لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق

لقد دلت النصوص المتافرة من الكتاب والسنة على وجوب طاعة الحكام الشرعيين، وأن معصيتهم حرام، ولكن الطاعة الواجب على الأمة التقيد بها ليست طاعة مطلقة، إنما هي طاعة في حدود رسم الشارع دائرتها، وحدد شروطها وحدودها وقيودها، أي في حدود الشرع، كما فصلناه في كتابنا: «طاعة أولي الأمر: حدودها وقيودها».

وقد نصت آية الأمراء على وجوب الطاعة للحكام الشرعيين، بقوله تعالى: (ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)، (النساء؛ 4:59). والطاعة أمر أساسي لوجود الانضباط في الدولة، ولصيانة وحدة الأمة. فالله سبحانه أمر بالطاعة، فيما يظهر، لأول وهلة، أنه طاعة مطلقة غير مقيدة، إلا أنه ألمح إلى إمكانية وقوع الخلاف والنزاع وبين كيف يكون الرد في تلك الحالة. فطاعة أولي الأمر هذه ليست لذاتها، وإنما هي بناء على أمر الله بطاعتهم. فهي فرع لطاعة الله، وليست أصلاً.

ثم جاءت السنة تؤكد ذلك وتأمر بالطاعة للحكام في أي حال من الأحوال إلا أن يكون المأمور به معصية، فعن إبن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «على المرء المسلم الطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» فحدود الطاعة هي: الكتاب والسنة، فلا يحل لمؤمن طاعة حاكم في أمر خارج عنهما، وعن أبي عتبة الخولاني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «لاتحرجوا أمتي، ثلاث مرات. اللهم من أمر أمتي بما لم تأمرهم به فإنهم منه في حل». فلا يجوز للحاكم أن يفرض على الأمة قانوناً لم يستنبط استنباطاً شرعياً صحيحاً، فضلاً عن كونه قانوناً من صنع البشر، وكذلك يحرم على الأمة طاعته في ذلك، إلى غير ذلك من القيود والشروط لطاعة الحكام، المفصلة في كتابنا «طاعة أولي الأمر: حدودها، وقيودها».

ولقد جاءت الأية الكريمة الآنفة الذكر وهي قوله تعالى: (يأيها الذين ءامنوا أطيعوا الله والرسول وأولى الأمر منكم)، بأسلوب بديع معجز، وضع هذه الطاعة في مكانها اللائق بها، كما قاله الألوسي في روح المعاني: [وأعاد الفعل وإن كانت طاعة الرسول مقترنة بطاعة الله اعتناء بشأنه عليه الصلاة والسلام، وقطعاً لتوهم أنه لا يجب امتثال ما ليس في القرآن الكريم وإيذاناً بأنه له ــ صلى الله عليه وسلم ــ استقلالا بالطاعة لم يثبت لغيره، ومن ثم لم يعد في قوله سبحانه : (وأولي الأمر منكم) إيذاناً بأنهم لا استقلال لهم فيها استقلال الرسول، صلى الله عليه وسلم].

إذن فطاعة أولي الأمر تابعة لطاعة الله ورسوله، وليست مستقلة، أما الطاعة في المعصية فقد اتفق أهل العلم على أن الطاعة في المعصية لا تجوز كما ذكر النووي إجماعهم في شرحه لصحيح مسلم.

وأصل هذا الاتفاق ضرورة الشرع والعقل لأن الطاعة الواجب على الأمة التقيد بها ليست طاعة مطلقة، إنما هي طاعة في حدود رسم الشارع دائرتها، أي في حدود الشرع، كما أسلفنا.

وطاعة أولي الأمر هذه كذلك ليست مستقلة بذاتها ولذاتها، وإنما هي بناء على أمر الله بطاعتهم. فهي فرع لطاعة الله، وليست أصلاً. وهي أدنى، بالضرورة، مرتبة من طاعة الله، التي هي الطاعة الأصلية العليا المطلقة. والضرورة الشرعية والعقلية تقتضي وجوب اندراج أوامر الجهة السفلى الفرعية تحت أوامر الجهة العليا الأصلية، فإن حصل تناقض نفذ أمر الجهة العليا الأصلية حتماً، وبطل أمر الجهة السفلى الفرعية، ضرورة ولا بد، وإلا حصل التناقض، وهو محال.
ونزيد هذا إيضاحاً بأن نقول: لو أن الجهة العليا قالت: أطيعوا الجهة السفلى، حتى لو أمرتكم بمعصيتي، فإنها في حقيقة الأمر إذاً تقول: أطيعوني بأن تعصوني، في نفس الوقت من نفس الجهة في نفس الوضوع، وهذا محال.
وإذا كانت الجهة العليا هي أعلى الجهات على الإطلاق، أي الله سبحانه وتعالى، كانت الاستحالة أعظم وأفظع، لأن طاعة الله واجبة بأوليات العقل وضرورته، فورود «صيغة الأمر» من عند الله: (أطيعوا الله)، إنما هو تذكير بهذه الضرورة العقلية الأولية، وليس هو أمراً حقيقياً، وإن جاء في صيغة الأمر، كما أسلفنا بيانه.
فإذا جوّزنا أن يأمر الله بطاعة غيره، حتى ولو أمر هذا الغير بمعصية الله، وقعنا في التناقض المذكور أعلاه، وزدنا عليه أن هدمنا مباديء العقل الأولية الضرورية، فينهدم العقل ويتحطم، ويسقط التكليف، وتفقد اللغات معانيها، ويستحيل الفكر، وتنهدم الشريعة، عياذاً بالله.

وكل نصوص الشريعة لا يجوز فهمها إلا هكذا، فإن تعذر فهم نص منقول على هذا الوجه، أو تأويله على وجه مناسب، فمن المحال أن يكون نقلاً صحيحاً، ولا بد من الحكم على ذلك النص بأنه مكذوب مفترى.

كل ما سلف يدل دلالة قاطعة على أن السيادة للشرع، وإلا جاز للحاكم فرض قوانين من غير الشرع، وألزم الأمة بطاعته لعموم الأدلة الواردة في وجوب الطاعة، لكن الإسلام حرم على المسلمين طاعة الحاكم إن هو أمر بمعصية، أي مخالفة شرعية في أمر جزئي معين في واقعة عينية، كما فعل علقمة بن مجزز، رضي الله عنه، عندما قال، مداعباً لأصحابه: (فأني أعزم عليكم إلا تواثبتم في هذه النار!)، فعقَّب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قائلاً: «من أمركم منهم بمعصية الله فلا تطيعوه»، ومن باب أولى تحرم الطاعة في ما هو شر من ذلك، وأفظع وأفحش: شرَّع بدون رد إلى الله ورسوله، أو بدل الشريعة المنزلة بأن حرم الحلال، أو أحل الحرام، أو أبطل الحدود.

وقد صح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بل لقد ثبت بالتواتر، المفيد للعلم اليقيني القاطع، عند المسلم والكافر على حد سواء، أنه قال: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»، وكل ما سوى الله تبارك وتعالى مخلوق: فالإنسان مخلوق، والعامِّي مخلوق، والعالِم مخلوق، والشعب أفراداً وجماعات مخلوقين، فكلهم لا طاعة لهم في معصية الله الخالق تبارك وتعالى، فهذا الحديث الجليل الجميل وحده كاف لنسف فكرة الديمقراطية الليبرالية حول سيادة الأمة، وقلعها من جذورها: فيتحقق الفكر الوحيد الصائب، والحق اليقيني الثابت، في هذه المسألة مطلقاً. فيظل الحلال والحرام هما المقياس الوحيد للأعمال، فطالما أن الحاكم الشرعي لا يخرج في أوامره عن كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن طاعته فرض على جميع المسلمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق