الإنسان يُـثاب على فعل المباح , وبطلان مقولة (العادات تنقلب عبادات) و (المباحات تنقلب مستحبات)

فثبت إذاً ثبوتاً قطعياً، بلا شبهة: أن الإنسان قد يثاب على النية المجردة، كما أشار إليه القرآن، وفصلته الأحاديث، فمن باب أولى أن يثاب على فعل المباح المحض، إذا صحبته نية صالحة، أو نباهة ذهن، وحضور قلب، وذكر لله، سبحانه وتعالى، بأي وجه من الوجوه الحسنة الجميلة: كالتقوِّي به على الواجبات والمستحبات، أو التمرس بمباعدة المكروهات والمحرمات، أو فعله بـ«وعي»، وهو حاضر الذهن، منتبه القلب على كونه قد أباحه الله، مستسلماً لحكم الله، أو فرحاً مسروراً برخصة الله، أو لغير ذلك من الاعتبارات الجميلة، التي جاءت بها الأدلة.

فالثواب إذاً على تلك النية، وذلك الذكر القلبي، وليس على الفعل المباح من حيث هو فعل مجرد مباح بذاته. فالمباح لذاته، أي الذي لا يستحق فاعلة مثوبة ولا عقوبة، محال أن ينقلب إلى مستحب، وإلا اختلت موازين الشريعة، واختلط الحابل بالنابل، معاذ الله.

والاستدلال الذي ذكرناه أعلاه، وما يشبهه وما هو من جنسه، هو الاستدلال الصحيح، وليس ما زلت به أقدام بعض الأكابر، من أمثال الإمام النووي، رضي الله عنه، ورفع درجته، حيث قال في شرحه على صحيح مسلم: (وفي هذا دليل على أن المباحات تصير طاعات، بالنيات الصادقات) مستشهداً بقوله، عليه وعلى اله الصلاة والسلام: «وفي بضع أحدكم صدقة».
فاستدلال الإمام النووي قطعاً استدلال باطل، ذلك أن قوله، عليه وعلى اله الصلاة والسلام: «وفي بضع أحدكم صدقة»، وكذلك قوله: «فكذلك فافعلوا فإنه من أماثل أعمالكم آتيان الحلال»، نصوص قاطعة بأن «الجماع» مستحب لذاته، يثاب فاعله، فليس هو إذاً مباح محض، لا يثاب فاعله ولا يأثم، فكيف جعله الإمام النووي، رحمه الله، مباحاً محضاً، كما يفهم من جملته، واشترط من ثم وجود نية معينة لاستحقاق الثواب؟!
بل إن الإمام أبا محمد علي بن حزم فهم الأمر في قوله، تعالى ذكره: (فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله)، أنه للوجوب، فجعل الجماع، ولو مرة مرة واحدة في كل طهر، فريضة، وليس فقط مباحاً أو مستحباً، وهذا أولى بالصواب!!

ثم أين ذكر النية في الحديث حتى يقال أن فيه دليلاً على أن الفعل المباح «ينقلب» بالنية الحسنة إلى مستحب، ومن ثم طاعة؟!

ثم إن استخدام لفظة طاعة ها هنا ليس بجيد، ولعل الإمام النووي قصد: المستحبات، وإلا فإن عمل المباح طاعة، وترك الحرام طاعة، والقيام بالفرض طاعة، لأن «الطاعة: هي طاعة التشريع»: فالإلتزام بحكم الله وشرعه هو الطاعة، لا فرق بين تحريم الحرام، وتحليل المباح، وإيجاب الواجب، وجعل كذا شرطاً لكذا، وهذا سبباً لذاك، واعتماد كذا وكذا رخصة، وذاك عزيمة، وهلم جراً.
لذلك نؤكد ونكرر ونشدد: أنه لا يجوز أن يقال أن المباح انقلب بـ«النية الحسنة» مستحباً، لأنه ليس كذلك في ذاته، وإنما كان الثواب على أمور أخرى صاحبته، فلا يجوز خلط هذا بهذا، وإلا اختلت مقاييس الشرع، واختلط الحابل بالنابل.


لذلك يحتاج المستحب لذاته، وهو الذي يستحق فاعله الثواب والثناء من الله، ولا يستحق تاركه مؤاخذة أو ذماً أو عقوبة من الله، والمكروه لذاته وهو الذي يستحق تاركه الثواب والثناء من الله، ولا يستحق فاعله مؤاخذة أو ذماً أو عقوبة من الله، يحتاجان كلاهما إلى دليل مستقل لأنهما خلاف الإباحة المحضة المطلقة الأصلية، وما كان هكذا فلا بد له من دليل، وإلا كان قولاً على الله بغير علم، وشرعاً من الدين ما لم يأذن به الله، أي إحداثاً وابتداعاً في الدين: هذه هي طريق الهلكة، المفضية إلى الكفر والضلال البعيد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق