بــــاب
رأس أقسام التوحيد: تـوحـيـد الـذات
«توحيد الذات» هو رأس أقسام التوحيد، وهو الاعتقاد الجازم بأن الله سبحانه وتعالى هو الحي القيوم، وهو الحق المبين، وهو الأول والآخر والظاهر والباطن، وهو بكل شيء عليم. فهو وحده الأول، فليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شىء، وهو وحده واجب الوجود، الغنى بذاته، الأزلي القديم، الأول الموجود بغير ابتداء قبل جميع الأزمنة والدهور، الدائم الباقي بغير انتهاء بعد انقضاء الأزمنة والأيام والعصور. لم يتولد من شيء، ولا يتولد منه شيء.
كل ذلك ثابت بالضرورة، وبالبراهين العقلية والفطرية القاطعة، قبل ورود الشرع، ذكرنا منها طرفاً يسيراً في ما مضى، أي أنه قضية عقلية وجودية لا شك فيها، ثم جاء الشرع مؤيداً، ومذكرا بها، ومفصلا لمعانيها، ومحولاً لها من مجرد تقرير لواقع، أي من مجرد قضية وجودية فلسفية أو عقلية، أو ضرورة منطقية، إلى عقيدة دينية شرعية: يتقرب إلى الله بالإيمان بها، والعمل بقتضاها:
v وذلك في مثل قوله، تعالى، مفصلاً مبيناً: }قل هو الله أحد v الله الصمد v لم يلد ولم يولد v ولم يكن له كفواً أحد{، (الإخلاص؛ 112:1-4).
v وقوله:: }هوالأول والآخر، والظاهر والباطن، وهو بكل شيء عليم{، (الحديد؛ 57:3).
v وقوله: }الله لاإله إلا هو الحي القيوم{، (آل عمران؛ 3:2).
v وقوله، جل جلاله، آمراً موجباً: }يا أيها الذين آمنوا: آمنوا بالله ورسوله، والكتاب الذي نزَّل على رسوله، والكتاب الذي أنزل من قبل؛ ومن يكفر بالله وملاتئكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالاً بعيداً{، (النساء؛ 4:136).
وهو فعال لما يريد، يفعل ما يشاء ويختار، وهو «كلي القدرة» أي أنه على كل شيء قدير، وهو «كلي العلم» أي أنه بكل شيء عليم، خلق كل شيء فقدره تقديرًا، رب كل شيء ومليكه. السيد المطلق السيادة، المتصرف في جميع الخلائق بالأمر والنهي، الموصوف بكل صفات الكمال والجمال والجلال، لا رب غيره ولا إله سواه.
وكل ذلك حق ثابت في ذاته، يجب التصديق به تصديقاً جازماً لا شك فيه، ولكن هذا لا يكفي، بل تجب إضافة الإقرار به، والتلفظ بذلك الإقرار، والالتزام بمقتضى ذلك: ليس لأنه حق في ذاته، وهو وايم الله كذلك، بل تدينا وتقرباً إلى الله،.
نعم: تجب إضافة ذلك كله، أي الإقرار به، والتلفظ بذلك الإقرار، والالتزام بمقتضى ذلك تديناً وتقرباً وتعبداً لله، حتى يتحول ذلك اليقين من مجرد يقين، وتصديق جازم بمجموعة من الحقائق الخبرية، أو المقولات النظرية الفلسفية، أي اعتقاد نظري، أو وجهة نظر فلسفية محضة، لا علاقة له بالدين أو التدين، ولا قيمة لها في الآخرة،، إلى إيمان ديني، أي عبادة اعتقادية، تترتب عليه التزامات معينة، تحددها تلك العقيدة. وهذا الإيمان الديني الشرعي هو سبيل النجاة في الآخرة، لأنه هو المطلوب ديناً وشرعاً.
وكل أنواع التوحيد تتفرع في الحقيقة من هذا الأساس، وإنما جرى فصلها في أقسام متميزة، لتسهيل دراستها، ولوقوع أنواع متميزة من الشرك بقسميه، الاعتقادي والعملي، في كل قسم منها.
وهذا التفريع، الذي هو الموضوع الرئيس لهذا الكتاب لم ينشأ من قسمة متخيَّلة، أو تعريفات موهومة تستند إلى ألفاظ لم يتم تعريفها بدقة، أو مزاعم مرسلة مجردة عارية عن البرهان، ولكنه إنما نشأ:
أولاً: من إستقراء آي الذكر الحكيم، مدعومة بنصوص صحيحة ثابتة من السنة النبوية الشريفة،
وثانياً: من النظرة الفاحصة المدققة إلى عقائد العرب قبل الإسلام، وعقائد وأديان غيرهم من الأمم والشعوب في المرتبة الثانية، لا سيما زمن نزول القرآن الذي جاء مخاطباً لها، كما سنفصله في باقي هذه الرسالة إلى درجة الإشباع.
ويناقض هذا القسم من التوحيد أنواع من الشرك الاعتقادي منها:
(أ) اعتقاد تعدد الذوات الإلهية في مذاهب مختلفة منها الفلسفي المتنطع المعقّد، ومنها العامي الساذج، ومن أمثلة ذلك:
ــ قول بعض الفلاسفة بتعدد القدماء، كقول أرسطو بقدم العالم وأزليته، مع قدم الله، وقول آخرين بقدم المادة الخام غير المصورة، المسماة بالهيولى: فهذا شرك في الذات حيث جعلوا مع الله ذوات قديمة، واجبة الوجود، غنية بذاتها، لم يخلقها الله تبارك وتعالى، بالرغم من قولهم أنه وحده المستحق للعبادة فهم يجمعون بين شرك وتوحيد: شرك في الذات، وتوحيد في العبادة، فلم يقل أحد منهم قط، فيما نعلم، بأن «الهيولي» تستحق العبادة. وهذا كما ترى قول فلسفي معقد، ظاهر البطلان، كما بيناه آنفاً.
ــ القول بإلهين أزليين قديمين: إله الخير (النور أو الله)، وإله الشر (الظلمة أو الشيطان) كما هو قول طائفة من الثنوية المجوس، فهذا كذلك شرك في الذات، وقد يرى بعضهم قصر العبادة والمحبة على الأول، أي على إله الخير، وبغض الثاني وعداوته والكفر به. وربما رأى بعضهم قصر المحبة على الأول، وعبادة الإثنين فيعبد الأول ويحب، ويعبد الثاني، أي يتذلل له، ويخضع لاكتفاء شره، والسلامة من ضرره ونقمته، مع الكراهية والبغضاء، وهذا كما ترى قول فلسفي، ولكن كثيرًا من عوامهم يدركه ويعتقده، وهو قول باطل، لا شك في بطلانه، بالبراهين اليقينية آنفة الذكر، وبغيرها، وهو طيب كثير، يحتاج إلى المؤلفات المستقلة، والأبحاث المتكاملة.
ــ الاعتقاد بأن الألوهية، كالإنسانية، اسم جنس تتعدد أفراده ويجوز عليهم التناسل والتوالد، كما تختلف مراتب أولئك الأفراد ودرجاتهم: فهذا رئيس، وذاك مرؤوس، وهذا كبير، وذاك صغير، بل هذا ملك، وذالك رقيق مملوك، كالبشر سواء بسواء. وليس القدم أو الأزلية متطلب ضروري لمفهوم الألوهية عند هؤلاء: فالآلهة عندهم تنشأ وتولد، بعد أن كانت معدومة، ولا يستغرب أن تفنى بعد ذلك؛ ومن باب أولى لا يشترط في الإله، عندهم، الكمال أو السلامة من النقص، بل إن نصيب بعض الآلهة من المخازي والفضائح كالزنا والسرقة، وغيرها، أكثر من غيرها!
هذا هو اعتقاد جمهور بسطاء المشركين كالمصريين القدماء، واليونان، وأكثر مشركي العرب، وعوام الهنود، بل هو جوهر كل شرك في العالم. ويجوز عند أكثر هؤلاء المشركين أن يتزاوج البشر والآلهة منتجين أنصاف آلهة أو عمالقة، كما تتزاوج الآلهة والجن منتجة الملائكة، إلى غير ذلك من العجائب والمخازي!!
كما تختلف الآلهة المزعومة في قدراتها وإختصاصاتها: فهذا إله للشمس، وآخر للحرب، وثالث للبحر، وتلك للحب، وهذه للصيد، والثالثة للموت والفناء، وهذا ينبت الزرع، والآخر يحمي التجار، بل يوجد إله متخصص في رعاية اللصوص، إلى غير ذلك من الأقوال الساقطة المتناقضة المنكرة.
فلا يستغرب أن يهتف أحدهم: (لبيك لاشريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك)، فهو يعتقد وجود آلهة أخرى، شركاء لله، وإن كانوا في مرتبة الرقيق المملوك مع كونهم من (جنس) أو (قبيلة) أو (صنف) الآلهة، وليس هو إقرار منه بأن الشريك المملوك مخلوق مربوب وليس من (جنس) الآلهة أصلاً، كما وهم من قرأ هذا النص، ولم يجمعه مع غيره من النصوص والمعلومات والأخبار المتضافرة فظن أن لفظة (تملكه وما ملك) تدل على اعتقاد القائل أن ذلك (المملوك) ليس إلاهاً، وإنما هو عبد مخلوق مربوب لا يملك لنفسه موتاً أو حياة أو نشوراً، ولعله ميت مقبور، على قبره قبة أو ضريح مشيَّد، ومع ذلك فقد (عبده) القوم، وجعلوه من ثم شريكاً مع الله!
ومع ذلك فليس في هذه اللفظة: (تملكه وما ملك)، ما يدل على أنهم يعتقدون أن المملوك ليس من جنس المالك ولا نوعه، فليس فيه أنهم يعتقدون: (أن المالك إله ورب وسيد، والمملوك هو بالضد من ذلك، ضرورة، عبد مخلوق مربوب لا يملك لنفسه موتاً أو حياة أو نشوراً)، ومن زعم أن هذا هو قطعاً وحصراً قصدهم، ومعنى قولهم، خلافاً لقرائن التاريخ المتضافرة، فعليه البرهان، اليقيني القاطع، وإلا فهو متحكم، قائل بالكذب.
والغريب أن قوماً يستدلون بهذا النص لنصرة باطلهم، ويحللون ألفاظه كأنه قرآن منزل، وهم بلا شك يعلمون أن المشركين هم في الذروة، أو بالأحرى في الحضيض، من تفاهة الفكر، وضحالة الفهم، وانعدام التدقيق، فكيف تصبح جملهم الموهمة، وألفاظهم المجملة، وعقولهم السطحية التافهة حجة؟! وكيف تضاع الأوقات والأعمار في مناقشة مقصودهم من مثل هذا اللفظ السخيف؟!
(ب) اعتقاد تعدد الأقانيم في ذات واحدة. وهذه أقوال معقدة متناقضة لا يقول بها إلا المتنطعون من الفلاسفة ونحوهم من المتقعرين الذين يحاولون الجمع بين توحيد الذات، وبين ما تورطوا فيه من شرك، فبدلاً من ترك الشرك كليةً والعودة إلى التوحيد إذا بهم يقعون في أقبح الأقوال وأكثرها تناقضًا فجعلوا الوحدة كثرة والكثرة وحدة، وهي مصادمة صريحة لضرورات العقل وبديهياته، كما نسبوا إلى الله عزوجل ما يتنزه عنه البشر ويعدونه جنونًا ومرضًا نفسيًا مثل «انفصام الشخصية» وتعددها، ومن أمثلة ذلك:
ــ تثليث النصارى أي قولهم أن الله آلهة ثلاثة هي الأب والإبن والروح القدس ثلاثة أقانيم أو ثلاثة أوجه لذات واحدة فهو واحد في ثلاثة أو ثلاثة في واحد. وقد عسر ذلك حتى على الحذاق من متكلميهم ونظارهم فقالوا أن «الثالوث المبارك» سر إلهي لا يدرك، ولا يتصور، ولا يفهم، وما علينا إلا الإيمان والتسليم!!
ــ تثليث البراهمة في قولهم أن الله الواحد له ثلاثة اوجه: «براهما» الخالق الموجد المكون، «فيشنو» الحافظ الرازق، إله الخير والرحمة، و«شيفا» المميت المدمر، إله الشر والنقمة.
ــ ومن ذلك قول بعض الثنوية بالقوة الكونية الخالقة ذات الجانبين: الجانب الخيّر المضيء، والجانب الشرير المظلم. واحد في إثنين، وإثنين في واحد، وهناك حملة يشبه أن تكون مدبرة منظمة تقوم بها بعض دور انتاج الأفلام السينمائية، وفئات من المخرجين لترويج هذه الخرافات بإلباسها لباساً عاطفياً، وزجها في النسق الكوني العام، كما هو في مسلسل «حرب النجوم»، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً!
ونسارع فنقول أن استخدامنا لعبارة «انفصام الشخصية» ليس هو للتشنيع أو الإهانة، بل قد استخدمه فيلسوف وأستاذ جامعي نموذجاً لتقريب مفهوم «الثليث»، أو لتقريب معضلة وجود طبيعتين ومشيئتين للسيد المسيح في ذات واحدة، إلى أذهان القراء؟!!
(جـ) تحول غير الإله الى إله بالحلول والاتحاد فتنشأ بذلك ذوات إلهية جديدة لم تكن موجوده من قبل، مثل اعتقاد قلة من ملاحدة «الصوفية» الكفار في سيدي أبي القاسم محمد، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وفي بعض «أغواثهم»، و«أقطابهم»، واعتقاد جمهور النصارى في عيسى بن مريم، صلوات الله عليه وعلى والدته، الذي هو حلول الله، أو بلفظ أدق «أقنوم» الأبن، أو الكلمة، التي هي «المسيح» الإلهي، في جسد عيسى البشري، فتركب من ذلك عيسى المسيح، الذي هو بشر بوصفه عيسى المكون من لحم ودم، وكائن إلهي «سماوي»، الذي هو المسيح: وهذا كذلك اعتقاد فرقة صغيرة بائدة من النصارى في والدته «مريم»، صلوات الله وسلامه عليها وعلى ابنها.
وكل هذه المعتقدات باطلة في ذاتها، لا وجود لواقع لها إلا في الأذهان المختلة، والعقول الخرافية للمؤمنين بها كما دلت على ذلك البراهين اليقينية القاطعة أن واجب الوجود كائن واحد فقط، من غير زيادة ولا نقصان، فليس ثمة جنس أو نوع أو أمة أو قبيلة من واجبات الوجود تتعدد أفرادها، بل هو واحد أحد فرد فقط، من غير زيادة ولا نقصان، كما أسلفنا برهانه عند ذكر أدلة التوحيد.
u تعقيب مهم: أسلفنا أن الاعتقاد بـ(أن الألوهية، كالإنسانية، اسم جنس تتعدد أفراده ويجوز عليهم التناسل والتوالد، كما تختلف مراتب أولئك الأفراد ودرجاتهم: فهذا رئيس، وذاك مرؤوس، وهذا كبير، وذاك صغير، بل هذا ملك، وهذا سوقة، وهذا مالك حر، وذالك رقيق مملوك، كالبشر سواء بسواء)، أسلفنا أن هذا هو اعتقاد جمهور بسطاء المشركين كالمصريين القدماء، واليونان، وأكثر مشركي العرب، وعوام الهنود، وغيرهم.
أما العرب العدنانية ــ عرب الشمال ــ وقريشا بالأخص فقد كانت لهم جملة من الآلهه أكثرها إناث ــ كاللات والعزى ومناة وغيرها ــ يعتقدون أنها ملائكة، وأن الملائكة بنات الله، وربما اعتقدوا أن بين الله ــ تعالى عن ذلك ــ وبين الجن نسب ومصاهرة. ولكنهم لقرب عهدهم بالتوحيد، في ملة ابراهيم، كانوا ينسبون أكثر الخلق، والتصرف في الكون إلى الله تبارك وتعالى، بوصفه كبير الآلهة، أو رئيس قبيلة الآلهة، أو والد الآلهة، كما هو ظاهر من مناقشة القرآن لهم، وإيقاعه إياهم في التناقض بسبب ذلك. فهم كسائر عوام المشركين في شتى أنحاء الدنيا، إلا أن الله، تبارك وتقدس، بوصفه رئيس الآلهة وكبيرهم، ووالد نفر منهم، أعظم مكانة، وأوسع سلطاناً مما تجده عند غيرهم من مشركي الأمم الأخرى التي يكون رئيس الآلهة، إن وجد أصلاً، أقل سلطة، وأضعف نفوذاً!
نقول: (ينسبون أكثر الخلق، والتصرف في الكون إلى الله تبارك وتعالى)، وليس كل ذلك، أو التفرد به إلى الله، جل جلاله، كما سنقيم عليه قواطع الأدلة في هذه الرسالة.
وقد أدى الفهم المتعجل لهذا، وعدم ملاحظة جميع النصوص والروايات والأخبار في نفس الوقت، مع الحدة في المناظرة التي قد تنحرف بالإنسان إلى المراء المذموم، أدى ذلك ببعض الأكابر، مثل شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، وتبعه في ذلك الإمام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، إلى توهم أنهم كانوا يقرون بما أسمياه: «توحيد الربوبية»، وأن شركهم يقتصر على شرك في ما أسمباه «الألوهية». هذا خطأ فادح أدى إلى تخليط كبير، وتقاسيم باطلة، ما أنزل الله بها من سلطان، وإرباك وقصور في مفهوم «العبودية» التي إنما خلق الخلق لها، ومسخ وبتر لمفهوم «التوحيد»، الذي تحول إلى مجموعة من مباحث ثانوية، بعضها طريف مضحك، عن «القبور» و«التوسل»، وإلى نتائج أخرى مخيفة سنأتي على ذكرها في مواضعها أولاً فأول، وما كتبنا هذه الرسالة إلا لإزالة هذه الإلتباسات الجسيمة، والإشكالات الكبيرة، نسأل الله التوفيق لرفع الخلاف، وإيضاح الإشكال، مبتدئين هذا بفصل عن حقيقة شرك العرب، وكيف تغير دين إبراهيم، في أواخر هذا الباب.
u فصل: بعض ما يتعلق بالأسماء الحسنى
للإمام أبي حامد الغزالي رسالة قيمة كاملة في «أسماء الله الحسنى» سماها: «المقصد الأسنى، في أسماء الله الحسنى» نص فيها على أن الأسماء الحسنى، على كثرتها، ليست مترادفة، وأوجب أن يتضمن كل اسم منها معنىً لم يتضمنه غيره، ذلك لأن: (الأفعال كثيرة والإضافات كثيرة والسلوب كثيرة ويكاد يخرج جميع ذلك عن الحصر ثم يمكن التركيب من مجموع صفتين أو صفة وإضافة أو صفة وسلب أو سلب وإضافة ويوضع بإزائه اسم فتكثر الأسامي بذلك وكان مجموعها يرجع إلى ما يدل منها على الذات أو على الذات مع سلب أو على الذات مع إضافة أو على الذات مع سلب وإضافة أو على واحد من الصفات أو على صفة وسلب أو على صفة وإضافة أو على صفة فعل أو على صفة فعل وإضافة أو سلب فهذه عشرة أقسام:
الأول: ما يدل على الذات كقولك: «الله»، ويقرب منه اسم «الحق» إذا أريد به الذات من حيث هي واجبة الوجود.
الثاني: ما يدل على الذات مع سلب مثل القدوس والسلام والغني والأحد ونظائره فإن القدوس هو المسلوب عنه كل ما يخطر بالبال ويدخل في الوهم، والسلام هو المسلوب عنه العيوب، والغني هو المسلوب عنه الحاجة، والأحد هو المسلوب عنه النظير والقسمة.
الثالث: ما يرجع إلى الذات مع إضافة كالعلي والعظيم والأول والآخر والظاهر والباطن ونظائره فإن العلي هو الذات التي هي فوق سائر الذوات في المرتبة فهي إضافة، والعظيم يدل على الذات من حيث تجاوز حدود الإدراكات، والأول هو السابق على الموجودات، والآخر هو الذي إليه مصير الموجودات، والظاهر هو الذات بالإضافة إلى دلالة العقل، والباطن هو الذات مضافة إلى إدراك الحس والوهم، وقس على هذا غيره.
الرابع: ما يرجع إلى الذات مع سلب وإضافة كالملك والعزيز فإن الملك يدل على ذات لا تحتاج إلى شيء ويحتاج إليه كل شيء. والعزيز هو الذي لا نظير له وهو ما يصعب نيله والوصول إليه.
الخامس: ما يرجع إلى صفة كالعليم والقادر والحي والسميع والبصير.
السادس: ما يرجع إلى العلم مع إضافة كالخبير والشهيد والحكيم والمحصي فإن الخبير يدل على العلم مضافا إلى الأمور الباطنة، والشهيد يدل على العلم مضافا إلى ما يشاهد، والحكيم يدل على العلم مضافا إلى أشرف المعلومات، والمحصي يدل على العلم من حيث يحيط بمعلومات محصورة معدودة التفصيل.
السابع: ما يرجع إلى القدرة مع زيادة إضافة كالقهار والقوي والمقتدر والمتين فإن القوة هي تمام القدرة والمتانة شدتها والقهر تأثيرها في المقدور بالغلبة.
الثامن: ما يرجع إلى الإرادة مع إضافة أو مع فعل كالرحمن والرحيم والرؤوف والودود فإن الرحمة ترجع إلى الإرادة مضافة إلى قضاء حاجة المحتاج الضعيف، والرأفة شدة الرحمة، وهي مبالغة في الرحمة، والود يرجع إلى الإرادة مضافا إلى الإحسان والإنعام، وفعل الرحيم يستدعي محتاجا، وفعل الودود لا يستدعي ذلك، بل الإنعام على سبيل الابتداء يرجع إلى الإرادة مضافا إلى الإحسان وقضاء حاجة الضعيف وقد عرفت وجه ذلك فيما تقدم
التاسع: ما يرجع إلى صفات الفعل كالخالق والبارئ والمصور والوهاب والرزاق والفتاح والقابض والباسط والخافض والرافع والمعز والمذل والعدل والمغيث والمجيب والواسع والباعث والمبدئ والمعيد والمحيي والمميت والمقدم والمؤخر والوالي والبر والتواب والمنتقم والمقسط والجامع والمانع والمغني والهادي ونظائره
العاشر: ما يرجع إلى الدلالة على الفعل مع زيادة كالمجيد والكريم واللطيف فإن المجيد يدل على سعة الإكرام مع شرف الذات، والكريم كذلك، واللطيف يدل على الرفق في الفعل).
انتهى كلام الغزالي بتصرف يسير، وهو كلام جميل، فيه تحرير وتقسيم جيد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق