم والشعوب، وحضارته، ومعها ثقافته، هي السائدة، والمعتبرة مقياساً لجميع الحضارات والثقافات؛ ولسقوط العالم الإسلامي عن مرتبة الصدارة فكرياً، وحضارياً، وسياسياً منذ عدة قرون، وانحطاطه انحطاطاً فظيعاً، حتى بلغ الحضيض بهدم آخر دول الخلافة الإسلامية في إسطنبول؛ ولهزيمة جماهير المسلمين، بل وخاصتهم، هزيمة نفسية منكرة، أمام الزحف الغربي؛ لذلك كله، انتشر هذا الفكر الشركي الكفري، بين المسلمين، وبالأخص المثقفين منهم ثقافة غربية، فارتد الكثير منهم عن الإسلام، ونبذوا حضارته وثقافته، وأصبحوا كفاراً مرتدين «لا دينيين»، «دنيويين»، «علمانيين».
وعندما نقول: (ارتد الكثير من مثقفي المسلمين عن الإسلام) فنحن لا نقول ذلك على وجه المجاز، أو المبالغة لغرض من أغراض البلاغة والبديع. كلا، والله: بل نعنيه بالمعنى الشرعي المحدد: ردة حقيقية عن الإسلام أصبحوا بها كفاراً مشركين، تركوا الملة، وفارقوا الجماعة والأمة.
هذا الردة العمياء، والخطر المميت، مع الأهمية الخاصة لمبدأ «السيادة الشرع» من الناحية الإعتقادية لكل فرد مسلم، ومن الناحية الدستورية للجماعة، أي للأمة والدولة الإسلامية، تحتم علينا إشباع القول فيه إشباعاً تاماً، ودحض الشبهات، التي أثارها حوله أعداء الله من فقهاء السلاطين الخونة، عليهم سخط الله، ولعائنه متتابعة إلى يوم الدين، دحضاً نهائياً وكاملاً. كل ذلك يحتاج إنجازه، إلى كتاب مستقل، تمت كتابته وتأليفه، بحمد الله ومنته وتوفيقه، وهو كتابنا: (الحاكمية، وسيادة الشرع) الذي تفرغ لهذه المهمة باباً باباً، وفصلاً، فصلاً.
u فصل: مفهوم «السيادة»
كلمة السيادة، اصطلاح غربي، والمراد بها في الواقع من خلال استقراء وجهات نظر رجال القانون الوضعي، أنها: الممارس للإرادة والمسُيِرلها، في العلاقات جميعها، وحتى في الأشياء.
ومن هذا المنطلق، فإن أدق تعبير يصف واقع السيادة وفق هذا المفهوم، من وجهة نظر الشرع الإسلامي أنها: (سلطة عُليا مطلقة، لها وحدها حق اصدار الحكم على الأشياء والأفعال)، أو بلفظ آخر: (سلطة أصلية، مطلقة، عامة، متفردة، غير محدودة، تهيمن على الأفراد والجماعات)، فالمقصود بسيادة الأمة مثلاً، أن الأمة وحدها لها حق ممارسة الإرادة، والمسير لها في الحكم على الأشياء والأفعال، في صورة سن القوانين لتنظيم الحياة، وفق ما يمليه العقل.
وأياً كان الجدل القانوني أو الفقهي حول تعريف السيادة، فإن من المسلم به أن هناك جملة من السمات والخصائص قد يتفق الجميع على تحقيقها في السيادة، وتمثل قاسماً مشتركاً بينهم جميعاً بخصوص نظرتهم إلى السيادة.
فالسيادة: إرادة عليا، تتميز بخصائص لا توجد في غيرها من الإرادات، وجماع هذه الخصائص أنها الإرادة التي تحدد نفسها بنفسها، فصاحب السيادة لا يمكن أن تلزمه إرادة أجنبية عنه بالتصرف على نحو معين، وهو لا يلتزم بالتصرف على نحو معين إلا إذا أراد هو ذلك. وهذا يعني أن هذه السلطة مطلقة لأنها لو لم تكن كذلك، فسوف تعتمد على إرادة أخرى تقوم بتحديدها، مما يتعارض مع ما تقرر لها من أنها سلطة أصلية، بمعنى أنها لا تتلقى هذه الخاصية من إرادة سابقة عليها أو من إرادة أعلى، فهي تتميز بالخصائص التالية:
v الإطلاق: فصاحب السيادة لا يفرض عليه قانون، بل القانون هو التعبير عن إرادته، وليس لإرادة أجنبية عنه أن تُلزِمه بالتصرف على نحو معين، لأنه لا توجد إرادة تسامية أو تساوية، إرادته آمره دائماً، وليس لأحد قبله حقوق، وعلاقته بغيره علاقة السيد بالعبد، أو المتبوع بالتابع، وعلى العبد أوالتابع تنفيذ ما يصدر عنه من أوامر ليس بسبب مضمونها أو فحواها، ولكن لأنها صادرة عن إرادة هي بطبيعتها أعلى من إرادتهم.
v السمو: فهي في مجالها إرادة تعلو جميع الإرادات، وسلطة تعلو كافة السلطات، لا توجد فيما تنظمه من علاقات سلطة أعلى منها ولا سلطة مساوية لها.
v الوحدانية والتفرد: فلا يوجد على المجال الواحد إلا سيادة واحدة، إذ لو وجدت سيادتان على مجال واحد لفسدت أحواله. و وجه ذلك، أنه لو صدر من كل منهما تكليف يناقض ما أصدرته الأخرى فلا يخلو الأمرمن أحد هذه الأحوال:
(1) ــ تنفيذ التكليفين معاً وهو محال.
(2) ــ أو الإمتناع عنهما معاً، وفي ذلك إبطال لسيادتهما معاً.
(3) ــ أو إنفاذ واحد منهما فقط، فيكون صاحبه هوالأحق بالسيادة، وتبطل سيادة ما سواه.
v الأصالة: فهي قائمة بذاتها لم تتلق هذا العلو من إرادة سابقة عليها، أو من إرادة أعلى منها.
v العصمة من الخطأ: فنظرية السيادة تنزع إلى اعتبار إرادة السيد إرادة مشروعة، وأن القانون يعد مطابقاً لقواعد الحق والعدل لا لسبب إلا لأنه صادر عن إرادة السيد، ولذلك فإن هذه النظرية تنسب إلى السيد صفة العصمة من الخطأ.
هذه هي «السيادة»: فهي سلطة عليا آمره:
v تفردت بالحكم فلا تشرك في حكمها أحداً، إرادتها هي القانون، وتوجيهاتها هي الشريعة الملزمة.
v تفردت بالعلو، فلا تعرف سلطة أخرى تعلو عنها أو تساويها.
v قائمة بذاتها، فلم تكتسب سلطانها من إرادة أخرى.
v حقوقها مقدسة، لا تقبل التنازل ولا يسقطها التقادم.
v معصومة من الخطأ، فكل ما يصدر عنها هو الحق والعدل.
فهل يشك مسلم أن هذه الصفات لا تليق أصلاً إلا بالله عزوجل، وأن لفظة «السيادة» إنما تعني في الحقيقة بالضبط ما تعنيه لفظة «الربوبية»؟!
وقد نص جمهور مفكري الإسلام من علماء الأصول وغيرهم، صراحة على كون السيادة محصورة في الشرع وحده حصراً تاماً مطلقاً.
كما نص بعضهم أنه لا حكم قبل ورود الشرع، وأن العقل لاحكم له مطلقا. وهو الحق، الذي قامت عليه البراهين العقلية والشرعية اليقينية القاطعة، فلا يجوز اعتقاد غيره. ومن هؤلاء، من المتقدمين: ابن حزم، (راجع: «الإحكام في أصول الأحكام»، للإمام الحجة الكبير ابن حزم)، والآمدي، وأبو بكر المعروف بإبن العربي، والاسنوي، والشوكاني، وابن القيم؛ ومن المعاصرين: تقي الدين النبهاني (راجع: «الشخصية الإسلامية»، الجزء الثالث، للشيخ الإمام تقي الدين النبهاني).
u فصل: أدلة توحيد التشريع والحاكمية، وكون «السيادة» للشرع
لقد قامت الأدلة القطعية من القرآن، والسنة، واجماع الصحابة، بل ومن العقل، على أن السيادة للشرع وحده مطلقاً. ففي القرآن نصوص كثيرة جداَ تدل على أن الشرع وحده هو صاحب السيادة المطلقة، في الكون والحياة والإنسان، فمن هذه النصوص:
v قال، تباركت أسماؤه، وتقدست صفاته، رواية لمقولة يوسف، المعصومة، الجامعة، المانعة: }ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان: إن الحكم إلا لله، أمر ألا تعبدوا إلا إياه، ذلك الدين القيم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون{، (يوسف؛ 12:40). فإن كان المقصود بالعبادة معناهاالمحدود الضيق، أي الشعائر التعبدية، كما يتوقع أن يكون الفهم البدائي المحدود لصاحبي يوسف في السجن، أي مجموعة من الأفعال: ركوع، وسجود، وصلاة وصيام، ونصب محاريب، وتقديم ذبائح وقرابين، وإشعال شموع، وإطلاق مجامر وبخور، وتقديم صدقات ونذور، ونحوه، فهذه لا تصرف إلا لله وحده لا شريك، ولا تصرف لغيره، لأنه أمر بذلك، بوصفه المتفرد بالحكم، أي بوصفه صاحب السيادة، المتفرد بها: }أمر ألا تعبدوا إلا إياه{، فعبادته بهذا المعنى الضيق، أي صرف تلك الشعائر والطقوس والأفعال التعبدية له، وتوحيده، أي قصر تلك الأفعال عليه، ليست أصلاً، بل هي فرع: لتفرده بالسيادة والحكم. ولو أمر بصرف شيء من تلك الأفعال لغيره، من حيث هي أفعال مجردة، لوجبت طاعته، وقد وقع بعض ذلك فعلاً حيث أمر الملائكة بالسجود لآدم.
فالطاعة هي الأصل، والأفعال والشعائر التعبدية، أو التي تسمّى تعبدية، وإفراد الله بها هو الفرع. فليس توجيه تلك الأفعال إليه، وإفراده بها بضرورة حس أو عقل، بل هو طاعة للأمر، ولو لم يصدر أمره بذلك لما وجب من ذلك شيء، ولا حرم منه شيء. هذا هو الحق الذي تدل عليه الآية، ولا يمكن فهم غير ذلك منها مطلقاً، كما فصلناه في صلب كتابنا هذا عن «التوحيد: أصل الإسلام، وحقيقة التوحيد».
وإن كان المقصود بالعبادة معناها الشامل الواسع، ألا وهو: الخضوع، مع الطاعة والاتباع؛ والتذلل والتقديس؛ مع المحبة والولاء؛ فتكون جملة: }أمر ألا تعبدوا إلا إياه{،
أولاً: تفريع، وتطبيق، وبيان للجانب العملي التطبيقي لجملة: }إن الحكم إلا لله{، التي هي الجانب المعرفي النظري،
ثانياً: تحويل لوجوب طاعة الله، جل جلاله، من كونه ضرورة عقلية، سابقة لكل أمر أو نهي، إلى حكم شرعي يترتب على الالتزام به أو عدم الالتزام: حساب وثواب وعقاب،
فطاعة الله ليست فقط واجبة بضرورة العقل، حسنة بحكم العقل، بل هي كذلك واجبة بأمر الشارع وسوف يترتب عليها ثناء من الله وثواب، وعلى عدمها: ذم من الله وعقاب.
فقوله تعالى: }أطيعوا الله{، في مواضع كثيرة من القرآن، وإن جاء على صيغة الأمر، إلا أنه ليس أمراً حقيقياً، وإلا لقال قائل: كيف أعرف أن طاعة الله واجبة؟! أبأمر سابق منه، فهذا يحتاج إلى أمر سابق آخر منه، وهكذا إلى لا نهاية.
والحق أن هذا اللفظ يتضمن خبرين، فكأنه، جل جلاله، وسما مقامه، قال:
(1) قد علمتم بضرورة العقل أن طاعتي، طاعة مطلقة بدون قيد أو شرط، واجبة عقلاً، حسنة عقلاً، كما هو لائق بالعقلاء، وها أنا أذكركم بذلك؛
(2) وها أنا أعلمكم أني، علاوة على ذلك، أطلب منكم تلك الطاعة، فأنا إنما خلقتكم لها، وسأحاسبكم عليها، وسيكون:
(أ) ثواب على الطاعة من السعادة المطلقة، والنعيم الدائم، والملذات الأبدية، التي يطلبها كل عاقل،
(ب) وعقاب على المعصية، لا محيص عنه، ولا إفلات منه، في نار أبدية، وتعاسة سرمدية، ينبغي على كل عاقل التشمير للإفلات منها؛
فالحقيقة الأصلية العليا المطلقة هي تفرد الرب، جل جلاله، بالحكم، وانفراده بالسيادة، ويترتب على ذلك بضرورة الحس والعقل على كل عبد، أيقن ذلك وأقر به، إفراده بالعبادة بمعناها الشامل، أي إفراده بالطاعة والخضوع والتسليم، المبنية على المحبة والتوقير والتعظيم، لأن ذلك هو رأس العبودية، وجوهوها، وحقيقة معناها. ثم جاء الشرع فجعل ذلك واجباً شرعياً لا هوادة فيه، بل هو رأس الواجبات وقطب رحاها.
فالعبادة بالمعنى الواسع، ألا وهي: التذلل والتقديس؛ والخضوع، مع الطاعة والاتباع؛ مع المحبة والولاء، ترجع كلها إلى رأس ذلك وأصله: الطاعة والخضوع والتسليم، المبنية على المحبة والتعظيم، وهذه بدورها هي المظهر الطبيعي الوحيد المقبول والمعقول من العبد المخلوق تجاه الرب الخالق: أي تجاه الحقيقة الوجودية المطلقة العليا: }إن الحكم إلا لله{، أو إن شئت فقل: (لا إله إلا الله)، لا فرق بين تعبير وتعبير، إذ كل ذلك مترادف يبين بعضه بعضاً، ويترتب بعضه على بعض بالضرورة العقلية والحسية القاطعة.
v وقال الله تعالى: }إن الحكم إلا لله، يقص الحق، وهو خير الفاصلين{، (الأنعام؛ 6:57). وهذه صيغة حصر، فالحكم له وحده، لا شريك له، حصراً. وخبره، كما هو في قصصه، هو الحق المطابق للواقع يقيناً، وهو الذي يفصل في كل نزاع، ويحكم في كل خلاف، حكماً فصلاً نهائياً، لا تعقيب عليه، ولا مسائلة له: في الدنيا بتعريف الحلال والحرام، والخير والشر، وتحديد القيم الأخلاقية والمعنوية، وفي الاخرة بالفصل النهائي العادل المطلق بين العباد. كما أنه لا خير، ولا عدل، ولا حق إلا في حكمه، لا إله إلا هو، ولا رب سواه.
وهذه الأخبار الثلاثة:
(1) كون الحكم حصراًً لله بدون ند أو شريك؛
(2) وكونه يقص الحق؛
(3) وكونه يفصل في كل نزاع، بل هو خير الفاصلين؛
أخبار صادقة أزلاً و أبداً عن الله تبارك وتعالى، يستحيل أن يتصور العقل خلافها، ولا يجوز أو يمكن نسخها، لأن الأخبار لا تنسخ.
لا حظ أن الآية نصت على أن: (الحكم لله حصراً، بدون ند أو شريك) عندما قالت: }إن الحكم إلا لله{، وهو عين اللفظ المستخدم في سورة يوسف التي روت مقولة يوسف بن يعقوب، صلوات الله عليه وعلى والده، تلك المقولة الرائعة الجامعة المانعة، كما سبق إيراده ومناقشته، ولكن القصص الحق، والخبر الحق، قد يأتي من غيره. فالإخبار بالحق والصدق ليس محصوراً في الله، جل جلاله، بل قد يأتي من غيره. طبعاً ما يأتي من الغير من حق وصدق إنما هو محدود، منشؤه علم محدود مخلوق مكتسب، بخلاف علم الله الذاتي المطلق: فشتان بين خبر صادق، وخبر صادق، وبين علم وعلم!
وهناك غير الله من يفصل في الخلافات والمنازعات، ولكن شتان بين فاصل مخلوق حادث محدود نهائي، وفاصل أزلي أبدي لانهائي هو (خير الفاصلين)!
ولكن ما هي طبيعة كون (الحكم لله حصراً، بدون ند أو شريك)، أي ما هي ماهية هذا الحصر؟! أهو خبر عن واقع فعلي، أو إخبار عن استحقاق، أي إخبار عما ينبغي أن يكون، بغض النظر عما كان أو سيكون واقعاً فعلياً؟!
وبتأمل الواقع الحسي المعلوم بالمشاهدة المباشرة، والنقل التاريخي المقطوع بصحته، نجد أن الحكم (بكل معانيه الأربعة التي تعنينا ها هنا، والتي سبق ذكرها) قد وقع فعلاً من غير الله تبارك وتعالى، ويقع كذلك الآن. فمن المحال الممتنع أن تكون هذه اللفظة: }إن الحكم إلا لله{ من عند الله خبراً صادقاً، وتكون في نفس الوقت إخباراً عما هو واقع فعلياً.
فاللفظة: }إن الحكم إلا لله{ إذاً هي، ضرورة، إخبار عما ينبغي أن يكون، وليس عما وقع بالفعل، وتقديرها هو إذاً: (أن الحكم ينبغي أن يكون لله حصراً، بدون ند أو شريك، حتى لو وقع فعلاً خلاف ذلك)، أو بلفظ آخر: (إن الحكم من خصائص الله، وهو مما ينبغي أن يتفرد به، وحده لا شريك له، حتى لو وقع عدوان من غير الله على هذه الخصوصية الإلاهية). ويترتب على ذلك أن من استأثر لنفسه بالحكم، ولو في مسألة واحدة، قد ارتكب جريمة الاعتداء على خصوصيات الذات الإلاهية، وتجاوز على حمى الربوبية والسيادة الربانية، أي: أنه جعل نفسه رباً وإلاهاً من دون الله، بغض النظر عن تصريحه بذلك بأن يقول مثلاً: }أنا ربكم الأعلى{، أو عدم تصريحه به.
فإن كان الأمر كذلك، وهو قطعاً كذلك إذا كان القرآن حقاً من عند الله، فإن من أقر له بذلك قد جعله رباً وإلاهاً من دون الله لا محالة، وهو بذلك مشرك كافر، قد ارتد عن الإسلام إن كان قد صح له عقد الإسلام من قبل، ولا يمكن أن يكون الأمر خلاف ذلك.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى تحتاج اللفظة إلى تحرير من حيث معتى (الحكم) الذي هو مستحق قصراً لله جل جلاله: أهو كل المعاني الأربعة آنفة الذكر أم بعضها فقط.
وباستقراء آي الذكر الحكيم، والمتواتر من السنة والسيرة النبوية، بل ومن أخبار الأنياء السابقين، نجد أن النبي، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، قد مارس (الحكم) بمعنى رعاية الشؤون، وبمعنى القضاء، وبمعنى الفتيا أي الإخبار عن الحكم من غير إلزام؛ وكل ذلك كان بأمر الله وإذنه، فمن المحال أن يكون في ذلك أدنى اعتداء أو تجاوز على حق الله في التفرد والاختصاص بالحكم.
لذلك وجب أن يكون (الحكم) الذي قصدته الآيات، وجعلته حصراً لله جل جلاله، إنما هو فقط: التشريع في جوهره ومعانيه على وجه الايتداء والإنشاء.
قلنا: (في جوهره ومعانيه) تحسباً لما قد ينقدح في بعض الأذهان الكليلة، والأفهام السطحية السقيمة، من الخلط بين (التشريع في جوهره ومعانيه) وبين التعبير عن التشريع، أو صياغة التشريع، أو التبليغ بالتشريع. ونزيد هذا وضوحاً بالتنبيه على أن أقوال النبي، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، وأفعاله وأقاريره وحي معصوم من عند الله. فالتشريع في جوهره ومعناه من الله حصراً، ولكن التعبير جاء بقول النبي ولفظه، أو بفعله، أو إقراره، وكل ذلك ضروروة هو من النبي، وليس هو من الله: هذا هو معنى قولنا أن السنة وحي معصوم من الله عبَّر عنه النبي بقوله أو فعله أو إقراره.
وكذلك كتب الفقهاء ما هي إلا محاولة لصياغة التشريع الإلاهي في حدود اجتهاد وعلم مؤلفها. وإنما تختلف مصنفات الفقهاء عن نصوص السنة النبوية من حيث كون هذه معصومة، وتلك ليست بالمعصومة، فلا ضمان لكون ما فيها من التشريع في جوهره ومعناه هو حقاً من عند الله، على مراد الله.
وكذلك يكون الأمر بالنسبة لما تسنه الدول من دساتير وقوانين ولوائح فقد يكون ذلك مجرد تبني لتشريع إلاهي في جوهره، وإنما تمت صياغته في صورة دساتير ولوائح وقوانين، كما هو الحال في الدولة الإسلامية، التي هي إسلامية بحق، فيكون هذا في حقيقة الأمر من باب (رعاية للشؤون)، وليس تشريعاً على وجه الابتداء والإنشاء، ولا يكون من ثمَّ تعدياً على حق الله في التفرد بالحكم، حتى ولو لم تكن تلك التبنيات معصومة، كما هو مشبع بياناً في الباب المعنون: (تبني الدولة للأحكام الشرعية)، من كتابنا: (الحاكمية، وسيادة الشرع).
وقد يكون سن الدول والأمم للدساتير والقوانين والوائح تشريعاً على وجه الإنشاء والابتداء، فيكون تعدياً على ربوبية الله وسيادته، وانتهاكاً لـ(حرم) الألوهية السامية الرفيعة، وفاعله طاغوت متكبر كافر، والمقر له بذلك، أو المسلم له بذلك، مشرك كافر، ويكون النظام نفسه نظام كفر، وليس نظاماً إسلامياً.
ومما سلف بيانه تتضح عظم الجناية التي ارتكبها الخوارج الحرورية على دين الله، وعلى العقل، وعلى اللغة، عندما رفضوا التحكيم بين إمام الهدى أمير المؤمنين على بن أبي طالب، رضوان الله وسلامه عليه، ومعاوية بن أبي سفيان بزعم أن ذلك مناقض لقوله جل جلاله: }إن الحكم إلا لله{، زاعمين أن إمام الهدى، باب مدينة العلم النبوي، قد (حكَّم الرجال في دين الله): هكذا تكون الأفهام السقيمة والعقول البليدة!
v وقال الله تعالى، مؤكداً لما أسلفناه: }...، ألا له الحكم، وهو أسرع الحاسبين{ (الأنعام؛ 6:62). وهذه صيغة حصر أخرى، لأن لفظة (الحكم) جاءت محلاة بألف ولام التعريف، فتشمل جنس الحكم، أي كل حكم. وقد تم تأكيد خصوصيته وتفرده، جل وعلا، بذلك بتقديم شبه الجملة الخبرية (له) على المبتدأ، واستخدام آلة التأكيد: (ألا).
v وقال الله تعالى: }...، ألا له الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين{ (الأعراف؛ 7:54). وهذه صيغة حصر أيضاً، كما سلف. فكما أنه هو وحده الخالق الرازق على وحه الحقيقة والبتداء والاستقلال، فهو وحده الآمر الناهي، أي أنه هو وحده السيد المتفرد بأحقية الحكم، أي: بأحقية التشريع في جوهره ومعانيه على وجه الايتداء والإنشاء.
v وقال الله تعالى: }وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله، ذلكم الله ربي، عليه توكلت، وإليه أنيب{ (الشورى؛ 42:10). وليس هذا حصراً لأحقية الله في الحكم فقط فيما اختلف فيه الناس. بل هو الحاكم مطلقاً. والناس إنما أجمعوا فقط على ضروريات العقل الأولية، وهذه مغروسة في طبيعة العقل وبنيته، وإن شئت أن تقول هي جزء من العقل بوصفه عقلاً. والله جل جلاله هو الذي خلقه هكذا، بعد أن قضى وحكم، قضاءً تقديرياً كونياً، بأن يكون الحال هكذا. فليس وراء الله شيء، بل هو الأول والآخر، والظاهر، والباطن، وإليه المنتهى!!
v قال الله تعالى: }... فالحكم لله العلي الكبير{ (غافر؛ 40:12).
v وقال: }والله يحكم، لا معقب لحكمه، وهو سريع الحساب{، (الرعد؛ 13:41). وكيف يتصور أن يكون في الوجود من يعقب على حكمه؟! أليس هو الأول والآخر؟! أليس منه المبدأ؟! أليس إليه المنتهى؟!
فلو اعترض معترض على حكم الله بدعوى مخالفته لـ«العقل»، بزعمه الكاذب الداحض، قيل له:
ألست أدركت بالعقل أنك محدود لست (لانهائياً)، ممكن الوجود لست واجباً ضرورياً، حادثاً لست أزلياً، وأن عقلك من خلق الله، وليس عقلاً مستقلاً مطلقاً، وعلمك مكتسب حادث محدود، وليس ذاتياً مطلقاً أزلياً غير محدود؟!
فما عند الله من علم ذاتي مطلق، وإحاطة تامة بذاته ومخلوقاته، وقدرة شاملة على الإدراك والحكم تجعل حكمه ضرورة مقدم على حكمك.
فظنك أن حكم الله مناقض للعقل ظن باطل، وهو من «خداع البصيرة»، تماماً كـ«خداع البصر»، لا محالة، يبقى البصر منخدعاً مهما كررت النظر، ولكنك تدرك بدليل العقل وشهادته أن ذلك خداع ووهم.
فكذلك ها هنا: يجب على العقل أن يحكم بأن ظنه ذلك باطل، وأنه وهم، لأن خلاف ذلك محال: ذلك «خداع البصيرة»، وهو من وساوس الشيطان، لأن الشيطان، لعنه الله، يعلم تماماً أنك محدود، وعندك قابلية الانخداع، فيقوم بلعبته، آملاً الإفلات بجريمته.
والعقل الإنساني، ذلك المخلوق الرائع، قادر، بإقدار الله له، وتكريمه إياه، على فضح هذه الوساوس الشيطانية، واكتشاف «خداع البصيرة»، فلله الحمد والمنة.
فأصل عقلك من عند الله خلقاً وإيجاداً وتركيباً، فكيف يعود الفرع على أصله بالإبطال؟! لأن الأصل إذا بطل، بطل كل ما تفرع منه، فبطلت أنت ووقع عقلك باطلاً، وانعدمت الثقة به أصلاً، فكيف تقبل بحكمه ذلك المبني على «خداع البصيرة» ابتداءً؟!
تماماً كذلك الأحمق السفيه الذي كان يجلس على فرع شجرة عالية باسقة، ثم أمر أحد المارة بقطع ساق تلك الشجرة نفسها، فسقط به الفرع، ودقَّت عنقه: كيف يبقى الفرع، إذا ذهب الأصل؟!
v وقال، تباركت أسماؤه: }لا يسأل عما يفعل وهم يسألون{، (الأنبياء؛ 21:23). والسؤال تعقيب ومراجعة، وقد أثبتا آنفاً أنه من المحال الممتنع أن يكون على حكم الله تعقيب، لأن ذلك يؤدي إلى انهيار العقل نفسه وتحطمه، وبطلان أحكامه، واستحالة النطق واللغات. فمن بلغ هذه الحالة «المرضية»، حالة السفسطة المطلقة، فليصبر حتى تزول، لأنها لا تدوم، وإلا فليمت، وليرح ويستريح!
v وقال الله تعالى: }ما لهم من دونه من ولي، ولا يشرك في حكمه أحداً{ (الكهف؛ 18:26). فليس له الحكم والسيادة ذاتياً فحسب بموجب كونه «واجب الوجود» الأزلي بغير ابتداء، الأبدي بغير انتهاء، بل هو: (لا يأذن لغيره، مطلقاً وبتاتاً، بمشاركته في الحكم، أي: في التشريع في جوهره ومعانيه على وجه الايتداء والإنشاء).
ففي هذه الآية وحدها أبلغ رد على مزاعم «العلمانية»، التي تجعل «الخلق» لله، وتنكر أن يكون له الأمر. فهو، تقدست أسماؤه وسما مقامه، لا يشرك في حكمه وأمره ونهيه أحداً، ولم يفوض ذلك إلى أحد، ولم يأذن بشئ من ذلك لأحد.
هكذا قرأ الجمهور، وقرأ ابن عامر الشامي: } ولا تشرك في حكمه أحداً{، بصيغة الأمر: لا تشرك في حكم الله أحداً، أي لا تجعل لله شريكا في الحكم، وهذا بعض ما تضمنته قراءة الجمهور، التي هي، أي قراءة الجمهور، قرآن متواتر مقطوع بصحته: فإن كان هو، تباركت أسماؤه، لا يشرك في حكمه أحداً، ولم يفوض شيئاً من الحكم إلى أحد، ولم يأذن في شئ من الحكم لأحد، فمن باب أولى لن يأذن لأحد أن يجعل له شريكاً في الحكم.
والحق أن أكثر العلمانيين، وبخاصة رؤوسهم، إنما يقولون ذلك سياسة ونفاقاً، وتضليلاً لعوام الناس، وإلا فأكثرهم ملحدون دهريون: ينكرون وجود الخالق، أو يشكون فيه، أو هم فيه متوقفون، ولكنهم أجبن من المجاهرة بذلك، والدعوة إليه صراحة، خوفا من نقمة الجماهير الساذجة، المؤمنة بوجود الله، واحتراساً من بطشتها!
v وقال الله تعالى: }أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله{ (الشورى؛ 42:21). ومعلوم أن المشركين الذين يعتقدون الألوهية في معبوداتهم، أي الذين جعلوا مع الله آلهة آخرى، يعتقدون أن لتلك الآلهة، بالضرورة، حق الأمر والنهي، ولو في بعض الأمور. فمن المحال أن يكون هذا هو مقصود الآية الوحيد، لأنه تحصيل حاصل، حاشا لكلام الله عن مثل هذا الهذر واللغو الفارغ.
فالآية إذاً، وهي استفهام استنكاري تنكر عليهم في الحقيقة أنه قبلوا التشريع في الدين من عند غير الله، فجعلوهم بذلك شركاء، حتى ولو لم يعتقدوا فيهم غير هذه الجزئية مطلقاً، وحتى لو أنكروا بكل شدة وحرارة أنهم جعلوهم شركاء مع الله، نظراً لعقليتهم البدائية، وبسبب نظرهم المحدود. وسيأتي نموذج لذلك في فصة عدي بن حاتم، رضي الله عنه.
فالتشريع من دون الله شرك، وفاعله منازع لله في الربوبية، أي في السيادة والحاكمية، منصباً لنفسه رباً، ونداً، وإلهاً، وشريكاً، وحكماً من دون الله، بالضرورة لا محالة، مهما حاول التملص أو الدفاع عن نفسه.
فمن شرع شيئاً من الدين من عند نفسه فقد جعل نفسه شريكاً لله سبحانه وتعالى، فهو إذاً قد تجاوز حده فأصبح من ثم طاغوتاً، متمرداً على الله في ربوبيته وحاكميته، منازعاً له في كبريائه وعظمته.
ومن أقر بحق التشريع لغير الله، أو قبل التشريع من غير الله، فقد جعل ذلك الغير شريكاً لله، واتخذه إلاهاً ورباً وحكماً من دون الله. وهو بذلك مشرك كافر قد ارتد عن الإسلام، إن كان قد صح له عقد الإسلام من قبل.
ونسارع فنؤكد ونذكر بأن الدين هو الشريعة العامة، أي الطريق المعينة للعيش الشاملة للحضارة والثقافة، كما أسلفنا، وليس هو فقط الروحانيات والشعائر التعبدية والأخلاق.
v وقال، جل جلاله، وسما مقامه: }اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله{. (التوبة؛ 9:31). وقد جاء في تفسير هذه الآية عن عدي بن حاتم ــ رضى الله عنه ــ قال: [أتيت رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: «يا عدي، اطرح هذا الوثن من عنقك!»، قال: فطرحته؛ وانتهيت إليه وهو يقرأ في سورة «براءة» فقرأ هذه الآية: }اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله{، قال قلت: يا رسول الله، إنا لسنا نعبدهم!، قال: «أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟ ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟» قال قلت: بلى، قال: «فتلك عبادتهم»، (وفي رواية: قال: «صدقت، ولكن كانوا يحلون ما حرم الله فيستتحلونه، يحرمون ما أحل الله لهم فيحرمونه»)]، رواه الطبري في «التفسير»، وهذا هو لفظه من أحد الطرق، وله طرق أخرى عنده بطوله ومختصراً، كما ررواه الطبراني في «الكبير»، والبيهقي في سننه، وكذلك الترمذي في سننه وقال: (هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب، وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث)، والبخاري في التاريخ الكبير، وابن حزم وحكم بصحته، على تعنته وتشدده.
والحق أن هذا الإسناد حسن لذاته، ومتن الحديث نظيف مستقيم، فالحديث حسن تقوم به الحجة، كما فصلناه في الملحق. وهو على كل حال صحيح على شرط ابن حبان، وهو صحيح قطعاً بشواهده التالية، ومنها:
ـ ما أخرج الطبري في «التفسير» بإسناد في غاية القوة والصحة عن حذيفة بن اليمان، رضي الله عنه، أنه سئل عن قوله تعالى: }اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله{، أكانوا يعبدونهم؟! قال: لا، (وفي رواية: أما إنهم لم يكونوا يصومون لهم، ولا يصلون لهم، ولكنهم) كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه.
وقد أخرجه الطبري بطوله من طرق عدة صحاح وحسان عن حبيب بن أبي ثابت، وروى مثله البيهقي، كما أخرجه الطبري من طريق أخرى عن حذيفة مختصراً بلفظ: (لم يعبدوهم، ولكنهم أطاعوهم في المعاصي!).
ـ وأخرج الطبري بسنده عن ابن عباس في تفسير الآية، قال: (زينوا لهم طاعتهم).
ـ وأخرج بسند آخر عن السدي، قال: قال عبد الله بن عباس: (لم يأمروهم أن يسجدوا لهم، ولكن أمروهم بمعصية الله فأطاعوهم، فسماهم الله بذلك أرباباً).
ـ وأخرج بسنده عن الحسن البصري في تفسيرها، قال: (في الطاعة).
ـ وأخرج بسنده عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في تفسير هذه الآية، قال: قلت لأبي العالية: كيف كانت الربوبية التي كانت في بني إسرائيل؟! قال: لم يسبوا أحبارنا بشيئ مضى؛ ما أمرونا به ائتمرنا، وما نهونا عنه انتهينا لقولهم، وهم يجدون في كتاب الله ما أمروا به وما نهوا عنه، فاستنصحوا الرجال، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم!
وقد فهم عدي، رضي الله عنه العبادة، هنا بمعناها الضيق البدائي (أي التذلل والخضوع، وأفعال التقديس: من ركوع، وسجود، وصلاة وصيام، ونصب محاريب، وتقديم ذبائح وقرابين، وإشعال شموع، وإطلاق مجامر وبخور، وتقديم صدقات ونذور!) فعلمه النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن الإقرار للأحبار والرهبان بحق التشريع وجعلهم بذلك أرباباً لهم السيادة، عبادة لهم بالمعنى الواسع (والعبادة بالمعنى الواسع هي: التذلل والتقديس؛ والخضوع، مع الطاعة والاتباع؛ مع المحبة والولاء، ورأس ذلك وأصله: الطاعة والخضوع والتسليم).
وأنت لو سألت الأحبار والرهبان: هل أنتم أرباب من دون الله لقفزوا فزعاً، وأنكروا عليك أشد الإنكار، واتهموك بإشاعة قالة السوء عنهم، وتضليل الجماهير وتنفيرهم من قياداتهم الدينية.
وكل ذلك لا يجدي، ولا يغني عنهم شيئاً: فهم بمنازعتهم الله في التشريع والحكم جعلوا أنفسهم أرباباً من دون الله في حقيقة الأمر، فأصبحوا طواغيت كفرة، أعداءً لله، يجب الكفر بهم ومفاصلتهم، مهما صاحوا واعتذروا واحتجوا، ومن أعطاهم هذا الحق فهو مشرك كافر، مهما اعتذر وبرر: فالقضية ليست قضية أسماء ومسميات وألفاظ، وإنما هي قضية حقائق الأقوال، وجوهر التصورات والمعتقدات.
فهذا الفهم هو قطعاً الفهم الصحيح، وهو نفسه فهم حذيفة رضي الله عنه لهذه الآية، وهو كذلك تفسير ابن عباس، والحسن البصري، وأبي العالية. لذلك قال الألوسي في التفسير: الأكثرون من المفسرين قالوا: (ليس المراد من الأرباب أنهم اعتقدوا أنهم آلهة العالم، بل المراد أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم). كما تشهد بذلك الآيات التالية أيضاً:
v قال تعالى: }ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله ...{ (البقرة؛ 2:165). قال ابن عباس والسدي: (الأنداد الرؤساء المتبعون، يطيعونهم في معاصي الله)، فهذه الآية ليست بعيدة في المعنى عن سابقتها. وكما أسلفنا فالقضية ليست (الطاعة المجردة)، بل هي (التسليم لهم بحق التشريع) في جوهره ومعانيه على وجه الايتداء والإنشاء، أي بـ«السيادة»، أو بلفظ آخر: «الربوبية»، بحيث تكون لهم، بناءً على ذلك، حق الطاعة.
v وقوله تعالى: }وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم، وإن اطعتموهم إنكم لمشركون{ أي إن أطعتموهم واتبعتموهم في تحليل الميتة، أصبحتم كفاراً مشركين بالله مقرين لغيره بحق السيادة والحاكمية والتشريع. وهذه الآية مكية بالإجماع، حيث كان الشرك لا يقال إلا على شرك الكفر، الشرك الأكبر، المخرج من الملة، والمناقض للإسلام كل المناقضة. وإنما جاءت أحكام الشرك الأصغر، والشرك الخفي، وآداب التوحيد من مثل النهي عن الحلف بالآباء، والنهي عن قول: (ما شاء الله، وشئت)، ونحوه في المدينة، بلا خلاف.
ولما كان الشرك، شرك الكفر، الشرك الأكبر المناقض للإسلام كل المناقضة، المخرج من الملة الإسلامية لمن كان قد دخل فيها من قبل، هو حصراً: (أن تجعل مع الله إلاهاً آخر)، كما قال أبو بكر الصديق، رضوان الله وسلامه عليه، بحضرة النبي، عليه وعلى آله الصلاة والسلام: (وهل الشرك إلا من جعل مع الله إلاهاً آخر؟!
ولما كان «المطيع» في التحليل والتحريم مشركاً، شرك الكفر المخرج من الملة،
فلا بد إذاً أن يكون «المطاع» رباً، وإلهاً من دون الله، ضرورة، كما بينته أيضاً، على سبيل المثال، قصة عدي بن حاتم، وأظهرته بما لا خفاء فيه!
أما مقالة أبي بكر الصديق، رضوان الله وسلامه عليه، الرائعة فقد أخرجها أخرج البخاري بإسناد صحيح في «الأدب المفرد» عن معقل بن يسار قال: انطلقت مع أبي بكر، رضي الله عنه، إلى النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال: «يا أبا بكر! للشرك فيكم أخفى من دبيب النمل». فقال أبو بكر: (وهل الشرك إلا من جعل مع الله إلهاً آخر؟!)، فقال النبي، صلى الله عليه وعلى اله وسلم: «والذي نفسي بيده، للشرك أخفى من دبيب النمل، ألا أدلك على شيء إذا فعلته ذهب قليله وكثيره؟!»، قال: «قل: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم». فقول أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، وهو عربي قرشي فصيح، أوَّل الأمر: (وهل الشرك إلا من جعل مع الله إلهاً آخر؟!)، هكذا حصراً، إذ لم يتشكل في ذهنه للشرك معنى إطلاقاً إلا في اتخاذ إله آخر مع الله، أي في اعتقاد الألوهية في غير الله. أما قوله صلى الله عليه وعلى اله وسلم: «والذي نفسي بيده، للشرك أخفى من دبيب النمل، ... إلخ»، فهو تشريع جديد، وتوسيع لمفهوم الشرك، على نحو لم يكن معروفاً للعرب حتى تلك اللحظة، فأعطى أفعالاً وإرادات مسمَّى الشرك، وصنفها «شركاً عملياً»، وجعلها إثما وحراماً غير مخرج من الملة في العادة، مع كونها ليست في صدر ولا ورد من شرك الكفر، المناقض للإسلام كل المناقضة، المخرج من الملة.
v وقال تعالى: }ألم تر الى الذين يزعمون أنهم أمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا{، (النساء؛ 4:61).
قال القرطبي: [روى يزيد بن زريع عن داود بن أبي هند عن الشعبي قال: كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة فدعا اليهودي المنافق إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، لأنه علم أنه لا يقبل الرشوة. ودعا المنافق اليهودي إلى حكامهم لأنه علم أنهم يأخذون الرشوة في أحكامهم فلما أجتمعا على أن يحكما كاهنا في جهينة، فأنزل الله تعالى في ذلك: }ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم امنوا بما أنزل إليك{،يعني المنافق، }وما أنزل من قبلك{، يعني اليهودي، }يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت{، إلى قوله: }ويسلموا تسليماً{، وقال الضحاك: دعا اليهودي المنافق إلى النبي صلى الله عليه وسلم, ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف وهو «الطاغوت»]، قلت: هذه أسانيد قوية جياد إلى منتهاها، ولكنها مراسيل، ولا تقوم الحجة بمرسل، وإنما ستأنس بها استئناساً، لا غير.
وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: [كان بين رجل من المنافقين ـ يقال له بشر ـ وبين يهودي خصومة، فقال اليهودي: انطلق بنا إلى محمد, وقال المنافق: بل إلى كعب بن الأشرف ـ وهو الذي سماه الله «الطاغوت» أي ذو الطغيان ـ فأبى اليهودي أن يخاصمه إلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى ذلك المنافق أتى معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى لليهودي. فلما خرجا قال المنافق: لا أرضى، انطلق بنا إلى أبي بكر، فحكم لليهودي فلم يرض، وقال: أنطلق بنا إلى عمر فأقبلا على عمر فقال اليهودي: إنا صرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إلى أبي بكر فلم يرض; فقال عمر للمنافق: أكذلك هو ؟ قال: نعم. قال: رويدكما حتى أخرج إليكما. فدخل وأخذ السيف ثم ضرب به المنافق حتى برد، وقال: هكذا أقضي على من لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله، وهرب اليهودي, ونزلت الآية، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنت الفاروق). ونزل جبريل وقال: إن عمر فرق بين الحق والباطل، فسمي الفاروق. وفي ذلك نزلت الآيات كلهـا إلى قولـه: }ويسلموا تسليما{]، قلت: هذه قصة مكذوبة منكرة، ولو وقعت لسارت بها الركبان، ولرواها الثقات الأثبات عن أمثالهم، بل لتناقلتها الكافة عن الكافة!
والكلبي عن أبي صالح، من أضعف أسانيد الدنيا، بل هو الكذب بعينه: فقد ثبت بالإسناد الصحيح عن الإمام الحجة الكبير سفيان الثوري، وهو والله الثقة المأمون، أن الكلبي قال له: قال لي أبو صالح: (كل ما حدثتك عن بن عباس كذب، فلا تحدث به)، فإن كان الكلبي صادقاً في هذه الرواية فأبي صالح، لا شك، كذاب، وإن كان الكلبي كاذباً مفترياً على أبي صالح فهو نفسه، والله المفتري الكاذب، الخليق بالترك والاطراح، فعلى كل حال يكون هذا الإسناد: الكلبي عن أبي صالح، ساقطاً لا يحل الاحتجاج به، ولا روايته إلا على وجه التكذيب والتعجب، أو بيان سقوطه وتحذير الناس منه، كما هو فعلنا ها هنا!!
ــ وقال ابن كثير، شارحاً للآية الكريمة: [هذا إنكار من الله عز وجل على من يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء الأقدمين وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله كما ذكر في سبب نزول هذه الآية أنها في رجل من الأنصار ورجل من اليهود تخاصما فجعل اليهودي يقول بيني وبينك محمد وذاك يقول بيني وبينك كعب بن الأشرف. وقيل في جماعة من المنافقين ممن أظهروا الإسلام أرادوا أن يتحاكموا إلى حكام الجاهلية. وقيل غير ذلك والآية أعم من ذلك كله فإنها ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل وهو المراد بالطاغوت هنا ولهذا قال }يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت{، (النساء؛ 4:61)، إلى آخرها].
v قال تعالى: }وأنزلنا اليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه، فاحكم بينهم بما أنزل الله، ولاتتبع اهواءهم عما جاءك من الحق، لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً{ (المائدة؛ 5:48). فإذا كان هذا الكتاب المبارك الخاتم، مهيمناً وناسخاً، لما قبله من الشرائع، وهي في أصلها من عند الله، فمن باب أولى أن يكون مهيمناً على كل تشريع وحكم سواه.
v قال تعالى: }ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم. قل: إن هدى الله هو الهدى، ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولانصير{، (البقرة؛ 2:120).
v قال الله تعالى: }إنما كان قول المؤمنين اذا دعوا الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا، وأولئك هم المفلحون{ (النساء؛ 4:65).
v وقال الله، تعالى ذكره: }ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى، ويتبع غير سبيل المؤمنين، نوله ما تولى، ونصله جهنم وساءت مصيراً{، (النساء؛ 4:105).
v وقال تعالى: }فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة، أو يصيبهم عذاب أليم{، (النور؛ 24: 63). وقال ابن عباس: (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون قال أبو بكر وعمر؟!).وقال الإمام أحمد: (عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون الى رأي سفيان، والله تعالى يقول:}فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم{ أتدري ما الفتنة؟، الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شىء من الزيغ فيهلك).
v وقال تعالى: }ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله، وأطيعوا الرسول، وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله ورسوله، إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأويلاً{، (النساء؛ 4:59).
v وقال تعالى: }فلا وربك لايؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لايجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت، ويسلموا تسلمياً{، (النساء؛ 4:65).
v قال تعالى: }إنا أنزلنا اليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله، ولاتكن للخائنين خصيماً{، (النساء؛ 4:105).
v قال تعالى: }وما كان لمؤمن ولامؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً{، (الأحزاب؛ 33:36).
v وقال: }يا أيها الذين آمنوا ،لا تقدموا بين يدي الله ورسوله، واتقوا الله، إن الله سميع عليم{، (الحجرات؛ 49:1)
v قال تعالى: }وأنزلنا اليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه ،فاحكم بينهم بما أنزل الله، ولاتتبع اهواءهم عما جاءك من الحق، لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً{، (المائدة؛ 5:48).
vv وقال تعالى: }أفحكم الجاهلية يبغون؟! ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون{، (المائدة؛ 5:50).
v قال تعالى: }من يطع الرسول فقد أطاع الله{، (النساء؛ 4:81).
v قال تعالى: }قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم. قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين {، (آل عمران؛ 2:31ــ32).
v قال تعالى: }وما أتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا، واتقوا الله، إن الله شديد العقاب{، (الحشر؛ 59:7).
v وقال تعالى: }ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا{، (الجن؛72:23).
v وقال تعالى: }تلك حدود الله، ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، وذلك الفوز العظيم، ومن يعصى الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارًا خالدًا فيها وله عذابٌ مهين {، (النساء؛ 4:65).
v قال الله تعالى: }يا أيها الرسول: لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر، من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، ومن الذين هادوا، سماعون للكذب، سماعون لقوم آخرين لم يأتوك، يحرفون الكلم من بعد مواضعه، يقولون: إن أوتيتم هذا فخذوه، وإن لم تؤتوه فاحذروا، ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا، أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم، لهم في الدنيا خزي، ولهم في الآخرة عذاب عظيم v سماعون للكذب، أكالون للسحت، فإن جاؤوك فاحكم بينهم، أو أعرض عنهم، وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا، وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط، إن الله يحب المقسطين v وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك، وما أولئك بالمؤمنين v إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا، والربانيون والأحبار، بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء، فلا تخشوا الناس واخشون، ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون v وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس، والعين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسن بالسن، والجروح قصاص، فمن تصدق به فهو كفارة له، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون vوقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم، مصدقاً لما بين يديه من التوراة، وآتيناه الإنجيل فيه هدىً ونور، ومصدقاً لما بين يديه من التوراة، وهدىً وموعظةً للمتقين v وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفسقون{، (المائدة؛ 5:44-47)، هذه هي أيات «الحكم» الشهيرة، من سورة المائدة. وقد وردت عدة أحاديث في أسباب نزولها، وآثار في فهمها، ومعني لفظة «الكافرون» فيها، تحتاج إلى نقاش مستفيض تجده في الباب المسمَّى: (شبهات حول تكفير من لم يحكم بما أنزل الله)، من كتابنا: (الحاكمية، وسيادة الشرع)، فليراجع هناك.
ولما كان الكلام هنا عن (الحكم بما أنزل الله)، بطل أن يكون المقصود بالحكم ما هو حصراً لله تبارك وتعالى، وهو (التشريع في جوهره ومعانيه على وجه الايتداء والإنشاء)، فهذا الحكم هو عينه (ما أنزل الله)، ولزم أن يكون المقصود بلفظة (الحكم) ها هنا باقي المعاني الأربعة آنفة الذكر، وهي:
(1) الفتيا، أي إبداء الرأي الذي يعتقد قائله صحته ن غير إلزام، أي الحكم على القضاياالدينية، والحسية، والعقلية، والجمالية، والأخلاقية، وغيرها. فلا تجوز الفتيا إلا بما أنزل الله، ومن لم يفعل ذلك كفر بالله!
(2) القضاء، أي فض النزاع، والفصل في الخصومات، على وجه الإلزام. وهو إحدى سلطات الدولة الرئيسية (السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية، والسلطة القضائية).ويسمى القاضي أيضاً (حاكما)، وما يتلفظ به: (حُكْماً). فلا يجوز القضاء إلا بما أنزل الله، ومن لم يفعل ذلك كفر بالله!
(3) رعاية الشؤون، بالإدارة، والتنفيذ، أي السلطة التنفيذية في الدولة، ويسمى القائم بذلك: (حاكماً)، كما قد يسمى (والياً)، أو (ولي أمر)، أو (سلطاناً). وقد شاع في العصور المتأخرة استخدام لفظ (حكومة) لقمة السلطة التنفيذية، أي لمجلس الوزراء، وكذلك بمعنى جهاز الحكم في الدولة. فلا تجوز رعاية الشؤون، بالإدارة، والتنفيذإلا بما أنزل الله، ومن لم يفعل ذلك كفر بالله!
(4) رعاية الشؤون، بتبني الأحكام، وسن الدساتير، والقوانين، والأنظمة، واللوائح، أي ما تقوم به السلطة التشريعية في الدولة، ليس بمعنى التشريع في جوهره ومعانيه على وجه الايتداء والإنشاء، فهذا قد فرغ منه، وهو نفسه (ما أنزل الله)، ولكن بمعنى الاجتهاد، ثم التبني، فصياغة الأنظمة بمراتبها المختلفة، ثم إعلامها للكافة، ونحو ذلك. فلا تجوز رعاية الشؤون، بتبني الأحكام، وسن الدساتير، والقوانين، والأنظمة، واللوائح، إلا بما أنزل الله، ومن لم يفعل ذلك كفر بالله!
فليست لفظة (الحكم) في الآيات الكريمات مقصورة على معنى (القضاء) فقط، كما ظنه البعض، بل هي بكل معانيها وعمومها وإطلاقها، إلا إذا جاء برهان من الله على تخصيص أو تقييد، وما ثمة برهان على تخصيص أو تقييد، فيما أعلم، مطلقاً.
ــ وجاء في «مسند أبي يعلى»: [حدثني محمد حدثنا عثمان بن عمر حدثنا فطر بن خليفة عن منصور عن سالم بن أبي الجعد عن مسروق قال: [كنت جالسا عند عبد الله، فقال له رجل: (ما السحت؟!)، قال: (الرشا!)، فقال: (في الحكم؟!)، قال: (ذاك الكفر!)، ثم قرأ: }ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون{]، وقال الشيخ حسين أسد: (إسناده صحيح)، وهو كما قال، فالأثر عن ابن مسعود ثابت صحيح يقيناً، خصوصا مع المتابعات، والطرق، والشواهد المفصلة في الملحق، ومنها:
ــ قول مسروق، وفعله، كما هو مرويٌّ في «الطبقات الكبرى»، بإسناد صحيح: [أن مسروقا شفع لرجل بشفاعة فأهدى له جارية فغضب وقال: [لو علمت أن هذا في نفسك ما تكلمت فيها ولا أتكلم فيما بقي منها أبدا! سمعت عبد الله بن مسعود يقول: (من شفع شفاعة ليرد بها حقاً، أو يدفع بها ظلماً، فأهدي له، فقبل، فذلك السحت)، قالوا: ما كنا نرى السحت إلا الأخذ على الحكم؟! قال: (الأخذ على الحكم كفر!)].
هذا كله من الكتاب العزيز، أما من السنة النبوية الشريفة:
v عن عبدالله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به»، قال النووي: (حديث صحيح رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح)، وذكره البخاري بلاغا في «قرة العينين برفع اليدين» فقال: ذُكِر عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكره.
v وعن عائشة رضى الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ماليس منه فهو رد»، وفي لفظ: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» حديث صحيح مشهور رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود.
v عن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «سيلي أموركم بعدي رجال يطفئون السنة، ويعملون بالبدعة، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها»، قلت: يا رسول الله! إن أدركتهم كيف أفعل؟ قال: «تسألني يا ابن أم عبد كيف تفعل؟ لا طاعة لمن عصى الله»، رواه ابن ماجه ــ واللفظ السابق له ــ وأحمد، والطبراني في «الكبير»، والبيهقي في «السنن الكبرى».
أما لفظ احمد فهو: «إنه سيلى أمركم من بعدى رجال يطفؤون السنة، ويحدثون البدعة، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها»، قال ابن مسعود: يا رسول الله! كيف بي إذا أدركتهم؟ قال: «ليس ــ يا ابن أم عبد ــ طاعة لمن عصى الله، قالها ثلاث مرات»، قال عبد الله بن احمد: وسمعت أنا من محمد بن الصباح مثله، وقد صححه الشيخ أحمد شاكر. ومن طريق محمد بن الصباح اخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» بمثله.
ولن نناقش، ها هنا في هذ البحث، الأسانيد بالتفصيل، ونحيل في ذلك إلى الملحق الموسوم بـ «دراسة الأسانيد»، من كتابنا هذا، حيث أشبعنا فيها، بحمد الله، نقد الأسانيد!
وإسناد الإمام أحمد جيد بمفرده، حسن بذاته، والحديث حسن صحيح، قطعاً، بطرقه، وشواهده، ومتابعاته، تقوم به الحجة يقيناً، والله أعلم.
أما لفظ الطبراني في «المعجم الكبير» فهو: «سيكون عليكم أمراء يؤخرون الصلاة عن مواقيتها ويحدثون البدع، قال فكيف أصنع إن ادركتهم؟ قال: «تسألني يا ابن أم عبد كيف تصنع؟ لا طاعة لمن عصى الله» وأخرجه كذلك البيهقي بلفظ مماثل0
واسناد الطبراني كذلك جيد، حسن بذاته، صالح للاحتجاج إن شاء الله، والله أعلم. وقال الألباني في السلسلة الصحيحة: إسناده جيد على شرط مسلم، فالحديث قد صححه العلامة احمد شاكر، والشيخ ناصر الدين الألباني، وهو صحيح ثابت قطعاً.
وقوله عليه الصلاة والسلام في حديث عبد الله بن مسعود هذا: «لا طاعة لمن عصى الله» قطعي الدلالة في سقوط طاعة «من عصى الله»، لأن:
(1) لفظة «طاعة» نكرة في سياق النفي تعم، بإجماع الأصوليين، كل أنواع الطاعة التي يشملها هذا اللفظ في اللغة العربية التي نزل بها القرآن، أي سقوط كل الطاعة، أي طاعة، في المعروف وغيره، في كبير الأمر وصغيره، إلا ما قام عليه الدليل الشرعي أنه مستثنى، كما هو مفصل في مواضعه.
(2) «من عصى الله» عامة في حق كل من عصى الله لأنها مصدرة بـ [من] الشرطية، وهي أبلغ صيغ العموم على الإطلاق كما حرره الأصوليون، وكما قاله الإمام ابن تيمية رحمه الله (في مجموع الفتاوى: ج 15 ص 82، وكذلك في ج 24). ولولا وروود النصوص القطعية التي تستثني أهل الصغائر من غير المجاهرين من المؤاخذة، وتعد بالمغفرة العامة، وتكفير السيئات، حال اجتناب الكبائر، لولا ذلك لوجب صرفها حتى إلى أهل كل معصية، لا فرق بين صغيرة وكبيرة، وكذلك النصوص الدالة على قبول توبة التائبين، وعودتهم عدولاً، تقبل شهادتهم، وتجوز إمارتهم وولايتهم، بعد اتصافهم بالفسق، بل وحتى بالكفر!
فالنص إذن قطعي الدلالة على سقوط الطاعة لكل فاسق، أي سقوط ولايته بالضرورة، وليس هو في قصر الطاعة على المعروف في مثل قوله: «إنما الطاعة في المعروف»، أو مثل قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»، فتلك الأحاديث الصحيحة ونحوها، وهي متواترة، سنأتي بطرف منها قريباً أدناه، تحرم الطاعة في كل أمر بمعصية، أي أمر بفعل حرام، أو ترك واجب، بغض النظر عن حال الآمر: أهو إمام عدل، أم إمام جور، أو هو أمير ورِع، أو أمير فاسق، أو غير ذلك من الاعتبارات، بل هي صحيحة، واجبة التطبيق في حق الوالدين، والزوج، ونحوهم ممن له حق الطاعة، فكلها تحرم الطاعة في كل أمر معين جاء خلافاً«للمعروف»، أما حديثنا هذا يسقط حق الطاعة للفاسق، أي يبطل ولاية الفاسق، وشتان بين المسألتين، ولو كره «منافقة القراء» من فقهاء السلطين!
v وأخرج الإمام احمد في «المسند» عن أنس بن مالك أن معاذ بن جبل قال: (يا رسول الله أرأيت ان كان علينا أمراء: لا يستنون بسنتك، ولا يأخذون بأمرك، فما تأمر في أمرهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «لا طاعة لمن لم يطع الله عز وجل»)، وأخرجه أبو يعلى في «المسند»، بنفس الإسناد، وهو إسناد لا بأس به، صحيح على شرط ابن حبان، ومتنه نظيف مستقيم، فهو قطعاً حسن بذاته، وهو صحيح بشواهده، ومتابعاته، وقد صححه الألباني في «صحيح الجامع الصغير».
وقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أنس بن مالك هذا: «لا طاعة لمن لم يطع الله عز وجل» قطعي الدلالة كذلك في سقوط طاعة «من لم يطع الله» أي سقوط ولاية الفاسق، وحرمة طاعته، كما هو الحال في حديث عبد الله بن مسعود.
v وعن عبادة بن الصامت عن النبي، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، أنه قال: «إنه سيلي أموركم من بعدي رجال يعرفونكم ما تنكرون، وينكرون عليكم ما تعرفون، فلا طاعة لمن عصى الله عز وجل،..» اخرجه احمد، واللفظ له، والطبراني، والحاكم، وابن أبي شيبة، وعبد الله بن أحمد، وأبو بكر البزار، والعقيلي، والشاشي.
وإسناد الإمام احمد جيد قوي، صالح للاحتجاج، بمتابعاته عند عبد الله بن أحمد في زوائده، والحافظ الشاشي في مسنده، والإمام الحافظ البزار في مسنده، والإمام الحاكم في «مستدركه» بأكثر من طريق. ومقالة عبادة بن الصامت، رضي الله عنه، والمناسبة التي روى فيها كلام النبي، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، جاءت من طرق كثيرة، كما هو فب الملحق.
ــ وأخرج الإمام ابن ابي شيبة، في مصنفه، من طريق أخري، مستقلة عن سابقاتها، عن أزهر بن عبد الله قال: أقبل عبادة بن الصامت حاجاً من الشام فقدم المدينة فأتى عثمان بن عفان فقال: يا عثمان! ألا أخبرك بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟! قال: بلى، قال فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ستكون عليكم أمراء يأمرونكم بما تعرفون، ويعملون ما تنكرون، فليس لأولئك عليكم طاعة»، ومن نفس الطريق أخرجه كذلك البخاري في «التاريخ الكبير»، وأخرجه الحاكم في «المستدرك».
والحديث، حديث عبادة، بن الصامت حسن صحيح، تقوم به الحجة، قطعاً، بشواهده ومتابعاته. وقد صححه الالبانى في صحيح الجامع الصغير، وكذلك في سلسلة الاحاديث الصحيحة.
وقوله عليه الصلاة والسلام في حديث عبادة بن الصامت هذا: «لا طاعة لمن عصى الله عز وجل» قطعي الدلالة كذلك في سقوط طاعة «من عصى الله»، أي سقوط ولاية الفاسق، وتحريم طاعته، كما ذكرناه سابقاً، وحررناه في غير هذا الموضع.
v وعن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «سيكون أمراء من بعدى يأمرونكم بما تعرفون، ويعملون ما تنكرون، فليس أولئك عليكم بأئمة» رواه الطبراني، وهو حديث صحيح على شرط ابن حبان. وهو قطعي الدلالة كذلك على بطلان إمامة الفاسق، بل هو أظهر وأبين في الدلالة على ذلك من الألفاظ السابقة!
v وعن ابى عِنَبة ــ وقيل أبي عُتْبَة ــ الخولاني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «لا تحرجوا أمتي، (قالها ثلاث مرات)! اللهم من أمر أمتي بما لم تأمرهم به، فأنهم منه في حل». أخرجه الطبراني في «مسند الشاميين»، والخطيب في تاريخ بغداد، وهو حديث حسن على شرط ابن حبان.
قوله عليه الصلاة والسلام: «...، .فأنهم منه في حل» قطعي الدلالة كذلك في سقوط إمارة الفاسق، لأن المقصود هو أنهم في حل من طاعته، أو في حل من إمارته، أو في حل من بيعته، أو نحو ذلك مما لا يحتمل سوى سقوط الولاية، لأن الكلام متعلق بذات الأمير، الذي يعود إليه الضمير في «منه»، وليس هو عائد إلى الأمر، كما هو في نحو قوله، عليه وعلى آله الصلاة والسلام: «فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة»، الذي سوف يأتي قريباً.
v وأخرج الحاكم بسنده عن عبد الله بن مسعود مرفوعاً: «يكون عليكم أمراء يتركون من السنة مثل هذا (وأشار إلى أصل إصبعه، يريد التقليل)، وإن تركتموهم جاؤوا بالطامة الكبرى! وإنها لم تكن أمة إلا كان أول ما يتركون من دينهم السنة، وآخر ما يدعون الصلاة، ولولا أنهم يستحيون ما صلوا»، هذا حديث صحيح، وقال الحاكم: (على شرط الشيخين، ولم يخرجاه)، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا. وفيه الحث على الأخذ على يد الحكام عند أدنى انحراف، فلا يجوز تركه وشأنه، وإقراره على ولايته، وإلا فالطامة الكبرى. وصدق الله ورسوله: لما تقاعست الأمة عن ذلك أصابها في ماضيها، وحاضرها ما ترى بعيني رأسك، لا ما تسمعه رواية، أو يصلك بلاغاً، فحسب!
v وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعث علقمة بن مجزز على بعث، وأنا فيهم. فلما انتهى إلى رأس غزاته، أو كان ببعض الطريق، استأذنه طائفة من الجيش، فأذن لهم، وأمر عليهم، عبد الله بن حذافة بن قيس السهمي، فكنت فيمن غزا معه. فلما كان ببعض الطريق أوقد القوم ناراً ليصطلوا أو ليصنعوا عليها صنيعاً: فقال عبد الله، وكانت فيه دعابة: (أليس لي عليكم السمع والطاعة؟) قالوا: (بلى). قال: (فما أنا بآمركم بشىء إلاصنعتموه؟) قالوا: (نعم). قال: (فأني أعزم عليكم إلا تواثبتم في هذه النار!). فقام ناس فتحجزوا، فلما ظن أنهم واثبون، قال: (أمسكوا على أنفسكم! فإنما كنت أمزح معكم!)، فلما قدمنا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «من أمركم منهم بمعصية الله فلا تطيعوه»، حديث صحيح أخرجه ابن ماجه، وأحمد.
قلت: هذا يتعلق بالأمر، وليس بذات الأمير، فقوله: «فلا تطيعوه»»، يعني في ذلك الأمر المعين على كل حال، بغض النظر عن بقاء ولايته أو سقوطها، وهذا هو كذلك معنى الأحاديث التالية.
v وفي سنن أبي داود عن علي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعث جيشاً وأمر عليهم رجلاً، وأمرهم أن يسمعوا ويطيعوا، فأجج ناراً وأمرهم أن يقتحموا فيها، فأبى قوم أن يدخلوها، وقالوا: (انما فررنا من النار). واراد قوم أن يدخلوها، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: «لودخلوها، أو دخلوا فيها، لم يزالوا فيها»، وقال: «لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف»، حديث صحيح، أخرجه البخاري، ومسلم، والنسائي، وأحمد، والطيالسي عن علي بنحوه، إلا أن الطيالسي زاد: «لا طاعة [لبشر] في معصية الله، ... إلخ».
v وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر الحديث السابق بلفظ قريب من لفظ حديث أبي داود عن علي بن أبي طالب، رضوان الله وسلامه عليه. وهو صحيح بذاته، بل هو غاية في الصحة بشواهده المطولة السابقة، وكذلك المختصرة الآتية.
v عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «على المرء المسلم الطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة»، حديث صحيح، متفق عليه، وأخرج مثله أبو داود، وإبن ماجة. وفي لفظ للبخاري: «السمع والطاعة حق، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة». وفي رواية أخرى صحيحة عند مسلم: «لا طاعة لبشر في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف»!
v أخرج تمام في «الفوائد» عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «طاعة الإمام حق على المرء المسلم، ما لم يأمر بمعصية الله عز وجل، فإذا أمر بمعصية الله، فلا طاعة له»، هذا حديث صحيح، استوفينا دراسة إسناده في الملحق.
v وعن عمران بن حصين، رضي الله عنه، أنه قال للحكم الغفاري، رضي الله عنه: (هل تعلم يوماً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا طاعة في معصية الله»؟! قال: نعم! قال عمران: الله أكبر! الله أكبر!)، حديث صحيح، أخرجه الحاكم في المستدرك وصححه، ووافقه الذهبي، كما أخرجه أحمد في قصة طويلة بإسناد صحيح على شرط الإمام مسلم، وروى الطبراني الجزء المرفوع منه فقط. وله طرق أخرى عند أحمد، والطيالسي، والطبراني في «الكبير»، و«الأوسط»، والبزار، وجاء في بعض الروايات: «لا طاعة لمخلوق (وفي رواية: لأحد) في معصية الله تبارك وتعالى». كما أخرجه أبو داود الطيالسي، وهذا لفظه.
v وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه: «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ــ على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا، وعلى أن لاننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم». حديث غاية في الصحة، مجمع على صحته، أخرجه البخاري، ومسلم، وأحمد، والطبراني، وغيرهم، من طرق كثيرة، تفيد القطع واليقين.
البواح: الظاهر، البادي، الذي لا خفاء فيه. من قولهم: باح بالشيء، يبوح به، بوحاً، وبواحاً، إذا أظهره، وأذاعه، وجاهر به.
ووقع في رواية للطبراني: «كفراً صراحاً»، وهو بنفس المعنى.
ووقع في روايات أخرى صحاح: «إلا أن يكون معصية الله بواحاً»، أو «ما لم يأمروك بإثم بواحاً».
وقال النووي: (المراد بالكفر هنا المعصية، ومعنى الحديث: لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم، ولا تعترضوا عليهم، إلا أن تروا منهم منكراً محققا تعلمونه من قواعد الإسلام)، واستدرك عليه الحافظ في «الفتح»، عند شرح الحديث في «كتاب الفتن» من الحامع الصيح، وأورد أقوالاً أخرى في الخروج على الحاكم، كما ناقش سقوط ولاية الفاسق، وقد أشبعنا ذلك بحمد الله بحثاً في كتابنا: «طاعة أولي الأمر: حدودها وقيودها»، وحررناه للغاية، ولله الحمد والمنة، فليراجع!
أما مشروعية منازعة الحاكم بالسلاح، حال إظهاره الكفر البواح، أو تركه إقامة الصلاة، أو تركه للصلاة، فلها باب مستقل في كتابنا: (الحاكمية، وسيادة الشرع)، فلتراجع.
v وأخرج الإمام النسائي: [أخبرنا معاوية بن صالح الأشعري قال حدثنا عبد الله بن جعفر قال حدثنا عبيد الله عن زيد عن عمرو بن مرة عن أبي نضرة عن أبي برزة قال: [غضب أبو بكر على رجل غضبا شديداً حتى تغير لونه. قلت: (يا خليفة رسول الله! والله، لئن أمرتني لأضربن عنقه!)، فكأنما صب عليه ماء بارد فذهب غضبه عن الرجل؛ قال: (ثكلتك أمك أبا برزة! وإنها لم تكن لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم!)]. ولكن قال الإمام أبو عبد الرحمن النسائي: (هذا خطأ: والصواب أبو نصر واسمه حميد بن هلال خالفه شعبة)]، قلت: وهذا، إن صح، لا يضر، فكلا من أبي نضرة وأبي نصر ثقة، ولعله رواه كلاهما، فالحديث صحيح قطعاً، على كل حال!
وهناك أحاديث أخرى، ولعل فيما أوردناه غنية، وفي هذه الأدلة تقييد للنصوص الأخرى المطلقة التي أمرت بالطاعة بإطلاق.
فطاعة المخلوق في معصية الله جريمة كبرى، ومنكر عظيم (لما في ذلك من المفسدة الموبقة في الدارين أو أحدهما) والمطيع هنا له حكم الآمر فهما شريكان في الإثم، الذي ربما يصل إلى حد الردة والكفر، عياذاً بالله.
وهل فشا الضلال والفساد في الأرض إلا بمتابعة الضعفاء للكبراء والسادة؟ وسيذكر هؤلاء الاتباع في الأخرة فساد هذه المتابعة العمياء، وأنهم مجرمون، كما روى الله حوارهم اليائس الأخير: }...، ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم، يرجع بعضهم إلى بعض القول، يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا: لولا أنتم لكنا مؤمنين! v قال الذين استكبروا للذين استضعفوا: أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم؟! بل كنتم مجرمين! v وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا: بل مكر الليل والنهار، إذ تأمروننا أن نكفر بالله، ونجعل له أنداداً! وأسروا الندامة لما رأوا العذاب، وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا: هل يجزون إلا ما كانوا يعملون{، (سبأ؛ 34:31-33). ثم الحوار بعد صدور الحكم بدخول النار:}وبرزوا لله جميعاً، فقال الضعفاء للذين استكبروا: إنا كنا لكم تبعاً، فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء؟! قالوا: لو هدانا الله لهديناكم! سواء علينا أجزعنا أم صبرنا، ما لنا من محيص{، (إبراهيم؛ 14:21)، كما حكى عنهم وهم يتقلبون، بعد ذلك، في نار الجحيم: }يوم تقلب وجوههم في النار يقولون: يا ليتنآ أطعنا الله وأطعنا الرسولا v وقالوا: ربنآ إنآ أطعنا سادتنا وكبرآءنا فأضلونا السبيلا v ربنا آتهم ضعفين من العذاب، والعنهم لعناً كبيراً!{. بل لقد قال الشوكاني في فتح القدير: (والمراد بالسادة والكبراء: الرؤساء والقادة الذين كانوا يمتثلون أمرهم في الدنيا ويقتدون بهم، وفي هذا زجر عن التقليد شديد).
v لما وصل الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى المدينة عقد مع اليهود اتفاقاً دولياً جاء فيه : «وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله عزوجل وإلى محمد رسول الله».
v لما تم ابرام عقد الصلح بين المسلمين والكفار يوم الحديبية تبين أن الرأي العام للمسلمين كان ضد هذا الصلح، لأنهم رأوا فيه اذلالاً لهم، فأظهروا الرفض لما قام به رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وقد عبر الفاروق عمر رضي الله عنه لرفض الأمة للصلح حين وثب رضي الله عنه فأتى أبا بكر رضي الله عنه فقال: ياأبابكر أو ليس برسول الله؟ السنا بالمسلمين؟ أو ليسوا بالمشركين؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه: الزم غرزه حيث كان فأني أشهد أنه رسول الله، فقال عمر: وأنا أشهد، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: يارسول الله، أو لسنا بالمسلمين؟ أوليسوا بالمشركين؟ قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ فقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره ولن يضيعني» كما رواه أصحاب الصحاح كالبخاري ومسلم، وغيرهما.
وقد كان موقف عمر رضي الله عنه أصدق تعبير عن معارضة الأمة لرسول الله، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، لأنه قبل ــ وفق نظرة المسلمين إلى ظاهر عقد الصلح ــ شروطاً مذلة من أعداء الدولة الإسلامية.
وقد أكد المعارضة عملياً عدم استجابتهم لأمر رسول الله عليه وعلى آله الصلاة والسلام بالمتناع عن الذبح حين أمرهم بذلك، فغضب حتى شكا إلى زوجته، أم المؤمنين، أم سلمة، رضوان الله وسلامه عليها، فقالت: (يارسول الله اخرج وانحر واحلق فإنهم متابعوك)، فخرج ونحر وحلق رأسه. ففعله هذا مع قوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره ولن يضيعني» يؤكد أن اتفاقية «الحديبية» لم تكن من باب المعاهدات المباحة، التي أناط الشرع بالإمام أن يعقدها باجتهاده وفق المصلحة، وبمشورة الأمة، وموافقتها، وإنما كانت بأمر الله، وفق وحي خاص جاء بها، فلا يجوز القياس عليها، ولا التعاقد على مثلها، إلا بدليل وبرهان من غيرها!
ذكرنا أعلاه نصوصاً من كتاب الله قطعية الثبوت والدلالة لا مجال لإنكارها، كلها تصب في مقولة واحدة بكل جلاء، مفادها أن السيادة للشرع، لا للعقل، لله تبارك وتعالى، لا للإنسان.
وكما أرشد القرآن بنصوص كثيرة إلى أن السيادة للشرع، وليست للإنسان، ولا للشعب، ولا للعقل، فالسنة أيضاً قد أرشدت إلى ذلك، عملاً وقولاً، كما ذكرنا طرفاً يسيرا من ذلك أعلاه.
وطرق دلالة هذه الآيات والأحاديث على حصر السيادة في الشرع مطلقاً من عدة وجوه، سوف نشبعها، إن شاء الله، تفصيلاً في الفصول المستقلة الآتية.
u فصل: الوجه الأول: وجوب طاعة الله ورسوله مطلقاً.
وذلك واضح وضوح الشمس في رابعة النهار، بضرورة الحس والعقل فوجوب (طاعة الله ورسوله مطلقاً) هو (حكم العقل) الذي أكده الشرع، وزاد بأن جعله أيضاً (حكم الشرع) في مثل الآيات المستشهد بها أعلاه، مثل:
ــ قوله، تباركت أسماؤه: }من يطع الرسول فقد أطاع الله{، وقوله: }قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم {، وقوله: }وما أتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا، واتقوا الله، إن الله شديد العقاب{،
مع الوعيد المرعب الرهيب على معصية الله ورسوله، في مثل:
ــ قوله، تباركت أسماؤه: }ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا{، وقوله: }تلك حدود الله، ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، وذلك الفوز العظيم، ومن يعصى الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارًا خالدًا فيها وله عذابٌ مهين {.
وهو كذلك مستفاد من آية الأمراء. بقوله تعالى: }ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول{، وقوله سبحانه وتعالى: }أطيعوا الله وأطيعوا الرسول{ أمر، وقد تضمن النص قرينة جازمة مؤكدة بصرف الأمر إلى الوجوب القاطع، وذلك بالوعيد المغلظ الشديد، المذكور أعلاه، وكذلك بربط الطاعة بالإيمان بالله واليوم الآخر، مما يفيد أيضاً نفي الإيمان بمفهوم المخالفة عمن لا يطيع الله ولا رسوله بقوله تعالى: }إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر{.
v يقول الإمام الشهيد سيد قطب، رضي الله عنه: [في هذا النص القصير بينّ الله سبحانه: شرط الإيمان، ووحدة الإسلام، وقاعدة النظام الأساسي في الجماعة المسلمة، وقاعدة الحكم، ومصدر السلطان. وكلها تبدأ وتنتهي عند التلقي من الله وحده، والرجوع إليه فيما لم ينص عليه نصاً من جزئيات الحياة التي تعرض في حياة الناس على مدى الآجيال، مما تختلف العقول والآراء والأفهام، ليكون هنالك الميزان الثابت الذي ترجع إليه العقول والآراء والأفهام، ...، إن الحاكمية لله وحده في حياة البشر ما جل منها وما دق، ...، والله واجب الطاعة، فشريعته واجبة التنفيذ، ...، والإيمان يتعلق ــ وجوداً وعدماً ــ بهذه الطاعة، وهذا التنفيذ ــ بنص القرآن الكريم ــ }إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر{].
v وقال الإمام ابن أبي العزّ الحنفي، رحمه الله، في «شرح الطحاويّة»، (ص: 200)، في معرِض ذِكرِ ما يجب على الأمّة تجاه نبيّها، صلى الله عليه وعلى آله وسلم: [فنوحّده بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان، كما نوحّد المرسِلَ بالعبادة والخضوع والذلّ والإنابة والتوكّل، فهما توحيدان، لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما: توحيد المرِسل، وتوحيد متابعة الرسول، فلا نحاكم إلى غيره، ولا نرضى بحُكم غيره].
وآية الأمراء من آيات الأحكام التي تتعلق مباشرة بنظام الحكم، ذلك بأنها أمرت أيضاً بطاعة أولى الأمر، فالأمر بمطلق الطاعة يحتم بالضرورة عدم طاعة ما سوى ذلك، وطاعة الله لا تتحقق إلا بتنفيذ كل ما أمر به واجتناب كل ما نهى عنه، فيكون الشرع هو صاحب «السيادة»، أي: «الربوبية»، في الحياة، ولا سيادة لغيره مطلقاً.
u فصل: الوجه الثاني: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق:
لقد دلت النصوص المتافرة من الكتاب والسنة على وجوب طاعة الحكام الشرعيين، وأن معصيتهم حرام، ولكن الطاعة الواجب على الأمة التقيد بها ليست طاعة مطلقة، إنما هي طاعة في حدود رسم الشارع دائرتها، وحدد شروطها وحدودها وقيودها، أي في حدود الشرع، كما فصلناه في كتابنا: «طاعة أولي الأمر: حدودها وقيودها».
وقد نصت آية الأمراء على وجوب الطاعة للحكام الشرعيين، بقوله تعالى: }ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم{، (النساء؛ 4:59). والطاعة أمر أساسي لوجود الانضباط في الدولة، ولصيانة وحدة الأمة. فالله سبحانه أمر بالطاعة، فيما يظهر، لأول وهلة، أنه طاعة مطلقة غير مقيدة، إلا أنه ألمح إلى إمكانية وقوع الخلاف والنزاع وبين كيف يكون الرد في تلك الحالة. فطاعة أولي الأمر هذه ليست لذاتها، وإنما هي بناء على أمر الله بطاعتهم. فهي فرع لطاعة الله، وليست أصلاً.
ثم جاءت السنة تؤكد ذلك وتأمر بالطاعة للحكام في أي حال من الأحوال إلا أن يكون المأمور به معصية، فعن إبن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «على المرء المسلم الطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» فحدود الطاعة هي: الكتاب والسنة، فلا يحل لمؤمن طاعة حاكم في أمر خارج عنهما، وعن أبي عتبة الخولاني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «لاتحرجوا أمتي، ثلاث مرات. اللهم من أمر أمتي بما لم تأمرهم به فإنهم منه في حل». فلا يجوز للحاكم أن يفرض على الأمة قانوناً لم يستنبط استنباطاً شرعياً صحيحاً، فضلاً عن كونه قانوناً من صنع البشر، وكذلك يحرم على الأمة طاعته في ذلك، إلى غير ذلك من القيود والشروط لطاعة الحكام، المفصلة في كتابنا «طاعة أولي الأمر: حدودها، وقيودها».
ولقد جاءت الأية الكريمة الآنفة الذكر وهي قوله تعالى: }يأيها الذين ءامنوا أطيعوا الله والرسول وأولى الأمر منكم{، بأسلوب بديع معجز، وضع هذه الطاعة في مكانها اللائق بها، كما قاله الألوسي في روح المعاني: [وأعاد الفعل وإن كانت طاعة الرسول مقترنة بطاعة الله اعتناء بشأنه عليه الصلاة والسلام، وقطعاً لتوهم أنه لا يجب امتثال ما ليس في القرآن الكريم وإيذاناً بأنه له ــ صلى الله عليه وسلم ــ استقلالا بالطاعة لم يثبت لغيره، ومن ثم لم يعد في قوله سبحانه : }وأولي الأمر منكم{ إيذاناً بأنهم لا استقلال لهم فيها استقلال الرسول، صلى الله عليه وسلم].
إذن فطاعة أولي الأمر تابعة لطاعة الله ورسوله، وليست مستقلة، أما الطاعة في المعصية فقد اتفق أهل العلم على أن الطاعة في المعصية لا تجوز كما ذكر النووي إجماعهم في شرحه لصحيح مسلم.
وأصل هذا الاتفاق ضرورة الشرع والعقل لأن الطاعة الواجب على الأمة التقيد بها ليست طاعة مطلقة، إنما هي طاعة في حدود رسم الشارع دائرتها، أي في حدود الشرع، كما أسلفنا.
وطاعة أولي الأمر هذه كذلك ليست مستقلة بذاتها ولذاتها، وإنما هي بناء على أمر الله بطاعتهم. فهي فرع لطاعة الله، وليست أصلاً. وهي أدنى، بالضرورة، مرتبة من طاعة الله، التي هي الطاعة الأصلية العليا المطلقة. والضرورة الشرعية والعقلية تقتضي وجوب اندراج أوامر الجهة السفلى الفرعية تحت أوامر الجهة العليا الأصلية، فإن حصل تناقض نفذ أمر الجهة العليا الأصلية حتماً، وبطل أمر الجهة السفلى الفرعية، ضرورة ولا بد، وإلا حصل التناقض، وهو محال.
ونزيد هذا إيضاحاً بأن نقول: لو أن الجهة العليا قالت: أطيعوا الجهة السفلى، حتى لو أمرتكم بمعصيتي، فإنها في حقيقة الأمر إذاً تقول: أطيعوني بأن تعصوني، في نفس الوقت من نفس الجهة في نفس الوضوع، وهذا محال.
وإذا كانت الجهة العليا هي أعلى الجهات على الإطلاق، أي الله سبحانه وتعالى، كانت الاستحالة أعظم وأفظع، لأن طاعة الله واجبة بأوليات العقل وضرورته، فورود «صيغة الأمر» من عند الله: }أطيعوا الله{، إنما هو تذكير بهذه الضرورة العقلية الأولية، وليس هو أمراً حقيقياً، وإن جاء في صيغة الأمر، كما أسلفنا بيانه.
فإذا جوّزنا أن يأمر الله بطاعة غيره، حتى ولو أمر هذا الغير بمعصية الله، وقعنا في التناقض المذكور أعلاه، وزدنا عليه أن هدمنا مباديء العقل الأولية الضرورية، فينهدم العقل ويتحطم، ويسقط التكليف، وتفقد اللغات معانيها، ويستحيل الفكر، وتنهدم الشريعة، عياذاً بالله.
وكل نصوص الشريعة لا يجوز فهمها إلا هكذا، فإن تعذر فهم نص منقول على هذا الوجه، أو تأويله على وجه مناسب، فمن المحال أن يكون نقلاً صحيحاً، ولا بد من الحكم على ذلك النص بأنه مكذوب مفترى.
كل ما سلف يدل دلالة قاطعة على أن السيادة للشرع، وإلا جاز للحاكم فرض قوانين من غير الشرع، وألزم الأمة بطاعته لعموم الأدلة الواردة في وجوب الطاعة، لكن الإسلام حرم على المسلمين طاعة الحاكم إن هو أمر بمعصية، أي مخالفة شرعية في أمر جزئي معين في واقعة عينية، كما فعل علقمة بن مجزز، رضي الله عنه، عندما قال، مداعباً لأصحابه: (فأني أعزم عليكم إلا تواثبتم في هذه النار!)، فعقَّب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قائلاً: «من أمركم منهم بمعصية الله فلا تطيعوه»، ومن باب أولى تحرم الطاعة في ما هو شر من ذلك، وأفظع وأفحش: شرَّع بدون رد إلى الله ورسوله، أو بدل الشريعة المنزلة بأن حرم الحلال، أو أحل الحرام، أو أبطل الحدود.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بل لقد ثبت بالتواتر، المفيد للعلم اليقيني القاطع، عند المسلم والكافر على حد سواء، أنه قال: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»، وكل ما سوى الله تبارك وتعالى مخلوق: فالإنسان مخلوق، والعامِّي مخلوق، والعالِم مخلوق، والشعب أفراداً وجماعات مخلوقين، فكلهم لا طاعة لهم في معصية الله الخالق تبارك وتعالى، فهذا الحديث الجليل الجميل وحده كاف لنسف فكرة الديمقراطية الليبرالية حول سيادة الأمة، وقلعها من جذورها: فيتحقق الفكر الوحيد الصائب، والحق اليقيني الثابت، في هذه المسألة مطلقاً. فيظل الحلال والحرام هما المقياس الوحيد للأعمال، فطالما أن الحاكم الشرعي لا يخرج في أوامره عن كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن طاعته فرض على جميع المسلمين.
u فصل: الوجه الثالث: وجوب الإحتكام إلى الشرع أبداً، وتحريم الاحتكام إلى غيره مطلقاً
وقد أسلفنا أن مادة (ح ك م) تأتي في اللغة العربية، وكذا في القرآن، والسنة بمعاني عدة، منها:
(1) وضع الأمور في مواضعها، وهي (الحِكْمة)، وفاعل ذلك (حكيم)،
(2) إتقان الصنعة، وبلوغ الفعل إلى غايته، وهو (الإحكام)، وفاعل ذلك (مُحْكِم)، و(حكيم)،
(3) الحكم على أفعال الناس يوم القيامة، وتصفية نزاعاتهم بصفة نهائية أبدية. وذلك إنما هو لله وحده، والآيات في ذلك كثيرة مشهورة.
(4) الفتيا، وإبداء الرأي الذي يعتقد قائله صحته، أي الحكم على القضاياالدينية، والحسية، والعقلية، والجمالية، والأخلاقية، وغيرها. فنحن (نحكم) ببطلان التناسخ، وبطلان التثليث، وقبح الكذب عقلاً، وحرمته شرعاً، إلا في أحوال قليلة منصوص عليها، ... إلخ. ومنه قوله، جل وعلا: }أفنجعل المسلمين كالمجرمين؟! ما لكم، كيف تحكمون؟!{.
(5) فض النزاع، والفصل في الخصومات، على وجه الإلزام. أي القضاء، وهو إحدى سلطات الدولة الرئيسية (السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية، والسلطة القضائية).ويسمى القاضي أيضاً (حاكما)، وما يتلفظ به: (حُكْماً).
(6) رعاية الشؤون، والإدارة، والتنفيذ، أي السلطة التنفيذية في الدولة، ويسمى القائم بذلك: (حاكماً)، كما قد يسمى (والياً)، أو (ولي أمر)، أو (سلطاناً). وقد شاع في العصور المتأخرة استخدام لفظ (حكومة) لقمة السلطة التنفيذية، أي لمجلس الوزراء، وكذلك بمعنى جهاز الحكم في الدولة.
(7) التشريع، وسن الدساتير، والقوانين، والأنظمة، واللوائح، أي ما تقوم به السلطة التشريعية في الدولة، بل وحتى وضع مباديء الأخلاق، والسلوك، والآداب، والأعراف الاجتماعية.
وهذه المعاني، أو الأنواع الأربعة الأخيرة هي التي تعنينا في هذا البحث: الفتيا، والقضاء، والتنفيذ، والتشريع. وهي كذلك التي يجب حمل النصوص الشرعية عليها كلها، إلا إذا وردت قرينة مخصصة. فإذا قال عليه الصلاة والسلام: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب، فله أجران، ... إلخ» فلا يجوز أن يقال هذا خاص بالقاضي، أو ولي الأمر! بل هو عام لكل من طلب حكم الله في القضية لمعرفته مجرداً، كالمجتهد والمفتي، فهذا حاكم؛ أو لتطبيقه في نزاع كالقاضي، فهذا كذلك حاكم؛ أو لرعاية الشؤون كالإمام، إما تنفيذاً في حالة عينية مشخصة، فهو بهذه الصفة حاكم؛ وإما تشريعاً، أي تبنياً لحكم شرعي في مسألة خلافية، وسنها نظاما عاما ملزما للكافة، وهو بهذه الصفة كذلك حاكم.
وعليه يكون «الإحتكام»، أو «التحاكم» هو: طلب «الحكم» من أي نوع كان، من نوع: الفتيا، أو القضاء، أو التنفيذ، أو التشريع، ضرورة ولا بد.
أما وجوب «الإحتكام» إلى الشرع مطلقاً فقد أفادته النصوص بمثل قوله تعالى: }فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم{، وبقوله تعالى: }فإن تنازعتم في شىء فردوه إلى الله والرسول{. وبقوله تعالى: }وما اختلفتم فيه من شىء فحكمه إلى الله{.
ففي الآية الأولى: حقيقة كلية من حقائق الإسلام جاءت في صورة قسم مؤكد، مطلقة من كل قيد، تنفي الإيمان عن من لم يحتكم إلى النبي، عليه وعلى آله الصلاة والسلام. وليس هناك مجال للوهم أو الإبهام بأن تحكيم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم هو تحكيم لشخصه الشريف فحسب، كما يزعم بعض دعاة «اليسار» الإسلامي (!)، أو دعاة «العلمانية» الإسلامية (!)، إنما هو، بالضرورة، تحكيم شريعته ومنهجه، لا لشخصه الشريف فحسب، كما يظهر بالبداهة من غير تأمل. وإن أبيت إلا المكابرة والتقعر فإليك البراهين التالية:
(1) الزعم بخلاف ذلك يعني أنه لم يبق لشريعة الله وسنة رسوله مكان بعد وفاته صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أي أن الإسلام مات، أو نُسِخ بموته، صلى الله عليه وعلى آله وسلم! ويلزم من ذلك:
(أ) إما أن ختم النبوة عبث، وأنه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لم يكن رحمة للعالمين، تعالى الله عن الكذب، والعبث علواً كبيراً، أو:
(ب) أنه لا فرق بين مجيء النبوة وعدمها: فالتكليف وعدمه سيان، وكل ما جاء في القرآن عن التكليف والحساب، والجنة والنار لا بد أن يكون أكاذيب وخيالات، فلا يكون القرآن من عند الله، خلافاً لقواطع الأدلة، أو يكون الله كاذباً متلاعباً، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
فإن جاز أن يكون حكماً واحداً منسوخاً بوفاته، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أو بمرور مدة زمنية معينة أو غير معينة، أو لحدوث تغيير اجتماعي، أو تطور في «علاقات الإنتاج»، جاز ذلك في كل حكم، بما في ذلك تحريم القتل، والعدوان والظلم، فتنعدم الشريعة كلية، وهم لا يقولون بذلك. بل النسخ يقتصر على الأحكام «المزعجة» التي لا توافق مزاجهم، أما ما وافق الهوى فهو مستمر ثابت: ما شاء الله كان!
وإن جاز ذلك في بعض الأحكام من غير نسخ صريح يأتي به وحي جديد، جاز ذلك بعد لحظة سن الحكم نفسه مباشرة، فتكون الأحكام كلها غير ملزمة ساعة صدورها، وتنهدم الشريعة فوراً، وللوهلة الأولى.
(2) أنه معلوم بالضرورة من التاريخ، منقول نقل تواتر، أنه، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، لم يكن يباشر كل الحكم والقضاء والتنفيذ بنفسه. بل قد عين الأمراء، والولاة، وجباة الزكاة، والقضاة، في مكة، والطائف واليمن، واليمامة، والبحرين. وكان هؤلاء يرعون الشوون، ويفصلون في القضايا، وكان الناس يرجعون إليهم. بل كان الناس يرجعون في المدينة النبوية المشرفة نفسها إلى رجال من الصحابة في الفتيا والتحكيم وفض النزاع. فصح بذلك يقيناً أن قوله تعالى: }يحكموك فيما شجر بينهم{، وقوله: }وما اختلفتم فيه من شىء فحكمه إلى الله{، يعني ضرورة تحكيم شرعه الله وشرع رسوله، وليس أشخاصاً بأعيانهم.
لا يجوز أن يقال أن شرعية التحاكم إلى هؤلاء إنما كان بتعيين النبي، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، لهم، وتنصيبه لهم في أعمالهم، فمن لم يعينه النبي نصاً لم يجز التحاكم إليه، لا يقال ذلك لأنه يناقض النصوص اليقينية من الكتاب والسنة الآمرة بطاعة أولي الأمر، ما داموا شرعيين، والجهاد معهم، إلى قيام الساعة، وصحة قضاء القاضي إذا حكم بما أنزل الله، ولم يحابي أو يجور، واستحقاقه للثواب والجنة على ذلك في مثل قوله، عليه وعلى آله الصلاة والسلام: «قاضيان في النار، وقاضي في الجنة»، وصحة التحكيم الاختياري في مثل قوله تعالى: }فابعثوا حكماً من أهله، وحكما من أهلها{، وجمهور الفقهاء على أن ذلك يصح من تصرف الزوجين المتخاصمين، أو بتدخل أهلهما، ولو لم يكن بتدخل من السلطان، أو بأمر القاضي النظامي المعين من قبل السلطان. ولو كان مثل هذا القول حقاً لورد، ولو في نص واحد، عن النبي، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، ولما لم يرد من ذلك شيء البته علمنا أنه لم يكن، ولا يتصور إلا بالطعن في نبوته، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، أو اتهامه بخيانة الرسالة، حاشاه ثم حاشاه.
(3) والزعم بخلاف ذلك يعني تكذيب له، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، في ما لا يعد ولا يحصى من الأحاديث التي نص فيها: أن كذا، وكذا حرام إلى يوم القيامة، وأن كذا وكذا يسري إلى أبد الأبد. وتكذيب له في أحاديث الفتن، وتحذيره من أئمة الضلالة، ومن فِرَق الخوارج، ومن الجلاوزة (وهم شرط الجبابرة الطواغيت، المصابون بمرض «السادية»، الذين يضربون الناس بالسياط، ويستمتعون بالتعذيب)، ومن الكاسيات العاريات، ... إلخ. فما فائدة ذلك كله إذا لم يتحاكم إليه، أي إذا لم يرجع إليه في الفتوى، والقضاء، وسن الأنظمة، والتنفيذ؟!
(4) والقول بهذا تكذيب ورد صريح للأحاديث المتعلقة بأمراء البدع والجور، وهي في مجموعها متواترة، حيث نص، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أنهم يأتون بعده، أي بعد وفاته، وهم على خلاف «سنته»، وبين كيفية التعامل معهم. وقد ورد طرف من ذلك سابقاً: أحاديث عبادة بن الصامت، وعبد الله بن مسعود، ومعاذ بن جبل، وأبي عنبة الخولاني، رضوان الله وسلامه عليهم.
(5) والقول بهذا تكذيب ورد صريح للأحاديث التي تنص على التمسك بسنته في كل وقت، لا سيما في أزمنة الغربة والفتنة، وهي كذلك بمجملها متواترة، يستحيل الانفلات من صحتها وثبوتها.
فهذا القول: (أن الرد إلى الرسول ليس هو بالضرورة، تحكيم شريعته ومنهجه، وإنما هو فقط تحكيم لشخصه الشريف) إذاً هدم صريح للعقل والفكر، مع كونه ردة وكفراً صريحاً، وهو شر، وأقبح من قول أشد المرتدين ارتداداً في عهد أبي بكر الصديق، رضى الله عنه، الذين أجمع الصحابة على تكفيرهم، وقتالهم، وهذا كذلك منقول نقل تواتر!
فالآية تنفي، بقسم مغلظ، الإيمان عن كل إنسان يرفض الاحتكام إلى الشرع، الذي هو القرآن والسنة، وما دل عليه القرآن والسنة أنه دليل. بل وأكثر من ذلك فإن الآية تطلب عند الإحتكام إلى الشرع أن لا يشعر المسلم حتى بمجرد الحرج، أي ضيق الصدر، الذي قد يكون: بالشك، أو بالغضب، أو الكراهية، أو النفور، أو بالاحتقار، أو الازدراء، أو أي لون من ألوان الحرج، وضيق الصدر. والآية على ظاهرها، وعمومها، لا نعلم لها مخصصاً، أو صارفاً عن ظاهرها، فالإيمان المنفي في الآية هو أصل الإيمان، المناقض للكفر، المنجي من النار الأبدية، واللعنة السرمدية.
فمن لم يحكم الله ورسوله، ويرد إليهما، ويتحاكم ويخاصم إليهما، وكذلك من وجد أدنى حرج من حكمهما: فهو كافر، خارج عن الملة، إما بكفره الأصلي لأنه ما دخل قط في الإسلام حقيقة، وإن أظهره خداعاً ونفاقاً وهو يعلم عامداً، أو كان مخدوعاً خدع نفسه فهو يحسب نفسه مسلماً ناجياً في الآخرة، وهو في الحقيقة ليس بمسلم، أو بردته بعد إسلام، وتقديمه الضلالة على الهدى، والعمى على البصيرة، والدنيا على الآخرة، نعوذ بالله من الخذلان المفضي إلى النار، دار الخزي والبوار.
هذا كله يتبن كذلك بوضوح من قوله، تبارك وتعالى: }فإن تنازعتم في شىء فردوه إلى الله والرسوله{، (النساء؛ 4:59). فهذه آية محكمة ترشد بدقة إلى وجوب العودة إلى احكام الشرع الواردة في القرآن والسنة عند كل تنازع، وقوله تعالى: }تنازعتم في شيء{ نكرة في سياق النفي تعم كل ماتنازع فيه المؤمنون من مسائل الدين دقه وجله، جليه وخفيه.
وهي آية محكمة توجب علينا أن نقطع بأن في كتاب الله وسنة رسوله بيان كل حكم متنازع فيه إلى يوم القيامة. ولو لم يكن في كتاب الله وسنة رسوله بيان حكم ما تنازعوا فيه، أي لم يكن كل من الكتاب والسنة كافياً، لم يأمر بالرد إليه، اذ من الممتنع شرعاً وعقلاً أن يأمر تعالى بالرد عند النزاع إلى من لا يوجد عنده فصل النزاع: هذا لا يكون من أحد إلا عن جهل ونقص علم، أو تضليل وخداع متعمد، تعالى الله عن ذلك كله علواً كبيراً.
ثم إن الآية قد جعلت الرد إلى أحكام الشرع من لوازم الإيمان، فإذا انتفى هذا الرد انتفى الإيمان، بقوله تعالى بعد ذلك: }إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر{ وهنا تقع ضرورة انتفاء الملزوم لانتفاء لازمه. وانتفاء «الإيمان» ليس هنا انتفاء لكماله الواجب أو المستحب، بل هو انتفاء لأصله، أي انتفاء له بالكلية، ومن ثمَّ الوقوع في «الكفر»، ومفارقة الإسلام، كما سيزداد وضوحاً بعد قليل.
فالرد إلى الله تعالى إنما هو رد للشرع، والرد إلى غير الله تبارك وتعالى إنما هو رد إلى العقل، أي إلى ما يشرعه الإنسان بنفسه لنفسه كما تقول الديمقراطية: حكم الشعب بالشعب، أو هو حكم الأغلبية، عندما يقصدون بلفظة «الحكم» ها هنا: التشريع في جوهره ومعانيه على وجه الايتداء والإنشاء. نقول هو (هو رد إلى العقل) إذا أحسنا الظن، وإلا فالرد حينئذ هو حقيقة للهوى والشهوة المجردة، والمصالح القبلية والقومية أو الطبقية أو الطائفية أو الجهوية أو العنصرية أو العرقية، وليس للعقل، فيه نصيب، هذا العقل المسكين المظلوم المفترى عليه!
فالنصوص القرآنية لا تدع مجالاً لشك في أن الشرع وحده صاحب السيادة، وأنه المرجع الوحيد لسن الدستور والقوانين والأنظمة واللوائح والتوجيهات والأوامر، من قبل السلطات العامة، كما أنه المرجع الوحيد للأذواق والآداب في أعراف الناس، وأنه الحكم النهائي الفصل في كل ما يقع من منازعات، فقوله تعالى: }وما اختلفتم فيه من شىء فحكمه إلى الله{، (الشورى؛ 42:10)، يعني: أن الله هو الذي يقضي بينكم ويفصل فيه الحكم، فلا يجوز شرعاً بحال من الأحوال أن يجاز الاحتكام لغير الشرع، لأن الأحتكام لغير الشرع كفر بالله ورسوله، وهذا ما لا يسقط فيه المؤمنون المفلحون، الذين قال الله فيهم: }إنما كان قول المؤمنين اذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا، وأولئك هم المفلحون{، (النور؛ 24:51)، فالاحتكام إلى الشرع فرض على الأمة بجملتها، بوصفها أمة، وعلى كل قبيلة أو جماعة أو كتلة أو حركة أو تنظيم من أبنائها، وعلى كل فرد من أفرادها. وهذه الفريضة هي بعض أصل الإيمان، إن لم تكن كل أصله، فمن لم يلتزم بها فهو ليس فقط فاسقاً عاصياً، بل هو كافر مرتد، قد فارق الإسلام ولحق بالكفر المشركين، وليس له أي سهم في الإسلام والإيمان.
وهذه بديهية من بديهيات الإسلام، أجمع عليها الأئمة:
v فقد قال الإمام الجصاص الحنفي، رحمه الله، في «أحكام القرآن»، (2/214). : [إن من ردّ شيئاً من أوامر الله تعالى أو أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو خارج من الإسلام سواء ردّه من جهة الشك فيه، أو من جهة ترك القبول، والامتناع عن التسليم].
v وقال ابن أبي العزّ الحنفي، رحمه الله، في «شرح الطحاويّة»، (ص: 200)، في معرِض ذِكرِ ما يجب على الأمّة تجاه نبيّها، صلى الله عليه وعلى آله وسلم: [فنوحّده بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان، كما نوحّد المرسِلَ بالعبادة والخضوع والذلّ والإنابة والتوكّل، فهما توحيدان، لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما: توحيد المرِسل، وتوحيد متابعة الرسول، فلا نحاكم إلى غيره، ولا نرضى بحُكم غيره]
قلت: تحكيم الرسول هو عين تحكيم الله، جل جلاله، كما أسلفنا.
v وفي تفسير قوله، جل جلاله: }ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، وما أنزله من قبلك، يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، وقد أمروا أن يكفروا به، ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيدا{، (النساء؛ 4:60)، يقول الإمام ابن كثير: [هذا إنكار من الله عزوجل على من يدعى الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء، وهو مع ذلك يريدأن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله، وسنة رسوله، كما ذكر في سبب نزول هذه الآية أنها في رجل من الأنصار ورجل من اليهود تخاصما، فجعل اليهودي يقول بيني وبينك محمد، وذاك، أي الأنصاري، يقول بيني وبينك كعب بن الأشرف. وقيل في جماعة من المنافقين ممن أظهر الإسلام، أرادوا أن يتحاكموا إلى حكام الجاهلية، وقيل غير ذلك. والآية أعم من ذلك كله فإنها ذامة لمن عدلوا عن الكتاب والسنة، تحاكموا إلى ماسواهما من الباطل وهو المراد بالطاغوت هنا]، انتهى كلام الإمام ابن كثير. قلت: صدق الإمام، إلا أن الآية لم تكتف بذم من تحاكم إلى الطاغوت، بل صنفت عملهم هذا على أنه:
(1) إيمان بالطاغوت، مع أنهم قد أمرو بالكفر به ورفضه ومقته. فالتحاكم إلى شئ هو «إيمان» بذلك الشئ، لا محالة. وهذا الإيمان» المذكور ها هنا هو مقابل «الكفر» ونقيضه. لذلك فإن التحاكم إلى الله ورسوله هو من أصل «الإيمان»، وعدمه هو «الكفر»، المناقض للإسلام كل المناقضة، المخرج من الملة، وليس هو مجرد فسوق أو عصيان، فحسب، كما أسلفنا،
(2) أن مراد الشيطان من تزيين ذلك لهم ليس هو مجرد إيقاعهم في ذنب، أو استنقاص من حسنات، ولكنه يريد لهم (الضلال البعيد)، والضلال البعيد لا يكون إلا بالكفر، والخروج من الإسلام، المحبط للعمل كله، أوله وآخره، عياذاً بالله تعالى.
v وهذا أيضاً ما ذهب إليه ابن القيم حيث يقول: (إن من تحاكم، أو حاكم، إلى غير ما جاء به الرسول، فقد حكم بالطاغوت وتحاكم إليه)، انتهى كلام ابن القيم.
وقد أمرنا سبحانه باجتناب الطاغوت، قال سبحانه: }والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها، وأنابوا إلى الله، لهم البشرى، فبشر عباد{، (الزمر؛ 42:17)، فالاحتكام إلى شريعة الطاغوت هو نوع من أنواع العبادة التي أمر الله بهجرها واجتنابها، وجعل ذلك الاجتناب مقدمة وسابقة للإنابة إلى الله.
بل إن الله، جل جلاله، أمرنا بأكثر من مجرد اجتناب الطاغوت، إذ أمر بالكفر به، وهذا يعني أكثر من مجرد اجتنابه، فهو يقتضي: رفضه، ورده، واحتقاره، ومقته، وبغضه، في جميع الأحوال، وإن كان الطاغوت فوق ذلك معتدياً، أي محارباً أو حربياً: معاداته، ومحاربته وقتاله بكل وجه مشروع. هذا جلي واضح من قوله تعالى: }لا إكراه في الدين: قد تبين الرشد من الغي، فمن يكفر بالطاغوت، ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها، والله سميع عليم v الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور، والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات، أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون{.
v وقال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ، في «فتح المجيد»: [من دعا إلى تحكيم غير الله ورسوله فقد ترك ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ورغب عنه وجعل لله شريكاً في الطاعة وخالف ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيما أمره الله تعالى به في قوله: }وأن احكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك{، وقوله تعالى: }فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً{].
v ويقول الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله في تفسير هذه الآية: [وقد نفى الله الإيمان عمن أراد التحاكم إلى غير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم من المنافقين كما قال تعالى: }ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً{]، (رسالة تحكيم القوانين).
v وقال الشيخ محمد ابن إبراهيم آل الشيخ، رحمه الله: [وتحكيم شرع الله وحده دون كل ما سواه، شقيق عبادة الله وحده دون ما سواه، إذ مضمون الشهادتين أن الله هو المعبود وحده لا شريك له، وأن يكون رسوله هو المتبع المحكم ما جاء به فقط. ولا جُردت سيوف الجهاد إلا من أجل ذلك، والقيام به، فعلاً وتركاً وتحكيماً عند النزاع]، (عن فتاوى الشيخ :12/251). والشيخ عنى هنا العبادة بمعناها الضيق، أي مجموع الشعائر التعبدية والمناسك، وإلا فتحكيم شرع الله، والخضوع له، مع تمام التسليم وانشراح الصدر، هو جوهر العبادة، وقطب رحاها!
v وروى عن الإمام جعفر الصادق أنه قال: [و أن قوماً عبدوا الله وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وصاموا شهر رمضان وحجوا البيت ثم قالوا لشىء صنعه رسول الله إلا صنع خلاف ما صنع، أو وجدوا في ذلك حرجاً في أنفسهم، لكانوا مشركين]، لأن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم إنما شُرع من الله تبارك وتعالى، ولأن الأمر بطاعة الله ورسوله، هو أمر بوجوب اتباع الكتاب والسنة لذلك فإن القاعدة العقائدية، الأصولية، الشرعية تقول بأن: (كل من اتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحكم فهو كافر).
لذلك فإن الشرع وحده هو صاحب السيادة المطلقة لكل ما في الحياة من علاقات بين الناس فلا يجوز شرعاً رفض جزئية من كل الإسلام قام عليها الدليل.
بقيت قضية مهمة تقلق مضاجع المؤمنين في زمننا هذا الذي تحولت فيه الدنيا بأسرها إلى دار كفر، تسود فيها أنظمة الكفر، ولا يحكم فيها بما أنزل الله (اللهم في بعض المسائل الجزئية مثل ما يسمُّونه بـ«الأحوال الشخصية»، وفي التحاكم الاختياري بين الورعين من المؤمنين)، ألا وهي الترافع والتخاصم إلى محاكم وأنظمة تقوم أساساً على الكفر، وإلى قضاة لم يتم تعيينهم بطريقة شرعية، لا سيما إذا كان أطراف النزاع في بلد أكثر أهلها من الكفار الأصليين كبريطانيا مثلاً.
من الواضح أن الإشكالية هنا في التحاكم بمعني القضاء والتنفيذ. أما الفتيا، أي طلب حكم الله في المسألة على وجه غير ملزم فلا يتصور إلا بالرجوع إلى ما أنزل الله، أي إلى كتاب الله وسنة رسوله. وكذلك التشريع، أي سن اللوائح والأنظمة والقوانين، فلا يتصور إلا من ذي سلطان، أو مشارك في السلطان. ولا يجوز لذي السلطان المسلم إلا أن يسن ما تم استنباطه بطريقة صحيحة من الكتاب والسنة لا غير، ولا يجوز له غير ذلك إن كان متفرداً بالسلطان. كما لا يجوز له أن يقبل السلطان مشروطاً بأن يحكم بغير ما أنزل الله، ولا بحال من الأحوال. والمسلم لا يجوز له أن يشارك مختاراً في حكم الكفر بحال من الأحوال، كما سنبرهن عليه في كتابنا: (الحاكمية، وسيادة الشرع) بما لا مزيد عليه، إن شاء الله، جل وعز.
فالإشكالية إذاً هي: ماذا يفعل الفرد المسلم، الذي يعيش في دار الكفر، أي تحت سلطان الكفر، أو تحت حكم الكفار، إذا ادعى عليه مدعي وطلبه إلى القضاء، أو كان له حق على أحد ولم يستطع الوصول إليه بصلح أو تحكيم اختياري أو شفاعة أو وساطة خير، أو أصابته مظلمة من السلطة الحاكمة نفسها، أو من جهة أخرى، وعجز عن دفعها بشتى الوسائل ولم يبقى إلا التظلم إلى القضاء المختص أو إلى جهة إدارية أعلى. فما ذا يكون العمل حينئذ؟!
الحق الذي تدل عليه الأدلة أعلاه أنه يجوز له ذلك بشرط أن لا يطالب بحق أو يدفع مطالبة أو ظلم إلا فيما وافق شرع الله، كما يعلمه هو يقيناً إما باجتهاده واستنباطه هو، أو إتباعاً لغيره من المجتهدين وفق الدليل، أو تقليداً لمن يثق به من أهل الاجتهاد والفتيا. هذا ينطبق على الشكل والموضوع، فليس أحدهما أولى من الآخر بلزومية التحاكم إلى ما أنزل له فيه. فلا يجوز له، مثلاً، الدفع في قضية من القضايا بسقوط الحق فيها بالتقادم، أو بفوات المدة الزمنية المحددة في نظام الكفر للترافع بها، حتى ولو كان في ذلك تسهيلاً وتسريعاً للترافع، لأن كل ذلك لا يجوز في شرع الله، فلا سقوط حقوق بالتقادم، ولا أمد زمني في الترافع.
وإذا كان له دين على أحد لم يجز له إلا أن يطالب إلا برأس ماله من مقتدر مليء، من غير زيادة ربوية قد ينص نظام الكفر على استحقاقه لها، كما هو حال الأغلبية الساحقة من الأنظمة الكفرية تعتبر الربا حقاً مشروعاً. ولا يجوز له حتى المطالبة بتلك الزيادة الربوية، على وجه المناورة و«التكتيك»، لتخويف الخصم ودفعه إلى التسليم برأس المال، وسرعة دفعه، في مقابل «التنازل» عن ذلك الربا، مثلاً. وإذا حكم له بمثل تلك الزيادة الربوية وجب عليه رفضها، وإبلاغ القاضي بذلك، وعدم استلامها ولا حيازتها. فالمؤمن في كل تلك الأحوال إنما يتحاكم إلى شرع الله، لا إلى الطاغوت، ولو وجد قاضياً شرعياً، لا يحكم إلا بالشرع وقد تم تنصيبه تنصيباً صحيحاً، لما ترافع إلا إليه.
فالمطالب يحقه الشرعي في رأس المال، مثلاً، المترافع بموجب الضرورة إلى ذي سلطان أو قاضي كافر أو قاضي يحكم بنظام كفر، أو قاضي لم يعين بطريقة شرعية صحيحة لم يتحاكم إلا إلى ما أنزل الله، وهو بذلك مسلم مؤمن.
في حين أن القاضي أو المتنفذ الذي يحكم له بحقه أو ينفذ له ذلك الحق ويستحصله له لأن ذلك هو نص القانون الذي سنه البرلمان صاحب السيادة، أو الملك صاحب الحق «الإلاهي»، أو هو العرف المتوارث الساري الذي قبله الناس على تطاول القرون، والناس هم مصدر السلطات، هو بذلك المعتقد مشرك كافر، وهو من أهل النار يوم القيامة إن كانت بلغته رسالة الله، وقامت عليه الحجة، بغض النظر عن موافقة حكمه في تلك المسألة العينية لحكم الله ورسوله مصادفة، أو عدم موافقته.
أما من زعم أن ذلك الترافع تحاكم إلى الطاغوت فهو لم ينظر إلى المسألة في جوهرها بعمق ودقة؛ فاستحقاق رأس المال للدائن على المدين تتفق فيه أكثر الشرائع، إن لم يكن جميعها. فمن رد ذلك إلى أمر الله ونهيه فهو المسلم المؤمن، ومن رده إلى عرف، أو عقل، أو مصلحة، أو أمر برلمان أو مرسوم ملكي فهو مشرك كافر.فالقضية قضية اعتقاد في مرجعية معينة والرد إليها، أي أن القضية هي:
أولاً: قضية اعتقاد المتحاكم ومرجعيته،
وثانياً: قضية نص النظام ومحتواه، في المقام الأول وليست شخصية من يطبقه، أو إحسان هذا للتطبيق من عدمه،
فالطاغوت ليس شخصاً معيناً، وإنما هو اعتقاد معين، ينبثق منه نظام معين، أو هو كيان معنوي، قد يمثله أشخاص أو مؤسسات أو دول.
فليست القضية إذاً هي سداد رأس المال أو عدمه، أو من له سلطة الحكم أو صلاحية تنفيذ ذلك الحكم. وهكذا في كافة المسائل والقضايا.
ومما يدل على بطلان قول هؤلاء أنهم عموماً يميزون بين الترافع إلى المحاكم، والرجوع إلى الشرطة والجهات التنفيذية، فيحرمون الأول، وربما كفروا بسببه، ولا يرون بأساً بالثاني.
والظاهر أنهم فهموا التحاكم على أنه التقاضي أو الترافع إلى المحاكم فحسب، وهذا كذلك باطل كنا بيناه أعلاه، وهو تخصيص بدون مخصص. نعم هناك فروق بين عمل القاضي وعمل الجهات التنفيذية، ولكن التحاكم هو التحاكم، وهو الرد إلى مرجعية معينة: إلى الله ورسوله عند أهل الإسلام، وإلى غيرهما أو إليهما بالشراكة مع غيرهما عند أهل الكفر، ولا ثالث لهما. لا يؤثر في جوهر ذلك أن ما يقوم به القاضي يختلف عما يقوم به الشرطي، وهذان يختلفان ضرورة عن المفتي والمشرع، لأن البحث ليس في خصوصيات أعمالهم، وحدود صلاحيات كل واحد منهم، ولكن البحث هو في: الرد إلى الله ورسوله وحدهما فيكون إسلاماً وإيماناً وتوحيداً، أم إلى غيرهما منفرداً أومعهما فيكون كفراً وشركاً.
ويزداد هذا وضوحاً بما جاء في مرافعة جعفر بن أبي طالب، رضي الله عنه، المشهورة أمام النجاشي، رضي الله عنه:
v حيث أخرج ابن إسحاق في «السيرة النبوية»،(ج: 2 ص: 177)، بأصح إسناد يكون في الدنيا: [حدثني محمد بن مسلم الزهري عن ابي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي عن أم سلمة بنت ابي أمية بن المغيرة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار، النجاشي، أمنا على ديننا، وعبدنا الله تعالى، لا نؤذى، ولا نسمع شيئا نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا بينهم أن يبعثوا الى النجاشي فينا رجلين منهم جلدين، ...،]، فساقت، رضوان الله وسلامه عليها، الحديث إلى أن قالت: [فلما جاءوا وقد دعا النجاشي اساقفته فنشروا مصاحفهم حوله سألهم فقال لهم: (ما هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني، ولا في دين أحد من هذه الملل؟!)، قالت: فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب فقال: له أيها الملك، ..إلخ]، والحديث طويل جداً، وممتع، فراجعه في سيرة ابن هشام، أو في «مسند الإمام أحمد بن حنبل»، حتى ترى أن جعفر إنما ترافع بالحق، وبما شرع الله، غير مداهن في دينه، ولا مبال بدين النجاشي وشرعه، بل هو قد فعل هذا مرتين: ترافع في المرة الأولى، ثم عاد رسل قريش فاستأنفوا القضية، فترافع جعفر للمرة الثانية، حتى هزم الله قريشاً وسفراءها.
فهل يعقل أن يكون جعفر الطيار، وهو من كبار أولياء الله، قد تحاكم إلى غير شرع الله، وهبها كانت منه زلة، بجهل أو تأويل، أفلم تخبر به أم المؤمنين أم سلمة هند بنت ابي أمية بن المغيرة المخزومية، زوجها رسول الله، عليه وعلى آله صلوات وتسليمات وتبريكات من الله، وهو كل تسعة أيام في بيتها، ويبيت على فراشها على مدى ستة أعوام طوال؟!
وهبها فاتها أن تخبره: ألم يعلمه اللطيف الخبير، الذي أحاط بكل شيء علماً، فيوحي إلى نبيه بالتحذير من العودة إلى مثله؟!
على أن واقع الحال في (دار الكفر) أن الكثير من الترافع إلى القضاء، ومراجعة الأجهزة التفيذية، إنما يتورط فيه المسلم مكرهاً، كأن يكون مهدداً بالترحيل وإنهاء حقه في «اللجوء السياسي»، أو يكون متهماً بدعم «الإرهاب»، أو نحو ذلك، فيحتاج المسلم إلى الدفاع عن نفسه ضرورة. وفي حالة الضرورة الملجئة هذه فمن الواضح أنه ليس على المسلم حرج في التحاكم إلى أنظمة الكفر وقضاته، حتى ولو كانت الأنظمة محل النظر مخالفة للشرع، فالمسلم حينئذ هو المضطر المكره، الذي يجوز له حتى التلفظ بالكفر أو التظاهر بالكفر.
وقد استشهد بعض أهل العلم أيضاً لما قلناه بثنائه، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، على (حلف الفضول)، وأنه لو دعي لمثله في الإسلام لأجاب. ونحن لا نوافقهم على ذلك لأنه استشهاد في غير محله، لأسباب منها:
أولا: أن قوله، عليه وعلى آله الصلاة والسلام: «لو دعيت إليه في الإسلام لأجبت»، تقدير امتناع لامتناع، فلا هو دعي إلى مثله في الإسلام، ولا هو قد أجاب. فغاية الأمر أن يكون ذلك ثناءً على بعض مقاصد الحلف الجميلة: كالامتناع عن الظلم، ونصرة المظلوم، وحسن معاملة زوار البيت الحرام، ونحوه، وكل ذلك أقره الإسلام وزاده قوة. وليس في ذلك بالضرورة أي ثناء على الحلف من حيث هو حلف أي تعاقد على القتال المشترك، أو على إجراءاته من ترافع أو استعمال للقوة أو غير ذلك؛
ثانياً: أن الأحلاف كلها قد نسخت في الإسلام بعد ذلك بقوله، عليه وعلى آله الصلاة والسلام: «لا حلف في الإسلام»، فالمسلمون جميعاً أمة واحدة، وحلف واحد. وكذلك التحاكم إلى غير الشرع. فالثابت أن شكل الحلف قد نسخ، وكذلك بعض إجراءاته، فلم يعد الاستشهاد بثنائه، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، على حلف الفضول وارداً، إلا فيما أقره الشرع من المعاني الجميلة آنفة الذكر؛
وقد أشبعنا موضوع (حلف الفضول) بحثاً، وميَّزنا ما نسخ من أحكامه، وما لم ينسخ، على وجه الاستقصاء في كتابنا: (الموالاة والمعاداة) فليراجع هناك، لا سيما أن الكثيرين من الباحثين، والمتطفلين على موائد البحث العلمي، قد جعلوا (حلف الفضول) مثل (حمار جحا) يحمل عليه كل شئ، وبعض ما زعموه مبرراً بحلف الفضول يصل إلى درجة الكفر البواح، عياذاً بالله، لذلك حرصنا ها هنا على التحذير من زلة بعض العلماء في استشهادهم به في موضوع (التحاكم)، وليس لهم فيه حجة مطلقاً.
u فصل: الوجه الرابع: كل شرع غير شرع الله كفر، وكل حاكم بغير شرع الله طاغوت:
لم تكتف النصوص القرآنية ببيان:
(1) جوب طاعة الله، وطاعة الرسول، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والاستسلام لهما مطلقاً، من غير قيد أو شرط،
(2) وحرمة طاعة المخلوقين في معصية الخالق تحريماً باتاً أبدياً،
(3) وكذلك حرمة الإحتكام إلى أي قانون، أو نظام، أو لائحة، أو عرف وعادة، أو ذوق، أو أدب، سوى الشرع، بل وغلَّظت النصوص القول في (التحاكم إلى الطاغوت) فجعلته من أعمال الكفر، المناقضة للإيمان والإسلام كل المناقضة، المفضية إلى الضلال البعيد، ثم النار الأبدية، واللعنة السرمدية،
لم تكتف النصوص بتلك الوجوه فحسب، بل ودلت على أن ما عدا الشرع من قوانين وضعية إنما هي كفر صريح، لأنها ليست مما أنزله الله، ولا سنه رسوله، ولا ما دلا عليه من دليل. بل كان العقل هو الذي يشرع، هذا إذا أحسنا الظن، ولم يكن الهوى والشهوة والطغيان المجرد هم المشرعون، وكل ما يشرعه العقل من أحكام تتعلق بأفعال الإنسان من حيث كونه يحيا في هذا الكون بحيث تترتب على أفعاله المدح أو الذم من الله في الدنيا، والحساب، ثم الثواب والعقاب من الله في الآخرة إنما هو طاغوت أمر الله العباد أن يكفروا به حيث قال: }ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، وما أنزله من قبلك، يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، وقد أمروا أن يكفروا به، ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيدا{، (النساء؛ 4:60).
ــ وفي تفسير هذه الآية يقول ابن كثير: [هذا إنكار من الله عزوجل على من يدعى الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء، وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله، وسنة رسوله، كما ذكر في سبب نزول هذه الآية أنها في رجل من الأنصار ورجل من اليهود تخاصما، فجعل اليهودي يقول بيني وبينك محمد، وذاك، أي الأنصاري، يقول بيني وبينك كعب بن الأشرف. وقيل في جماعة من المنافقين ممن أظهر الإسلام، أرادوا أن يتحاكموا إلى حكام الجاهلية، وقيل غير ذلك. والآية أعم من ذلك كله فإنها ذامة لمن عدلوا عن الكتاب والسنة، تحاكموا إلى ماسواهما من الباطل، وهو المراد بالطاغوت هنا]، انتهى كلام الإمام ابن كثير.
والصحيح أن الطاغوت أعم من الباطل، بل هو أفحش منه بكثير، إذ الطاغوت، هاهنا، ما قابل الحكم بما أنزل الله، أي هو الحكم بالجاهلية، أي بالكفر،
ــ وهذا ما ذهب إليه ابن القيم فيقول: (إن من تحاكم، أو حاكم، إلى غير ما جاء به الرسول، فقد حكم بالطاغوت وتحاكم إليه)، انتهى كلام ابن القيم.
فطاغوت كل قوم هو ما يتحاكمون اليه غير الله سبحانه وتعالى ورسوله الكريم، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يعبدونه من دون الله، عبادة دعاء وذلة وتقديس، وركوع وسجود، وتقديم ذبائح وقرابين، وإطلاق مجامر وإيقاد شموع؛ أو عبادة خضوع وطاعة واتباع، أو عبادة محبة وموالاة.
والطاغوت كذلك كل داعية باطل ورأس ضلالة: فإبليس، لعنه الله، طاغوت، بل هو رأس الطواغيت، والكاهن طاغوت، والساحر طاغوت، والحاكم بغير ما أنزل الله طاغوت، والمشرع من دون الله طاغوت، بل هو من رؤوس الطواغيت، لأنه يدعوا الناس إلى عبادته، عبادة طاعة واتباع، ومن دعا الناس لعبادة نفسه طاغوت، بل هو من رؤوس الطواغيت، ومن رضي أن يعبد من دون الله طاغوت، والمحبوب لذاته من دون الله طاغوت، والمطاع لذاته طاغوت: فما أكثر الطواغيت!
وقد أسلفنا في (الوجه الثالث) أن العبرة في المقام الأول، في قضية «التحاكم» إنما هو إلى النظام المتحاكم إليه، وليس لأشخاص الحكام، أو وظائفهم، أو مراتبهم. فإذا وصف الله ما يتحاكم إليه، أو من يتحاكم إليه بأنه «طاغوت»، وجب أن يكون نظامه نظام كفر، ومن المحال أن يكون نظامه إسلامياً.فكل شرع غير شرع الله إذاً كفر، وكل حاكم بغير شرع الله طاغوت، ضرورة ولا بد.
v وقال الإمام، شيخ الإسلام، ابن تيمية الحنبلي، رحمه الله تعالى: [ليس لأحد أن يحكم بين أحد من خلق الله، لا بين المسلمين ولا الكفار ولا غير ذلك، إلا بحكم الله ورسوله، ومن ابتغى غير ذلك تناوله قوله تعالى: }أفحكم الجاهلية يبغون، ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون{، (المائدة؛ 5:50)، وقوله تعالى: }فلا وربّك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً)، (النساء؛ 4:65)]. (مجموع الفتاوى: 35/407 - 408).
v قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، في «منهاج السنّة النبويّة»، (5 / 130): [ولا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافر، فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلاً من غير اتّباع لما أنزل الله فهو كافر فإنه ما من أمة إلا وهي تأمر بالحكم بالعدل، وقد يكون العدل في دينها ما يراه أكابرهم، ...، فهؤلاء إذا عرفوا أنه لا يجوز لهم لحكم إلا بما أنزل الله فلم يلتزموا ذلك بل استحلوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله فهم كفار]
v وقال الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً: [والإنسان متى حلّل الحرام المجمع عليه، أو حرّم الحلال المجمع عليه، أو بدّل الشرع المجمع عليه كان مرتداً]، (مجموع الفتاوي: 3/267)، لاحظ أنه قال: (حلل، ...، حرم، ...، بدَّل الشرع) ولم يربط ذلك بمعتقده.
v وقال العلاّمة الشنقيطي، رحمه الله، وهو مالكي المذهب، في «أضواء البيان»، (7 / 162): [الإشراك بالله في حكمه والإشراك به في عبادته كلها بمعنى واحد لا فرق بينهما ألبتة، فالذي يتبع نظاماً غير نظام الله، وتشريعاً غير تشريع الله، ومن كان يعبد الصنم، ويسجد للوثن لا فرق بينهم ألبتة؛ فهما واحد، وكلاهما مشرك بالله]
v وقال العلاّمة الشنقيطي، رحمه الله، أيضاً في «أضواء البيان»، (7 / 169): [لما كان التشريع وجميع الأحكام: شرعية كانت أو كونية قدرية، من خصائص الربوبية، كما دلت عليه الآيات المذكـورة، كان كل من اتبــع تشـريعاً غير تشــريع الله قد اتخذ ذلك المشرِّع رباً، وأشركه مع الله]
ولأن عموم الأدلة ترشد إلى وجوب اتباع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأن ما جاء به هو وحده الهدى، قال تعالى: }ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى، ويتبع غير سبيل المؤمنين، نوله ما تولى، ونصله جهنم وساءت مصيرا{، (النساء؛ 4:115)، فكل منهاج غير منهاج الهدى الذي جاء به محمد، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، هو غير سبيل المؤمنين، وكل ماهو سبيل غير هذا السبيل هو الكفر بالله، لأن الكفر بالله ورسوله غير سبيل المؤمنين، وغير منهاجهم، الذي هو ضد الكفر من كل وجه.
وكذلك فإن كل من اتهم رسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الحكم فهو كافر لأنه خالف عموم الأدلة التي ربطت بين الإيمان، وبين وجوب اتباع ما جاء به الإسلام.
v وقال الإمام الشاطبي، رحمه الله تعالى، وهو مالكي المذهب أيضاً: [كل بدعة ــ وإن قلّت ــ تشريع زائد أو ناقص، أو تغيير للأصل الصحيح، وكل ذلك قد يكون ملحقاً بما هو مشروع، فيكون قادحاً في المشروع، ولو فعل أحد مثل هذا في نفس الشريعة عامداً لكفر، إذ الزيادة والنقصان فيها أو التغيير ــ قل أو كثر ــ كفر، فلا فرق بين ما قلّ أو كثر] (الاعتصام: 2/61).
v وقال الشيخ محمد بن إبراهيم في رسالته إلى أمير الرياض: (واعتبار شيء من القوانين للحكم بها ولو في أقل القليل: لا شك أنه عدم رضاً بحكم الله ورسوله، ونسبة حكم الله ورسوله إلى النقص، وعدم القيام بالكفاية في حل النزاع، وإيصال الحقوق إلى أربابها، وحكم القوانين إلى الكمال، وكفاية الناس في حل مشاكلهم، واعتقاد هذا كفر ناقل عن الملة، والأمر كبير مهم، وليس من الأمور الاجتهادية) (مجموع فتاوى الشيخ). وكلام الشيخ محمد بن إبراهيم هذا كلام جيد، إلا أن الشيخ، رحمه الله، ربط ذلك بكونه (عدم رضاً بحكم الله ورسوله)، أو (نسبة حكم الله ورسوله إلى النقص)، وهو هكذا غالباً، ولكن ليس هذا مناط الحكم، لأن مجرد التشريع من دون الله منازعة لله في الربوبية، ينصب فيها الفاعل نفسه رباً وإلهاً ونداً من دون الله، وهو طاغوت مشرك كافر، وكفره من أبشع أنواع الكفر، بمجرد عمله، بغض النظر عن أحواله القلبية.
وإلا فما هو الحكم على ذلك المستميت في المحافظة على منصبه أو سلطته وذلك بسن تشريعات يعلم هو يقيناً أنها مضادة لشرع الله؟! وهو موقن في نفسه بأن ذلك خلاف شرع الله، وأن شرع الله هو الحق وهو الأفضل؟! أليس هو طاغوت كافر؟! وهل حبه للسلطة والدنيا عذر له في الكفر؟! إذاً فلنكذب الله، ولنبريء ساحة آل فرعون الذين }جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً{، (النمل؛ 27:14)، نعم فعلوا ذلك للمحافظة على الملك والرئاسة، واستعباد بني إسرائيل: }أنؤمن لبشرين مثلنا، وقومها لنا عابدون؟!{، (المؤمنون؛ 23:47)، فهؤلاء الذين كانوا رؤوس الدولة الأعظم في العاللم آنذاك، يمتلكون الكنوز، يعيشون في الجنات، تجري من تحتهم الأنهار، إذاً، وايم الله، أولى بالعذر!
v ويقول الشيخ محمد حامد الفقي، رحمه الله، في تعليقاته على كتاب التوحيد، في شأن مُحَكِّم القوانين الوضعية: [فهو بلا شك كافر مرتد إذا أصر عليها ولم يرجع إلى الحكم بما أنزل الله، ولا ينفعه أي اسم تسمى به، ولا أي عمل من ظواهر أعمال الصلاة والصيام والحج ونحوها]، (من فتح المجيد: شرح كتاب التوحيد).
v ويقول الشيخ أحمد شاكر، رحمه الله، وهو شافعي المذهب، في تحكيم القوانين الوضعية: [فهذا الفعل إعراض عن حكم الله ورغبة عن دينه، وإيثار لأحكام أهل الكفر على حكم الله سبحانه، وهذا كفر لا يشك أحد من أهل القبلة، على اختلافهم، في تكفير القائل به، والداعي إليه]، (عمدة التفسير: 4/157).
v ويقول الإمام ابن كثير، وهو شافعي المذهب، في تفسير قوله تعالى: }أفحكم الجاهلية يبغون؟! ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون{، (المائدة؛ 5:50): [ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعَدَل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والإصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كالذي كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيزخان الذي وضع لهم «الياسق»، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى، من: اليهودية، والنصرانية، والملة الإسلامية، وغيرها. وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعاً متبعاً يقدمونها على الحكم بكتاب الله، وسنة رسول الله. فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم سواه في قليل أو كثير، قال تعالى: }أفحكم الجاهلية يبغون؟!{، (المائدة؛ 5:50)، أي يبتغون ويريدون، وعن حكم الله يعدلون:}ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون{، (المائدة؛ 5:50)]، انتهى كلام الإمام ابن كثير، رضي الله عنه.
فأي ضلال أفحش من الحكم بغير ما أنزل الله؟! وأي هوى أحط من الإحتكام إلى الهوى؟! وأي طاغوت أكبر من جعل الإنسان المخلوق يقوم بما تكفل الخالق باقامته، بأن جعل العقل الإنساني هو المشرع، وهو الحاكم؟! وأي كفر أبعد مدى من اتباع المخلوقين لمخلوقين مثلهم، وترك ما أنزله الله على رسوله محمد، صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟! فالحكم بما أنزل الله اتباع للشرع، والحكم بغير ما أنزل الله اتباع للكفر، فالشريعة وحدها الحق، وما بعد الحق إلا الضلال، فلا يجوز لبشر أن يجعل من غير الشرع أساساً للحكم.
وكل ما جعل من الأهواء والضلالات مما سمى بالإشتراكية، أو الرأسمالية، أو الديمقراطية الليبرالية، أو الخصوصيات الحضارية، أو العادات والأعراف القومية والقبلية إنما هو حكم بغير ما أنزل الله. وليس لهذا الحكم إلا قوله تعالى: }ومن لم يحكم بما أنزل الله فاولئك هم الكافرون{، (المائدة؛ 5:44)، لأن كل دستور أو قانون أو نظام أو لائحة أو عادة أو عرف يحتكم إليه الناس غير الإسلام فهو كما ورد بصريح القرآن الكريم طاغوت، وجاهلية جهلاء، وعودة بالبشر إلى ردة ترديهم في نار جهنم. وهذا هو سبيل غير المؤمنين، أما اتباع الإسلام فهو الطريق لمن آمن، ففيه الحياة في الدنيا والآخرة، قال تعالى: }ياأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول اذا دعاكم لما يحييكم{، (الأنفال؛ 8:24).
v يقول الإمام الشهيد سيد قطب: [أن هناك شريعة واحدة هي شريعة الإسلام وما عداها فهو هوى...}أفحكم الجاهلية يبغون؟ ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون{، (المائدة؛ 5:50)، ...، }ثم جعلناكم على شريعة من الأمر: فاتبعها، ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون{، (الجاثية؛ 45:18)].
ومن مجمل هذه النصوص يتضح أن الحكم بغير شرع الله إنما هو الكفر الصراح البواح، وأن كل لائحة، أو قانون، أو نظام، أو دستور، أو قيمة أخلاقية أو روحية، أو عادة وأدب، لا تنبثق من العقيدة الإسلامية طاغوت يجب الكفر به وبغضه، فالإسلام هو الدين الذي أنزله الله تعالى على رسوله محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهو الدين الكامل الخاتم فلا يقبل من البشرية، بل ومن الجن، دين سواه، ولا شرع غيره.
أما الديموقراطية الليبرالية الغربية، التي تجعل السيادة للإنسان، فهي نظام سنه الإنسان بوحي من عقله الناقص الذي لم يحط بكل شىء، فضلاً عن تعرضه للنزوات والأهواء والضلال، وخضوعه لأنانية الذات والعشيرة والقبيلة والقوم وللمصالح الفئوية، والطبقية، والعنصرية.
وحتى لو فرضنا، جدلاً، أن الديموقراطية الليبرالية الغربية كاملة، حسنة، مقبولة عقلاً (وهي ليست كذلك بيقين لما فيها من القصور والتناقضات الذاتية) فهي بالقطع ليست مما شرعه الله، فهي ليست من الإسلام، لأن الإسلام، هو ما شرعه الله، لا العقل أو الإنسان، بغض النظر عن مدى كماله، وموافقته للعقل، أو ملائمته للطبع، أو عدم ذلك!
لذلك كان كل من لم يحكم بما انزل الله معتقداً عدم صلاحية الإسلام للحياة كافراً قطعاً، كفراً يخرج من الملة ويحبط العمل، بإجماع الأمة اليقيني، المبني على النصوص القطعية الصريحة،
وكذلك من فعل ذلك اعتقاداً أن ترك الحكم بما أنزل الله يسعه، ويجوز له، حتى لو اعتقد في هذه الحالة أن شرع الله هو الأفضل، والأكمل، والأولى.
وكذلك من لم يحكم بما أنزل الله استخفافاً بشرع الله، واستهزاءً به، أو كراهية له ونفوراً منه، أو إعراضاً عنه وعدم مبالاة به، أو احتقاراً له واستنقاصاً، كل أولئك كفار قطعاً، كفراً يخرج من الملة ويحبط العمل، بإجماع الأمة اليقيني، المبني على النصوص القطعية الصريحة.
ولكن ماذا يقال في حق (من حكم بغير ما أنزل الله) أو بلفظ أدق: (من لم يحكم بما أنزل الله) أي (من ترك الحكم بما أنزل الله)، فعلاً مجرداً، وهو مقر أنه آثم مخطيء، ولكنه تبع شهوة حكم أو سلطة أو محاباة قريب أو صديق، أو أغرته مصلحة مالية أو رشوة، غير معتقد لشيء من العقائد الباطلة، أو متلبس بشئ من الأحوال الفاسدة، الآنف ذكرها: فهو لم يعتقد عدم صلاحية الإسلام للحياة، وهو لم يعتقد جواز الحكم بغير ما أنزل الله أصلاً، بل هو معتقد لحرمة ذلك القاطعة، وهو لا يشك أن شرع الله أفضل من شرع غيرالله، وهو غير فاعل لجريمته تلك استخفافاً بشرع الله، ولا استهزاءً به، أو كراهية له ونفوراً منه، أو إعراضاً عنه وعدم مبالاة به، أو احتقاراً له واستنقاصاً؟!
لقد وقع في ذلك خلاف بين علماء الأمة:
(1) فمن العلماء من قال: هو مع استحقاقه للألقاب الثلاثة، أي: كافر، وفاسق، وظالم بنص القرآن الكريم إلا أنه ليس بخارج عن الملة لأن: كفره كفر دون كفر، وفسقه فسق دون فسق، وظلمه ظلم دون ظلم.
(2) ومن العلماء من قال: بل هو فقط مستحق لألقاب الفسق والظلم عموماً، أما لقب «الكافر»، فلا يستحقه إلا من اقترن عنده ذلك بأمر مكفر، وذلك بقرائن وأدلة ذكروها تخصص قوله تعالى: }ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون{. وهذا القول لا يختلف في جوهره عن السابق، وهو مجرد خلاف لفظي، إلا أنه خلاف مهم، لأن إجماع الصحابة قد انعقد على استخدام لفظة (كفر) في هذا، كما سيأتي بيانه، وهذا إجماع محترم، لا يحسن تجاوزه، ولا بحال من الأحوال.
(3) ومن العلماء من قال أنه: كافر، وفاسق، وظالم بنص القرآن الكريم، أي أنه مستحق لتلك الأسماء والأوصاف الشرعية لنفس الشخص في نفس الوقت، وأنها على ظاهرها تعني الكفر الناقل عن الملة، فيكون الفسق هو فسق الكفر، والظلم هو ظلم الكفر، وتكون كلها حينئذ ناقلة عن الملة ضرورة.
هذا هو الحق الذي نرجحه، وهو ما أشبعناه بحثاً في الباب المعنون بـ(شبهات حول تكفير من لم يحكم بما أنزل الله)، من كتابنا: (الحاكمية، وسيادة الشـرع).
على أننا ننبه ها هنا على أمور منها:
أولاً: أن إستحقاق ألقاب الكفر أو الظلم أو الفسق، (بعضها أو كلها على اختلاف بين العلماء)، يحصل بمجرد ترك الحكم بما أنزل الله، ولو لم يحكم بغير ما أنزل الله، لأن الله، جل جلاله يقول: }ومن لم يحكم بما أنزل الله ،...{. لا يقال أن ترك الحكم بما أنزل الله يستلزم ضرورة أن يحكم الحاكم بغير ما أنزل الله كما يظهرذلك بجلاء من مثال القاضي الذي تبين بيقين أن حكم الله في ذلك النزاع المعين الذي ينظر فيه هو «كذا وكذا» بعد استكمال النظر في القضية، ووجوب النطق بالحكم فيها، ولكنه يمتنع عن النطق بالحكم عند تعينه بدافع من الهوى حتى يمكن طرف القضية الذي عليه الحق ــ من مال أو قصاص مثلاً ــ من إخفاء المال، أو الفرار من قبضة السلطان، أو يعزل، أي القاضي، نفسه عن القضية بعد تبين الحق له، وبعد توجب النطق بالحكم فيها، هروباً من النطق بالحق المخالف لشهوته وهواه.
فمثل هذا القاضي قد ارتكب، بمجرد امتناعه عن النطق بالحكم، بعد توجبه، جريمة ترك الحكم بما أنزل الله، فهو } لم يحكم بما أنزل الله ،...{ في تلك القضية العينية وأصبح مستحقاً لألقاب الكفر أو الظلم أو الفسق، (بعضها أو كلها على اختلاف بين العلماء)، مع أنه تهرب من النطق بالحكم، ولم يحكم بشيء أصلاً.
ولعل هذا المثال وأضرابه هو الذي خطر في بال من قال: «كفر دون كفر»، أو من امتنع من إطلاق مسمَّى (الكفر) على هذا الفعل واكتفى بأسماء الفسق والظلم، لشدة شبه هذا للذنوب والمعاصي الأخرى التي يرتكبها المسلم مدفوعاً بشهوته من غير استحلال لحرام أو جحد لواجب، أو تكذيب لله، أو لرسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومن غير استهزاء أو استخفاف أو كراهية أو إعراض تام عن الله ورسوله وآياته.
ولكن من ناحية أخرى له شبه أقوى بمن امتنع عن التلفظ بكلمة التوحيد، مع وجود الاستطاعة المعتبرة، وعدم وجود إكراه ملجيء. وكفر هذا لا يشك فيه مسلم، وعليه إجماع العلماء. بل إن إقرار الكافر بنبوة سيدنا محمد، صلوات الله وسلامه وتبريكاته عليه وعلى آله، وتلفظه بذلك (لا يدخله في الإسلام حتى يلتزم أحكام الإسلام)، هكذا، حرفياً، قال الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني في «الفتح» بعد شرحه لحديث نُكُول العاقب والسيد، صاحبَيْ نجران، عن مباهلة رسول الله، صلوات الله وسلامه وتبريكاته عليه وعلى آله، وتكلمهما بما يفيد بإقرارهم بنبوته، ولكنهم لم يدخلوا في الإسلام، ولم يلتزموا - من حيث المبدأ - بالأحكام، فبقوا على كفرهم. وكذلك بدلالة إقرار بعض أحبار اليهود بنبوته، في أكثر من قصة ثابتة، مع بقائهم على يهوديتهم، ورفضهم اتباعه، صلوات الله وسلامه وتبريكاته عليه وعلى آله. ومعلوم أن هؤلاء كلهم إنما منعتهم شهوات الدنيا: من حب رئاسة، وخوف مقاطعة الأهل والأحبة، وكسل عن الهجرة، وغيرها، كل ذلك لم يكن عذراً لهم، ولا مخرجاً لهم من الكفر. إذ لا عذر في شيء من ذلك، إلا إكراه ملجيء، أو عدم استطاعة بيقين، لا غير.
وهذا الحكم لا يقتصر على شهادة التوحيد فحسب، بل ينسحب على كل مقولة حق، ترتبط ارتباطا حتمياً بالشهادة، فتكون بذلك من لوازمها. لا فرق بين قول إنسان: (لا إله إلا الله)، وقوله: (مريم بنت عمران، برأها الله من الفاحشة، وفضلها على نساء العالمين)، وقوله: (إن الله على كل شيء قدير، وإن الله قد أحاط بكل شيء علماً)، وقوله: (هذا هو حكم الله في هذه المسألة المعينة). كل ذلك تلفظ وإخبار بالحق الذي يعتقده المخبر، ويدين الله به. وكله يجب الإقرار به، وإعلانه، والخضوع له، والتسليم به، واتخاذه ديناً يدان الله به، حاشا حالة عدم الاستطاعة المعتبرة، أو إكراه ملجيء.
فإن كان هذا المثال، وفقط هذا المثال، فيه شبه من حال المذنب العاصي، ففيه كذلك شبه أقوى، وقرابة أشد، من حال الكافر المعرض، أو الجاحد، أو المتكبر: فليحذر كل عاقل لنفسه!
كما يظهر ذلك أيضاً، على نحو مختلف، من مثال الرجل المسلم الذي ضبط في حالة سكر بيِّن، وأحضر هذا الرجل إلى القاضي الحاكم بالقانون الوضعي فخلى سبيله، ولم يحكم بشيء، لأنه بموجب القانون الوضعي لم يرتكب الرجل جريمة، ولن يعاقب بشيء، بل ليس هناك ما يتوجب به النظر القضائي أصلاً. في حين أن الشرع يوجب إقامة حد شرب الخمر عليه بجلده أربعين أو ثمانين جلدة على إختلاف في المذاهب، وحسب اجتهاد الإمام أو القاضي.
وترك الحكم بما أنزل الله في هذا المثال، وما كان من جنسه وعلى منواله، لا علاقة له بغلبة الشهوة، والضعف أمام وساوس الشيطان، أو محاباة صديق، أو قريب، وإنما هو تطبيق لنظام كفري، يتناقض مع الإسلام كل المناقضة. وهو، في أدنى مراتبه، إعراض عن الشرع وعدم مبالاة به، والإعراض عن الشرع كفر ينقل عن الملة. وقد يكون أنكر من ذلك وأقبح، فيكون: شكاً في الشرع، أو تكذيباً للشرع، أو جحداً للشرع، أو استكباراً وإباءً ورفضاً للشرع (على طريقة إبليس، لعنه الله)، أو احتقاراً وسخريةً من الشرع، أو بغضاً وكراهيةً وعداوةً للشرع! وكل ذلك كفر بالشرع، وهو من أنواع الكفر الناقلة عن الملة! فهل يشك عاقل، في قلبه ذرة من إسلام، وإيمان، وتعظيم، وحب: لله، ولرسوله، ولدينه، أن مثل هذا القاضي قد فارق الملة، وبرئت منه الذمة؟!
أما لو ضبط رجل مسلم يسوق سيارته سكراناً في الشارع العام، فإن القاضي الوضعي سيحكم عليه بالحبس لمدة ستة أشهر مثلاً. فهنا ترك القاضي الحكم الشرعي وهو الجلد وبذلك لم يحكم بما أنزل الله.
أما الحكم بالحبس لمدة ستة أشهر فقد يكون عقوبة تعزيرية، على مخالفة النظام العام بقيادة السيارة في حالة سكر، تطبق على كل مخالف، مسلما كان أو غير مسلم، فهذا لا بأس به، إذا كان قد سنَّه ولي أمر شرعي، أي حاكم يحكم بما أنزل الله.
وقد يكون الحكم بالحبس لمدة ستة أشهر عقوبة على شرب الخمر، من حيث هو شرب لمحرم، بديلاً عن عقوبة الجلد (الهمجية كما يؤكد «المتمدنون»؟!) لا تطبق على غير المسلم لأن الخمر حلال في دينه، له شربها في إطار النظام العام، فتكون حينئذ حكماً بغير ما أنزل الله سبحانه وتعالى، ويكون القاضي قد ارتكب بذلك فعلين مكفرين وليس فعلاً مكفراً واحداً واستحق كذلك، من باب أولى، أن يُسمّى كافراً وظالماً وفاسقاً، وهو بدون شك شر من مثيله في الأمثلة السابقة، وأوغل في الكفر، وأضل عن سواء السبيل!
وقريب من ذلك في الشر، والإثم، والكفر، طاعة المتشرعين بغير شرع الله، الحاكمين بغير ما أنزل الله لقوله تعالى: }وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم، وإن اطعتموهم إنكم لمشركون{ أي إن أطعتموهم واتبعتموهم في تحليل الميتة، أصبحتم كفاراً مشركين بالله مقرين لغيره بحق السيادة والحاكمية والتشريع.
وهذه الآية، كما أسلفنا، مكية بالإجماع، حيث كان الشرك لا يقال إلا على شرك الكفر، الشرك الأكبر، المخرج من الملة، والمناقض للإسلام كل المناقضة. وإنما جاءت أحكام الشرك الأصغر، والشرك الخفي، وآداب التوحيد من مثل النهي عن الحلف بالآباء، والنهي عن قول: (ما شاء الله، وشئت)، ونحوه في المدينة، بلا خلاف، كما تفردت بها السنة الشريفة فقط، وليست هي من معهود استخدام القرآن.
ولما كان «المطيع» في التحليل والتحريم مشركاً، شرك الكفر المخرج من الملة، فلا بد أن يكون «المطاع» رباً، وإلهاً من دون الله، ضرورة، كما بينته قصة عدي بن حاتم، وأظهرته بما لا خفاء فيه!
وشر من كل ما سبق، وأشنع، وأوغل في الكفر والشرك، من باب أولى، بداهة بلا شك أو جدال، السلطة التي تشرع الدساتير والقوانين والأنظمة واللوائح المناقضة للشرع أو التي لم تستنبط إستنباطاً شرعياً صحيحاً، فهذا فوق ذلك نوع آخر من الشرك، قال تعالى: }أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله{، (الشورى؛ 42:21)، فالمشرع بمجرد قيامه بالتشريع أصبح منازعاً لله في سيادته وربوبيته، منازعاً للعزيز الجبار المتكبر الذي قال، كما رواه عنه نبيه المعصوم الخاتم في الحديث القدسي: }العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني فيهما قصمته{!!
هذا المشرع يقول بلسان الحال، إن لم يكن صراحة بلسان المقال: (أنا ربكم الأعلى)، داعيا الناس إلى عبادته: عبادة خضوع، وطاعة، واتباع، فيصبح بذلك من الطواغيت، بل من رؤوسها، ومن أقر له بذلك فقد جعله رباً، وإلاهاً، وحكماً من دون الله، ومن ثم شريكاً لله سبحانه وتعالى. فويل لهؤلاء جميعاً من النقمة القاصمة المدمرة للعزيز الجبار!
ثانياً: أن أكثر القائلين بـ(كفر دون كفر) أو المقتصرين على ألقاب الفسق والظلم في حالة انعدام موجب إضافي للتكفير، كما شرحناه أعلاه، هم فيما يظهر من المدافعين عن الولاة والسلاطين الحاكمين بغير بما أنزل الله، وهم يحاولون إخراجهم من حمأة الردة والكفر، ويجادلون عنهم بالباطل في محاولة يائسة لتثبيت عروشهم، وتقرير شرعيتهم، وقفل الباب في وجه أي محاولة لخلعهم.
نعم: هناك قلة من العلماء المخلصين الذين يريدون الحق، ويتخوفون من الحكم بالكفر إلا ببرهان قاطع، قد قالت بمثل هذا، ولكن غالبية المجادلين في عصرنا هذا هم من النوع الأول: من فقهاء السلاطين الخونة. فإن كان كذلك فنبشرهم بإن ذلك لا يغني عنهم شيئاً، وأن ولاية «ساداتهم» و«كبرائهم» من السلاطين ساقطة، ومنابذتهم بالسيف مشروعة على كل حال، بغض النظر عن (كفر دون كفر)، وبغض النظر عن استحقاق ألقاب (الفسق والظلم) فقط، وذلك لأن الله، تباركت أسماؤه، قد كفانا مؤنة ذلك عندما أنطق نبيه محمداً، صلوات الله وسلامه وتبريكاته عليه وعلى آله، بفصل الخطاب في هذه المسألة، حين وجه أصحابه إلي عدم منازعة أولي الأمر: «إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان»، وقال: «لا، ما صلوا»، وقال: «لا، ما أقاموا فيكم الصلاة».
هذا بلاغ من الله، بلسان أفصح خلق الله، المعصوم بعصمة الله، الذي أوتيَ جوامع الكلم، ولكنه يحتاج إلى تفصيل ومناقشة مدققة، تستنير بكافة نصوص الوحيين: الكتاب والسنة، من غير تحريف للكلم عن مواضعه، أو جعل القرآن «عضين» أي أجزاء وتفاريق، أو ما هو شر من ذلك: إيمان ببعض وكفر ببعض، كما هي طريقة فقهاء السلاطين الملاعين. هذه المناقشة المستفيضة تحتاج إلى باب مستقل، هو المسمَّى: (منابذة الحكام)، فلتراجع!
على أن النص القرآني قد استخدم في حق «من لم يحكم بما أنزل الله» أسماء «الكافر»، أو «الظالم»، أو «الفاسق» كما استخدمها في مواطن أخرى سواء بسواء. ومن تلك المواطن قوله تعالى: }ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً{، (النساء؛ 4:141)، القاطعة بسقوط ولاية الكافر على المؤمن، والحرمة القطعية المؤكدة الأبدية لإمامته على المسلمين، أو رئاسته لدولتهم، وذلك بإجماع المسلمين المتيقن على ذلك. ومن تلك المواطن قوله تعالى: }لا ينال عهدي الظالمين{، (البقرة؛ 2:124)، المسقطة لولاية الفاسق، وهو القول الصحيح لجمهور العلماء، كما فصلناه في باب (بطلان ولاية الفاسق) من كتابنا: (طاعة أولي الأمر، حدودها وقيودها). و«من لم يحكم بما أنزل الله» كافر أو فاسق أو ظالم بيقين، بنص القرآن، وبالإجماع اليقيني القاطع، فولايته ساقطة بيقين كذلك، على وجه الإطلاق، بغض النظر عن:
(1) مستحقاً فقط لأسماء الظلم والفسق، وهذا قول باطل، مخالف لإجماع الصحابة كما هو مبرهن عليه في الباب: (شبهات حول تكفير من لم يحكم بما أنزل الله
(2) مستحقاً لاسم «الكفر» مع كون كفره (كفراً دون كفر)، (وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله)، أو (كفراً لا يخرج عن الملة)، إذا سلمنا جدلاً بصحة ذلك كله، مع أننا أبطلنا نسبة ذلك لإمام الهدى ترجمان القرآن عبد الله بن عباس في الباب المذكور.
لذلك نقول لأعداء الله، فقهاء السلاطين: لا تفرحوا، إن حجتكم داحضة، وحدَّكم كليل، ولم تبق لكم شبهة أو دليل، فسارعوا إلى التوبة قبل الموت والرحيل، وهو رحيل إن لم تسبقه توبة، لا محالة سقوط على أم رؤوسكم في الهاوية: }وما أدراك ما هية v نار حامية{، (القارعة؛ 101:10-11).
وعلى كل حال فنحن نحيل إلى الباب المعنون بـ(شبهات حول تكفير من لم يحكم بما أنزل الله)، من كتابنا: (الحاكمية، وسيادة الشـرع) لاستكمال دراسة هذه المسائل الشائكة.
u فصل: الوجه الخامس: وجوب ترك جميع المعالجات التي لم تنبثق من العقيدة الإسلامية
ذلك لأن كل مشرع من دون الله طاغوت، والطاغوت لا بد من اجتنابه، بل رفضه والكفر به،
v فقد قال تقدست أسماؤه: }لا إكراه في الدين: قد تبين الرشد من الغي، فمن يكفر بالطاغوت، ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها، والله سميع عليم v الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور، والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات، أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون{، (البقرة؛ 2:256-257).
v وقال جل جلاله، وتباركت أسماؤه: }ألم تر الى الذين يزعمون أنهم أمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، وقد أمروا أن يكفروا به، ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا{، (النساء؛ 4:61).
v وقال تعالى ذكره: }والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها{،
ولأن قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ماليس منه فهو رد» يقضي بأن كل ما هو ليس من الإسلام، كأن يكون من الإشتراكية، أو الرأسمالية، أو الديمقراطية الليبرالية، أو الموروثات القومية والقبلية، وما يسمّى بـ«الخصوصيات الحضارية»، ونحوه، فلا بد من رده ورفضه، ولا يجوزالتقيد به. ولما كان الإسلام كله مبنياً على الرد إلى الله ورسوله، والقبول والتسليم لهما، لزم ضرورة أن يكون كل ما يجب رده، ويحرم قبوله من الكفر، المناقض للإسلام كل المناقضة.
وهذا الحديث الصحيح المشهور أحد الأحاديث الأركان ــ من أركان الشريعة ــ لكثرة ما يدخل تحته من الأحكام، ولأنه عمدة في جعل الإسلام هو المقياس للحلال والحرام، وكأن الإسلام مرآة تعرض عليها جميع القوانين العقلية والاجتهادات والأعمال، فما كان منها اسلاماً تقيدت به الأمة، وما كان منها خارجاً عن الإسلام كفرت الأمة به، ووجب عليها رفضه، وأثم كل من يتقيد به، وربما كفر وارتد عن الإسلام!
وعليه فكل المعالجات التي لم تكن العقيدة الإسلامية أساساً لها فإنها كفر لابد من ردها، وعدم التقيد بها، لأنها ليس مما جاء به محمد، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لأن مقصود قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «أمرنا» الواردة في الحديث: «أحدث في أمرنا» هو الإسلام، أي الشرع، والذي ليس عليه أمرنا هو الضد من ذلك، وعلى طرف نقيض منه، أي هو الكفر بعينه، وهو الطاغوت، الذي أمرنا الله تعالى أن نكفر به.
u فصل: الوجه السادس: الشرع هو الحكم حتى في العلاقات والسياسة الدولية:
إذا كان الشرع قد قيد أفعال الإنسان بالحلال والحرام سواء في المعاملات أو العقوبات أو الزواج أو الطلاق، فإنه كذلك جعل السياسة الخارجية للدولة الإسلامية مسيرة بأمر الشارع، فالحرب والسلم والمعاهدات، كل ذلك جاء الشرع ببيان أحكامه، وحرم على المسلمين عقد الاتفاقات الدولية بخلاف الأحكام الشرعية، لأن السيادة للشرع في كافة شؤون المسلمين، ودليل ذلك، أن النبي صلى الله عليه وسلم خالف الرأي العام للأمة وقام بإجراء عقد اتفاق دولي بين الدولة الإسلامية ودولة الكفر بمكة آنذاك بما عرف باسم (صلح الحديبية)، عندها رأى المسلمون أن الإتفاقيات مذلة للمسلمين وفي غير صالحهم، وتزعم المعارضة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، محاولاً كسب الصديق أبي بكر رضي الله عنه إلى جانبه في الرأي، فرفض أبو بكر ذلك منحازاً للرأى الذي نفذه رئيس الدولة الإسلامية، صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ولكن المعارضة سرعان ما تراجعت عن موقفها، لأن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم ينزل، كعادته، عند رأي الأغلبية من المسلمين، ولأن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم قدم للأمة سبباً أدى إلى توقف الأغلبية عن المعارضة بقوله لهم: «إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري».
بعد سماع المسلمين لهذا القول من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، سلموا وانقادوا وتخلوا عن موقف المعارضة للاتفاق مع قريش، لأن رئيس الدولة أخبر الأمة أن ما تم في الحديبية من صلح إنما هو بناء على أمر الله تبارك وتعالى، أي أن الله سبحانه وتعالى هو الذي أمر رسوله محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقبول شروط الصلح، فلم يعد أمام النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وبقية المؤمنين سوى السمع والطاعة.
وكان من لطف الله، ورحمته، بهم، وتودده إليهم، أن أخبرهم، سريعاً، أن الصلح لن يكون في صالح الدولة الكافرة، وأنه فتح مبين! ولكن لم تكن هناك مندوحة من السمع والطاعة، حتى لو كان الصلح في مصلحة الدولة الكافرة، وحتى لو كان هزيمة نكراء، فأمر الله واجب النفاذ، وحكمه واجب الطاعة، فهو يحكم لا معقب لحكمه، ولا راد لمشيئته، لا إله إلا هو ولا رب سواه، عليه نتوكل، وبه نتأيد، وإليه ننيب.
لذلك فإنه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لما قبل شروط الكفار يوم الحديبية، كان قبوله اذعاناً لحكم الشرع، وخضوعاً للسيد المطلق السيادة، لا إله غيره، ولا رب سواه. ولما علم المسلمون ذلك أذعنوا أيضاً وسلموا بما جرى عليه الصلح، ثم جاءت البشارة بالفتح بعد ذلك، لا قبله!
لا يقال أنهم ترددوا في التحلل، وذبح الهدي، وحلق الشعر! لا يقال ذلك لأن النبي، صلى الله عليه وسلم، لم يقرهم، وغضب، وأنكر. وحسن الظن بأولئك السعداء الذين شهد الله لهم بالجنة والرضوان يقتضي أن نعتذر لهم بأنهم كانوا يأملون حتى اللحظة الأخيرة بمجيئ وحي ناسخ، يحقق لهم أمنية القلب: دخول المسجد الحرام، وإكمال النسك!
وحسن الظن بالله، جل جلاله، أنه غفر لهم ذلك التردد القبيح، الذي كان بلا شك عصياناً، وتقصيراًقبيحاً في حق الله، وحق رسوله!
وكذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما وصل المدينة وأقام الدولة بدأ بممارسة صلاحياته كرئيس للدولة الإسلامية، فقام بعقد اتفاق مع اليهود عرف باسم (عقد الصحيفة) وكان مما جاء فيه: «وانكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله عز وجل، وإلى محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم» أي أن أي خلاف بين اليهود سيكون الشرع هو الحكم فيه، وكذلك كل خلاف بين اليهود ككيان، والمسلمين سيكون الشرع هو الحكم فيه، وكذلك كل خلاف بين اليهود ككيان، والمسلمين كدولة انما مرده إلى الشرع، فنصت الصحيفة على أنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة، أفراداً وجماعات ودول، من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله عز وجل، والى محمد، رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
فمن هذه السنة العملية التي تبلورت في اتفاقين دوليين ثابتين، منقولين نقل تواتر: الأول مع قريش والثاني مع اليهود، وما نصت عليه الاتفاقيتان ليدل بوضوح على أن الشرع كان دوما هو صاحب السيادة في السياسة الخارجية، والعلاقات الدولية للدولة الإسلامية، فلا يجوز عقد أي اتفاقية أو معاهدة أو حلف تخالف الإسلام، ولا تجوز، مطلقاً، المشاركة في منظمة، أو حلف، أو اتحاد، أو جبهة دولية يناقض ميثاقها الإسلام.
u فصل: انعقاد الإجماع على سيادة الشرع
كما انعقد اجماع الصحابة على أن السيادة للشرع، فلم يخرج أحد من الخلفاء الأربعة عن نص في كتاب الله وسنة رسوله، وذلك في جميع شؤون الحياة، اذ كانوا يدركون أن الأحتكام إلى الشرع من لوازم الإيمان، فلا ايمان إلا به، لذا كانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها، فإذا وضع الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى غيره اقتداء بالنبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، واتباعاً له.
وقد اشتد تمسك الخلفاء الراشدين، وغيرهم من الصحابة، بالنصوص الشرعية على ظواهرها، وعمومها، وإطلاقها:
ــ فقد قضى عمر بألا ترث المرأة من دية زوجها شيئاً حتى أخبره الضحاك بن سفيان الكلابي ــ وهو أعرابي من أهل البادية ــ أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كتب اليه أن يورث أمرأة أشيم الضبابي من ديته، فرجع عمر، وكما يقول الإمام الشافعي: (فلما بلغه خلاف فعله، صار إلى حكم رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وترك حكم نفسه، وهكذا كان في كل أمره، وكذلك يلزم الناس أن يكونوا).
ــ ومن المعلوم بضرورة الحس والعقل أن الأصابع تختلف في منفعتها، والدور المتميز للإبهام يدركه كل إنسان، حتى صغار الأطفال. لذلك حكم أمير المومنين عمر بن الخطاب بديَّات مختلفة لكل إصبع، كما يقتضيه العقل، والمصلحة. ولكنه ضرب بـ«العقلانية»، و«المصلحة» عرض الحائط، عندما بلغه تسوية رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بينها، وقال صراحة: (لو لم يبلغنا هذا، لحكمنا بغير هذا!)، أو كلاماً نحوه. وقد ورد عن عمر من ذلك كثير!
ــ ولقد بلغت قمة الإلتزام لدى الخليفة الأول أبي بكر الصديق، رضوان الله وسلامه عليه، في كونه ثبت مصراً على اتباع ما جاء به الشرع، وما أمر به رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم رغم أنه كان في المقابل رأي يبدو فيه الصلاح في ظروف خاصة تمر بالدولة الإسلامية، فإنه لما توفي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وكفر من كفر من العرب، رأى أبو بكر قتال من منع الزكاة، فقال عمر: كيف تقاتل؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لاإله إلا الله، فإذا قالوا لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها»، فقال أبو بكر: (والله لاقاتلن من فرق بين ما جمع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم)، ثم تابعه بعد عمر. فلم يلتفت أبو بكر إلى مشورة اذ كان عنده حكم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الذين فرقوا بين الصلاة والزكاة، وارادوا تبديل الدين واحكامه وامتنعوا بالقوة المسلحة.
ــ وروي أن الإمام طاوس كان يصلي ركعتين بعد العصر فانتهره ابن عباس، رضي الله عنهما، فقال طاوس، متأولاً: (إنما نهى عنهما أن يوصل ذلك إلى الغرور)، أو كلاماً نحو ذلك، فقال ابن عباس: فإن النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قد نهى عن صلاة بعد العصر! وما أدري أيعذب عليه أو يؤجر؟! لأن الله تعالى يقول: }وما كان لمؤمن ولامؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً{، (الأحزاب؛ 33:36). وقال الإمام الحاكم: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، موافق لما قدمنا ذكره من الحث على اتباع السنة)، وقد وافقه الذهبي على هذا التصحيح.
والمهم هنا موقف الإمام الحبر البحر ابن عباس، رضي الله عنهما، من أوامر الله ونواهيه من حيث المبدأ، وإلا فإن النافلة بعد العصر مختلف فيها، والأرجح أنه لا بأس بها، وإن لم تكن من السنن الرواتب، وطاوس إنما أحال إلى رأي مجرد، وتعليل لا يدعمه نص، ورجم قبيح بالغيب، وهذه إحالة باطلة على وجه الإطلاق، ولا ريب.
فالصحابة رضوان الله عليهم بمجموعهم لم يكونوا قطعاً ليسكتوا عن عمل يخالف الشرع، فضلاً عن تفانيهم في المحافظة على بقاء السيادة له، فنفذوا أمر الخليفة في قتال مانعي الزكاة، لما ظهر لهم وجه الحق المتمثل في الاستناد إلى الدليل. وقد بلغ الصديق رضي الله عنه ذروة التقيد بما أمر به الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين جرى بحث وقف مسيرة جيش أسامة إلى بلاد الشام، الخاضعة للروم، ليظل في عاصمة الدولة الإسلامية، حمايةً لها، بينما جيش خالد بن الوليد في بلاد اليمامة يقاتل المرتدين، فقال قولته المشهورة: (لو لعبت الكلاب بخلاخيل نساء المدينة، ما رددت جيشاً أنفذه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم).
وقد أورد الإمام ابن القيم طرفاً من أقوال الأئمة منذ عهد الصحابة، فمن بعدهم، في كتابه القيم: «إعلام الموقعين»، (ج: 2 ص: 281 وما بعدها)، حيث بوب قائلاً: (أقوال العلماء في العمل بالنص)، ثم قال: [وقال الشافعي أخبرنا سفيان بن عيينة عن عبد الله بن أبي يزيد عن أبيه قال أرسل عمر بن الخطاب إلى شيخ من زهرة كان يسكن دارنا فذهبت معه إلى عمر رضي الله عنه فسأله عن ولاد من ولاد الجاهلية فقال أما بالحق فلفلان وأما النطفة فلفلان فقال عمر صدقت ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالفراش.
قال الشافعي وأخبرني من لا أتهم عن ابن أبي ذئب قال أخبرني مخلد ابن خفاف قال ابتعت غلاما فاستغللته ثم ظهرت منه على عيب فخاصمت فيه إلى عمر بن عبد العزيز فقضى لي برده وقضى علي برد غلته فأتيت عروة فأخبرته فقال أروح إليه العشية فأخبره أن عائشة أخبرتني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في مثل هذا أن الخراج بالضمان فجعلت إلى عمر فأخبرته بما أخبرني به عروة عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر فما أيسر هذا علي من قضاء قضيته اللهم إنك تعلم أني لم أرد فيه إلا الحق فبلغتني فيه سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرد قضاء عمر وأنفذ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فراح إليه عروة فقضى لي أن آخذ الخراج من الذي قضى به علي له.
قال الشافعي وأخبرني من لا أتهم من أهل المدينة عن ابن أبي ذئب قال قضى سعد بن إبراهيم على رجل بقضية برأي ربيعة بن أبي عبد الرحمن فأخبرته عن النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف ما قضى به فقال سعد لربيعة هذا ابن أبي ذئب وهو عندي ثقة يخبرني عن النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف ما قضيت به، فقال له ربيعة قد اجتهدت ومضى حكمك فقال سعد واعجبا أنفذ قضاء سعد بن أم سعد وأرد قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بل أرد قضاء ابن أم سعد وأنفذ قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بكتاب القضية فشقه وقضى للمقضي عليه، ....
وقال أبو النضر هاشم بن القاسم حدثنا محمد بن راشد عن عبدة بن أبي لبابة عن هشام بن يحيى المخزومي أن رجلا من ثقيف أتى عمر بن الخطاب فسأله عن امرأة حاضت وقد كانت زارت البيت يوم النحر ألها أن تنفر فقال عمر لا فقال له الثقفي إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفتأتي في مثل هذه المرأة بغير ما أفتيت به فقام إليه عمر يضربه بالدرة ويقول له لم تستفتيني في شيء قد أفتى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ورواه أبو داود بنحوه.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة ثنا صالح بن عبد الله ثنا سفيان بن عامر عن عتاب بن منصور قال قال عمر بن عبد العزيز لا أرى لأحد مع سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الشافعي أجمع الناس على أن من استبانت له سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس، وتواتر عنه أنه قال إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط، وصح عنه أنه قال إذا رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا ولم آخذ به فاعلموا أن عقلي قد ذهب، وصح عنه أنه قال لا قول لأحد مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال إسرائيل عن أبي إسحاق عن سعد بن إياس عن ابن مسعود أن رجلا سأله عن رجل تزوج امرأة فرأى أمها فأعجبته فطلق امرأته ليتزوج أمها فقال لا بأس فتزوجها الرجل وكان عبد الله على بيت المال فكان يبيع نفاية بيت المال يعطي الكثير ويأخذ القليل حتى قدم المدينة فسأل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فقالوا لا تحل لهذا الرجل هذه المرأة ولا تصلح الفضة إلا وزنا بوزن فلما قدم عبد الله انطلق إلى الرجل فلم يجده ووجد قومه فقال إن الذي أفتيت به صاحبكم لا يحل وأتى الصيارفة فقال يا معشر الصيارفة إن الذي كنت أبايعكم لا يحل لا تحل الفضة إلا وزنا بوزن.
وفي صحيح مسلم من حديث الليث عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار أن أبا هريرة وابن عباس وأبا سلمة بن عبد الرحمن تذاكروا في المتوفى عنها الحامل تضع ثم وفاة زوجها فقال ابن عباس تعتد آخر الأجلين فقال أبو سلمة تحل حين تضع فقال أبو هريرة وأنا مع ابن أخي فأرسلوا إلى أم سلمة فقالت قد وضعت سبيعة بعد وفاة زوجها بيسير فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتزوج.
وقد تقدم من ذكر رجوع عمر رضي الله عنه وأبي موسى وابن عباس عن اجتهادهم إلى السنة ما فيه كفاية]، انتهى كلام الإمام ابن القيم، وقد حذفنا كلاماً يسيرآ رمزنا له بنقاط هكذا (...).
من هذا كله، نستدل على أن إجماع الصحابة قام على أن السيادة للشرع، وانعقد على عدم جواز أن تكون لغيره من حاكم أو محكوم. وبقي إجماع الأمة جمعاء منعقداً على ذلك في كل العصور التالية حتى وقع أكثر العالم الإسلامي فريسة للإستعمار الغربي الحديث في أوائل القرن الهجري الرابع عشر المنصرم.
u فصل: الدليل العقلي على سيادة الشرع
و حتى الدليل العقلي يؤكد أن الحاكم هو الشرع، لأن الحاكم على الأشياء من حيث الحل والحرمة، وعلى أفعال العباد من حيث كونها واجباً أو مندوباً أو مكروها أو مباحاً، وعلى الأمور والعقود من حيث كونها أسباباً أو شروطاً أو موانع أو صحيحة أو باطلة أو فاسدة أو عزيمة أو رخصة، كل ذلك ليس من قبيل ملاءمتهما للطبع أو عدم ملاءمتها، أي إحداثها للذة أو الألم، وهو يدرك بالحس المباشر أو الذوق، ولا من قبيل الكمال والنقص، وهو يدرك بالحس والعقل أيضاً، وإنما هو من قبيل ترتب المدح والذم، والثواب والعقاب عليها من الله تعالى في الدنيا والآخرة، أي أن محل البحث هو ما يقوم بذات الله تبارك وتعالى من غضب أو رضى، ومن ذم أو مدح، ومن إرادة العقوبة، أو إرادة المثوبة تجاه ذلك الفعل الإنساني المحدد، وهذا لا مجال للعقل أن يحكم فيه إلا بأنه ممكن من الممكنات فقط، لأمور منها:
(1) أن أفعال الله التكوينية، وأحكامه الشرعية، في التحليل النهائي لا تعلل، أي أنها لا تعود لأسباب موجبة أوجبت على الله أن يفعل كذا أو أن يحكم بكذا، بل هي تعود (ولو بعد سلاسل طويلة من الأسباب المتوسطة) إلى الإرادة الحرة، والاختيار المحض: }فعَّال لما يريد{، (البروج؛ 85:16)، }إن الله يحكم ما يريد{، (المائدة؛ 4:1)، }يخلق ما يشاء ويختار، ما كان لهم الخيرة، سبحان الله وتعالى عما يشركون{، (القصص؛ 28:68)، }لا يسأل عما يفعل، وهم يسألون{، (الأنبياء؛ 21:23)، كما أسلفناه في الفصل المسمَّى: (أفعال الله وأحكامه لا تعلل، بل هو يفعل ما يشاء ويختار، ويحكم ما يريد).
والعملية العقلية إنما هي: ربط معلولات بعللها، وربط أسباب بمسببات، وربط نتائج بمقدمات، وإذ أن أفعال الله، جلت قدرته، لا تعلل، وكذا أحكامه (في التحليل النهائي)، لم يعد للعقل إمكانية أصلاً في الوصول إليها، وإنما يدرك العقل فقط أنها من الممكنات المحضة، ولا محيص له من انتظار الخبر بوقوعها فعلياً، إن خرجت من الإمكان إلى الوجود الفعلي، لا فرق بين الأفعال التكوينية التقديرية، والأقضية الدينية الشرعية.
(2) أن الله، جل جلاله وسمى مقامه، لا يلزمه تحليل الطيبات والملذات، وتحريم الخبائث والمؤلمات والمضرات، وإن كان غالب أحكامه هكذا، لا سيما في هذه الشريعة المحمدية المباركة الخاتمة، رحمة ولطفاً بالعباد، لا لأمر وجب عليه، أو سلطة تعلوه وتأمر عليه، تعالى وتقدس. فالله هو السيد التام السيادة، الحر التام الحرية: }يخلق ما يشاء ويختار{، (القصص؛ 28:68)، لا يستحيل عليه شئ، ولا يمتنع عليه شئ، إلا ما تقتضيه «الحقانية»، أي بموجب كونه (الحق) في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وما يترتب على ذلك من الضرورات المفاهيمية المطلقة، ولا يجب عليه شئ، إلا ما أوجبه على نفسه، ولا يحرم عليه شئ إلا ما حرمه على نفسه بموجب «القداسة»، أي بموجب كونه (القدوس) (السلام)، ذي الكمال والجمال والجلال المطلق، السالم من كل عيب ونقص. وقد أشبعنا هذا بحثاً في الفصل المسمَّى: (محمد، صلى اله عليه وعلى آله وسلم: }يحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث{)، فليراجع.
(3) أن أفعال الله تبارك وتعالى ــ كذاته وصفاته ــ لا يقع عليها الحس في الدنيا مباشرة، فلا يمكن لعقل أو حس أن يهتدي لذلك، ولا مناص من الرجوع إلى الخبر الصادق عن الله في ذلك، قال تعالى: }رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيماً{، (النساء؛ 4:165)، وقال تعالى: }وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً v اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباًv من اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولاتزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً{، (الإسراء؛ 17:13).
ومادام الحكم لا يثبت إلا بأحد اثنين: إما الشرع، وإما العقل ومتعلقاته من حس وذوق ونحوه، والعقل لا محل له هنا لأن القضية قضية إيجاب وتحريم، أي قضية ما هو مراد الله، وأي شئ يرضيه أو يسخطه، وهل سيحاسب عليه ثم يثيب ويعاقب؟! والعقل لا يمكن أن يوجب أو يحرم وفق مراد الله، ولا يعلم، بدون الخبر الصادق ما يقوم بذات الله، وليس ذلك منوطاً به، فتعين أن يكون الشرع هو الحاكم فيتوقف الحكم على مجىء الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالرسالة.
أما بالنسبة للرسول فظاهر من صريح الآية: }وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا{، (النساء؛ 4:165). لأن نفي العذاب عن الناس قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، يدل على عدم تكليفهم بالأحكام أو الإعتقادات.
ومن هنا كان القول الصحيح هو: أن أهل الفترة ناجون، وهم الذين عاشوا بين ضياع رسالة وبعث رسالة، ويكون حكمهم حكم الذين لم تبلغهم رسالة، وذلك كمن عاشوا قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أو من لم تبلغهم رسالته، لأن الله تبارك وتعالى ليس يعذب أحداً حتى يسبق إليه من الله خبر أو يأتيه من الله بينة، وليس معذباً أحداً إلا بذنبه، بعد وصول النذارة له، وقيام الحجة عليه، وتبين الحق له.
وعليه فقبل بعثة الرسول، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لا يقال أن حكم الأشياء والأفعال حلال أو حرام شرعاً، لأنه لا حكم لها أصلاً، وإلا لوقعنا في التناقض، الذي يظهر من تأمل قولنا أن الحكم الشرعي هو «الحل»، مثلا، كما قال البعض، أو «الحرمة» كما قال آخرون، ولكننا أيضاً نقول أن الشرع هو الذي ينشيء الحكم إنشاءً، ولكن الشرع لم يأتي بعد، فليس ثمة حكم أصلاً، فيكون الحكم موجوداً ومعدوماً في آن واحد، لشيء واحد، بنفس الشروط وتحت نفس الظروف، وهذا مستحيل!
بل للإنسان أن يفعل ما يريد دون التقيد بحكم، ولا شيء عليه عند الله حتى يبعث إليه رسولا، وحينئذ يتقيد بأحكام الله التي بلغه اياها الرسول حسب ما بلغها له، تماماً كذلك، من غير زيادة ولا نقصان. وهذا حال الناس بعد بعثة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإن عموم آيات الأحكام تدل على وجوب الرجوع إلى الشرع وحده مطلقاً والتقيد به، قال تعالى: }وما اختلفتم فيه من شىء فحكمه إلى الله{، وقال تعالى: }فإن تنازعتم في شىء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر{ وقال تعالى: }وما كان لمؤمن ولامؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم{.
وعليه فإن الحاكم هو الشرع، ولا حكم قبل وروده، والشرع هو الذي ينشيء الأحكام إنشاءً بوروده، وهي معدومة، لا وجود لها، قبل وروده، وما يفعله الإنسان، ويسنه لنفسه، بعقله، وفق ما يسمُّونه بـ(القانون الطبيعي)، أو (الحقوق الطبيعية)، أو شهوته وهواه، قبل ورود الشرع ليس شرعاً ولا حكماً، ولكنه «عدم تكليف»، أي «عدم وجود للحكم الشرعي» فقط لا غير، والعدم ليس شيئاً!
ولذلك فإن العقل ليس حاكماً، أي: ليس مشرعاً على وجه الابتداء والإنشاء، لا قبل ورود الشرع ولا بعد وروده، ولا في حال من الأحوال.
وأما كون العقل هو الذي يحكم بأن الله موجود، وأنه السيد الأعلى المطلق السيادة المستحق للطاعة عقلاً، وأن هذا الرجل المعيَّن نبي صادق من عند الله، وليس متنبئاً كاذباً على الله، وأنه من ثم معصوم ضرورة في التبليغ الصريح عن الله، وأن الصدق حسن، والكذب قبيح، وأن الماء ضروري للحياة، وأن الماء البارد لذيذ شربه للعطشان السليم، فلأن تلك ونحوها قضايا عقلية أو قضايا منطقية أو قضايا حسية، وليست قضايا شرعية، أي ليست تشريعاً على وجه الابتداء والإنشاء. لذلك فهي منوطة بالحس والعقل، قبل مجيء الوحي، وبعد مجيئه، على حد سواء.
فالعقل له وظائف محددة منها: الحكم على القضايا العقلية والحسية، ومن ذلك الحكم بصحة النقل والخبر، وفهم النصوص والمقولات، شرعية كانت أو غير شرعية، وتحليل المفاهيم والمعاني، شرعية كانت أو غير شرعية. وهو متربع على كرسي تلك المملكة، بتشريف الله له، مطلق اليد في ذلك الاختصاص، بإذن الله له. وهذا العقل قد حكم قبل ورود الشرع أن مراد الله، لا يعرف ضرورة، إلا بالخبر الصادق عنه، فقط لا غير. وهو يحكم اليوم، بعد ورود الشرع، بذلك الحكم بعينه، بدون تغيير، ولا زيادة أو نقصان.
فلا صحة إذاً لما قاله بعض الأكابر من: [أن العقل حاكم، نصب النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثم عزل نفسه!]. نعم لا صحة لذلك، بل هذا من زلات العلماء الشنيعة، وأوهام الذهن الفظيعة، وهو هراء محض: فالعقل ما كان حاكماً قط، بالمعنى المنضبط المفصل أعلاه، كما أنه لم ينصب الأنبياء، ولكنه أدرك حقيقة شخصياتهم، ومحتوى دعوتهم، وحكم بصدق نبوتهم، والله، تباركت أسماؤه وتقدست صفاته، هو الذي نصبهم في مناصب النبوة، وهو كذلك الذي نصب العقل في وظيفته. والعقل باقي في وظيفته، التي عينه الرب، جل وعلا، فيها على وجه التأبيد، لم يعزل نفسه، ولا ينبغي أن يعزل نفسه، ومحال أن يعزل نفسه، ويحرم شرعاً أن يعزل نفسه، وإنما عزله من سفه نفسه، وضيع عقله بالكلية ممن كفر بالله ورسله: من الملحدين، والماديين، والعلمانيين، والرأسماليين، والاشتراكيين، والوثنيين، والثنويين، والمثلثين، وغيرهم من ملل الكفر والضلالة.
كما أساء الى العقل، وكف يده، ظلماً وعدواناً، وكفراً بنعمة الله، المبتدعة المنحرفون، والمقلدة الجامدون من المسلمين، وفي مقدمتهم، في زمننا هذا، أعداء الله من فقهاء السلاطين، وأهل الجهل المركَّب المتعالمين، والمقلدة الجامدين، وكثير من الظلاميين من أدعياء «السلفية» من اتباع ابن باز وابن عثيمين والألباني والفوزان والمدخلي والسبت ومن شابههم، وتبعهم، ولحق بهم من السفلة والتافهين والسطحيين والظلاميين، بل وبعض الخونة والدجالين!


توحيد التقديس والعبادة



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق