أسلفنا أن العالم كله، بما في ذلك الكون المرئي وغيره من الأكوان غير المرئية، والأكوان القديمة التي بادت وذهبت قبل كوننا هذا، إن كان ذلك قد وقع أصلاً، والأكوان التي ستأتي وليست هي موجودة الآن بعد، أي كل الممكنات، أي كل الكائنات والموجودات، باستثناء الله الحي القيوم واجب الوجود الأحد، إنما خلقها الله، ووضع نظامها، وقدر مقاديرها، وحدد شروطها الابتدائية المحددة لمسار تطورها، وعلم على التفصيل والإجمال ما سيكون واقعاً فيها، وأذن بوقوع ذلك كله، ولو لم يأذن بوقوعه وخروجه إلى الوجود لما خرج إلى الوجود فعلاً، ضرورة ولا بد بحكم العقل، لا محيص من التسليم لها، وهكذا جاء الشرع آمراً بالإيمان والتسليم بـ(القدر خيره وشره من الله تعالى).
ومن حق قائل أن يقول: خيره، فهمناها، وعلى العين والرأس، ولكن شره؟!
نعم، وشره: بغض النظر عن كون الإنسان قد يحكم على أمور حكماً خاطئاً أو نسبياً بأنها شر من وجهة النظر الإنسانية المحدودة، لأنها مؤلمة مثلاً، كافتراس أسد كاسر لإنسان، وهي ليست كذلك، أي ليست شراً، أو ليست شراً بإطلاق، بل هي بعض ما يقتضيه تناسق نظام الكون، واطراد قواعده.
وقد يكون ما يسميه الإنسان شراً، هو شر بحق، كمعصية أمر الله، من بعض المخلوقين، المتمتعين بالعقل والإدراك والتمييز، الذين منَّ الله عليهم بحرية الإرادة والاختيار، وهي حرية حقيقية، فهم فاعلين بالاختيار في داخل هذا الكون، وفي إطار نظامه. فبدلاً من شكر المنعم بطاعته، والإحسان إلى خليقته، انقلب هذا الإنسان إلى خصيم مبين، فعصى وتمرد، وأجرم وتجبر، ونشر الفساد والدمار، وأهلك الحرث والنسل: هذا شر قطعاً! وما كان هذا ليقع ويخرج إلى الوجود إلا بإذن الله ورخصته، بالرغم من كراهية الله لذلك وسخطه على فاعله، ومن المحال عقلاً، وشرعاً، أن يكون غير ذلك.
قد يقول قائل هذا ثمن زهيد في مقابل نعمة العقل والتمييز، والإرادة الحرة، وهو مترتب عليها ضرورة. فمن المحال أن يتمتع مخلوق بالعقل والتمييز والإرادة الحرة، ثم يمنع من اختيار ما يريد مع تحمله لكافة مسؤوليته.
فنقول: نعم، ولكن هذا لا يفسر لم وقع اختيار الله على كون كهذا، فلولا خلق كوناً من الآلات المجبرة، أو الملائكة المعصومة المسخرة المسيرة؟! والجواب لأن الله، جل جلاله، وتباركت أسماؤه، هكذا هو، كما هو هو: ولن تدرك ذلك إلا إذا أحطت به علماً، وهذا محال.
فليس لك إذاً إلا القبول والتسليم، بضرورة العقل، قبل ورود الشرع: فكما سلمت بأنه موجود، وأنه الأزلي الأول واجب الوجود، فكذلك سلم بهذه، أي أن: (القدر خيره وشره من الله تعالى).
فإذا بلغت هاهنا فتوقَّف وأمسك: فليس فوق الله مرجعية، ولا لفعله مسائلة، ولا لقضائه تعقيب أو مراجعة، لأنه هو غاية الغاية، ونهاية النهاية.
وهبك أردت أن تراجع أو تعقب أو تقاضي أو تحاكم، فإلى من يا ترى؟!
(1) إلى واجب وجود آخر يعلو عليه أو يساويه في المرتبة؟! ولكن ما ثمة في الوجود واجب غيره، فاستحال هذا!
(2) أو إلى عقلك، أو عقول جمهور العقلاء من المخلوقين: فهذا العقل من خلق الله، والعقل نهائي ممكن، دون الله في المرتبة، فكيف يحكم الأسفل على الأعلى؟!
ولو تواقحت وحكمت بعقلك الأدنى أن ما تسميه شراً، غير مقبول، وأنه ظلم وتجاوز من الله، تعالى الله عن ذلك، فكذلك عقلك ليس بموثوق به، فلعله مختل في أصل خلقته، فكما أنك جوَّزت أن الله، تعالى وتقدس، ظلم، فكذلك يجوز أن يكون قد تلاعب وعبث: فخلق عقلك آلة مختلة، لا تصلح للحكم، فبعض أحكامها مناقض للحق. بل إن الحق والصدق لم يعد لهما معنى أصلاً، وكذلك الخير والشر: فمرحباً بك في مصحة الأمراض العقلية!!
(2) أم إلى «عقله»، أي علمه وإدراكه المحيط بكل شيء؟! هذا تحاكم حسن جميل، ولكنه وقع فعلاً، وفرغ منه: ولولا أنه، تبارك وتعالى، قد حكم (من قبل أن تخلق أنت أصلاً، وتأت مجادلاً محاججاً) أن هذا الكون حسن جميل، (من وجهة نظره هو طبعاً، وبالضرورة، تعالى وتقدس)، وأهل أن يخلق هكذا، بهذه الصفة، لولا ذلك لما خلقه أصلاً، ولما كنت أنت ها هنا تجادل وتسأل، وتطلب التحكيم: فمجرد وجودك اليوم ها هنا، وتساؤلك وجدالك، هو «عينه» جواب سؤالك، والحكم الفصل في قضيتك!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق