عن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «سيلي أموركم بعدي رجال يطفئون السنة، ويعملون بالبدعة، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها»، قلت: يا رسول الله! إن أدركتهم كيف أفعل؟ قال: «تسألني يا ابن أم عبد كيف تفعل؟ لا طاعة لمن عصى الله»، رواه ابن ماجه ــ واللفظ السابق له ــ وأحمد، والطبراني في «الكبير»، والبيهقي في «السنن الكبرى».
أما لفظ احمد فهو: «إنه سيلى أمركم من بعدى رجال يطفؤون السنة، ويحدثون البدعة، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها»، قال ابن مسعود: يا رسول الله! كيف بي إذا أدركتهم؟ قال: «ليس ــ يا ابن أم عبد ــ طاعة لمن عصى الله، قالها ثلاث مرات»، قال عبد الله بن احمد: وسمعت أنا من محمد بن الصباح مثله، وقد صححه الشيخ أحمد شاكر. ومن طريق محمد بن الصباح اخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» بمثله.
ولن نناقش، ها هنا في هذ البحث، الأسانيد بالتفصيل، ونحيل في ذلك إلى الملحق الموسوم بـ «دراسة الأسانيد»، من كتابنا هذا، حيث أشبعنا فيها، بحمد الله، نقد الأسانيد!
وإسناد الإمام أحمد جيد بمفرده، حسن بذاته، والحديث حسن صحيح، قطعاً، بطرقه، وشواهده، ومتابعاته، تقوم به الحجة يقيناً، والله أعلم.
أما لفظ الطبراني في «المعجم الكبير» فهو: «سيكون عليكم أمراء يؤخرون الصلاة عن مواقيتها ويحدثون البدع، قال فكيف أصنع إن ادركتهم؟ قال: «تسألني يا ابن أم عبد كيف تصنع؟ لا طاعة لمن عصى الله» وأخرجه كذلك البيهقي بلفظ مماثل0
واسناد الطبراني كذلك جيد، حسن بذاته، صالح للاحتجاج إن شاء الله، والله أعلم. وقال الألباني في السلسلة الصحيحة: إسناده جيد على شرط مسلم، فالحديث قد صححه العلامة احمد شاكر، والشيخ ناصر الدين الألباني، وهو صحيح ثابت قطعاً.
وقوله عليه الصلاة والسلام في حديث عبد الله بن مسعود هذا: «لا طاعة لمن عصى الله» قطعي الدلالة في سقوط طاعة «من عصى الله»، لأن:
(1) لفظة «طاعة» نكرة في سياق النفي تعم، بإجماع الأصوليين، كل أنواع الطاعة التي يشملها هذا اللفظ في اللغة العربية التي نزل بها القرآن، أي سقوط كل الطاعة، أي طاعة، في المعروف وغيره، في كبير الأمر وصغيره، إلا ما قام عليه الدليل الشرعي أنه مستثنى، كما هو مفصل في مواضعه.
(2) «من عصى الله» عامة في حق كل من عصى الله لأنها مصدرة بـ [من] الشرطية، وهي أبلغ صيغ العموم على الإطلاق كما حرره الأصوليون، وكما قاله الإمام ابن تيمية رحمه الله (في مجموع الفتاوى: ج 15 ص 82، وكذلك في ج 24). ولولا وروود النصوص القطعية التي تستثني أهل الصغائر من غير المجاهرين من المؤاخذة، وتعد بالمغفرة العامة، وتكفير السيئات، حال اجتناب الكبائر، لولا ذلك لوجب صرفها حتى إلى أهل كل معصية، لا فرق بين صغيرة وكبيرة، وكذلك النصوص الدالة على قبول توبة التائبين، وعودتهم عدولاً، تقبل شهادتهم، وتجوز إمارتهم وولايتهم، بعد اتصافهم بالفسق، بل وحتى بالكفر!
فالنص إذن قطعي الدلالة على سقوط الطاعة لكل فاسق، أي سقوط ولايته بالضرورة، وليس هو في قصر الطاعة على المعروف في مثل قوله: «إنما الطاعة في المعروف»، أو مثل قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»، فتلك الأحاديث الصحيحة ونحوها، وهي متواترة، سنأتي بطرف منها قريباً أدناه، تحرم الطاعة في كل أمر بمعصية، أي أمر بفعل حرام، أو ترك واجب، بغض النظر عن حال الآمر: أهو إمام عدل، أم إمام جور، أو هو أمير ورِع، أو أمير فاسق، أو غير ذلك من الاعتبارات، بل هي صحيحة، واجبة التطبيق في حق الوالدين، والزوج، ونحوهم ممن له حق الطاعة، فكلها تحرم الطاعة في كل أمر معين جاء خلافاً «للمعروف»، أما حديثنا هذا يسقط حق الطاعة للفاسق، أي يبطل ولاية الفاسق، وشتان بين المسألتين، ولو كره «منافقة القراء» من فقهاء السلطين!
v وأخرج الإمام احمد في «المسند» عن أنس بن مالك أن معاذ بن جبل قال: (يا رسول الله أرأيت ان كان علينا أمراء: لا يستنون بسنتك، ولا يأخذون بأمرك، فما تأمر في أمرهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «لا طاعة لمن لم يطع الله عز وجل»)، وأخرجه أبو يعلى في «المسند»، بنفس الإسناد، وهو إسناد لا بأس به، صحيح على شرط ابن حبان، ومتنه نظيف مستقيم، فهو قطعاً حسن بذاته، وهو صحيح بشواهده، ومتابعاته، وقد صححه الألباني في «صحيح الجامع الصغير».
وقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أنس بن مالك هذا: «لا طاعة لمن لم يطع الله عز وجل» قطعي الدلالة كذلك في سقوط طاعة «من لم يطع الله» أي سقوط ولاية الفاسق، وحرمة طاعته، كما هو الحال في حديث عبد الله بن مسعود.
v وعن عبادة بن الصامت عن النبي، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، أنه قال: «إنه سيلي أموركم من بعدي رجال يعرفونكم ما تنكرون، وينكرون عليكم ما تعرفون، فلا طاعة لمن عصى الله عز وجل،..» اخرجه احمد، واللفظ له، والطبراني، والحاكم، وابن أبي شيبة، وعبد الله بن أحمد، وأبو بكر البزار، والعقيلي، والشاشي.
وإسناد الإمام احمد جيد قوي، صالح للاحتجاج، بمتابعاته عند عبد الله بن أحمد في زوائده، والحافظ الشاشي في مسنده، والإمام الحافظ البزار في مسنده، والإمام الحاكم في «مستدركه» بأكثر من طريق. ومقالة عبادة بن الصامت، رضي الله عنه، والمناسبة التي روى فيها كلام النبي، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، جاءت من طرق كثيرة، كما هو فب الملحق.
ــ وأخرج الإمام ابن ابي شيبة، في مصنفه، من طريق أخري، مستقلة عن سابقاتها، عن أزهر بن عبد الله قال: أقبل عبادة بن الصامت حاجاً من الشام فقدم المدينة فأتى عثمان بن عفان فقال: يا عثمان! ألا أخبرك بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟! قال: بلى، قال فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ستكون عليكم أمراء يأمرونكم بما تعرفون، ويعملون ما تنكرون، فليس لأولئك عليكم طاعة»، ومن نفس الطريق أخرجه كذلك البخاري في «التاريخ الكبير»، وأخرجه الحاكم في «المستدرك».
والحديث، حديث عبادة، بن الصامت حسن صحيح، تقوم به الحجة، قطعاً، بشواهده ومتابعاته. وقد صححه الالبانى في صحيح الجامع الصغير، وكذلك في سلسلة الاحاديث الصحيحة.
وقوله عليه الصلاة والسلام في حديث عبادة بن الصامت هذا: «لا طاعة لمن عصى الله عز وجل» قطعي الدلالة كذلك في سقوط طاعة «من عصى الله»، أي سقوط ولاية الفاسق، وتحريم طاعته، كما ذكرناه سابقاً، وحررناه في غير هذا الموضع.
v وعن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «سيكون أمراء من بعدى يأمرونكم بما تعرفون، ويعملون ما تنكرون، فليس أولئك عليكم بأئمة» رواه الطبراني، وهو حديث صحيح على شرط ابن حبان. وهو قطعي الدلالة كذلك على بطلان إمامة الفاسق، بل هو أظهر وأبين في الدلالة على ذلك من الألفاظ السابقة!
v وعن ابى عِنَبة ــ وقيل أبي عُتْبَة ــ الخولاني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «لا تحرجوا أمتي، (قالها ثلاث مرات)! اللهم من أمر أمتي بما لم تأمرهم به، فأنهم منه في حل». أخرجه الطبراني في «مسند الشاميين»، والخطيب في تاريخ بغداد، وهو حديث حسن على شرط ابن حبان.
قوله عليه الصلاة والسلام: «...، .فأنهم منه في حل» قطعي الدلالة كذلك في سقوط إمارة الفاسق، لأن المقصود هو أنهم في حل من طاعته، أو في حل من إمارته، أو في حل من بيعته، أو نحو ذلك مما لا يحتمل سوى سقوط الولاية، لأن الكلام متعلق بذات الأمير، الذي يعود إليه الضمير في «منه»، وليس هو عائد إلى الأمر، كما هو في نحو قوله، عليه وعلى آله الصلاة والسلام: «فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة»، الذي سوف يأتي قريباً.
v وأخرج الحاكم بسنده عن عبد الله بن مسعود مرفوعاً: «يكون عليكم أمراء يتركون من السنة مثل هذا (وأشار إلى أصل إصبعه، يريد التقليل)، وإن تركتموهم جاؤوا بالطامة الكبرى! وإنها لم تكن أمة إلا كان أول ما يتركون من دينهم السنة، وآخر ما يدعون الصلاة، ولولا أنهم يستحيون ما صلوا»، هذا حديث صحيح، وقال الحاكم: (على شرط الشيخين، ولم يخرجاه)، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا. وفيه الحث على الأخذ على يد الحكام عند أدنى انحراف، فلا يجوز تركه وشأنه، وإقراره على ولايته، وإلا فالطامة الكبرى. وصدق الله ورسوله: لما تقاعست الأمة عن ذلك أصابها في ماضيها، وحاضرها ما ترى بعيني رأسك، لا ما تسمعه رواية، أو يصلك بلاغاً، فحسب!
v وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعث علقمة بن مجزز على بعث، وأنا فيهم. فلما انتهى إلى رأس غزاته، أو كان ببعض الطريق، استأذنه طائفة من الجيش، فأذن لهم، وأمر عليهم، عبد الله بن حذافة بن قيس السهمي، فكنت فيمن غزا معه. فلما كان ببعض الطريق أوقد القوم ناراً ليصطلوا أو ليصنعوا عليها صنيعاً: فقال عبد الله، وكانت فيه دعابة: (أليس لي عليكم السمع والطاعة؟) قالوا: (بلى). قال: (فما أنا بآمركم بشىء إلاصنعتموه؟) قالوا: (نعم). قال: (فأني أعزم عليكم إلا تواثبتم في هذه النار!). فقام ناس فتحجزوا، فلما ظن أنهم واثبون، قال: (أمسكوا على أنفسكم! فإنما كنت أمزح معكم!)، فلما قدمنا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «من أمركم منهم بمعصية الله فلا تطيعوه»، حديث صحيح أخرجه ابن ماجه، وأحمد.
قلت: هذا يتعلق بالأمر، وليس بذات الأمير، فقوله: «فلا تطيعوه»»، يعني في ذلك الأمر المعين على كل حال، بغض النظر عن بقاء ولايته أو سقوطها، وهذا هو كذلك معنى الأحاديث التالية.
v وفي سنن أبي داود عن علي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعث جيشاً وأمر عليهم رجلاً، وأمرهم أن يسمعوا ويطيعوا، فأجج ناراً وأمرهم أن يقتحموا فيها، فأبى قوم أن يدخلوها، وقالوا: (انما فررنا من النار). واراد قوم أن يدخلوها، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: «لودخلوها، أو دخلوا فيها، لم يزالوا فيها»، وقال: «لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف»، حديث صحيح، أخرجه البخاري، ومسلم، والنسائي، وأحمد، والطيالسي عن علي بنحوه، إلا أن الطيالسي زاد: «لا طاعة [لبشر] في معصية الله، ... إلخ».
v وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر الحديث السابق بلفظ قريب من لفظ حديث أبي داود عن علي بن أبي طالب، رضوان الله وسلامه عليه. وهو صحيح بذاته، بل هو غاية في الصحة بشواهده المطولة السابقة، وكذلك المختصرة الآتية.
v عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «على المرء المسلم الطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة»، حديث صحيح، متفق عليه، وأخرج مثله أبو داود، وإبن ماجة. وفي لفظ للبخاري: «السمع والطاعة حق، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة». وفي رواية أخرى صحيحة عند مسلم: «لا طاعة لبشر في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف»!
v أخرج تمام في «الفوائد» عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «طاعة الإمام حق على المرء المسلم، ما لم يأمر بمعصية الله عز وجل، فإذا أمر بمعصية الله، فلا طاعة له»، هذا حديث صحيح، استوفينا دراسة إسناده في الملحق.
v وعن عمران بن حصين، رضي الله عنه، أنه قال للحكم الغفاري، رضي الله عنه: (هل تعلم يوماً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا طاعة في معصية الله»؟! قال: نعم! قال عمران: الله أكبر! الله أكبر!)، حديث صحيح، أخرجه الحاكم في المستدرك وصححه، ووافقه الذهبي، كما أخرجه أحمد في قصة طويلة بإسناد صحيح على شرط الإمام مسلم، وروى الطبراني الجزء المرفوع منه فقط. وله طرق أخرى عند أحمد، والطيالسي، والطبراني في «الكبير»، و«الأوسط»، والبزار، وجاء في بعض الروايات: «لا طاعة لمخلوق (وفي رواية: لأحد) في معصية الله تبارك وتعالى». كما أخرجه أبو داود الطيالسي، وهذا لفظه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق