توحيد التصرف والتدبير

بــــــــــــاب
توحيد التصرف والتدبير

وهو الإعتقاد الجازم بإن الله وحده مدبر الأكوان، المتصرف فيها بذاته، على وجه الاستقلال، المقدر لمقاديرها، فلا يقع فيها شىء إلا بعلمه، وتقديره، وإذنه، ولا يفعل فيها فاعل فعلاً إلا بإذن الله، بما وهب الله له من قدرة على الفعل، وبما ركب فيه من المقادير والخصائص وما طبعه عليه من الطبائع: كل ذلك على وجه التبعية بجعل الله، وتقديره، وعلمه السابق، لا على وجه الاستقلال بقدرة أو إرادة ذاتية.
لقد كان أكثر شرك العرب، وغيرهم من بسطاء المشركين واقعاً في هذا الباب، لذلك جاء القرآن والسنة بما لا يعد ولا يحصى من النصوص المؤكدة على هذا، كما ميز النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، الإيمان بالقدر خيره وشره من الله تعالى، في ركن مستقل من أركان الإيمان، لعلاقة ذلك المباشرة بهذا الموضوع.
v قال تعالى: }ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه، ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون{، (يونس؛ 10:3).
v وقال: }قل من يرزقكم من السماء والأرض؟! أمَّن يملك السمع والأبصار؟! ومن يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي؟! ومن يدبر الأمر؟! فسيقولون الله، قل: أفلا تتقون!{، (يونس؛ 10:31).
ومعلوم بضرورة الحس والعقل، وهو كذلك مؤكد مقطوع بثبوته بنصوص الشرع، أن الكون فيه سنن مطردة، تترتب فيه الأسباب والمسببات على بعضها على نحو اعتيادي دائم: فالنار دائماً وأبداً تحرق الحطب الجاف، وماء المطر العذب ينبت الزرع، وهكذا. والكون مملوء، كذلك، بالكائنات ذات الإرادة والاختيار، التي تفعل وتتحرك، وتذهب وتجيء. كل ذلك ممكنات تترتب على بعضها البعض ويستحيل عقلاً أن يكون ذلك لأمر ضروري ذاتي، لأنها في أصل خلقتها، أي في ذاتها مخلوقة حادثة ممكنة، وليست ضرورية أزلية واجبة، فكيف تكون صفاتها، وهي فرع من أصل، ضرورية أو واجبة؟! فلزم أن يكون ذلك كله بجعل الله، الحي القيوم، واجب الوجود بذاته، القديم الأول بغير ابتداء، الآخر بغير انتهاء.
فكل تلك الوقائع في الكون ليست لأمر ضروري ذاتي، ولا هي على وجه الاستقلال، بل بجعل الله، أي بعلمه، وإرادته، وخلقه، وتدبيره، وإذنه الكوني، لا إله إلا هو، ولا رب سواه، عليه نتوكل، وبه نتأيد.
فالضرورة الذاتية، أو الاستقلال في الفعل لا تكون إلا لإله، واعتقاد تحقق ذلك في غير الله، شرك بالله.
ويتناقض مع هذا القسم من التوحيد أنواع من الشرك الإعتقادى منها، على سبيل المثال، لا على سبيل الحصر:
(أ) قول بعض الصابئة وعبدة الكواكب أن الكواكب ــ أو العقول، والنفوس، والأرواح الملائكية الموجودة فيها ــ تعلم ما العالم السفلي، وهي التى تتصرف في فيه على وجه الاستقلال.
(ب) قول كثير من المشركين ــ ومنهم مشركوا العرب ــ أن صغار الآلهة بما لهم من ذوات إلهية، وصلة نسب وقرابة مع كبار الآلهة، يتصرفون في بعض شؤون العابدين لهم إما مباشرة، أو بالشفاعة من غير استئذان، والوساطة التى لا ترد عند كبار الآلهة.
(ج) قول بعض الفلاسفة «الطبائعيين» أن ترتيب الأسباب والمسببات على بعضها ترتيب ضروري، يستحيل خرقه، بحيث لا ينفك هذا عن هذا مطلقاً. هذا كذلك شرك اعتقادي يناقض الإسلام كل المناقضة، ويخرج من اعتنقه عن الملة، إن كان دخل في الملة قبل ذلك أصلاً. وهو يناقض الحق الذي دلت عليه الأدلة العقلية والشرعية اليقينية التي تبرهن على أن ترابط الأسباب والمسببات ليس بضروري، بل هو «عادي»، وهو «جعلي»، أي بجعل الله لها كذلك، وإذنه بدوام ذلك واستمراره على وجه السنة العادية، لا على وجه الضرورة العقلية أو المفاهيمية المطلقة، التي يستحيل خرقها.
(د) ما ينسب إلى بعض غلاة «القدرية» أن أفعال العباد الاختيارية لا تقع بإذن الله وتقديره، ثم يلتزمون في المناظرة بأنها تقع رغماً عن الله، وأنه، جل وعلا، ما كان قادراً على منعها، تعالى وتقدس، أو نحو ذلك.
ونسارع في التنبهه على أن مقصد أكثرهم ليس بواضح، ولا نعلم قدرياً من أهل الإسلام قال بمثل هذا أو التزم به، إلا أنه لازم لأقوال بعض الغلاة منهم. ولعل هذا سبب تسمية بعض أئمة السلف لهم: (مجوس هذه الأمة)، وهو تعبير يستخدمه الكثيرون، لا سيما إذا حميت المناظرة واشتدت، أو عند التراشق بالقول والتنابز بالألقاب، فتجمح العواطف، وتنحسر الحكمة، ويتراجع العقل، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ونسارع بالتنبيه، على كل حال، أن لازم القول ليس قولاً، إلا إذا أقر به صاحبه والتزم، وإلزام القائل بما لم يلتزمه ظلم وعدوان، وهي طريقة أهل الجدل والمراء، بل أهل البدع والأهواء، ولكن تفصيل ذلك محله غير هذه الرسالة، والحمد لله رب العالمين.
والذي يظهر لنا أن غلاة «القدرية» إنما أنكروا فقط أن يتعلق «العلم الإلاهي السابق» بنتيجة أفعال العباد الاختيارية، مع علم الله السابق بكل الاحتمالات الممكن تحققها، وإذنه بتحقق أي منها عند انعقاد الإرادة، وحدوث الفعل. فمن المحال عندهم أن يقع شئ من ذلك بغير إذن الله، وهو القادر أزلاً وأبداً على منع ذلك: لا يغالبه غالب، ولا يفلت منه هارب.فليس عندهم شرك في «التصرف والتدبير»، ولا محل لنبزهم بجملة: (مجوس هذه الأمة). ولكن تبقى إشكالية «العلم الإلاهي السابق»، وهو بحث خطير عويص، ليس هذا محله.
ما سلف إنما هي قائمة بأوضح وأشهر الأمثلة التي وقعت لنا، وربما وجد غيرنا الكثير من مثيلاتها، أو مزيداً من الأمثلة على جزئياتها، فأنواع الشرك وظلماته كثيرة متراكبة متشابكة، كظلمات بحر لجي من فوقه موج من فوقه سحاب، ظلمات بعضها فوق بعض، والهدى والنور واحد مبين ساطع: وهو ما جاء به محمد، رسول الله وخاتم النبيين، عليه وعلى آله صلوات وتسليمات وتبريكات من الله الملك الحق النور المبين، والحمد لله رب العالمين.
نعم: ها هنا أصاب الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية في إدخال «التدبير» و«التصرف» تحت عنوان «توحيد الربوبية»، لأن مفاهيم التصرف والتدبير، فرع لمفاهيم «السيادة» و«التملك»، وهي بالضرورة بعضها، كما أسلفناه عند مناقشة مفهوم: «الرب».
غير أنه يجب أن يعلم هنا كذلك علماً يقينيًا لا يتطرق إليه الشك أن العبرة هى بحقيقة المعتقد وجوهر محتوى التصور بغض النظر عن الأسماء والألفاظ. فمن زعم:
(1) أن لغير الله، عند الله، شفاعة لا ترد، أو لا تحتاج الى استئذان،
(2) أو أن غير الله يجير على الله،
(3) أو أن غير الله يستطيع الإفلات من «قبضة» الله،
(4) أو أن غير الله يتصرف في الكون بغير إذن من الله، ولا مشيئة، ولا تقدير،
(5) أو أن غير الله له قدرة وتصرف تضاهي قدرة الله،
(6) أو أن غير الله خارج عن السيطرة الإلهية بحيث يستطيع الإفلات أو الهروب من الله تعالى فيعجزونه هرباً (كاعتقاد بعض جهلة العوام من الأفارقة وغيرهم، في الجن، والأرواح السفلية، والشيطانية)،
(7) أو أن الله لا يتصرف ويدبر الخلائق مباشرة، بل «يحتاج» واسطة بينه وبين الخلائق تدبر نيابة عنه، وترفع المطالب من أسفل إلى أعلى إليه، كقول عبدة النجوم، والعقول السبعة، أو العشرة، وغيرهم،
(8) أو أن غير الله يدبر الخلائق، ويتصرف في أمرهم، لأن الله إنما يعلم فقط الكليات، ولا يعلم أحوال العباد الجزئية، فتقوم العقول والنفوس الفلكية، أو الملائكة، أو الآلهة الثانوية، بمباشرة تدبير الكون، ضرورة ولا بد،
من زعم شيئاً من ذلك فقد جعل ذلك الغير متصفًا ببعض صفات الألوهية، أي استحقاق العبادة، أي جعله لله نداً، وجعله مع الله إلهًا آخر، وذلك بغض النظر عن تسميته، سواء سماه إلهاً، أو سماه شفيعًا، أو وسيطاً، أو وليًا، أو ملكاً، أو عقلاً فلكياً، أو غير ذلك، إذ العبرة بمحتوى وحقيقة المعتقد وليس بالتسميات.
نعم: من زعم شيئاً من ذلك في غير الله، فقد جعل ذلك «الغير» إلهًا من دون الله بغض النظر عن الأسماء والألفاظ. وكذلك بصرف النظر عن فعل العبد المترتب على ذلك: هل هو تقديس، ومحبة، وتقرب، وطاعة؛ أو هو كراهية، ومعاداة، وتباعد، وعصيان، أو عدم اهتمام ولا مبالاة: إذ العبرة، دائماً وأبداً، بمحتوى وحقيقة المعتقد، وليس بالتسميات والألفاظ، ولا بأفعال العباد المترتبة على تلك المعتقدات، كما أسلفنا، وكما سنشبعه أيضاً في بقية هذه الرسالة، بحثاً ومناقشة، وتأصيلاً وتفريعاً.


توحيد التشريع والحاكمية


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق