ولعلنا نلمح تلميحاً مختصراً سريعاً إلى الكيفية التي تم بها تدوين السنة الشريفة، وذلك لأن الكثير من عوام الناس، بل من خواصهم، وكذلك أدعياء «العلم» من المستشرقين، ومقلدتهم من «القرآنيين»، ظنوا أن استخدام لفظ التحديث في أغلب طرق الحديث النبوي، أي قول المحدث: «حدثنا» أو «حدثني»، يدل أو يقتضي أن تكون السنة النبوية إنما نقلت مشافهة، من غير كتابة ولا تدوين، حتى بدأ تدوينها فيما يسمَّى بـ«عصر التدوين»، عندما نشر الإمام مالك موطأه، وأصدر الحمادان والسفيانان وسعيد بن أبي عروبة، ومعمر بن راشد، وغيرهم، سننهم ومصنفاتهم الأولى، وذلك بعد إلحاح الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور عليهم بتعاطي ذلك والتعجيل به، كما هو في تاريخ الطبري.
هذا كله وهم لا حقيقة له. بل الصحيح أن «التدوين» كتابة بدأ في العهد النبوي الشريف، فقد كتب عبد الله بن عمرو بن العاص صحيفته، التي كان يسميها «الصادقة»، والتي اشتملت على أكثر من ألفي حديث، من في النبي. صلى الله عليه وعلى آله وسلم، مباشرة. وكان يحافظ عليها أشد المحافظة في صندوق مغلق، لا يخرجها إلا للمراجعة أو الإملاء على التلاميذ، وقد ورث أبناؤه وحفدته تلك الصحيفة، وقد سبق قريباً اعتراض قريش على كتابته، ومشاورته للنبي، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، في الموضوع وإقراره له على كتابة كل ما يسمع.
وهناك صحيفة إمام الهدى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، التي كان يحافظ عليها معلقة في قائم سيفة. شاملة لأحكام الزكاة، وقواعد دستورية أخرى مهمة، وبعض أحكام «صحيفة المدينة» الدستورية الشهيرة، كما هو محرر في كتبنا: (طاعة أولي الأمر: حدودها وقيودها).
وهناك صحائف عدة أملاها أبو القاسم، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، لغير واحد من ولاته عند تنصيبهم حكاما أو قضاة أو جباة زكاة في البعيد من المناطق تشمل عادة أحكام الزكاة وتفاصيل مقاديرها، مع وصايا أخري، وأحكام عامة، وتكاليف وتوجيهات معينة فمن ذلك: صحيفة عمرو بن حزم الأنصاري، الذي استعمله النبي، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، على نجران، وصحيفة أنس، عندما استعمله النبي، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، على زكوات البحرين، وغيرهما.
وعندما عجز أبو شاة، وهو رجل من أهل اليمن، أن يحفظ، عن ظهر قلب، خطبة النبي العصماء التي ألقاها يوم الفتح المكي المجيد، اشتكى ذلك إلى سيدي أبي القاسم، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، فأمر الحفاظ المتقنين الأثبات، الذين كانوا يحفون به، ولا يغادرون رفقته، بأن يكتبوا لأبي شاة: فهذه صحيفة أبي شاه.
وعندما عاد حافظ الإسلام وراويته الأول أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر من البحرين، التي كان فيها قائما ببعض أعمال الولاية ومعاوناً لواليها العلاء بن الحضرمي، إلى المدينة في أول خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فما كان من هذا إلا أن اشتد في محاسبته، فضربه، وصادر ماله إلا ما كان عطاءً ثابتاً، كما أثبتناه في الملحق في الفصل المعنون:(فصل: ضرب أبي هريرة، وانتزاع ماله)، فاعتزل أبو هريرة الأعمال العامة، فلم يقبل من عمر بعد ذلك عملاً، وأقبل على تعلم الكتابة والقراءة حتى أتقنها، وحفظ القرآن، وكتب محفوظاتة عن النبي، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، ولعلها تنوف على أربعة آلاف حديث. ثم خصص جزءً من كل ليلة لمراجعتها، وتثبيت حفظها، حتى توفاه الله. وقد وردات روايات متعددة تفيد مراجعنه لها عند شكه في بعض المحفوظ، وهي وقائع نادرة جداً لتمتعه، رضي الله عنه، بحافظة جبارة. هذه كتابة مبكرة جداً في حدود عشر سنوات من تاريخ السماع مباشرة، من المستمع المتلقي نفسه.
وصحيفة جابر بن عبد الله الأنصاري معروفة مشهورة وكانت تحتوي نحواً من خمسمائة حديث نبوي شريف. إلا أننا لا نعلم هل كتبها من في النبي، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، مباشرة فور السماع والمشافهة، كما فعل عبد الله بن عمرو بن العاص، أم كتبها بعد وفاة النبي، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، كما فعل أبو هريرة، وهذا هو الأرجح.
هذا بعض ما كتب من الحديث النبوي الشريف فوراً أو بعد مدة يسيرة من السماع المباشر، وهو شطر كبير من الحديث النبوي الشريف، لعله يبلغ الثلثين مما هو في أيدينا من المتون، وهو بالقطع فوق النصف مما هو في أيدينا الآن.
نعم: كان الغالب على عهد الصحابة هو الحفظ والنقل مشافهة، وهذا هو الحال بالنسبة للمخضرمين، الذين فاتهم شرف الصحبة، ولكنهم أدركوا الجاهلية والإسلام، وكذلك الحال الطبقة الأولى من الرواة بعد الصحابة أي كبار التابعين. كما كان يكثر في هذه الطبقة التحديث في المناسبات، والتعليق على النوازل، والفتوى، بالإضافة إلى حلقات الدرس، وجلسات العلم المخصصة لرواية الحديث النبوي الشريف.
ولكن حلقات الدرس، وجلسلت التحديث المخصوصة، وكتابة الحديث في مذكرات خاصة، يكتب كل عالم وطالب علم لنفسه، وإملاء الشيخ على التلاميذ، أو قراءة تلميذ جيد الإلقاء، جهوري الصوت من مذكرة الشيخ، والشيخ يتابع ما يقرأ في نسخته، أو من ذاكرته، وبقية الحضور يكتبون، كل ذلك أصبح السمة الغالبة في طبقة أوساط التابعين وصغارهم. بل إن المكتبة الخاصة لبعض كبار المحدثين كانت تنقل معه على عدة أباعر، كما هو مشهور عن الإمام محمد بن شهاب الزهري، وهو من طبقة صغار التابعين (وهي الطبقة التي أدركت بعض من تأخرت وفاته من صغار الصحابة)، حيث كان هذا يراجع كتبه دوما إذا خلى بنفسه، حتى تضجرت زوجه من ذلك، وقالت ما معناه أن تلك اللكتب أشد عليها من الضرائر، أو كلاماً هذا معناه.
كما أن الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه، بدأ عملية كتابة وجمع للحديث، وخاصة حديث عمرة بنت عبد الرحمن، راوية أم المؤمنين عائشة، وأمر قاضي المدينة أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، حفيد عمرو بن حزم عامل النبي، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، على نجران، وهو من سادات التابعين: إمام فقيه، ومحدث ثقة، بمباشرة ذلك بنفسه، وذلك في العام 100 هـ، أو حواليه.
وبنت الطبقات التالية، طبقات كبار الأتباع وأوساطهم، على هذا الأسلوب وعمقته فأصبحت الرواية علماً «أكاديمياً»، وأصبحت لجلسات التحديث والإملاء آداب وإجراءات، وتسجيل للحضور، وحصول على التواقيع، ...إلخ. وقلت الرواية العفوية، ولم يعد يعتد بما يرويه الوعاظ، والقصاص، وخطباء الجمعة إلا إذا كانت مسندة من محدث راسخ القدم، وهذا قليل جداً على كل حال.
إذا كان هذا هو الحال، وهو يقيناً كذلك، فما معنى لفظة أو مصطلح: «عصر التدوين» آنفة الذكر؟! المعنى يتضح فوراً إذا سمينا ذلك العصر باسمه الصحيح: «عصر النشر والوراقين»، ولعلنا نزيد هذا إيضاحاً فنقول:
مع أواخر القرن الهجري الأول وبداية القرن الهجري الثاني انتشرت صناعة الورق في العالم الإسلامي من موطنها الأصلي في سمرقند، التي أخذ أهلها ذلك من قبل من أهل الصين. وما كاد ثلث القرن الثاني ينصرم، وأمر الدولة العباسية يستتب، إلا وصناعة الورق بجودة عالية وأثمان معقولة قد انتشرت في كل مكان، وأصبح نشر الكتب وبيعها على الجمهور بأسعر مقبولة من أوساط الناس أمراً عادياً، وانتشرت بالفعل كتب الشعر والأدب والعربية، وكتابات الأدباء من أمثال ابن المقفع، وترجمات كليلة ودمنة، وغيرها من الأدب الفارسي والهندي. وهكذا نشأت مهنة «الوراق»، وهو الذي يوظف جهازاً كاملاً من النساخ والمراجعين يقوم بنسخ الكتب بأعداد وفيرة، تعرض للبيع على العامة. أي أن «الوراق» في الصطلاح القديم هو «الطابع والناشر» في اللفظ الحديث.
لكن علماء الحديث لم يرحبوا بذلك لأن ما ينتجه «الوراق»، على جودته، وقلة أغلاط النساخ فيه، لا يصل في الوثاقة إلى مرتبة ما يتلقاه التلميذ من شيخه إما إملاءً أو عرضاً، فخشوا أن تضيع أصول الرواية المنضبطة المسندة المتشددة، وتنتشر النسخ المحرفة أو المزورة، كما حدث عند أهل الكتابين السابقين: اليهود والنصارى. ولكن أبا جعفر المنصور لم يقتنع بذلك وأصر على أن من حق عوام المسلمين، من غير المتفرغين لعلوم الحديث، الحق في الاطلاع على الحديث النبوي، واقتناء كتبه في مكتباتهم الخاصة. أما طلبة العلم فأمامهم المحدثون المعتبرون يتلقون منهم مباشرة، أو يصححون ما اشتروه من نسخ الوراقين بالقراءة أو العرض على علماء الحديث المسندِين.
قلت: وقد أصاب أمير المؤمنين أبو جعفر في ذلك فإن الرواية المسندة المنضبطة استمرت لعدة قرون بعد ذلك، واستمر جمع السنن فجاءت بعد موجة النشر الأولى، التي يقع فيها الموطأ، وما ألفه السفيانان: سفيان الثوري وسفيان بن عيينة، والحمادان: حماد بن زيد بن د رهم وحماد بن سلمة بن دينار، وسعيد بن أبي عروبة، وغيرهم، ويمكن تأريخها حول عام 145 هـ،
موجة ثانية: فيها مصنف عبد الرزاق، وسنن الحميدي، ومسند الطيالسي، ومؤلفات الواقدي، وغيرهم، وهي حوالي العام 190 هـ،
وموجة ثالثة: اشتملت على المسانيد والجوامع الكبرى: مسند أحمد بن حنبل، ومسند إسحاق بن راهويه، ومسند بقي بن مخلد في الأندلس، ومصنف بن أبي شيبة، وسنن سعيد بن منصور، وطبقات بن سعد، وسنن الدارمي ولعلنا نؤرخها حوالي: 230 هـ.
وفي موجة رابعة: حوالي العام 250 هـ جاءت الصحاح المباركة: البخاري ومسلم، ومعهما أو بعدهما بقليل سنن أبي داود، والترمذي، وابن ماجه، وكذلك مسانيد أبي يعلى والبزار، ثم سنن النسائي.
بهذا نضج جمع الحديث النبوي ونشره فلم يعد ثم ما يستدرك إلا قليلاً، ولكن الجمع والتدوين استمر في الموجة الخامسة: معاجم الطبراني، ثم صحيح ابن حبان. فسنن الدارقطني، فمستدرك الحاكم، وكتب الرجال التي تكثر من ذكر مروياتهم بأسانيدها مثل «الكامل في الضعفاء» للإمام ابن عدي، وغيرها. وأكثر هذه الكتب والمصنفات قد انتشر في الآفاق، وكثرت نسخه حتى أصبح منقولاً نقل تواتر لا تضر معه أغلاط النساخ، لأنها، بدون شك، ممكنة التصحيح، ولا تزوير المزورين، لأنها مفضوحة لا محالة.
ومع ذلك بقيت أحاديث يسيرة، وطرق أخرى لأحاديث معلومة لا تجدها إلا في ثنايا الموجات التالية من كتب الفقه وأصوله، وكتب الحديث، وكتب التواريخ ونقد الرجال، ومن أهم تلك المصادر: «الإحكام في أصول الأحكام»، و«المحلى» وكلاهما للإمام المتقن الحجة أبي محمد علي بن حزم، و«تاريخ بغداد» للإمام الكبير الخطيب البغدادي، وغيرها. ولعل ذلك كله تم في حدود 450 هـ.
واستمرت رواية الحديث بعد ذلك برواية كتبه في جلسات الإملاء والتحديث حتى القرن التاسع الهجري في جميع أنحاء العالم الإسلامي تقريباً، وما زال بعض ذلك متصلاً في الديار الهندية، وفي المغرب الأقصى إلى ساعة كتابة هذه السطور.
وفي هذه الأيام، في عصرنا هذا، تم إدخال أكثر تلك الكتب القيمة في الحاسوب، هذا حفظ جديد، وإن كانت بعض تلك النصوص ليست على أعلى درجات النظافة، ولم تستند بعد على أفضل المخطوطات، إلا أن ذلك سيكون إن شاء الله، في القريب من مستقبل الأيام، شيئاً فشيئاً، بجهود طلبة العلم، والمحققين من الباحثين، الذين انتخبهم الله لهذا الشأن.
وحال السيرة النبوية، لا سيما العهد المدني منها الذي حفل بالمغازي، هو كحال الحديث أو أفضل، خلافاً لما يظنه بعض الجهال، فقد بدأ التصنيف فيها، غالباً تحت مسمَّى «المغازي» مبكراً، قبل التصنيف في السنن والمسانيد بمدة طويلة، ونشر هذا كذلك على عامة الناس مبكراً. هذا هو الواقع التاريخي، المطابق لما عرف عوام الناس به من حب السير والقصص والتواريخ، وتفضيلهم ذلك على الأسلوب العلمي «الجاف» الذي تتسم به كتب السنن والمسانيد. بل إن عقد حلقات مخصوصة لـ«المغازي» بدأ مبكراً في عهد الخلفاء الراشدين، لشحذ همم الجنود، وتحريض المؤمنين على الجهاد، وكانت تلك الحلقات تسمَّى حلقات «القص»، يتحدث فيها «القصاص».
وقد ألفت «مغازي» مستقلة في عهد مبكر، فمن ذلك «مغازي عروة» من تأليف الإمام التابعي الكبيرعروة بن الزبير بن العوام، رضي الله عنهما، المتوفى في أواخر القرن الهجري الأول، وهي مروية من عدة طرق. وقد طبعت مؤخراً بعناية فضيلة الشيخ المحدث العلامة محمد مصطفى الأعظمي، حفظه الله، طبعة جيدة مقارنة لبعض طرق روايتها.
وكذلك ألف الإمام التابعي أبان بن عثمان بن عفان، رضي الله عنهما، في «المغازي»، ولكنه أخطأ خطأً عظيما بعرضها على الطاغية المجرم الوليد بن عبد الملك بن مروان، الذي استنكر ما فيها من الحقائق «المسيئة» لبني أمية، فأمر بتمزيقها! ولم تتجه همة أبان بن عثمان بعد تلك الصدمة لإعادة كتابتها مرة أخرى، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
ولا شك أن غير هؤلاء كثير قد ألَّف في «المغازي» وصنف، كما فعل الإمام الكبير محمد بن شهاب الزهري، بعد تلك الطبقة مباشرة، ثم نهض إمام المغازي والسير محمد بن إسحاق بن يسار، المتوفى 150 هـ، فألف سيرته الشاملة الكبيرة فجمع وأوعى، ولكنه ضمنها ما هب ودب، وكثير منه غير ثابت، ثم اخثصرها وهذبها الإمام اللغوي الشهير بن هشام فأصبحت «سيرة بن هشام» تكاد تكون علما على «السيرة النبوية» أو مرادفة للفظة «السيرة» إذا أطلقت هكذا من غير تفصيل أو زيادة بيان.
وما زال التأليف والتنقيح والمراجعة مستمرة حتى هذا يومنا هذا، حتى كتب الشيخ صفي الرحمن المباركفوري، حفظه الله وأثابه، في زماننا هذا سيرته المحققة الرائعة: «الرحيق المحتوم»، التي حصلت بحق على الجوائز العالمية، وترجمت إلى اللغات الكثيرة، فلله الحمد والمنة.
وقد يقول قائل: فلم لا يحتج بجزئيات «السيرة» في قضايا التشريع والعقيدة، مع كونها تعطي صورة تاريخية صحيحة في الجملة؟! وجواب ذلك أن طريقة التأليف التاريخي ترغم المؤلف، عادة، على حذف الأسانيد، وتركيب الروايات المختلفة في سياق واحد متماسك: هذا ينتج تأريخا وقصصا جيداً، أي صورة كلية صحيحة، لكنه لا يحدث يقيناً بثبوت جزئية معينة على النحو الذي تقوم به الحجة، وتطمئن إليه النفس.
لذلك قال علماء الحديث، بطريقتهم الصارمة المتشددة: السير والتاريخ لا أصل لها، وهم لا يقصدون إلا أن مفرداتها لا تثبت مفردة مفردة على نحو تقوم به الحجة في العقيدة والتشريع. تماما كما أن أقوال الصحف، وروايات محطات الإذاعة والتلفاز وإن كانت ربما أعطت صورة الحدث العامة، إلا أنها لا تقبل عادة في الترافع القضائي، بل لا بد من شهود العيان، والأدلة المادية المحسوسة، والوثائق المعتبرة أو الرسمية، وصمود كل ذلك للنقد، والاستجواب «التقاطعي» (cross examination)، والخلو من المعارضة، وإلا فلا.
وأمور العقيدة والشريعة هي قطعاً، بلا شك، أهم من ملكية منزل أو ثبوت دَين في ذمة، والتشدد فيها أولى وأوجب!
هذه لمحة خاطفة، في أسلوب أشبه بالبرقيات، وإلا فإن تفصيل ذلك يحتاج إلى المجلدات، ويكفي من ذلك الرسالة التاريخية القيمة التي حصل بها فضيلة والدنا الشيخ المحدث العلامة الأستاذ الدكتور محمد مصطفى الأعظمي، حفظه الله، على درجة الدكتوراه من جامعة «كامبريدج» في بريطانيا، أتى فيها على بنيان «المستشرقين» من القواعد، فخر عليهم السقف من فوقهم، فمزق مزاعمهم، وأبطل نظرياتهم، ومزق دعاويهم الكاذبة تمزيقاً، بل طحن دعاويهم وافتراءاتهم طحناً، فلله الحمد والمنة.
وليس هذا فحسب، بل إن أكثر المنصفين من المستشرقين قد تراجعوا عن مقولات جولتسيهر وشاخت السخيفة. وما زالت الأبحاث الرصينة، والمؤلفات تتوالى بتقوية السنة عموماً، والتأكيد على ثبوتها في الجملة بأدلة أكاديمية بحتة، من غير إحالة إلى البرهان العقائدي الذي ذكرنا أعلاه. وكلما تطاول الزمن لم تزل الأدلة على صدق القرآن، وأنه من عند الله تتوالى تترا، كما وعد الله، جل جلاله، وسما مقامه، بذلك عندما قال قولاً كريماً: }سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ v أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ{، (فصلت؛ 41:53-54). نعم: لقد وقع هذا في زمن قريش، وبعدها، وفي زمننا هذا، ولا يزال يتحقق شيئاً بعد شئ، يوماً بعد يوم إلى يوم القيامة الكبرى: }أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ؟!{، (فصلت؛ 41:53).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق